الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وبعده من الأيام (ليتّم) من الإتمام أو التمام أي ليعم (اقتداء أمّته به في تعيين قضاياه) أي أحكام ملته (وتنزيل أحكامه) على أمته وفق قواعد شريعته (ويأتون ما أتوا من ذلك) أي يفعلون ما فعلوا من الحكم بطريقته (عَلَى عِلْمٍ وَيَقِينٍ مِنْ سُنَّتِهِ، إِذِ الْبَيَانُ بالفعل أوقع منه بالقول) أي وحده على خلاف فيه (وأرفع) أي أدفع كما روي (لاحتمال اللّفظ وتأويل المتأوّل) وفيه أن الأحكام منه عليه الصلاة والسلام كانت جامعة بين الفعل والقول وإلا ففي قضية الحال كلام لأهل المقال (وكان حكمه على الظّاهر أجلى) أي أظهر لكل أحد (في البيان) أي في ميدان العيان (وأوضح) أي أبين (في وجوه الأحكام) لظهور المرام (وأكثر فائدة لموجبات التّشاجر) أي التخالف والتنازع (والخصام) أي التخاصم في الأحكام (وليقتدي بذلك كلّه) أي بقضاياه وفق شريعته (حكام أمّته) وعلماء أمته (ويستوثق) عطف على ليقتدى أي يستمسك وليس بتصحيف كما ظنه الأنطاكي وفي نسخة يستوسق بالسين بدل المثلثة أي يجتمع وينتظم (بما يؤثر عنه) أي يروى من بيان قواعد طريقته (وينضبط قانون شريعته) المشتملة على كليات أصولية تبنى عليها جزئيات فرعية (وطيّ ذلك) أي عدم الأطلاع ما هنالك (عنه) عليه الصلاة والسلام فيما تتعلق به القضايا والأحكام (من علم الغيب الّذي استأثر) أي انفرد (به عالم الغيب) أي ما غاب عن غيره (فلا يظهر على غيبه أحدا) من خلقه (إلّا من ارتضى من رسول) أي من ملك أو بشر (فيعلمه منه) أي بعضه لا كله (بما شاء) أي بشيء يشاء أو بقدر يشاء (ويستأثر) أي وينفرد (بما يشاء) وفي نسخة في الموضعين بما شاء (ولا يقدح هذا) أي عدم إطلاعه ببعض قضية (في نبوّته) من رفعة مرتبته (ولا يفصم) بفتح الياء فسكون الفاء وكسر الصاد أي لا يكسر أو لا يحل (عروة) أي عقدة (من عصمته) أي نزاهته من طهارته.
فصل [وَأَمَّا أَقْوَالُهُ الدُّنْيَوِيَّةُ مِنْ أَخْبَارِهِ عَنْ أَحْوَالِهِ]
(وأمّا أقواله الدّنيويّة) أي الصادرة منه في غير الأمور الأخروية (من أخباره) بكسر أوله أي أعلامه (عَنْ أَحْوَالِهِ وَأَحْوَالِ غَيْرِهِ وَمَا يَفْعَلُهُ أَوْ فعله) مستقبلا أو ماضيا (فقد قدّمنا أنّ الخلف) أي التخلف أو صدور الخلاف أو الاختلاف وفسر بالكذب (فيها) أي في تلك الأقوال وفي نسخة في هذا أي هذا النوع (ممتنع عليه) ولا يجوز أن ينسب شيء منه إليه لعصمته في أخباره (في كلّ حال) يكون علينا (وعلى أيّ وجه) يتصور فيها (مِنْ عَمْدٍ أَوْ سَهْوٍ أَوْ صِحَّةٍ أَوْ مرض أو رضى أو غضب) أي فرح أو حزن (وأنّه) وفي نسخة فإنه عليه الصلاة والسلام معصوم منه) أي من الحلف في إخباره في جميع أحواله وأسراره (هذا) أي ما ذكر (فيما طريقه الخبر المحض) الذي ليس فيه تورية لمصلحة (ممّا يدخله الصّدق والكذب) أي بالنسبة إلى غيره (فأما المعاريض الموهم ظاهرها خلاف باطنها) صفة كاشفة (فجائز ورودها منه) أي من النبي عليه الصلاة والسلام (في الأمور الدّنيويّة لا سيّما) أي
خصوصا (لقصد المصلحة) المعلقة بالأحوال الأخروية (كتوريته عن وجه مغازيه) حيث كان إذا أراد غزاة ورى بغيرها أي سترها وأوهم أنه يريد غيرها وأصله من الوراء أي ألقى البيان وراء ظهره (لئلّا يأخذ العدوّ حذره) أي احترازه واحتراسه بعد بلوغ خبره وفي الحديث أن في المعاريض لمندوحة عن الكذب (وكما) عطف على كتوريته وقال الدلجي أي ومثل توريته ما (روي من ممازحته ودعابته) بضم داله المهملة أي ملاعبته ومنه قوله لجابر هلا بكرا تداعبها وفيه إشارة إلى ملاعبة صغارهم فعن أنس أنه عليه الصلاة والسلام دخل على أم سليم فرأى أبا عمير حزينا فقال يا أم سليم ما بال أبي عمير حزينا قالت يا رسول الله مات بغيره الذي كان يلعب به فقال عليه الصلاة والسلام أبا عمير ما فعل النغير رواه الترمذي أو المراد بها ممازحته ومطايبته ومنه قول عمر وقد ذكر عنده علي للخلافة ولا دعابة فيه فتحصل أن الدعابة أعم من الممازحة (لبسط أمّته معه) أي لانبساطهم معه أو لانبساطه معهم وانشراح صدر وطيب خاطر فيما بينهم تأنيسا لهم ببشاشة ملاقاة وطلاقة وجه وحلاوة مكالمة (وتطييب قلوب المؤمنين من صحابته) قال الدلجي من بيانية لا تبعيضية وأقول الأظهر الثاني لأن مزاحه عليه الصلاة والسلام لم يكن مع جميع أصحابه الكرام (وتأكيدا في تجيبهم) ويروى في تحببهم أي في محبتهم فيه وميلهم إليه (ومسرّة نفوسهم) أي فرحها حال حضورهم لديه صلى الله تعالى عليه وسلم (كقوله) لبعض أصحابه على ما رواه أبو داود والترمذي وصححه عن أنس رضي الله عنه (لأحملنّك على ابن النّاقة) ولفظ الترمذي أن رجلا استحمل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال إني حاملك على ولد الناقة وروى ابن سعيد بإسناده أن أم أيمن جاءت إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقالت احملني فقال احملك على ولد الناقة فقالت إنه لا يطيقني فقال لا احملك إلا على ولد الناقة والإبل كلها ولد النوق فدل على تعدد الواقعة فقال يا رسول الله ما أصنع بولد الناقة فقال عليه الصلاة والسلام وهل تلد الإبل إلا النوق (وقوله) فيما رواه ابن أبي حاتم وغيره من حديث عبد الله بن سهم الفهري (لِلْمَرْأَةِ الَّتِي سَأَلَتْهُ عَنْ زَوْجِهَا أَهُوَ الَّذِي بعينه بياض وهذا) أي ما قاله عليه الصلاة والسلام مداعبة (كلّه صدق لأنّ كلّ جمل) صغيرا كان أو كبيرا هو (ابن ناقة وكلّ إنسان بعينه بياض) أي قليل غالبا (وقد قال عليه الصلاة والسلام أي حين قالوا يا رسول الله أنك تداعبنا (إنّي لأمزح ولا أقول إلّا حقّا) رواه الترمذي وقال العلماء المباح من المزاح هو الذي يفعله على الندرة لمصلحة تطييب نفس المخاطب وهذا القدر هو المستحب وهو الذي كان يفعله رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأما الذي فيه إفراط مما يورث الضحك وقسوة القلب والشغل عن ذكر الله تعالى وأمور الدين ويؤول في كثير من الأوقات إلى الإيذاء ويورث الأحقاد فهو منهي عنه (هذا) أي مزاحه (كلّه فيما بابه الخبر) بمعنى الأخبار. (فَأَمَّا مَا بَابُهُ غَيْرُ الْخَبَرِ مِمَّا صُورَتُهُ صورة
الأمر) باللام أو بالصبغة (والنّهي) أي صورة النهي للغالب أو الحاضر ولو (في الأمور الدّنيويّة فلا يصحّ) القول بصدوره (مِنْهُ أَيْضًا وَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَ أحدا بشيء أو ينهاه عنه وهو يبطن) أي يضمر (خلافه) جملة حالية (وقد قال عليه الصلاة والسلام ما كان) أي ما صح وما استقام (لنبيّ أن تكون له خائنة الأعين) أي ايماؤه بها على وجه الخيانة وقد قال تعالى يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ أي ما يسترق من النظر إلى ما لا يحل وقيل هو النظر لريبة وما تخفي الصدور من خبث النية وفساد الطوية والخائنة اسم فاعل أو مصدر بمعنى الخيانة أي ما يخان به كالعافية بمعنى المعافاة وعن الشيخ أبي الحسن الشاذلي خائنة الأعين النظر لمحاسن المرأة وما تخفى الصدور حب مواقعتها وفي بعض الكتب المنزلة من قول الله عز وجل (أنا مرصد لهم) أنا العالم بحال الفكر وكسر الجفون أي من البصر وسبب ورود الحديث أنه عليه الصلاة والسلام لما كان يوم فتح مكة آمن الناس إلا جماعة منهم عبد الله بن أبي سرح فاختبأ عند عثمان رضي الله تعالى عنه وكان أخاه لامه فلما دعا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الناس إلى البيعة جاء به حتى أوقفه على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال يا نبي الله بايع عبد الله فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثا كل ذلك يأبى فبايعه بعد ذلك ثم أقبل على أصحابه فقال أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن مبايعته فيقتله فقالوا ما ندري يا رسول الله ما في نفسك إلا أومأت إلينا بعينك قال إنه لا ينبغي أن يكون لنبي خائنة الأعين رواه أبو داود والنسائي من حديث سعد ابن أبي وقاص واختلف في المراد بخائنة الأعين ما قاله ابن الصلاح في مشكله فقيل هي الإيماء بالعين وقيل مسارقة النظر وعبارة الرافعي هو الإيماء إلى غير مباح من ضرب أو قتل على خلاف ما يظهر ويشعر به الحال وإنما قيل لها خائنة الأعين تشبيها بالخيانة من حيث إنه يخفي خلاف ما يظهر واختاره النووي وقال كان يحرم ذلك عليه صلى الله تعالى عليه وسلم ولا يحرم على غيره إلا في محظور وقال صاحب التلخيص من الشافعية لم يكن له عليه الصلاة والسلام أن يخدع في الحرب مستدلا بهذا الحديث وخالفه الجمهور وعلله الرافعي بأنه اشتهر أنه عليه الصلاة والسلام أن يخدع في الحرب مستدلا بهذا الحديث وخالفه الجمهور وعلله الرافعي بأنه اشتهر أنه عليه السلام قال الحرب خدعة وهو بفتح الخاء لغة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وفيها لغات أخر والفرق لهم أن الرمز يزري بالرامز بخلاف الإبهام في الأمور العظام وعبد الله هذا كان كاتبه عليه الصلاة والسلام فارتد ثم أسلم وحسن إسلامه ومات ساجدا والحاصل أنه عليه الصلاة والسلام إذا لم يكن له خيانة الأعين في الأمر الظاهر (فكيف أن تكون له خائنة القلب) وهو بيت الرب الطيب الطاهر ويروى خائنة القلب (فَإِنْ قُلْتَ فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي قصّة زيد) أي ابن حارثة الكلبي مولى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولم يسم في القرآن أحد من الصحابة
باسمه إلا زيد هذا قيل وسر ذلك أنه عليه الصلاة والسلام كان تبناه وكان يدعى زيد بن محمد فلما نزل ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ أي أعدل وأقوم قيل زيد بن حارثة فلما فاته شرافة عظيمة ونسبة وسيمة أبدله الله من ذلك أن سماه في كتابه هنالك اشعارا بأنه سماه في أزله فيصير رفعة لمحله حيث جعل اسمه في كتابه المسطور المحفوظ في الصدور وقد قتل في غزوة مؤتة شهيدا بعد أن عاش مدة مديدة في خدمته عليه الصلاة والسلام سعيدا وكان عليه الصلاة والسلام خطب زينب بنت جحش الأسدية بنت عمة النبي عليه الصلاة والسلام لمولاه زيد بن حارثة وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم اشتراه في الجاهلية فأعتقه وتبناه فلما خطب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم زينب رضيت وظنت أنه يخطبها لنفسه فلما علمت أنه يخطبها لزيد أبت وقالت أنا ابنة عمتك يا رسول الله فلا أرضاه لنفسي وكانت بيضاء جميلة فيها حدة وكذلك كره أخوها عبد الله بن جحش فنزل قوله تعالى وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً فلما سمعا ذلك رضيا بما هنالك وجعلت أمرها بيد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وكذلك أخوها فأنكحها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم زيدا فدخل بها وساق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إليها عشرة دنانير وستين درهما وخمارا ودرعا وأزارا وملحفة وخمسين مدا من طعام وثلاثين صاعا من تمر وكان مرة معها فرآها عليه الصلاة والسلام مرة فوقعت في نفسه عليه الصلاة والسلام فقال سبحان الله مقلب القلوب فسمعت تسبيحة فذكرته لزيد ففطن له ثم كره صحبتها ورغب عنها لأجله عليه الصلاة والسلام فقال أريد أن أفارقها أرابك منها شيء قال لا والله ولكنها تتعاظم علي بشرفها وتؤذيني بلسانها ثم طلقها فلما انقضت عدتها قال له عليه الصلاة والسلام ما أجد أحدا أوثق في نفسي منك أخطب لي زينب قال فانطلقت إليها فإذا هي تخمر عجينها قال فلما رأيتها عظمت في نفسي فلم أستطع النظر إليها لرغبة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في نكاحها فوليتها ظهري وقلت يا زينب أبشري أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يخطبك ففرحت وقالت ما أنا بصانعة شيئا حتى أوامر ربي فقامت إلى مسجدها ونزل (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ) بالإسلام الذي هو أجل أنواع الأنعام (وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ) بالعتق والتبني المنبئ عن كمال الإكرام (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ [الأحزاب: 37] ) أي اصبر عليها (الآية) أي وَاتَّقِ اللَّهَ أي لا تطلقها فإن الطلاق أبغض الحلال إلى الله الملك المتعال وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ أي شيئا الله تعالى مظهره وَتَخْشَى النَّاسَ في مقالتهم بإطلاق السنتهم وقال ابن عباس والحسن أن تستحيي منهم وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ وأن لا تلتفت إلى ما سواه (فاعلم أكرمك الله ولا تسترب) أي لا تكسب ريبه ولا تشك (في تنزيه النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي تبرئته (عن هذا
الظّاهر) كما بينه بقوله (وأن يأمر زيدا بإمساكها وهو) أي والحال أنه (يُحِبُّ تَطْلِيقَهُ إِيَّاهَا كَمَا ذُكِرَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَأَصَحُّ مَا فِي هَذَا مَا حكاه أهل التّفسير) كالبغوي وغيره (عن عليّ بن الحسين) أي ابن علي بن أبي طالب وهو الإمام زين العابدين (أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ أَعْلَمَ نَبِيَّهُ أَنَّ زَيْنَبَ سَتَكُونُ مِنْ أَزْوَاجِهِ فَلَمَّا شَكَاهَا إِلَيْهِ زَيْدٌ قَالَ لَهُ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ الله وأخفى منه) وفي نسخة عنه (في نفسه) أي في باطنه استحياء منه مع كونه مباحا (مَا أَعْلَمَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ أَنَّهُ سَيَتَزَوَّجُهَا ممّا الله مبديه) أي مبينه (ومظهره بتمام التّزويج وطلاق زيد لها) مصلحة لعباده وحكمة في مراده المبين بقوله لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا مَا كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ وتوضيح هذا الكلام وتصحيح هذا المرام ما ذكره البغوي في تفسيره أنه روى سفيان بن عيينة عن علي بن زيد بن جدعان قال سألني علي بن الحسين زين العابدين ما يقول أبو الحسن في قوله تعالى وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ قلت لما أن جاء زيد إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال يا نبي الله أريد أن أطلق زينب فأعجبه ذلك قال أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ فقال علي بن الحسين ليس كذلك فإن الله قد اعلمه أنها ستكون من أزواجه وأن زيدا سيطلقها فلما جاء زيد قال إني أريد أن أطلقها قال أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ فعاتبه الله تعالى فقال لم قلت أمسك عليك زوجك وقد اعلمتك أنها ستكون من أزواجك وهذا هو الأولى والأليق بحال الأنبياء وهو مطابق للتلاوة لأن الله تعالى أعلمه أنه يبدي ويظهر ما اخفاه ولم يظهر غير تزويجها منه فقال زوجناكها فلو كان الذي أضمره رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم محبتها أو طلاقها لكان يظهر ذلك لأنه لا يجوز أن يخبر أنه يظهره ثم يكتمه فلا يظهره فدل على أنه إنما عوتب على اخفاء ما اعلمه الله تعالى أنها ستكون زوجة له وإنما اخفاه استحياء أن يقول لزيد أن التي تحتك في نكاحك ستكون امرأتي قال البغوي وهذا قول حسن مرضي وإن كان القول الآخر وهو أنه أخفى محبتها أو نكاحها لو طلقها لا يقدح في حال الأنبياء لأن العبد غير ملوم على ما يقع في قلبه من مثل هذه الأشياء ما لم يقصد فيه المآثم لأن الود وميل النفس من طبع البشر وقوله أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ أمر بالمعروف وهو حسنة لا أثم فيه وقوله وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ لم يرد به أنه لم يكن يخشى الله فيما سبق فإنه عليه الصلاة والسلام قال أنا أخشاكم الله واتقاكم له ولكنه تعالى لما ذكر الخشية من الناس ذكر أن الله تعالى أحق بالخشية في عموم الأحوال وفي جميع الأشياء هذا وزين العابدين أحد النظاء السبعة وهم كلهم مدنيون هو وعلي بن عبد الله بن العباس وأبان بن عثمان بن عفان وسلام بن عبد الله بن عمر وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف وأبو بكر ابن محمد بن عمرو بن حزم وعبد الله بن هرمز الأعرج، (وروى) وفي نسخة وذكر (نحوه
عمرو بن فائد) بالفاء في أوله ودال مهملة في آخره وهو أبو علي الأسواري قال الدارقطني متروك وقال ابن عدي منكر الحديث وقال العقيلي كان يذهب إلى القدر والاعتزال ولا يقيم الحديث (عن الزّهريّ) هو ابن شهاب تابعي جليل (قال نزل جبريل عليه الصلاة والسلام على النبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْلِمُهُ أَنَّ اللَّهَ يُزَوِّجُهُ زَيْنَبَ بنت جحش فذلك) أي تزوجها (الّذي أخفى في نفسه) واعلم أن في أزواجه عليه الصلاة والسلام زينب أخرى هي بنت خزيمة بن الحارث تسمى أم المساكين تزوجها عليه الصلاة والسلام في شهر رمضان على رأس أحد وثلاثين شهرا من الهجرة ومكثت عنده ثمانية أشهر وتوفيت على رأس تسعة وثلاثين شهرا من الهجرة وصلى عليها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ودفنها بالبقيع ولذا قيد زينب في الأصل بقوله بنت جحش فإن الآية نزلت فيها، (ويصحّح هذا) المروي عن الزهري (قَوْلُ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا [الْأَحْزَابِ: 37] أَيْ لَا بدّ لك أن تتزوّجها، ويوضح هذا) أي ما يصحح (أنّ الله لم يبد من أمره) أي لم يظهر من شأنه (مَعَهَا غَيْرَ زَوَاجِهِ لَهَا؛ فَدَلَّ أَنَّهُ الَّذِي أخفاه عليه الصلاة والسلام ممّا كان أعلمه به تعالى) أي لا غيره (وقوله) أي ويوضح هذا أيضا قوله (تعالى في القصّة) هذه (مَا كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ) أي قدره (اللَّهُ) وقضاه وأوجبه وأمضاه (سُنَّةَ اللَّهِ [الأحزاب: 38] ) أي سن سنة مؤكدة وقضية مؤيدة (الآية) أي فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ أي مضوا من قبله من أرباب النبوة وأصحاب الرسالة حيث أباح لهم كثرة النساء فكان لداود مائة امرأة وثلاثمائة سرية ولسليمان ثلاثمائة امرأة وتسعمائة سرية وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً أي قضاء مقضا وأمرا مقطوعا، (فدلّ) أي قوله ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ (أنه) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (لم يكن عليه حرج) أي ضيق وإثم (في الأمر) أي المفروض له مما لا إثم بتركه؛ (قال الطّبريّ) وهو الإمام محمد بن جرير (ما كان الله ليؤثّم) بتشديد المثلثة أي نسب إلى الإثم (نبيّه فيما أحلّ له مثال فعله) أي مثل فعل الله (لِمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: سُنَّةَ اللَّهِ) أي شرع طريقته وأظهر شريعته (فِي الَّذِينَ خَلَوْا) أي مضوا (مِنْ قَبْلُ [الأحزاب: 38] ) أي من قبلك (أي من النّبيّين فيما أحلّ لهم) من نكاح وغيره (ولو كان) أي ما أخفاه (على ما روي في حديث قتادة) كما رواه عبد ابن حميد عنه (من وقوعها) أي من وقوع محبة زينب (من قلب النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي في خاطره (عند ما أعجبته) أي رؤيتها (ومحبّته) أي ومن محبته (طَلَاقَ زَيْدٍ لَهَا لَكَانَ فِيهِ أَعْظَمُ الْحَرَجِ) وهذا يندفع بما سبق وبما سيأتي بعد أيضا (وما لا يليق) أي ولكان فيه ما لا ينبغي (به من مدّ عينيه) أي طمحها وفي نسخة من مد عينه (لما نهي عنه) وفي رواية إلى ما نهى عنه (من زهرة الحياة الدّنيا) وفيه بحث إذ المراد بها زينتها المذمومة وبهجتها الملومة (وَلَكَانَ هَذَا نَفْسَ الْحَسَدِ الْمَذْمُومِ الَّذِي لَا يرضاه ولا يتّسم) أي لا يتصف
(به الأتقياء، فكيف سيّد الأنبياء) أقول هذا ليس بحسد أصلا لأنه عليه الصلاة والسلام هو الذي اختارها له أولا ثم لما قدره الله وقضاه وقلب قلب نبيه بما كتب عليه وأمضاه حين رآها وأعجبته أدار عنها وجهه وقال سبحان مقلب القلوب تعجبا مما وقع له في صورة ما يعد صدوره عن غيره من الذنوب وخطر بباله أن زيدا لو طلقها لأدخلها في حباله ومع هذا جاهد نفسه ولم يظهر باطن حاله وأمره بإمساك امرأته في استقباله رعاية لحسن مآله ولكنه سبحانه وتعالى كما أنه قلب قلب حبيبه إلى محبتها قلب قلب صاحبه إلى كراهتها ليقضي الله أمرا كان مفعولا (قال القشيري) وهو الإمام المفسر صاحب الرسالة وغيرها (وهذا) أي القول بوقوعها من قلبه ومحبة طلاق زيد لها (إقدام عظيم) أي جراءة كبيرة (مِنْ قَائِلِهِ وَقِلَّةُ مَعْرِفَةٍ بِحَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم وبفضله فكيف يقال رآها فأعجبته وهي بنت عمّته) أي أميمة بنت عبد المطلب (ولم يزل) أي دائما (يراها منذ ولدت) أي من ابتداء ما ولدت إلى انتهاء ما كبرت (وَلَا كَانَ النِّسَاءُ يَحْتَجِبْنَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم) أي قبل زواجها فقد روي أن آية الحجاب نزلت حين تزوج زينب وأولم فلما طعموا جلس ثلاثة منهم متحدثين فخرج عليه الصلاة والسلام من منزلة ثم رجع ليدخل وهم جلوس وكان عليه الصلاة والسلام شديد الحياء والحديث مروي في الصحيحين (وهو زوّجها لزيد) وفيه بحث إذ لا مانع من أنه كان يراها وما تعجبه ثم رآها فأعجبته ليقضي الله أمرا كان مفعولا وهذا لا ينافي قوله (وَإِنَّمَا جَعَلَ اللَّهُ طَلَاقَ زَيْدٍ لَهَا وَتَزْوِيجَ النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم إيّاها لإزالة حرمة التّبني) بفوقية فموحدة مفتوحة فنون مكسورة مشددة (وإبطال سببه) بموحدتين وفي نسخة سنته بنون ففوقية أي طريقته حسب عادته (كَمَا قَالَ: مَا كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ [الأحزاب: 40] ) أي حقيقة (وقال) أي وقع ما وقع (لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ) أي شك وشبهة وضيق وتهمة (فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ [الأحزاب: 37] ) جمع دعى وهو المدعو بالابن وفي معناه المدعو بالأب والأخ والجد والأم والأخت والبنت فإنه لا يحرم شيئا، (وَنَحْوُهُ لِابْنِ فُورَكٍ، وَقَالَ أَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ فَإِنْ قِيلَ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي أَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله تعالى عليه وسلم لزيد بإمساكها فهو) أي فجوابه وفي نسخة فهي أي فائدة أمره بالإمساك (أنّ الله أعلم نبيّه أنّها زوجته) أي في آخر الأمر (فنهاه النبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ طَلَاقِهَا إِذْ لَمْ تَكُنْ بينهما) أي بين زيد وزوجته (ألفة) الظاهر أن إذ تعليلية وحينئذ لم يتبين وجهه وكذا إذا كانت ظرفية فالأولى أن يحمل نهيه عن طلاقها لكونه عليه الصلاة والسلام شارعا وقد قال أبغض الحلال إلى الله الطلاق فلا يناسبه أن يأمره بالفراق ولا يبعد أن يقدر أمسك عليك زوجك بمعروف أو سرحها بمعروف كما قال الله تعالى فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ولعله كان يرجو أن الله تعالى يصلح بينهما وأن يقلب قلبه عليه الصلاة والسلام عن محبتها وأرادة تزوجها فلا ينافي ما قررنا قوله
(وَأَخْفَى فِي نَفْسِهِ مَا أَعْلَمَهُ اللَّهُ بِهِ) من أنها ستصير زوجته إن شاء الله وأيضا لو أمره بطلاقها لصارت سنة لمن بعده فيمن تبناه بالنسبة إلى زوجته أو مطلقا لكل خليفة أو قاض ونحوهما ولا يخفى ما يتفرع عليه من الفساد ويفوت طريق السداد (فلمّا طلّقها زيد خشي قول النّاس) أي استحيى منه أو خاف تزلزل أمر الامة على الإطلاق أو كلام أهل النفاق (يتزوّج امرأة ابنه فأمره الله بزواجها) ويروى تزويجها بل زوجها الله تعالى كما قال فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً أي حاجة بحيث ملها ولم يبق له حاجة فيها وطلقها وانقضت عدتها زَوَّجْناكَها (لِيُبَاحَ مِثْلُ ذَلِكَ لِأُمَّتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً [الأحزاب: 37] ) أي دخلوا عليهن يعني لئلا يظن أن حكم الأدعياء حكم الأبناء فإنه جاز أن يتزوج موطوءة دعيه بخلاف موطوءة ابنه والظاهر أنه لمسها لكن روي عن زينب أنها قالت ما كنت امتنع عنه غير أن الله تعالى منعني منه (وَقَدْ قِيلَ كَانَ أَمْرُهُ لِزَيْدٍ بِإِمْسَاكِهَا قَمْعًا للشّهوة) أي متمناها (وردّا للنّفس عن هواها) وانتظارا لرفع هذا الخاطر عنها (وهذا) القيل إنما يعتبر (إذا جوّزنا عليه) أي حملنا أمره على (أنّه رآها فجأة) بفتح فسكون فهمزة وبضم ففتح فألف بعدها همزة لغتان وقيل الأول مصدر للمرة والثاني مصدر فجأة إذا جاءه بغتة (واستحسنها) أي وأحبها (ومثل هذا) أي ما ذكر من رؤيته إياها فجأة واستحسانها بغتة (لا نكرة فيه) بضم نون فسكون كاف كذا في النسخ وقال الدلجي بالتحريك اسم من الانكار كالنفقة من الانفاق وهو كذلك في القاموس وفيه أيضا أن النكر بالضم وبالضمتين المنكر انتهى وقد قرئ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً بهما في السبعة (لما طبع عليه ابن آدم) أي خلق وجبل (من استحسانه الحسن) بفتحتين أو بضم فسكون أي ميل طبعه إلى الأمر المستحسن (ونظرة الفجأة معفوّ عنها) جملة حالية (ثمّ قمع نفسه عنها) أي عن رؤيتها قصدا (وأمر زيدا بإمساكها) لزيادة قمعها أو لانتظار رفعها (وإنّما تنكر تلك الزّيادات الّتي) ذكرها بعض المفسرين (في القصّة) من أنه عليه الصلاة والسلام أخفى عنه تعلق قلبه بها وأرادة مفارقته لها (والتّعويل) أي المعول عليه (والأولى) مما ينسب إليه (ما ذكرناه) وفي نسخة والتعويل على ما ذكرناه (عن عليّ بن الحسين) على ما حررناه (وحكاه) أي وما رواه (السّمرقنديّ) كما سبق عنه (وهو قول ابن عطاء وصححه) وفي نسخة واستحسنه (القاضي القشيريّ) سبق أنه غير الإمام القشيري (وعليه عوّل) أي وعلى ما ذكر اعتمد (أبو بكر بن فورك وقال إنه) أي ما عول عليه ابن فورك (مَعْنَى ذَلِكَ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ؛ قال) أي ابن فورك (والنبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم منزّه) أي مبرأ (عن استعمال النّفاق في ذلك) بإخفائه خلاف ما يعلن (وإظهار خلاف ما في نفسه) هنالك (وَقَدْ نَزَّهَهُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ) أي بأس بل له سعة (فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ [الأحزاب: 37] ) أي قدره وقضاه أو أوجب عليه فعله وأمضاه (قال) أي ابن فورك (ومن ظنّ