الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لا يغلب الحلال شكره ولا الحرام صبره (وقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم لأبي سعيد الخدريّ رضي الله تعالى عنه إنّ الفقر إلى من يحبّني منكم) أي حبا بالغا (أسرع من السيل) أي الواقع عند نزوله (من أعلى الوادي أو الجبل) شك من الراوي (إلى أسفله) فإن الله سبحانه وتعالى ربى أكثر الأصفياء والأولياء بوصف الفقر المؤدي إلى المسكنة والفناء بخلاف الغنى فإنه غالبا يؤدي إلى العجب والغرور والجفاء ويشهد لذلك أنه عليه الصلاة والسلام لما عرض عليه ملك الجبال بقوله إن شئت جعل الله لك الأخشبين ذهبا أبي وفي حديث آخر أن ربه عرض عليه أن يجعل له بطحاء مكة ذهبا فقال لا يا رب ولكني أشبع يوما وأجوع يوما فإذا جعت تضرعت إليك وإذا شبعت حمدتك وشكرتك وكأنه عليه الصلاة والسلام اختار أن يكون تربيته تارة بوصف الجمال وتارة بنعت الجلال كما هو حال أرباب الكمال (وفي حديث عبد الله بن مغفّل) بتشديد الفاء المفتوحة مزني من أصحاب الشجرة روى عنه الحسن البصري وغيره وتوفي بالبصرة سنة ستين قال الحسن رحمه الله تعالى ما نزل البصرة أشرف منه (قال رجل للنّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُحِبُّكَ فقال انظر ما تقول) أي تأمل في قولك وتفكر في أمرك فإنك ادعيت دعوى فلا بد من تحقيق مآلها من المعنى ليكون مبنيا على أساس التقوى (قال إني والله) وفي نسخة والله إني (لأحبّك- ثلاث مرّات) أي ذكرها مكررا بالقسم مؤكدا مقررا (قال إن كنت تحبّني) أي حبا كاملا أو إن كنت صادقا في دعوى محبتي اللازم منها كمال متابعتي (فأعدّ) بفتح همزة وكسر عين وتشديد دال مفتوحة ويجوز كسرها أي فهيء (للفقر تجفافا) بكسر الفوقية وسكون الجيم أي اتخذ له عدة ووقاية تقتضي رعاية وتستوجب عناية وتستجلب هداية وأصل التجفاف لبسة للفرس تمنعه السلاح وتقيه الأذى من الجراح وقد يلبسه الإنسان ويروى جلبابا وهو الإزار قال القتيبي معناه أن يرفض الدنيا ويزهد فيها ويصبر على الفقر والتقلل منها وكني بالتجفاف أو الجلباب عن الصبر لأنه يستر الفقر كما يستر البدن وقال ابن الأعرابي أي لفقر الآخرة يعني يعمل عملا لا يكون في الآخرة فقيرا مفلسا حقيرا وعن علي كرم الله وجهه من أحبنا أهل البيت فليعد للفقر جلبابا أو قال تجفافا (ثمّ ذكر) أي النبي عليه الصلاة والسلام قاله الدلجي والصواب أي ذكر عبد الله بن مغفل (نحو حديث أبي سعيد بمعناه) أي الذي تقدم قبله وهو قوله عليه الصلاة والسلام إن الفقر إلى من يحبني إلى آخره غير أن في حديث عبد الله بن مغفل للفقر أسرع إلى من يحبني من السيل إلى منتهاه.
فصل [في معنى المحبة للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وحقيقتها]
(في معنى المحبة للنبي صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَقِيقَتِهَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَفْسِيرِ محبة الله تعالى ومحبّة النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي محبة العبد لهما (وكثرت عباراتهم في
ذلك) أي وتعددت إشاراتهم هنالك (وليست ترجع) أي مقالاتهم (بالحقيقة) أي في الحقيقة كما في نسخة (إلى اختلاف مقال) أي لاتفاق ما فيها في مآل (ولكنّها اختلاف أحوال) كما قال قائل:
عباراتنا شتى وحسنك واحد
…
وكل إلى ذاك الجمال يشير
(فقال سفيان) أي الثوري أو ابن عيينة (المحبّة اتّباع الرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي علامة محبة العبد لله تعالى أو نتيجة محبة الله تعالى للعبد حسن المتابعة ومداومة الموافقة لصاحب الرسالة وهذا معنى قوله (كأنّه) أي الشأن أو سفيان (التفت) أي في كلامه مشيرا (إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي)[آل عمران: 31] الآية أي يحببكم الله (وقال بعضهم محبّة الرّسول صلى الله تعالى عليه وسلم اعتقاد نصرته) أي اعتقاد وجوب نصرة دينه وملته (والذّبّ عن سنّته) أي ودفعه عن إماتة سيرته (والانقياد لها) أي لشريعته وفي نسخة له أي لذاته وحقيقته (وهيبة مخالفته) أي خوف مخالفة طريقته بملاحظة عظمته وهذا الكلام أيضا إيماء إلى علامة المحبة أو نتيجة المودة (وقال بعضهم المحبّة دوام الذّكر للمحبوب)«1» وروي ذكر المحبوب أي لما ورد من أن من أحب شيئا أكثر من ذكره حيث لا يذهل المحبوب عن فكره في تمام أمره ودوام دهره (وقال بعضهم المحبّة الشّوق إلى المحبوب) وهذا أقرب في بيان المطلوب (وقال بعضهم المحبّة مواطأة القلب) أي موافقته (لمراد الرّبّ يحبّ ما يحبّ) أي يحب المحب ما يحب المحبوب فالجملة استئنافية وفي نسخة صحيحة ما أحب وفي أخرى بحب بالجار والمجرور على أن الباء لبيان المواطأة وكذا قوله (ويكره ما كره) وفي نسخة ما كره بصيغة الماضي وفي الكشاف محبة العباد الله مجاز عن ارادة نفوسهم اختصاصه بالعبادة دون غيره ورغبتهم فيها ومحبة الله عباده أن يرضى عنهم ويحمد فعلهم (وَقَالَ آخَرُ: الْمَحَبَّةُ مَيْلُ الْقَلْبِ إِلَى مُوَافِقٍ له) أي لقلب المحب من الأمور الحسية النفسية الدنية أو الأحوال المعنوية الدينية وهذا قريب من المحبة الحقيقية (وَأَكْثَرُ الْعِبَارَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ إِشَارَةٌ إِلَى ثَمَرَاتِ الْمَحَبَّةِ) أي نتائجها (دون حقيقتها وحقيقة المحبّة) أي من حيث هي (هو الميل) أي ميل الجنان (إلى ما يوافق الإنسان) أي بموجب الطبع أو بمقتضي الشرع (وتكون موافقته له) أي ويحصل موافقة القلب للإنسان وميله له (إمّا لاستلذاذه) أي لتلذذ الإنسان (بإدراكه) أي بإدراك ما يميل إليه مما يوافقه بإحدى مشاعره الحسية سواء كانت على وفق الشهوات النفسية أو على طبق اللذات الإنسية (كحبّ الصّور) ويروى الصورة (الجميلة) أي من المبصرات أعم من أن تكون من الحيوانات أو النباتات أو الجمادات حيث وقعت بالأشكال الموزونة (والأصوات الحسنة) أي من
(1) وقال آخر ايثار المحبوب نسخة.
المسموعات الواردة على لسان الإنسان أو الطير أو سائر الحيوانات (والأطعمة) أي من المأكولات (والأشربة) أي من المذوقات (اللّذيذة) قيد لهما (وأشباهها) أي كحب الرائحة الطيبة من المشمومات والنعومة واللينة من الملموسات (ممّا كلّ طبع سليم) أي لا قلب سقيم (مائل إليها) أي ومقبل عليها (لموافقتها له) أي بمقتضى طبيعته مع قطع النظر عن موافقة شريعته (أَوْ لِاسْتِلْذَاذِهِ بِإِدْرَاكِهِ بِحَاسَّةِ عَقْلِهِ وَقَلْبِهِ مَعَانِيَ باطنة شريفة) أي مبنية على مباني لطيفة (كحبّ الصّالحين) أي من الأنبياء والأولياء (والعلماء) وكذا الشهداء (وأهل المعروف) أي من الأصفياء (المأثور عنهم السّير الجميلة) أي الأحوال الجليلة (والأفعال الحسنة) أي والأقوال المستحسنة وهذا تعميم بعد تخصيص ليشمل الملوك والأمراء والفقراء والأغنياء (فإنّ طبع الإنسان) أي الكامل في هذا الشأن (مائل إلى الشّغف) بالغين المعجمة وقيل بالمهملة وقرىء بهما قوله تعالى قَدْ شَغَفَها حُبًّا يقال شغفه الحب أي بلغ شغافه وهو غلاف قلبه وهي جلدة رقيقة على القلب كالحجاب دونه والمعنى مائل إلى الحب الذي يخرق شغاف القلب وحجابه حتى يبلغ الفؤاد الذي هو سويداء القلب ومحل المراد (بأمثال هؤلاء) أي الموصوفين بمراتب الثناء (حتّى يبلغ) أي الشغف (بقوم) أي من اتباع عالم أو شيخ أو كريم (التّعصّب لقوم) أي كانوا على ضدهم هو بالنصب علىّ أنه مفعول يبلغ وكذا قوله (والتّشيّع) أي كمال التتّبع ومنه حديث القدرية شيعة الدجال وفي نسخة صحيحة حَتَّى يَبْلُغَ التَّعَصُّبُ بِقَوْمٍ لِقَوْمٍ وَالتَّشَيُّعُ (مِنْ أمّة) أي طائفة (في أخرى) أي في جماعة وفي نسخة في آخرين (ما يؤدّي) أي ما ذكر من التعصيب والتشيع (إلى الجلاء) بالفتح والمد أي الخروج (عن الأوطان وهتك الحرم) بضم ففتح أي قطع ستارة حرمة الذرية والنسوان (واخترام النّفوس) بالخاء المعجمة أي استئصالها باقتطاع الأرواح من الأشباح (أو يكون حبّه إيّاه) أي ميل الإنسان إلى موافقة هواه (لموافقته له من جهة إحسانه له) وفي نسخة إليه (وإنعامه عليه فقد جبلت النّفوس) أي خلقت مجبولة ومطبوعة (على حبّ من أحسن إليها) وفي نسخة من أحسن إليه وفي أخرى له فقد ورد جبلت القلوب على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها رواه ابن عدي وأبو نعيم في الحلية والبيهقي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه وصححه وورد في الدعاء اللهم لا تجعل لفاجر على يدا يحبه قلبي (فإذا تقرّر لك هذا) أي ثبت عندك هذا الكلام (نظرت) أي رأيت (هذه الأسباب) أي أسباب المحبة من الجمال الصوري والكمال المعنوي والإحسان الوفي (كلّها) أي جميعها موجودة ثابتة (في حقّه صلى الله تعالى عليه وسلم فعلمت أنّه صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَامِعٌ لِهَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ الْمُوجِبَةِ للمحبّة) أي على وجه التمام (أَمَّا جَمَالُ الصُّورَةِ وَالظَّاهِرِ وَكَمَالُ الْأَخْلَاقِ وَالْبَاطِنِ فقد قرّرنا منها) أي من الشمائل الدالة عليهما والفضائل المشيرة إليهما (قبل) أي قبل هذا الباب فيما سبق من الكتاب (ما لا يحتاج إلى زيادة) أي وكثرة إطناب (وأمّا إحسانه) أي الدنيوي الصوري (وإنعامه) أي الديني والأخروي (على أمّته) أي اتباع ملته (فكذلك قد
مرّ) ويروى مضى (منه) أي بعضه (في أوصاف الله تعالى) أي فيما أعطاه الله تعالى (له) وأثنى عليه من الصفات الجميلة والنعوت الجليلة (مِنْ رَأْفَتِهِ بِهِمْ وَرَحْمَتِهِ لَهُمْ وَهِدَايَتِهِ إِيَّاهُمْ وشفقته) أي وخوفه (عليهم واستنقاذهم) أي استخلاصهم (به من النّار وأنّه بالمؤمنين رؤوف رحيم) أي بحسب مراتب إيمانهم ومناقب انعامهم (ورحمة للعالمين) أي بجميع أعيانهم (ومبشّرا) بالنصب على الحكاية أو التقدير كان مبشرا للمؤمنين المطيعين بالجنة (ونذيرا) أي مخوفا للعاصين بالعقوبة (وداعيا إلى الله) أي إلى محل قربه (بإذنه) أي بتيسيره وتوفيقه (ويتلو عليهم آياته) أي آيات القرآن المشتملة على معجزاته (ويزكّيهم) أي يطهرهم بنصائح بيناته (ويعلّمهم الكتاب) أي أحكامه الخفية (والحكمة) أي السنة الجلية (ويهديهم إلى صراط مستقيم) أي طريق قويم ودين قديم (فأيّ إحسان أجلّ قدرا وأعظم خطرا) أي أمرا (من إحسانه) عليه الصلاة والسلام (إلى جميع المؤمنين) أي خصوصا (وأيّ إفضال) أي اكرام وإقبال (أعمّ منفعة وأكثر فائدة) أي أتم نتيجة (من إنعامه على كافّة المسلمين) أي جميع المنقادين ولو من أهل الذمة والمنافقين (إذ كان) أي النبي عليه الصلاة والسلام (ذريعتهم) أي وسيلة أهل الإسلام (إلى الهداية) أي هدايتهم إلى سبل السلام ودلالتهم إلى مقام الكرام (ومنقذهم من العماية) بفتح العين أي ومخلصهم من الغواية ومنجيهم من الضلالة إلى الهداية (وداعيهم إلى الفلاح) أي الفوز والنجاح (والكرامة) أي بحملهم على الصلاح (ووسيلتهم إلى ربّهم) أي إلى تقربهم إليه (وشفيعهم) أي لديه (والمتكلّم عنهم) أي في إلزام الحجة بما يلقي عليه (والشّاهد لهم) أي مزكيهم بالخير (والموجب) أي الطالب وفي نسخة المحب (لهم البقاء الدّائم) أي إلى الأبد (والنّعيم السّرمد) أي المستمر الذي لا نهاية له ولا غاية (فقد استبان) أي ظهر (لك أنّه عليه الصلاة وسلام مستوجب) أي مستحق (للمحبّة الحقيقيّة) أي والمودة العرفية (شرعا) أي وطبعا (بما قدّمناه) ويروى لما مر (من صحيح الآثار) أي وصريح الأخبار المنقولة عن المشايخ الأخيار والعلماء الأحبار (وعادة) أي رسوما عادية (وجبلّة) أي خلقة طبيعية (بما ذكرناه) أي من أن جميع ما يصل إلينا من نعم الدارين فهو من فيض انعامه علينا (آنفا) أي زمانا قريبا وهو بمد الهمزة وقصرها وقد قرىء بهما في السبعة (لإفاضته الإحسان) أي على جميع أفراد الإنسان (وعمومه الإجمال) أي المعاملة بالجميل في جميع الأوقات والأحوال (فإذا كان الإنسان) أي بطبعه (يحبّ من منحه) أي أعطاه عطية من لبن أو غيره من هدية (في دنياه مرّة أو مرّتين) أي ولو على وصف القلة (معروفا) أي ما عرف حسنة شرعا وطبعا وفي الحديث أهل المعروف في الدنيا أهل المعروف في العقبى وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يأتي أصحاب المعروف في الدنيا يوم القيامة فيغفر لهم بمعروفهم وتبقى حسناتهم فيعطونها لمن زادت سيئاته على حسناته فيغفر له ويدخل الجنة فيجتمع لهم الإحسان في الدنيا والآخرة (أو استنفذه) أي استخلصه وفي نسخة انقذه أي انجاه وأخلصه (من هلكة) بفتحتين كان الأولى أن يقال من