الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْبَابُ الْأَوَّلُ (فِيمَا يَخْتَصُّ بِالْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ وَالْكَلَامُ فِي عِصْمَةِ نَبِيِّنَا عليه الصلاة والسلام وَسَائِرِ الأنبياء صلوات الله عليهم
: قال القاضي أبو الفضل رضي الله تعالى عنه) يعني المصنف وهذا من ملحقات بعض تلاميذه كما تشير إليه الترضية عنه (اعلم أنّ الطّوارىء) بالهمزة جمع الطارىء وهو ما يطرأ ويحدث (من التّغيّرات) أي الموجبة للفتورات ويروي التغييرات بياءين والأولى هو الأولى كما لا يخفى (والآفات) أي الحاصلة بالعاهات (على آحاد البشر) أي عوامهم ويروى أجساد البشر أي أبدانهم (لا يخلوا أن تطرأ) أي من أن تعرض (على جسمه) أي جسم البشر (أو على حواسّه) أي الخمس وهي السمع والبصر والشم والذوق واللمس (بغير قصد واختيار) أي من البشر بل بخلق الله تعالى لها فيه (كالأمراض والأسقام) أي الأوجاع والآلام (أو بقصد واختيار) أي أو أن تطرأ بهما (وكلّه) أي وكل ما ذكر مما يطرأ بغير اختيار أو باختيار (في الحقيقة عمل وفعل) بل وعقد (ولكن جرى رسم المشايخ) أي دأبهم (بتفصيلة إلى ثلاثة أنواع) أي باعتبار مواردها (عقد) بالجر والرفع (بالقلب) أي جزم وقصد به وعزم (وقول باللّسان) أي يترجم عن الجنان (وعمل بالجوارح) أي الأعضاء والأركان (وجميع البشر) أي أفرادهم من خواصهم وعوامهم (تطرأ عليهم الآفات والتّغيّرات) بضم الياء التحتية المشددة أي الحالات المختلفة بالانتقال من حالة إلى حالة كنعمة ومحنة وملك وهلك ونصر وقهر وكسر وجبر (بِالِاخْتِيَارِ وَبِغَيْرِ الِاخْتِيَارِ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ كُلِّهَا والنبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي جنسه (وإن كان من البشر) أي من جملتهم وعلى طبيعتهم (ويجوز على جبلّته) بكسر جيم فموحدة وبلام مشددة أي خلقته (يجوز على جبلّة البشر) أي سائرهم (فقد قامت البراهين القاطعة) أي الأدلة اليقينية (وتمّت كلمة الإجماع) أي ثبتت (عَلَى خُرُوجِهِ عَنْهُمْ وَتَنْزِيهِهِ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الآفات الّتي تقع على الاختيار) أي لعصمة الله تعالى لهم منها (وعلى غير الاختيار) أي لكرامتهم على الله سبحانه فيها (كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا نأتي به من التّفاصيل) أي تبيين كل منهما في فصل على حدة.
فصل (فِي حُكْمِ عَقْدِ قَلْبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم)
وهو أحكامه ولزومه على الشيء
وحقيقته (مِنْ وَقْتِ نُبُوَّتِهِ اعْلَمْ مَنَحَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ توفيقه) أي اعطاناه بخلقه فينا جملة دعائية اعتراضية والخطاب عام والمعنى افهم (أنّ ما تعلّق) أي الذي تعلق به قلب النبي (منه) أي بعضه ما هو (بطريق التّوحيد) أي توحيد الذات وتفريد الصفات (والعلم بالله) أي بذاته العلية (وصفاته) الثبوتية والسلبية والفعلية والإضافية (والإيمان به) أي التصديق بوجوده والتحقيق بكرمه وجوده (وبما أوحي إليه) أي من الوحي الجلي أو الخفي ليبلغه أو يعمل به (فعلى غاية المعرفة) أي بجزئياته (ووضوح العلم واليقين) أي بكلياته (والانتفاء) أي وعلى غاية التنزه (عن الجهل شيء من ذلك) أي مما ذكر من العلم المتعلق به سبحانه (أو الشّكّ) أي مطلق التردد (أو الرّيب) أي الشبهة (فيه والعصمة) أي وعلى غاية الحفظ (من كلّ ما يضاد) بتشديد الدال أي ينافي (المعرفة بذلك واليقين) أي بما هناك (هذا) أي الذي ذكرناه إجمالا من نسبته إليه (مَا وَقَعَ إِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ؛ وَلَا يَصِحُّ) وفي نسخة فلا يصح (بالبراهين الواضحة) أي الأدلة البينة (أن يكون في عقود الأنبياء سواه) أي غير ما تقدم (ولا يعترض على هذا) بصيغة المجهول أي وليس لأحد أن يعترض على قولنا هذا ويدفعه (بقول إبراهيم عليه السلام أي حيث حكى عنه سبحانه إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ أي أما آمنت فالهمزة للتقرير ومعناه حمل المخاطب على الإقرار بإيجاب ما بعد النفي الموضوع له بلى (قال بلى) آمنت ولا شك في إيماني بإحيائك الناشىء عن قوتك وقدرتك (ولكن) سألت ما سألت (لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي؛ إِذْ لَمْ يَشُكَّ إِبْرَاهِيمُ فِي إخبار الله تعالى له بإحياء الموتى) أي في الدنيا والآخرة إذ كان أثبت إيمانا وأتم إيقانا (ولكن أراد طمأنينة القلب) أي بمشاهدة فعل الرب إذ ليس الخبر كالمعاينة على ورد في الأثر (وترك المنازعة) أي بسكون النفس أو منازعة أهل المخاصمة (بمشاهدة الإحياء) وفي نسخة لمشاهدة الاحياء فاللام للعلة والباء للسببية (فحصل له العلم الأوّل) وهو علم اليقين (بوقوعه) أي بوقوع إحيائه تعالى (وأراد العلم الثّاني) وهو عين اليقين (بكيفيّته ومشاهدته) أي ملاحظة هيئته والحاصل أنه في مقام استزادة العلم إذ لا نهاية لمراتب تجليات الله وتعيناته ولذا قال لأعلم الخلق بالحق وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً وهذا الوجه الأول في دفع الاعتراض الوارد على الخليل الأكمل (الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام إِنَّمَا أراد اختبار منزلته) أي باعتبار مرتبته ورفعة مكانته (عند ربّه وعلم إجابته) أي وأراد علم إجابة الله له (دعوته) وفي نسخة إجابة دعوته وينسب إلى أصل المصنف (بسؤال ذلك من ربّه) أي بطلبه منه أن يريه كيفية الإحياء بإعادة التركيب والروح في الموتى (ويكون) وفي نسخة فيكون (قوله تعالى أَوَلَمْ تُؤْمِنْ أي تصدّق) وفي نسخة صحيحة أي ألم تصدق (بمنزلتك منّي وخلّتك) بضم الخاء وتشديد اللام أي وكونك خليلا عندي (واصطفائك) أي بالرسالة وغيرها لدي (الوجه الثالث أنه سأل زيادة يقين) أي معرفة لقبولها ضعفا (وقوّة طمأنينة) أي لأجل مشاهدة (وإن لم يكن في الأوّل) أي في المقام الأول من علم اليقين (شكّ) أي تردد وشبهة (إذ العلوم الضّروريّة) أي البديهية (والنّظريّة) أي الفكرية (قد تتفاضل
في قوّتها) أي وتتناقص في ضعفها إلا أنه لا بد من ثبوت أصولها من غير تردد في حصولها (وطريان الشّك) أي حدوثه ووقوعه (على الضّروريّات ممتنع) أي من حيث ذاتها (ومجوّز) بفتح الواو المشددة وفي نسخة ويجوز أي طريانها وجريانها (في النّظريّات) إذ قد يلم بها الوهم ويندفع عنها الفهم (فأراد) أي إبراهيم (الانتقال من النّظر) أي السابق (أو الخبر) أي الصادق (إلى المشاهدة) أي العينية المفيدة للزيادة اليقينية (والتّرقّي) أي الصعود (مِنْ عِلْمِ الْيَقِينِ إِلَى عَيْنِ الْيَقِينِ فَلَيْسَ الخبر كالمعاينة) وهذا اقتباس من قوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه أحمد وابن حبان عن ابن عباس مرفوعا ليس الخبر كالمعاينة إن الله عز وجل أخبر موسى عليه السلام بما صنع قومه في العجل فلم يلق الألواح فلما عاين ما صنعوا ألقاها فانكسرت ولا يبعد أن قوله إن الله عز وجل يكون مدرجا من قول ابن عباس والله سبحانه وتعالى أعلم (ولهذا قال سهل بن عبد الله) أي التستري (سأل) أي إبراهيم (كَشْفَ غِطَاءِ الْعِيَانِ لِيَزْدَادَ بِنُورِ الْيَقِينِ تَمَكُّنًا في حاله) أي بصيرة في كماله (الْوَجْهُ الرَّابِعُ أَنَّهُ لَمَّا احْتَجَّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ) أي من قومه نمرود وسائر الجنود (بأنّ ربّه يحيي ويميت) كما قال تعالى حكاية عنه إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ أي لا غيره بشهادة تعريف الجزأين أو بتقدير ضمير الفصل قبل الذي (طلب) جواب لما أي سأل (ذلك) أي إراءة كيفية إحياء الموتى (من ربه ليصحّ احتجاجه) أي عليهم (عيانا) ويلجئهم الحق بيانا وهذا متوقف على صحة كون هذه الواقعة عند نمرود وجنوده وظاهر الآية أنه انتقل من هذا الاستدلال وحصل له الزام لغيره في الحال (الوجه الخامس قول بعضهم) يروى قول بعضهم (هو) أي قوله رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى (سؤال) أي طلب من الرب وارد (على طريق الأدب:
المراد) أي المقصود به (أقدرني) بفتح الهمزة وكسر الدال أي قدرني وقوني (على إحياء الموتى وقوله ليطمئنّ قلبي) أي حينئذ يكون معناه ليسكن (عن هذه) ويروى من هذه (الأمنيّة) وهي التمني والتشهي (الوجه السادس أنه أرى) أي أظهر إبراهيم لغيره (من نفسه الشّكّ) أي صورة (ما شك) أي حقيقة (لكن) أي أرى ذلك تأدبا لما هنالك (ليجاوب) بفتح الواو وفي نسخة ليجاب أي ليجيبه ربه (فيزداد قربه) بالإضافة أي كمال قربه بمعرفة منزلته عند ربه وفي نسخة قربة أي عظيمة إذ المجاوبة تؤذن بالمقاربة (وقول نبيّنا عليه الصلاة والسلام نحن أحقّ بالشّكّ من إبراهيم) ليس اعترافا منه بالشك لهما بل (نفي لأن يكون إبراهيم شكّ وإبعاد) أي زجر وطرد (للخواطر الضّعيفة أن تظنّ هذا بإبراهيم) إذ قد ورد أنه لما نزل وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى سمع قوم ذلك فقالوا شك إبراهيم ولم يشك نبينا (أي نحن) يعني معاشر الأنبياء أو جماعة المؤمنين (موقنون بالبعث وإحياء الله الموتى) أي ولم نشك في قدرته على ذلك وفي ظهور هذه الحالة هنالك (فلو شكّ إبراهيم) أي ولو جاز له (لكنّا أولى بالشّكّ منه) وهذا القول منه صلى الله تعالى عليه وسلم (إمّا على طريق الأدب) أي مع إبراهيم لأنه بمنزلة الأب (أو أن يريد) أي بنحن (أمّته الذين
يجوز عليهم الشّكّ) لفقد عصمتهم (أو على طريق التّواضع) أي هضم النفس (والإشفاق) أي الخوف من تزكيتها (أن حملت) بضم الحاء وكسر الميم المخففة (قصّة إبراهيم على اختبار حاله) بالموحدة أي امتحان كماله كما في الوجه الثاني ليعلم منزلة قربه من ربه (أو) أي وان حملت قصته على (زيادة يقينه) أي ليزداد حصول علم يقينه بوصول عين يقينه (فإن قلت فما معنى قوله) أي الله سبحانه وتعالى (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ) أي قلق واضطراب (مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) أي من كتاب ربك (فَسْئَلِ) قرىء بالتخفيف والنقل (الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ)[يونس: 94] فإنهم محيطون علما بصحة ما أنزلنا إليك من ربك (الآيتين) يعني لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ أي فيما أنت عليه من الجزم واليقين ولذا قال عليه الصلاة والسلام ولا أشك ولا أسأل وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ فيه زيادة تنبيه وتهييج له على دوام ما هو عليه من اليقين وانتفاء الشك في أمر الدين (فاحذر) أي كل الحذر (ثبّت الله قلبك) لو قال قلبي وقلبك لكان أولى (أن يخطر ببالك) بضم الطاء أي أن يمر بخيالك (ما ذكره فيه بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوْ غَيْرِهِ) أي من المتقدمين أو المتأخرين (من إثبات شكّ للنّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم فيما أوحي) أي الله كما في نسخة (إليه وأنّه من البشر) أي وإن الخاطرات ليس بها عبرة (فمثل هذا) أي الخاطر المذموم (لا يجوز عليه جملة) لثبوت عصمته من مثل هذا الأمر (بل قد قال ابن عبّاس وغيره) أي باسانيد صحيحة منها ما رواه ابن حاتم عنه (لم يشكّ النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم ولم يسأل) أي أحدا ممن قرأ الكتاب من قبله (ونحوه عن ابن جبير) وهو سعيد (والحسن) أي البصري (وحكى قتادة) أي فيما رواه ابن جرير (أنّ النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي حين جمع الله له الرسل ليلة أسري به (قال ما أشكّ ولا أسأل) لنزاهته وبراءة ساحته عن الشك لعصمته (وعامّة المفسّرين على هذا؛ واختلفوا) أي المأولون (في معنى الآية) أي آية فإن كنت في شك (فقيل المراد) أي المفاد (بها قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلشَّاكِّ فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ الآية)[يونس: 94] أي فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك وفيه تنبيه نبيه لمن خالج قلبه شبهة أن يبادر إلى دفعها ويطلب معرفتها من أهل العلم بها إذ شفاء العي السؤال كما ورد في حديث وقد قال تعالى فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (قالوا) أي مؤولوا الآية بما ذكر (وفي السّورة) أي وفي سورة الآية المذكورة (نفسها ما دلّ) يروى ما يدل (على هذا التّأويل: قوله) أي وهو قوله تعالى وفي نسخة في قوله أي وهو في قوله تعالى (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي الآية)[يونس: 104] أي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (وقيل المراد بالخطاب) أي بقوله تعالى فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ هم (العرب وغير النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي ومن عداه من الأمة فالمعنى فإن كنت في شك أيها المخاطب مثل قوله تعالى وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا ولا
يشكل بقوله مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فان القرآن كما انزل الى النبي انزل الى امته قال تَعَالَى قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا (كما قال) أي الله (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ الآية الخطاب له والمراد غيره)[الزمر: 65] كما في قولهم اسمعي يا جارة أو هو وارد على سبيل الفرض والتقدير كما تفرض المحال في مقام التقرير (ومثله فَلا تَكُ) وفي نسخة في فَلا تَكُ أي ومثل التأويل السابق في قوله فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ التأويل في قوله تعالى فَلا تَكُ (فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ونظيره)[هود: 109] أي مثل فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ الآية (كثير) أي في القرآن كقوله تعالى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (قال بكر بن العلاء) من القضاة المالكية (ألا تراه) أي الله تعالى (يَقُولُ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ الآية)[يونس: 95] أي فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (وهو عليه الصلاة والسلام كان) أي هو (المكذّب) بفتح الذال المعجمة المشددة وهو منصوب على أنه خبر كان (فيما يدعو إليه) أي من التوحيد (فكيف يكون ممّن كذّب به) يروى يكذب يعني فدل على أنه ليس المراد بالخطاب (فهذا) أي ما ذكر (كلّه) أي جميعه (يدلّ على أنّ المراد بالخطاب غيره) أي سواء قلنا الخطاب له أو لغيره أو لكل من يصلح للخطاب (ومثل هذه الآية) أي آية فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ في أن المراد بالخطاب فيها غيره مقصود في هذا الباب (قوله الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً المأمور هنا)[الفرقان: 59] أي وبيانه أن المأمور في فاسئل له خبيرا (غير النبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَسْأَلَ النَّبِيَّ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم هو الخبير) أي به تبارك وتعالى (المسؤول) أي الذي ينبغي أن يسأل منه لأنه المخبر عن الله تعالى (لا المستخبر السّائل) فإن هذا شأن آحاد الأمة أو الخبير المسؤول به غيره عليه الصلاة والسلام أي اسئل عنه الله تعالى علما يخبرك بجلال ذاته وكمال صفاته فالباء صلة اسئل بمعنى فتش عنه وعدي بالباء لتضمنه معنى الاعتناء أو اسئل أحدا خبيرا به فالباء صلة خبيرا مبالغة في الفاعل بمعنى مخبر أو خابر (وقيل) وفي نسخة صحيحة وقال أبي بكر بن العلاء في آية فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ (إنّ هذا الشّكّ) وفي نسخة أن هذا الشاك (الّذي أمر) بصيغة المجهول وفي نسخة أمر به (غير النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم بسؤال الّذين يقرؤون الكتاب إنّما هو فيما قصّه) أي الله كما في نسخة وفي أخرى بالنون بدل القاف يعني فيما حكاه الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام في كتابه (من أخبار الأمم) أي السابقة (لَا فِيمَا دَعَا إِلَيْهِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالشَّرِيعَةِ) وفيه أنه لا فرق في نفي الشك عنه صلى الله تعالى عليه وسلم في القصتين على السويتين (ومثل هذا) أي مثل ما أريد به غيره عليه الصلاة والسلام من الخطاب وسؤال الذين يقرؤون الكتاب (قوله تعالى وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا الآية)[الزخرف: 45] أي اجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون (المراد به) أي بالسؤال مجازا
(المشركون) أي الموجودون من أممهم لاستحالة سؤاله من مضى منهم اسئل من الفيت من أممهم اجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون بالاستفهام الإنكاري التكذيبي (والخطاب مواجهة للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم) أي مرادا به غيره (قاله القتيبي) بقاف مضمومة وفوقية مفتوحة فتحتية ساكنة فموحدة فياء نسبة وفي نسخة بضم القاف وسكون الفوقية وفتحها فموحدة فالمراد بهما أبو عبد الله عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري صاحب المصنفات وقد تقدم والأظهر أنه المراد والله أعلم وفي أخرى بعين مهملة ففوقية ساكنة فموحدة فالمراد به فقيه الأندلس محمد بن أحمد بن عبد العزيز العتبي القرطبي مصنف العتبية ويقال لها المستخرجة أيضا من موالي عتبة بن أبي سفيان (وَقِيلَ مَعْنَاهُ سَلْنَا عَمَّنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فحذف الخافض) وهو عن ولم يتعرض لحذف المفعول في سلنا لوضوحه ولزومه (وتمّ الكلام ثمّ ابتدأ) أي الكلام كما في نسخة بقوله (أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إلى آخر الآية)[الزخرف: 45] أي آلهة يعبدون كما في نسخة (على طريق الإنكار أي ما جعلنا) أي آلهة فلا عبادة لها (حكاه مكّيّ، وقيل أمر النبي) بصيغة المفعول وفي نسخة بلفظ الفاعل أي أمر الله تعالى (لنبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن يسأل الأنبياء ليلة لإسراء عن ذلك) أي هذا الإنباء فقد روي أنه عليه الصلاة والسلام ليلة أسري به بعث الله آدم وولده من الأنبياء والمرسلين فأذن جبريل ثم قال يا محمد صل بهم فلما فرغ قال له وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (فكان) أي النبي عليه الصلاة والصلام (أشدّ يقينا) أي في مراتب الكمال (من أن يحتاج إلى السّؤال) من غيره من الرجال ولو كانوا من الكمل في الأحوال (فروي أنه قال لا أسأل) أي من أحد (قد اكتفيت) أي بما أيقنت وعرفت (قاله ابن زيد) أي عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وقد تقدم (وقيل سل أمم من أرسلنا) وفي نسخة سل أمم من أرسلنا يعني أنه على تقدير مضاف (هل جاؤوهم) أي الرسل (بغير التّوحيد) استفهام انكاري أي ما جاؤوا به بل اتفقوا على خلافه (وهو) أي هذا القيل (معنى قول مجاهد والسّدّيّ والضّحّاك وقتادة) وهم من أكابر التابعين وعمدة المفسرين (والمراد بهذا) أي بقوله وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا (والّذي قبله) أي من قوله فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ إلى هنا (إعلامه صلى الله تعالى عليه وسلم بما بعثت) بصيغة المجهول أي أرسلت (به الرّسل) أي من التوحيد إجماعا (وَأَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَأْذَنْ فِي عِبَادَةِ غَيْرِهِ لأحد) أي من الأنبياء والأمم (رَدًّا عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ إنّما نعبدهم) كذا وقع في كثير من النسخ من الأصول لكن التلاوة إنما هي ما نَعْبُدُهُمْ (إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى) وكذا في قولهم هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ وكذا دعوى العرب أنهم على دين إسماعيل وأن إبراهيم كان مشركا كما كانت اليهود والنصارى مدعين أن إبراهيم على دينهم قال تعالى ردا عليهم ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (وكذلك) أي ومثل ما ذكر من الآيات (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ)
أي القرآن (مُنَزَّلٌ) قرىء بالتشديد والتخفيف (مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ) ووصف جميعهم بأنهم يعلمون حقيقة مشعر بأن جحودهم عن عناد في كفرهم (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)[الأنعام: 114] أي الشاكين (أي في علمهم بِأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ وَإِنْ لَمْ يُقِرُّوا بِذَلِكَ) أي بما ذكر من حقية ما لديك وحقية الكتاب المنزل عليك حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق (وليس المراد به) أي بقوله فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (شكّه فيما ذكر في أوّل الآية) أي آية فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ إذ المراد به هنا شكهم في كونه رسول الله وهناك الشك فيما أنزل الله تعالى ولم يقع شك منه صلى الله تعالى عليه وسلم (وقد يكون) أي قوله تعالى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ هنا (أيضا على مثل ما تقدّم) أي من أنه عليه الصلاة والسلام أمر أن يقول للشاك فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ أو على أنه المخاطب والمراد غيره (أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِمَنِ امْتَرَى فِي ذلك) أي شك فيما هنالك هذا حق (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ أَوَّلَ الْآيَةِ) وفي نسخة في أول الآية أي التي فيها وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وهو قوله (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً)[الأنعام: 114] استفهام انكاري أي أطلب غيره تعالى يحكم بيني وبينكم ليظهر المحق منا والمبطل منكم لا يكون ذلك مني أبدا ولا ابتغي غيره أحدا (الآية) وهي قوله تعالى وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ أي القرآن مفصلا مبينا فيه الحق والباطل (وأنّ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يخاطب) بكسر الطاء ويروى خاطب (بذلك غيره) أي غير نفسه (وقيل هو) أي أمره عليه الصلاة والسلام بالسؤال (تقرير) أي لمشركي قريش يحملهم على الإقرار بما يعرفون من أن الله لم يجعل من دونه آلهة تعبد وتوبيخهم على عبادة الأصنام (كقوله) تعالى أي خطابا لعيسى عليه السلام والمراد بالتوبيخ غيره (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي) بفتح الياء وسكونها (إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ) وقد علم [المائدة: 116] أي الله سبحانه (أنّه) أي عيسى (لم يقل) اتخذوني إلخ (وقيل معناه ما كنت في شكّ) أي على أن أن نافية بمعنى ما وأخطأ الدلجي خطأ فاحشا في قوله ما هنا مصدرية أي مدة كونك في شك (فاسأل) أي الذين يقرؤون الكتاب لعلهم بصحة ما أنزل إليك من ربك (تزدد) مجزوم على جواب الأمر الذي هو سل أي تزد (طمأنينة) أي إلى طمأنينتك (وعلما) أي برهانا ويقينا (إلى علمك ويقينك، وقيل) أي في معناه (إن كنت تشكّ فيما شرّفناك) من كرم النبوة التامة وشرف الرسالة العامة (وفضّلناك) ويروى وعظمناك (به) أي على غيرك بدلالة ما في التوراة أن لله تعالى قال لإبراهيم أن هاجر تلد ويكون من ولدها من يده فوق الجميع وأيديهم مبسوطة إليه بالخشوع (فاسألهم عن صفتك في الكتب) أي السالفة (ونشر فضائلك) أي بين الأمم السابقة ففي التوراة (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا ونذيرا وحرزا للأميين ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب بالاسواق ولا يجزي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ وَلَنْ يَقْبِضَهُ الله حتى يقيم به الملة العوجاء أي ملة إبراهيم الغراء) فإن العرب غيروا فيها كثيرا من الأشياء وفي الانجيل على لسان عيسى عليه السلام
أنا أطلب من ربي وربكم حتى يمنحكم فارقليط أي كاشفا للخفيات فيكون معكم إلى الأبد وفيه فارقليط روح القدس الذي يرسله ربي باسمي أي بالنبوة هو يعلمكم ويمنحكم جميع الأشياء ويذكركم ما قلت لكم وقد أخبرتكم بهذا قبل أن يكون فإذا كان فآمنوا به (وحكي عن أبي عبيدة) وهو معمر بن المثنى من أكابر أئمة اللغة وله كتب كثيرة في الصفات والغريب وأيام العرب ووقائعها وكان الغالب عليه الشعر والغريب وأخبار العرب توفي سنة عشر ومائتين وقد قارب المائة وله تفسير حديث في الزكاة وكان أبو عبيد القاسم بن سلام يوثقه ويكثر الرواية عنه في كتبه (أنّ المراد) أي المفاد من الآية (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ) أي حاصل آنسته (من غيرك) أي من جانب غيرك (فيما أنزلنا) إليك من الحق والصواب فاسأل الذين يقرؤون الكتاب يخبروك بحقيقة هذا الباب (فَإِنْ قِيلَ فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ) أي يئسوا من إيمان أممهم أو من النصر في الدنيا عليهم (وَظَنُّوا) أي الرسل (أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا)[يوسف: 110] بصيغة المجهول (على قراءة التّخفيف) أي كما قرأ به الكوفيون لأن ظاهرها ظنهم أنهم قد أخلفوا ما وعدهم الله من النصر مع نزاهتهم من أن يظنون بربهم ذلك الأمر لأنه سبحانه لا يخلف وعده رسله (قُلْنَا الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ مَا قَالَتْهُ عَائِشَةُ رضي الله عنها معاذ الله) أي حاشاه واستجير بالله (أن تظنّ ذلك) أي الظن المذكور (الرّسل بربّها) كان الأولى بربهم وكأنه أراد جماعة الرسل (وَإِنَّمَا مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الرُّسُلَ لَمَّا اسْتَيْأَسُوا) أي من النصر على مكذبيهم وطالت مدة إمهالهم (ظنّوا أنّ من وعدهم النّصر) أي به (من أتباعهم) بيان لمن (كذبوهم) بتخفيف الذال والضمير الأول للموعودين من أتباع الرسل وهم المؤمنون والضمير الثاني للرسل أي اخلفوهم ما وعدوهم من نصرهم على عدوهم وتوهموا من أن الله تعالى اخلف رسلهم (وعلى هذا) أي مقول عائشة (أكثر المفسّرين) فعلى هذا ضمير ظنوا راجع إلى الرسل (وقيل إن ضمير ظَنُّوا عَائِدٌ عَلَى الْأَتْبَاعِ وَالْأُمَمِ لَا عَلَى الرّسل) الواو بمعنى أو فالمعنى أن أتباعهم ظنوا إذ لم يروا لوعدهم النصر نتيجة وأثرا ظاهرا بسبب تراخيه عنهم انهم قد كذبوا فيها اخبروا به قومهم من انهم ينصرون عليهم أو المعنى أن أممهم المكذبين لهم ظنوا أنهم كذبوا أي كذبتهم رسلهم في قولهم إنهم منتصرون عليهم (وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالنَّخَعِيِّ وَابْنِ جُبَيْرٍ) أي من التابعين (وجماعة من العلماء) أي المتقدمين والمتأخرين (وبهذا المعنى قرأ مجاهد) أي شاذة (كذبوا بالفتح) أي بفتح الكاف والذال والتخفيف والمعنى أن الأمم ظنوا أن رسلهم كذبوا في قولهم بالنصر عليهم (فلا تشغل) بفتح التاء والغين وفي نسخة بضم أوله وكسر ثالثه إلا أنه لغة رديئة (بالك) أي قلبك (من شاذّ التّفسير بسواه) أي بغير ما ذكرناه من قول عائشة وابن عباس وأمثالهما ولا يتوهم أن الرسل ظنوا به سبحانه أنه أخلفهم ما وعدهم من نصرهم على عدوهم (ممّا لا يليق بمنصب العلماء) بكسر الصاد أي مقامهم ومرتبتهم (فكيف بالأنبياء) فما سبق من نسخة الظن المذموم بالاتباع إما أن يحمل على مجرد الخواطر التي لا تدخل
تحت التكليف أو على أن بعضهم كفروا بذلك وارتدوا عما هنالك (وكذلك) أي مثل آية حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وارد من الاشكال (ما ورد في حديث السّيرة) أي سيرة النبي عليه الصلاة والسلام في ابتداء النبوة (ومبدإ الوحي) أي بالرسالة (من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي على ما أخرجه البخاري وغيره (لخديجة) أي بعد ما أخبرها ما جرى له مع جبريل بحراء (لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي لَيْسَ مَعْنَاهُ الشَّكَّ فيما آتاه الله) أي من النبوة والرسالة والهداية والمعرفة ويروى فيما أتاه من الله تعالى (بعد رؤية الملك) أي وإخباره أنه رسول الله (ولكن لعلّه خشي أن لا تحتمل قوّته) لضعف القوة البشرية (مقاومة الملك) أي مصابرته فإنه في غاية القوة القوية (وأعباء الوحي) بالنصب أي لا يحتمل أثقال تحمل الوحي وتبليغه وهو جمع عبء بكسر العين مهموزا (لينخلع قلبه) كذا في نسخة مصححة فلعل اللام للعاقبة والأظهر ما في نسخة فينخلع بالفاء منصوبا أي فيزول حينئذ قلبه عن مكانه ويحصن له جنون في شأنه (أو تزهق نفسه) أي تخرج روحه (هذا) أي التأويل (على ما ورد في الصّحيح) أي صحيح البخاري وغيره (أنّه قاله) أي القول السابق ويروى أنه قال (بعد لقائه الملك أو يكون ذلك) أي المقول (وقبل لقياه الملك) ويرى قبل لقائه الملك ولعله تكرر منه ذلك (وإعلام الله تعالى له) أي وقبل إخباره له (بالنّبوّة لأوّل ما عرضت) بصيغة المجهول كذا في نسخة مصححة والأظهر أنه بصيغة الفاعل والمعنى في أول ما ظهرت أو لأجل أول ما برزت (عليه من العجائب) أي خوارق العادة من الأمور الغرائب كما بينه بالعطف التفسيري حيث قال (وسلّم عليه الحجر والشّجر) الظاهر أن المراد بهما الجنس فإنه روى الدولابي بسنده عن ابن عباس قال بعث الله محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم على رأس خمس سنين من بنيان الكعبة وفي آخره فلما قضى إليه الذي أمر به انصرف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم منقلبا إلى أهله لا يأتي على حجر ولا شجر إلا سلم عليه الحديث ويحتمل أن يراد بالجمر الإفراد ففي صحيح مسلم من حديث جابر بن سمرة قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لأني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث الحديث وقد ورد أنه الحجر الأسود على ما رواه السهيلي وقيل إن الحجر المعروف بالتكلم المركوز في جدار زقاق بيت خديجة (وبدأته المنامات) أي ابتدائه المقامات العاليات فكان لا يرى مناما إلا جاء مثل فلق الصبح (والتّباشير) أي المقدمات المؤذنة بالبشارات ومنه تباشير الصبح أي أوائله (كَمَا رُوِيَ فِي بَعْضِ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ) أي حديث مبدأ الوحي (أنّ ذلك) أي ما ذكر من التباشير (كان أوّلا في المنام ثمّ أري) بصيغة المجهول أي أراه الله (في اليقظة مثل ذلك) أي الذي رآه في المنام ويروى مثال ذلك (تأنيسا له عليه السلام من الأنس بالضم ضد الوحشة تسكينا لقلبه (لئلّا يفجأه الأمر) بفتح الجيم والهمز أي لئلا يرد عليه أمر النبوة بغتة (مشاهدة) أي معاينة (ومشافهة) أي مخاطبة (فلا يحتمله) أي قلبه (لأوّل حالة) بالتنوين ويروى بالإضافة أي في أول وهلة من أحواله (بنية البشريّة) بكسر الموحدة
وسكون النون لضعفها عن القوة الملكية (وفي الصّحيح) أي البخاري ومسلم (عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَوَّلُ مَا بدىء به) بصيغة المجهول أي ابتدىء به (رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من الوحي) بيان لما وأول مبتدأ خبره (الرّؤيا الصّادقة) وفي رواية الصالحة من النوم وإنما أخبرت بذلك بإخباره عليه الصلاة والسلام أو بعض أصحابه لها بما هنالك وإلا فهي لم تكن ولدت قبل بدئه به فالحديث من مراسيل الصحابة وهي حجة بلا خلاف (قالت ثمّ حبّب إليه الخلاء) بالمد أي الخلوة والعزلة لفراغ القلب بالذكر والفكر وظهور النور وسرور الحضور والغيبة عما سواه ونفي الشعور وإليه أشار الشاعر حيث قال
* فصادف قلبا خاليا فتمكنا*
(وقالت إلى أن) ورواية الشيخين (جاءه الحقّ) أي الأمر المحقق (وهو في غار حراء) بكسر الحاء وتخفيف الراء جبل على ثلاثة أميال من مكة يمد ويقصر ويذكر باعتبار المكان فيصرف ويؤنث باعتبار البقعة فلا يصرف والغار الكهف والنقب بالجبل وكذا المغارة (وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما) فيما روى ابن سعد عنه (مكث النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) بضم الكاف وفتحها أي لبث (بمكّة خمس عشرة سنة) بسكون عشرة وبالكسر لغة تميم (يسمع الصّوت) أي صوت الملك (ويرى الضوء) أي نوره (سبع سنين ولا يرى شيئا) أي ظاهرا (وثمان سنين يوحى إليه) وهذا إنما يتمشى على القول بأنه عليه الصلاة والسلام عاش خمسا وستين سنة والصحيح أن عمره ثلاث وستون سنة فبعد البعثة بمكة ثلاث عشرة على الصحيح وبالمدينة عشرا بلا خلاف وقيل المراد بثلاث وستين ما عدا سنة الولادة والوفاة فبهما يتم خمس وستون وفي المسألة قول آخر وهو أنه عليه الصلاة والسلام عاش ستين سنة وهو محمول على إسقاط الكسر (وقد روى ابن إسحاق) أي صاحب المغازي (عن بعضهم) الظاهر أن المراد به بعض الصحابة فإن المطلق ينصرف إلى الأكمل (أنّ النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم قال وذكر جواره) بكسر الجيم ويضم أي مجاورته وإقامته متعبدا (بغار حراء) وهو نقب فيه والجملة حالية معترضة بين القول ومقوله وكرر قوله (قال) للتأكيد مع وجود الفصل (فجاءني) يعني جبريل (وأنا نائم) أي حقيقة أو صورة أي مضطجع على هيئة النائم ولا يبعد أن يكون النوم كناية عن الغفلة أو الاستغراق في الفكرة (فقال اقرأ فقلت ما أقرأ) أي شيء أقرأ فما استفهامية ويؤيده رواية وما اقرأ أو ما نافية بدلالة دخول الباء في خبرها في رواية البخاري ما أنا بقارىء (وذكر) أي ابن إسحاق أو من روى عنه (نحو حديث عائشة في غطّه) بفتح معجمة وتشديد مهملة أي في ضم جبريل عليه السلام ضما شديدا وفي نسخة إياه صلى الله تعالى عليه وسلم (وإقرائه له) وفي نسخة إياه (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) أي صدر هذه السورة قال القاضي في الإكمال حكمة هذا الغط له عليه الصلاة والسلام دفع اشتغاله عن الالتفات إلى شيء من أمر الدنيا ليتفرغ لما أتاه به وفعله به ذلك ثلاثا وفيه دليل على
استحباب التكرار ثلاثا وقد استدل به بعضهم على جواز تأديب المعلم ثلاثا (قال) النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (فانصرف) أي جبريل عليه السلام (عنّي وهببت) بفتح الموحدة الأولى أي استيقظت (من نومي) أي استنبهت من غفلتي أو استفقت من استغراقي (كأنّما صوّرت) أي مثلت ونقشت وشكلت سورة اقرأ (في قلبي ولم يكن) أي الشأن وخبرها (أبغض إليّ من شاعر أو مجنون) أي من قولهم له ذلك والجملة حالية أفادت شدة بغضه نسبة قريش له صلى الله تعالى عليه وسلم بواحد منهما فكيف بهما (قلت) أي في نفسي أكتم حالي (لا تحدّث) بفتح الفوقية على أنه حذف منه إحدى التاءين أي لا تتحدث (عنّي قريش بهذا أبدا) أي بقولهم له شاعر أو مجنون (لأعمدنّ) بفتح اللام والهمزة وكسر الميم ويفتح وتشديد النون أي لأقصدن (إلى حالق) بمهملة وكسر لام أي مكان عال (من الجبل فلأطرحنّ نفسي منه فلأقتلنّها) أي حذرا من أن يسموه بشاعر أو مجنون ولعل هذا بناء على أنه ظن ما تبين له من جانب الجن ولذا قال (فبينا أنا عامد لذلك) أي قاصدا لطرح النفس ومريد لما هنالك (إِذْ سَمِعْتُ مُنَادِيًا يُنَادِي مِنَ السَّمَاءِ يَا محمّد أنت رسول الله وأنا جبريل) أي مبلغ عن الله تعالى (فرفعت رأسي فإذا) أي ففاجأني بغتة (جبريل على) ويروى في (صورة رجل) حال من جبريل أي ممثلا في صورة رجل أو التقدير فظهر لي على صورة رجل (وذكر الحديث) أي بتمامه واقتصرنا على محل مرامه (فقد بيّن) أي أظهر عليه الصلاة والسلام ويروى بين لك (في هذا الحديث) أي حديث ابن إسحاق (أنّ قوله) أي النبي عليه الصلاة والسلام (لما قال) لخديجة رضي الله تعالى عنها لقد خشيت على نفسي (وقصده لما قصد) أي من طرح نفسه من الجبل (إنّما كان قبل لقاء جبريل عليه السلام أي في اليقظة أو في عالم الحضرة (وَقَبْلَ إِعْلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ بِالنُّبُوَّةِ وَإِظْهَارِهِ) أي الله تعالى (واصطفائه) أي اجتبائه وفي نسخة وإظهار اصطفائه أي إظهار شأنه بالرفعة (له بالرّسالة ومثله) أي شبيه حديث ابن إسحاق أن ما قاله لخديجة إنه خشي على نفسه إنما كان قبل لقاء جبريل (حديث عمرو بن شرحبيل) بضم معجمة وفتح راء وسكون مهملة وكسر موحدة فتحتية ساكنة وهو غير منصرف أبو ميسرة الهمداني يروي عن عمر وعلي وعائشة وكان فاضلا عابدا حجة صلى عليه شريح قال الحلبي وهذا الذي ذكره القاضي عياض هنا هو في رواية يونس عن ابن إسحاق بسند إلى أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل (أنه صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِخَدِيجَةَ إِنِّي إِذَا خَلَوْتُ وَحْدِي سَمِعْتُ نِدَاءً وَقَدْ خَشِيتُ وَاللَّهِ أَنْ يكون هذا) أي ما سمعته من نداء الملك (لأمر) أي لم أحط به خبرا يرهقني من أمري عسرا قالت معاذ الله ما كان الله ليفعل ذلك بك إنك لتؤدي الأمانة وتصل الرحم وتصدق الحديث وقاله الدلجي الحديث رواه البيهقي عن عمرو بن شرحبيل (ومن رواية حمّاد بن سلمة) فيما رواه الطبراني وابن منيع في مسنده موصولا عن حماد عن عمار بن أبي عمار عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (أنّ النبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِخَدِيجَةَ إِنِّي لَأَسْمَعُ صَوْتًا) أي عظيما (وأرى ضوءا) أي نورا كريما (وأخشى أن يكون بي جنون) ولم
يدر أن شأنه فيه فنون (وعلى هذا) أي على قوله لأسمع صوتا الحديث (يتأوّل) بصيغة المجهول (لَوْ صَحَّ قَوْلُهُ فِي بَعْضِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ) أي روايتها (إنّ الأبعد شاعر أو مجنون) مقول قوله الذي تنازعه الفعلان قبله واعمل الأول أي يتأول قوله بذلك لخديجة إن صح يحمله على أنه كان قبل لقاء الملك وإعلام الله تعالى له أنه رسول ولم يكن معناه الشك وعبر بالأبعد عن نفسه الأسعد تحاشيا من أن يقال له شاعر أو مجنون (وألفاظا) أي وإن في هذه الأحاديث ألفاظا ويروى وألفاظها (يُفْهَمُ مِنْهَا مَعَانِي الشَّكِّ فِي تَصْحِيحِ مَا رآه) أي من الضوء وسمعه من الصوت (وأنه) أي في قوله ذلك (كَانَ كُلُّهُ فِي ابْتِدَاءِ أَمْرِهِ وَقَبْلَ لِقَاءِ الملك له وإعلام الله تعالى له أنه رسوله) أي مما ينفي عنه الشك فيما آتاه الله تعالى واختصه به من المنح الإلهية ما لم يؤته سواه (فكيف) أي لا يكون ذلك في ابتداء أمره (وبعض هذه الألفاظ) أي التي نسب صدورها إليه صلى الله تعالى عليه وسلم (لا تصحّ طرقها) أي أسانيدها لكون بعض من فيها متهما أو مجهولا (وأمّا بعد إعلام الله تعالى له) أي بأنه رسوله (ولقائه الملك) أي وبعد ملاقاته وتحقق مخاطباته (فلا يصحّ) أي بأن يصدر عنه عليه الصلاة والسلام (فيه ريب) أي شبهة ومرية (ولا يجوز عليه شكّ) أي تردد (فيما ألقى إليه) من المعارف الربانية والعوارف السبحانية (وقد روى ابن إسحاق عن شيوخه) أي بأسانيدهم (أنّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يرقى) بصيغة المجهول أي يعوذ بالعوذ التي يرقى بها من ألمت به حمى ونحوها (من العين) أي من جهة إصابة العين (قبل أن ينزل عليه) أي الوحي أو القرآن وهو بصيغة الفاعل أو المفعول مخففا أو مشددا ويؤيد الثاني (فلما نزل عليه القرآن) ومنه قوله تعالى وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ (أصابه نحو ما كان يصيبه) أي قبل ذلك (فقالت له خديجة أوجّه) بتشديد الجيم المكسورة أي أرسل (إليك من يرقيك) بفتح الياء وكسر القاف (قال أمّا الآن) أي بعد نزول القرآن (فلا) أي فلا حاجة لي به اكتفاء بربه وكتابه إذ هو هدى وشفاء لقلبه واعلم أنه قد وردت أحاديث كثيرة بجواز الرقى وكذا في النهي عنها وجمع بينهما بأن الجائز منها ما كان بلسان عربي مما يعرف معناه كأسماء الله تعالى وصفاته وسور كلامه وآياته ومن ثمه قال عليه الصلاة والسلام اعرضوا على رقاكم قال جابر فعرضناها عليه فقال لا بأس بها إنما هي من مواثيق الجن فكأنه عليه الصلاة والسلام خشي أن يكون فيها مما يقال ويعتقد من الشرك في زمن الجاهلية وأن المنهي عنه منها ما لم يكن كذلك أو أن يعتقد أنها نافعة بنفسها كما أشار إليه صلى الله تعالى عليه وسلم بقوله ما توكل من استرقى أو حق توكله والحاصل أن تركها مع التوكل أفضل لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث من يدخل الجنة بغير حساب هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون (وحديث خديجة رضي الله تعالى عنها) أي الذي رواه ابن إسحاق والبيهقي عن فاطمة بنت الحسين أي أبو نعيم في الدلائل موصولا من طريق أم سلمة عن خديجة (واختبارها) أي امتحان خديجة (أمر جبريل عليه السلام أي تحقق أمره (بكشف
رأسها) أي من شعرها (الحديث) أي بطوله (إنّما ذلك) أي الاختبار والتردد (في حقّ خديجة) أي واقع وحاصل (لتتحقّق صحّة) وفي نسخة صدق (نبوّة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأنّ الّذي يأتيه) أي بما يوحى إليه من ربه ويلقيه (ملك ويزول الشّكّ عنها) أي ويرتفع التردد لها الناشىء مما قال لها من نحو لقد خشيت على نفسي وأخشى أن يكون بي جنون (لأنّها) أي خديجة (فعلت ذلك) أي كشف رأسها (للنبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي لأجل أمره (وليختبر) أي هو كما في نسخة أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (حاله بذلك) فيكون على بصيرة من أمره هنالك (بل) لانتقال من حال إلى حال أفاد أن ما فعلته خديجة من الاختبار لم يكن بأمر السيد المختار بل نشأ عن ابن عمها ورقة (إذ قَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ محمد بن يحيى بن عروة) قال أبو حيان يروي الموضوعات عن الثقات وقال أبو حاتم الرازي متروك الحديث (عن هشام) وهو أخو عبد الله الراوي وهشام أحد الأعلام يروي عنه شعبة ومالك قال أبو حاتم ثقة أمام (عن أبيه) أي عروة بن الزبير أي ابن العوام بن خويلد يروي عن أبويه وخالته وعلية وطائفة وعنه جماعة قال ابن سعد كان فقيها عالما كثير الحديث ثبتا مأمونا قال هشام صام إلى الدهر ومات وهو صائم (عن عائشة رضي الله تعالى عنها) أم المؤمنين خالته (أنّ ورقة) وهو ابن نوفل بن أسد (أمر خديجة) وهي بنت خويلد بن أسد (أن تخبر الأمر) وفي نسخة تختبر بضم الموحدة أي تمتحن وتجرب (بذلك) أي الذي فعلته من كشف رأسها (وفي حديث إسماعيل بن أبي حكيم) أي فيما رواه ابن إسحاق وهو قرشي مدني يروي عن سعيد بن المسيب وغيره وعنه مالك ونحوه وثقه ابن معين وغيره قال ابن سعد كان كاتبا لعمر بن عبد العزيز في خلافته توفي سنة ثلاثين ومائة (أنها) أي خديجة (قالت لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يا ابن عمّ) لاجتماعهما في قصي نسبا لأنه عليه الصلاة والسلام محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي وهي خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي (هل تستطيع أن تخبرني بصاحبك) أي تعلمني بمأتاه (إذا جاءك؟ قال نعم) أي أستطع وأخبرك به إذا جاءني (فلمّا جاءة جبريل) ويروى جاء جبريل أي بعد سؤالها هذا (أخبرها) بمجيئة إليه (فقالت له) أي للنبي عليه الصلاة والسلام (اجلس إلى شقّي) بكسر الشين وتشديد القاف تريد أحد جنبيها (وذكر الحديث إلى آخره) وفيه فجلس إليه وكشفت رأسها فلم يدخل جبريل (وفيه فقالت مَا هَذَا بِشَيْطَانٍ هَذَا الْمَلَكُ يَا ابْنَ عمّ فاثبت) أي على ما أنت عليه (وأبشر) أي بكل خير مما لديه (وآمنت به) أي حينئذ أو آمنت قبل لكن اطمأنت به فحصل لها عين اليقين بعد علم اليقين فهي أول من آمن به مطلقا أو من النساء (فهذا) أي الدي قالته (يدلّ أنّها) أي على أنها كما في نسخة (مستثبتة) اسم فاعل من باب الاستفعال من الثبات أي طالبته للوثوق (لما) أي لأجل ما وفي نسخة بما أي بسبب ما (فعلته) أي من الإختبار (لنفسها) أي لإيقانها (ومستظهرة به) أي مستقوية بما فعلته (لإيمانها) أي به عليه الصلاة والسلام (لا للنبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) تأكيد لقوله
لنفسها ولا سقطت من أصل الدلجي فقال عدي باللام لتضمنه معنى الانقياد (وقول معمر) بفتح الميمين بينهما مهملة ساكنة ابن راشد سكن اليمن (في فترة الوحي) بفتح الفاء أي انقطاعه عنه سنتين ونصف كذا ذكره الدلجي وقال الحلبي الحديث في صحيح البخاري في التعبير وقال الدلجي فيما رواه أحمد والبيهقي (فحزن النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) بكسر الزاء أي صار ذا حزن بسبب فتور الوحي وتأخره عنه (فيما بلغنا عنه) أي وصل إلينا من مشايخنا (حزنا) أي عظيما (غدا) أي ذهب (منه) أي من أجله أو قصد فيه (مرارا) أي مرة بعد أخرى (كي يتردّى) أي يقصد السقوط ويروى كاد يتردى (من) رؤوس (شواهق الجبال) أي أعاليها وإنما جمع باعتبار تكرار ما قصده (لا يقدح) لا يخل أي قول معمر (في هذا الأصل) الذي قدمناه من أن ما قاله لخديجة من الخشية على نفسه لم يكن على الشك فيما منحه الله تعالى: (لقول معمر عنه) أي عن النبي عليه الصلاة والسلام (فيما بلغنا) أي بطريق الإجمال (ولم يسنده) ليعلم حال الرجال من الانقطاع والاتصال (ولا ذكر رواته) ليعرف ثقاته (ولا من حدّث به) أي من المخرجين (ولا أنّ النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم قاله) أي فيكون الحديث مرفوعا أو قاله صحابي فيكون موقوفا (ولا يعرف مثل هذا) أي والحال أنه لا يعرف حقية هذا المقال ولا حقيقة هذه الحال وهو أنه كاد يلقي نفسه من الجبال (إلّا من جهة النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) ولعله عليه الصلاة والسلام حدث عائشة رضي الله تعالى عنها خبر فترة الوحي وقال فيه فحزنت إلى آخره بلفظ التكلم فروته عنه بلفظ الغيبة فحزن إلى آخره فبلغ من لم يسمعه منها فقال حزن فيما بلغنا إلى آخره فلا يقدح فيما ذكر الحلبي ذكر أبو الفتح بن سيد الناس في سيرته ما لفظه ورويناه من طريق الدولابي حدثنا يونس بن عبد الأعلى حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني يونس بن زيد عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله تعالى عنها فذكر نحو ما تقدم وفي آخره ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي فترة حتى حزن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فيما بلغنا حزنا إلى آخره فهذا لم يكن فيه معمر بالكلية وهذا الذي ذكره هو في البخاري في التعبير من قول معمر كما عزاه القاضي إليه وقد وقفت على أنه ساقه أبو الفتح من غير كلام معمر والذي يظهر أنه من كلام الزهري ويحتمل أن يكون من كلام غيره والله تعالى أعلم (مع أنه) أي ما بلغهم من أنه حزن (قَدْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ الْأَمْرِ كما ذكرناه) أي من أنه كان قبل أن يلقاه جبريل وفيه أنه يدفعه أنه وقع في زمن فترة الوحي ولا شك أنه كان بعد لقائه جبريل (أو أنّه فعل ذلك) أي ما ذكر من إرادة التردي (لما أخرجه) بالحاء المهملة أي من أجل ما ضيق عليه البال وأوقعه في حرج ضيق الحال (من تكذيب من بلّغه) أي أوصل ما أرسل به إليهم (كما قال تعالى: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ) أي ذابحها ومهلكها غيظا والمعنى اشفق على نفسك أن تقتلها (عَلى آثارِهِمْ) أي من بعد اختبارهم (إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ) أي القرآن الجديد الانزال (أَسَفاً [الكهف: 6] أي من أجل الأسف وهو أشد الحزن أو متأسفا عليهم كما قال الله
تعالى في موضع آخر فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ بأن تتلهب على فراقهم جمرات (وَيُصَحِّحُ مَعْنَى هَذَا التَّأْوِيلِ حَدِيثٌ رَوَاهُ شَرِيكٌ) وهو ابن عبد الله النخعي يروي عنه أبو بكر ابن أبي شيبة وعلي بن حجر وثقه ابن معين وقال غيره سيىء الحفظ وقال النسائي لا بأس به (عن عبد الله بن محمد بن عقيل) بفتح وكسر وهو ابن أبي طالب يروي عن ابن عمر وجابر وعدة وعنه جماعة قال أبو حاتم وغيره لين الحديث وقال ابن خزيمة واحتج به قال الواقدي مات بالمدينة قيل خروج محمد بن عبد الله بن حسن سنة خمس وأربعين ومائة (عن جابر بن عبد الله) كما رواه البزار وروى الطبراني نحوه عن ابن عباس (أنّ المشركين لمّا اجتمعوا بدار النّدوة) بفتح النون وسكون الدال المهملة وهو مكان اجتماعهم حيث يتشاورون في مهامهم (للتّشاور في شأن النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) وهي دار بناها قصي بن كعب وجعل بابها إلى الكعبة ليجتمع فيها العرب للمشاورة وللختان وللنكاح وإذا قدمت غير نزلت فيها وإذا ارتحلت رحلت منها وسميت دار الندوة من الندي بتشديد الياء وهو مجتمع القوم قال الشمني وهي الآن من الحرم والله تعالى اعلم وهي الزيادة التي تلي ناحية سويقة من المسجد وهي مستقبلة الميزاب وسيأتي قصة مشورتهم واتفاقهم على قتله عليه الصلاة والسلام (واتّفق رأيهم على أن يقولوا) أي في حقه (إنّه ساحر) كما مر عن أبي جهل وعن الوليد بن المغيرة (اشتدّ ذلك عليه وتزمّل في ثيابه) أي تلفف (وتدثّر فيها) أي تغطى بها فوق الشعار أعني ما يلي جسده من الثياب ومنه قوله عليه الصلاة والسلام الأنصار شعاري والعرب دثاري (فأتاه جبريل عليه السلام فقال) أي مناديا له (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ [المزمل: 1] ) أي تارة وأخرى (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر: 1] ) لما روي عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كنت على حراء فنوديت يا محمد إنك رسول الله فنظرت عن يميني وشمالي فلم أر شيئا فنظرت فوقي فرأيت شيئا وفي رواية عائشة رضي الله تعالى عنها فإذا به على كرسي بين السماء والأرض يعني جبريل فرعبت منه ورجعت إلى خديجة فقلت دثروني دثروني فقال يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (أو خاف) أي أو أنه عليه الصلاة والسلام فعل ذلك من أجل أنه خاف (أنّ الفترة) أي للوحي إنما كانت (لأمر) أي لأجل أمر صدر عنه (أو سبب منه فخشي أن تكون) أي فترته (عُقُوبَةً مِنْ رَبِّهِ فَفَعَلَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ وَلَمْ يرد نهي عن ذلك) وفي نسخة شرع بالنهي عن ذلك أي عن التردي من الجبل لأنه كان أول الإسلام ولم تتبين الأحكام (فيعترض به) عليه في هذا المقام (ونحو هذا) أي من ضيق البال وشدة الحال (فرار يونس عليه الصلاة والسلام وفيه ست لغات ضم النون وفتحها وكسرها مع ترك الهمز وبه حيث ذهب مغاضبا لقومه متبرما من تكذيبهم تخويفا لهم أن يحل العذاب عليهم ظنا منه أن فراره بغير إذن ربه سائغ إذ لم يفعله إلا غضبا لربه وغيظا على مخالفي دينه ومع ذلك لاحظ (خَشْيَةَ تَكْذِيبِ قَوْمِهِ لَهُ لِمَا وَعَدَهُمْ بِهِ من العذاب) ورجاء أن يؤمنوا به بعد فقده فقد روي أنهم لما فقدوه خافوا نزوله عليهم فاستغاثوا بربهم وقالوا يا حي حين لا
حي ويا حي محيي الموتى ويا حي لا إله إلا أنت وقالوا اللهم إن ذنوبنا قد عظمت وأنت أعظم منها وأجل وافعل بنا ما أنت أهله ولا تفعل بنا ما نحن أهله وهذا معنى قوله سبحانه وتعالى إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (وَقَوْلُ اللَّهِ فِي يُونُسَ: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ [الْأَنْبِيَاءِ: 87] مَعْنَاهُ أَنْ لَنْ نُضَيِّقَ عليه) كما قال تعالى يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ وليس مراده أنه سبحانه وتعالى غير قادر عليه لأن هذا لم يخطر ببال كافر فضلا عن مؤمن لا سيما نبيا ورسولا روي أن ابن عباس دخل على معاوية فقال يا ابن عباس لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة فغرقت فما أجد لنفسي خلاصا إلا بك ثم قرأ الآية ثم قال أو يظن نبي الله أن لا يقدر الله عليه فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هذا من القدر أي بسكون الدال أو فتحها لا من القدرة، (قال مكّيّ طمع في رحمة الله تعالى) أي سعة كرمه (وَأَنْ لَا يُضَيِّقَ عَلَيْهِ مَسْلَكَهُ فِي خُرُوجِهِ) بغير إذنه مغاضبا لقومه ليؤمنوا بعد فقده (وَقِيلَ حَسَّنَ ظَنَّهُ بِمَوْلَاهُ أَنَّهُ لَا يَقْضِي عليه بالعقوبة) لما ورد في الحديث القدسي أنا عند ظن عبدي بي لكنه غفل عن أن حسنات الأبرار سيئات المقربين (وقيل نقدّر عليه ما أصابه) أي من الابتلاء ببطن الحوت في الماء وهو بضم أوله فسكون ثانيه فكسر ثالثه مخفف نقدر عليه كذا ذكره الدلجي وهو غير صحيح فالصواب أنه مخفف قدر بمعنى قدر مشددا وقد ضبطه الحجازي بضم النون وفتح القاف وتشديد الدال المكسورة، (وقد قرىء) أي في الشواذ (نقدّر بالتّشديد) أي بتشديد الدال المكسورة وكذا قرىء نقدر مبنيا للفاعل وللمفعول مخففا ومثقلا (وقيل نؤاخذه) أي فظن أن لن نؤاخذه بعتابه أو عقابه (بغضبه وذهابه) إذ كان عليه أن يصابرهم ولا يفارقهم إلا بإذن من ربه، (وقال) وفي نسخة بلا واو العطف (ابن زيد) وفي نسخة أبو زيد وفي أخرى أبو يزيد والصواب الأول فقد نقل ذلك البغوي في تفسيره عن ابن زيد والظاهر أنه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (معناه أفظنّ أن لن تقدر عليه على الاستفهام) أي الداخل على صدر الكلام وحذف تخفيفا لدلالة المقام على المرام والمعنى إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً أفظن أن لن نقدر عليه ويمكن أن يقدر إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ والتأويل لازم على كل تقدير لما علله المصنف بقوله (ولا يليق) أي لا يحسن (أن يظنّ بنبيّ) أي فضلا عن رسول (أن يجهل) وروي أنه جهل (صفة من صفات ربّه) كالقدرة والعلم والإرادة ولذا استدل أهل السنة بطلب موسى عليه السلام الرؤية أنها ممكنة في الجملة ليس فيها استحالة خلافا للمعتزلة والحاصل أنه لا يتصور أن نبينا يظن أنه تعالى لا يقدر عليه كما قدمناه (وكذلك) أي يحتاج إلى تأويل (قوله) أي الله سبحانه وتعالى (إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً [الأنبياء: 87] ) حيث يتوهم أنه ذهب مغاضبا لربه فالصواب تأويله بوجه من الوجوه (الصّحيح مغاضبا لقومه
لكفرهم) كما مر وهو المناسب ههنا لأن المغاضبة مراغمة على ما في القاموس (وهو قول ابن عبّاس والضّحّاك وغيرهما) أي من المفسرين (لَا لِرَبِّهِ عز وجل إِذْ مُغَاضِبَةُ اللَّهِ مُعَادَاةٌ لَهُ وَمُعَادَاةُ اللَّهِ كُفْرٌ لَا يَلِيقُ بالمؤمنين فكيف بالأنبياء) لا سيما المرسلين (وقيل مستحييا من قومه أن يسموه) بفتح الياء وكسر السين وتخفيف الميم أي كراهة أن يصفوه (بالكذب) إذ قيل إنه قال لهم أأجلكم أربعين ليلة فقالوا إن رأينا أسباب الهلاك آمنا وظاهر هذا القيل إن مستحييا تفسير مغاضبا ولم أر هذا المبنى في كتب اللغة بهذا المعنى فكان الأولى أن يقال استحياء ولا يبعد أن يكون حالا أخرى مقدرة لتصحيح الكلام والله تعالى اعلم بالمرام (أو يقتلوه) أي ذهب مغاضبا لهم كراهة أن يقتلوه (كما ورد في الخبر) لم يعرف له من الأثر إلا أن الأنطاكي قال وهو ما روي أنه كان عندهم من كذب ولم يكن له بينة قتل (وقيل مغاضبا لبعض الملوك) أي لأجله (فيما أمره) أي يونس (بِهِ مِنَ التَّوَجُّهِ إِلَى أَمْرٍ أَمَرَهُ اللَّهُ تعالى) أي أمر الله الملك (به على لسان نبيّ آخر) أي غير يونس عليهما السلام كان في زمنه (فَقَالَ لَهُ يُونُسُ غَيْرِي أَقْوَى عَلَيْهِ مِنِّي (أي اعتذارا منه أو أراد المحجة السهلة حذرا من غلبة المشقة (فعزم عليه) أي حمله سبحانه وتعالى على الجد والصبر على مقاساة شدائد المر (فخرج لذلك) أي من أجل عزمه عليه ما لا طاقة لديه (مغاضبا) له تاركا ما أمره به لصعوبته لديه ولهذا قال تعالى لنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ، (وقد روي عن ابن عبّاس) رضي الله تعالى عنهما (أنّ إرسال يونس ونبوّته) أي المقرونة بالرسالة إلى قومه بنينوى أي من الموصل (إنّما كان بعد أن نبذه الحوت) وقد سقط أن المصدرية بعد بعد ف أصل الدلجي فقال الحوت فاعل المصدر قبله المضاف إلى معموله أي قذفه من بطنه (واستدلّ) أي ابن عباس ويحتمل أن يكون بصيغة المجهول عطفا على روي أي وقد استدل لما روي عنه (بقوله) أي بظاهر قوله تعالى (فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ) أي قذفناه من بطن الحوت بمكان عار عن البناء والشجر ونحوهما (وَهُوَ سَقِيمٌ) أي اليم من حرارة بطن الحوت (وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ) من كمال رأفتنا وجمال رحمتنا (شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ) يفعيل من قطن بالمكان إذا أقام به قيل هي الدباء لأن الذباب لا يقع عليها فجعلها الله تعالى فوقه مظلة له كالقبة ويقال إن ريح القرع من ريح يونس بقي فيه منه رائحة إلى القيامة (وَأَرْسَلْناهُ) أي إلى مائة ألف أو يزيدون يعني في رأي العين إذا رآهم الرائي قال هم مائة ألف أو أكثر والمراد وصفهم بالكثرة أو بمعنى بل ويؤيده أنه قرئ ويزيدون بالواو ووجه الاستدلال أن الأصل في إفادة الواو الترتيب كما يدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام نبدأ بما بدأ الله تعالى به أن الصفا والمروة من شعائر الله ولا يعدل عن هذا المعنى إلا إذا عرف دليل خارج عن المبنى وهذا لا ينافي قولهم إن الواو لمطلق الجمع وأنها لا تفيد الترتيب فإن مرادهم أنه ليس نصا في المعنى لاحتمال ارادة غيره من هذا المبنى إذا وجد دليل على هذا المدعي هذا وقيل المراد بأرسلناه إرساله الأول إليهم أو هو إرسال ثان بعد ذلك إليهم
أو إلى غيرهم لما قيل لما آمنوا سألوه أن يرجع إليهم فأبى تحاميا من رجوعه للإقامة فيهم بعد هجرته عنهم وقال الله تعالى (بعث إليكم نبيا)(ويستدلّ أيضا) أي لما روي عن ابن عباس من أن ارساله إليهم إنما كان بعد نبذ الحوت له (بقوله) أي الله سبحانه وتعالى خطابا لنبينا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم (وَلا تَكُنْ) أي حال ضجرك وقلة صبرك؛ (كَصاحِبِ الْحُوتِ) أي يونس عليه السلام (الْحُوتِ إِذْ نادى [القلم: 48] وذكر القصّة) وهي قوله تعالى إِذْ نادى أي في بطن الحوت وَهُوَ مَكْظُومٌ أي مملوء غيظا لولا أن تداركه وفي قراءة ابن مسعود وابن عباس لولا أن تداركته نعمة من ربه بعود رحمته إليه وقبول توبته عليه وقرأ الحسن تداركه بتشديد الدال على أن أصله تتداركه على حكاية الحال الماضية بمعنى لولا أن كان يقال في شأنه تتداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء أي لطرح بالفضاء الخالي عن الماء والبناء وهو مذموم حال اعتمد عليها جواب لولا والمعنى لولا تدارك رحمته وعود نعمته لكان على حال مذمته ومذلته (ثمّ قال: فَاجْتَباهُ رَبُّهُ أي قربه واصطفاه (فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ [القلم: 50] ) أي الكاملين في الصلاح والديانة وهم أصحاب النبوة والرسالة (فتكون هذه القصّة إذن) أي على هذا (قبل نبوّته) أي وارساله إليهم (فَإِنْ قِيلَ فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم) فيما رواه عن الأعز المزني (إنّه) أي الشأن (ليغان على قلبي) أي ليغطي ويستر والجار نائب الفاعل وهو بصيغة المجهول من الغين وهو اطباق الغيم في مرأى العين وهو سحاب لطيف كناية عن حجاب ظريف لما يعرض له عليه الصلاة والسلام مما يصرفه عن دوام ملازمة ذكر الملك العلام على وجه التمام وهو الاستغراق في بحر الشهود والفناء عن مطالعة ما سوى الله تعالى في عالم الوجود لما يعرض له مما يصرفه عن ذلك المقام بسبب اشتغاله بأمور أمته ومصالحها من الأحكام المتعلقة بالخاص والعام أو لأجل تصور قصوره في مقام العبادة على الوجه التام (فاستغفر الله كلّ يوم) وفي نسخة في كل يوم وفي نسخة في اليوم (مائة مرّة وفي طريق) أي للبخاري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه فاستغفر الله (في اليوم أكثر من سبعين مرّة) وهي لا تنافي الرواية الأولى على أن حملهما على أرادة الكثرة هو الأولى والحاصل أنه كان يعد ما يشغله عن ربه في الصورة ذنبا بالنسبة إلى مقامه الأعلى المعبر عنه لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل والمحققون على أنه أراد بالنبي المرسل ذاته الأكمل في حاله الأفضل المعبر عنه بالاستغراق في لجة فناء بحر التوحيد وبر التفريد وبهذا تبين لك أن حسنات الأبرار سيئات المقربين وكانت رابعة العدوية في مثل هذه القضية قالت استغفارنا يحتاج إلى استغفار كثير والحاصل أن هذا سحاب غين في الطريقة وحجاب عين في الحقيقة وحجب الأنبياء والاصفياء من الأولياء لم تكن إلا نوارنية لطيفة لا ظلمانية كثيفة (فاحذر) أي كل الحذر لخوف عظيم الخطر (أن يقع ببالك) أي ويخطر في خيالك (أَنْ يَكُونَ هَذَا الْغَيْنُ وَسْوَسَةً أَوْ رَيْبًا) بالموحدة ان شكا وشبهة وفي نسخة بالنون فيكون من قبيل قوله تعالى كَلَّا بَلْ رانَ
عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ فالمعنى فاحذر أن تتوهم أن يكون هذا الغين ربنا أي حجابا شينا (وقع في قلبه عليه الصلاة السّلام) أي فينقلب عليك الملام (بل أصل الغين في هذا) أي المكنى به في المقام (ما يتغشّى القلب ويغطّيه) عما يقصده من المرام ولعل الحكمة في ذلك عدم القوة البشرية لدوام ما هنالك؛ (قاله) أي هذا المبنى اللغوي المترتب عليه المعنى الحقيقي (أبو عبيد) وهو معمر بن المثنى كذا ذكره الدلجي وقال الحلبي هو القاسم بن سلام بتشديد اللام انتهى وهو الظاهر في هذا المقام ويروى قال أبو عبيد (وأصله من غين السّماء) وفيه إيماء إلى مقام العلاء (وهو إطباق الغيم عليها) فهو سحاب عارض لا يمنع السماء عن مقام الاعتلاء؛ (وقال غيره) أي غير أبي عبيد (الغين شيء يغشّي القلب) بتشديد الشين وتخفيفها أي يستره ويخفيه (ولا يغطّيه كلّ التّغطية كالغيم الرّقيق) وهو السحاب الأبيض (الّذي يعرض في الهواء) بالمد (فلا يمنع ضوء الشّمس) أي بالكلية (وكذلك) أي مثل ما قدمناه لك فيما حذرناك من أن تفهم بالغين نوع وسوسة في البين (لا يفهم) بصيغة المجهول ليكون أعم ولا يبعد أن يكون بصيغة الخطاب والمراد به الخطاب العام (مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّهُ يُغَانُ عَلَى قَلْبِهِ مِائَةَ مَرَّةٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً فِي اليوم إذ ليس يقتضيه) أي هذا المعنى (لفظه الّذي ذكرناه) أي من المبنى (وَهُوَ أَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ وَإِنَّمَا هَذَا عَدَدٌ لِلِاسْتِغْفَارِ لا للعين) وفيه أن الرواية التي ذكرها المصنف بلفظ فاستغفر الله تقتضي ذلك بل الظاهر أن هذا العدد من الاستغفار يترتب على تحقق كل ما وقع من الغين في عين الأبرار نعم هذا لم يرد على ما ورد بلفظ وأني لأستغفر الله فإن صدر الحديث يشير إلى أنه قد يغان قلبه عن ربه وآخره يشعر بأنه يستغفر الله تعالى كثيرا لأجله أو بسبب غيره وحينئذ يحتمل أن يكون استغفاره لنفسه أو لغيره من المؤمنين أو للجمع بينهما وهو ظاهر قوله تعالى وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ مع ما فيه من تعليم الأمة وتحثيثهم على كثرة الاستغفار والتوبة عن المعصية والغفلة والتقصير في الطاعة والعبادة للاقتداء بسيد الأنبياء على أن في كثرة الاستغفار فتح باب الفناء وانكشاف مقام البقاء (فيكون المراد بهذا الغين) أي والله تعالى أعلم بحقيقته (إشارة إلى غفلات قلبه) أي في مقام المجاهدة (وفترات نفسه) أي في مرام المشاهدة (وسهوها) أي اشتغالها بما هو أهم عليها (عن مداومة الذّكر) أي اللساني إذ لا يمنع مانع عن مواظبة الذكر الجناني ولذا كان صلى الله تعالى عليه وسلم إذا خرج من الخلاء قال غفرانك تداركا لما فاته من ذكر اللسان في درك الفضاء واشعارا بأنه قاصر عن القيام بشكر تلك النعماء كما أشار إليه بقوله صلى الله تعالى عليه وسلم حينئذ الحمد لله الذي أذهب عني ما يؤذيني وأبقى علي ما ينفعني (ومشاهدة الحقّ) أي في مقام الفناء والاستغراق المطلق (بما كان) أي بسبب كونه (صلى الله تعالى عليه وسلم دفع إليه) بصيغة المجهول أي رد إليه وحمل عليه (من مقاساة البشر) أي من مكابدة لوازم البشرية من الأكل والشرب وسائر المقتضيات الطبيعية (وسياسة الأمّة) أي بالأحكام الشرعية (ومعاناة الأهل)
أي مقاساة أحوال العيال والأولاد والخدم والأحفاد ومكابدة الأقارب القريبة والبعيدة (ومقاومة الوليّ والعدوّ) أي مقابلتهما بما يصلح في معاملتهما (ومصلحة النّفس) أي تربيتها وارتياضها حتى تنقاد بتحمل ما لها وتحمل ما عليها مما لا بد منه معاشا ومعادا (وكلّفه) بصيغة المجهول أي وبما كلفه الله تعالى أي حمله (من أعباء أداء الرّسالة) أي من أثقال تأديتها واشتغال تبليغها (وحمل الأمانة) أي الخاصة والعامة المؤدية إلى كمال الديانة كما أشار إليه قوله تعالى إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ أي عليها أنفسها أو على سكانها فَأَبَيْنَ أي امتنعن من قبول حملها بحسب القابلية حيث لم يخلقوا لها وما جعلهم الله من أهله وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ لكمال قابليته وجمال أهليته إِنَّهُ كانَ أي في علمه سبحانه وتعالى باعتبار جنسه ظَلُوماً جَهُولًا لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ففي الآية دلالة على أن أن أفراد المؤمنين لا بد لهم من الاستغفار والتوبة ليستحقوا بذلك المغفرة والرحمة كما أشعر به قوله سبحانه وتعالى وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً للمسيئين والمحسنين (وهو) أي النبي عليه الصلاة والسلام (في كلّ هذا) أي ما ذكرناه من اختلاف مقامه ويروى في هذا كله (في طاعة ربّه وعبادة خالقه) فلا يكون الاستغفار على الحقيقة من التوبة عن المعصية وإنما هو من حالة أدنى إلى حالة أعلى فإن السير في الله تعالى لا يبلغ أحد منتهاه (ولكن) أي الاستغفار مع هذا له سبب وهو أنه (لمّا كان صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْفَعَ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ مَكَانَةً) أي رتبة (وأعلاهم درجة) أي قربة (وَأَتَمَّهُمْ بِهِ مَعْرِفَةً وَكَانَتْ حَالُهُ عِنْدَ خُلُوصِ قلبه) أي عن ملاحظة غير ربه (وخلوّ همّته وتفرّده بربّه) عن شهود غيره (وإقباله بكلّيّته) أي قلبا وقالبا (عليه) أي بتفويض جميع أموره إليه والقائه نفسه كالميت بين يديه (ومقامه هنالك أرفع حاليه) أي بالنسبة إلى غير ذلك وجواب لما قوله (رأى صلى الله تعالى عليه وسلم حال فترته عنها) أي صورة (وشغله بسواها) أي ضرورة (غضّا) بتشديد المعجمة الثانية أي نقصا وانحطاطا (من عليّ حاله) أي رفع كماله وبديع جماله (وخفضا من رفيع مقامه) ومنيع مرامه (فاستغفر الله من ذلك) وطلب المقام الأعلى فيما هنالك؛ (هذا) أي التأويل الذي حررناه (أولى وجوه الحديث وأشهرها) أي وأظهرها فيما قررناه وفي نسخة وأشهدها أي وأبينها وأدلها فيما ذكرناه (وإلى معنى ما أشرنا به) أي إليه كما في نسخة وفي نسخة وإلى ما أشرنا به فيه من تأويل الحديث (مال كثير من النّاس وحام حوله) أي دار في جوانبه أهل الاستيناس (فقارب) أي أمره (ولم يرد) أي أحد حكمه وقيل لم يصله على أنه من ورد (وقد قرّبنا غامض معناه) أي مشكل معناه مع ما يتعلق بحل مبناه (وكشفنا للمستفيد محيّاه) بضم الميم وتشديد الياء أي نقاب وجهه وحجاب أمره وفي نسخة مخباه بخاء معجمة وتشديد موحدة أي مخفيه وأصله الهمز كما في قوله ألا يا اسجدوا لله الذي يخرج الخبأ فكأنه أبدل للتخفيف مراعاة للسجع (وهو) أي التأويل المذكور (مبنيّ على جواز الفترات) أي التكاسل
في الطاعات والتغافل عن العبادات (والغفلات) أي عما يجب عليهم من الأمور في الأوقات (والسّهو) أي الغلط أو اللهو في بعض الأمور والحالات (في غير طريق البلاغ) أي تبليغ الآيات وما يتعلق بأمور الرسالات (على ما سيأتي) أي في بعض المقامات (وذهب طائفة من أرباب القلوب ومشيخة المتصوّفة) بفتح الميم وكسر الشين وسكونها أي مشايخهم في الطريق المطلوب (ممّن قال بتنزيه النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم عن هذا) أي عما ذكر من نحو الفترة والغفلة (جملة) أي جميعا بطريق الإجمال من غير تفصيل واستثناء بعض الأحوال (وأجّله) بتشديد اللام أي وعده عليه الصلاة والسلام جليلا وفي مقام الكمال جميلا (أن يجوز عليه) أي من أن يصدر عنه وفي نسخة بصيغة المجهول مشددة الواو أي من أن يصدر تجويز ما سبق عليه (في حال) أي من الحالات ووقت من الأوقات (سهو) أي ذهول في المقامات (أو فترة) أي قصور في الطاعات وكسور في المقامات ومال (إلى أنّ معنى الحديث) أي المذكور بحسب المآل أن المراد بالغين (مليهمّ خاطره) من أهمه الأمر إذا أزعجه وأقلقه (ويغمّ فكره) بفتح الياء وضم الغين المعجمة لا كما توهم الحلبي من أنه بكسرها كما قبله وفي نسخة بضم أوله أي ويشغل سره (من أمر أمّته) أي أهل دعوته وإجابته عليه الصلاة والسلام لاهتمامه بهم وكثرة شفقته عليهم) أي بوصف الدوام (فيستغفر لهم) أي في ساعات من الأيام فالاستغفار راجع إلى عصاة أمته عليه الصلاة والسلام؛ (قالوا) أي الطائفة المتصوفة (وقد يكون الغين ههنا) أي في هذا الحديث (على قلبه السّكينة) أي الوقار والطمأنينة (التي تتغشّاه) وفي نسخة تغشاه أي تتنزل عليه مما يخشع له قلبه ويسكن روعه (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ [التَّوْبَةِ: 40] ويكون استغفاره عليه الصلاة والسلام عندها) أي عند نزولها وحال حصولها (إظهارا للعبوديّة) يروى لعبوديته (والافتقار) ألى التجليات الربوبية؛ (قال ابن عطاء استغفاره وفعله) أي تضرعه وخضوعه وإظهار خوفه (هذا تعريف للأمّة) أي تعليم لهم (يحملهم) جملة استئنافية أو حالية أي يبعثهم ويحثهم (على الاستغفار) أقول وهذا المعنى لا ينافي ما سبق عن بعض الأبرار؛ (قال غيره) أي غير ابن عطاء (ويستشعرون) من الشعور أي ويدركون من تعريفه لهم الاستغفار (الحذر) من الوقوع في المعاصي على وجه الإصرار ووقع في أصل الدلجي الحصر أي الحبس لأنفسهم على الطاعة وفي نسخة الحظر أي المنع لها عن المعصية والحاصل أنهم حينئذ يقعون في الحذر والخوف على أنفسهم (ولا يركنون إلى الأمن) أي لا يميلون ولا يسكنون إليه ولا يعتمدون عليه؛ (وقد يحتمل أن تكون هذه الإغانة) في القاموس غين على قلبه غينا تغشته السهوة أو غطي عليه وألبس أي غشي عليه أو أحاط به الرين كأغين فيهما انتهى وبهذا علم أن الإعانة في لغة مبنى الغين والمراد بها أن هذه الغشية (حالة خشية وإعظام) أي ومقام هيبة (تَغْشَى قَلْبَهُ فَيَسْتَغْفِرَ حِينَئِذٍ شُكْرًا لِلَّهِ وَمُلَازَمَةً لعبوديّته) أي ومحافظة على مداومة عبودية مولاه (كما قال في ملازمة العبادة) أي التي هي أخص من العبودية (أفلا
أكون عبدا شكورا) حين قام عليه الصلاة والسلام في صلاة الليل حتى تورمت قدماه فقيل له افتتكلف هَذَا وَقَدْ غُفِرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شكورا والحديث روى الترمذي والفاء للعطف على مقدر تقديره ءاترك الصلاة اعتمادا على الغفران فلا أكون عبدا شكورا للرحمن وقد قال في حق نوح عليه السلام إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً وقال عز وجل وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ وقيل المعنى أن غفران الله تعالى إياي سبب لأن أصلي شكرا له فكيف أتركه ثم تخصيص العبد بالذكر للإشعار بأن العبودية تقتضي صحة النسبة وليست تتصور إلا بالعبادة وهي عين الشكور فالمعنى ألزم العبادة وإن غفر لي لأكون عبدا شكورا وكأن من سأله ظن أن سبب تحمل مشقة العبادة إما خوف معصية أو رجاء مغفرة فأفاده أن لها سببا آخر أتم وأكمل وهو الشكر على التأهل لها مع اكمال المغفرة واجزال النعمة وقد روي عن علي كرم الله تعالى وجهه أن قوما عبدوا رغبة فتلك عبادة التجار وأن قوما عبدوا رهبة فتلك عبادة العبيد وأن قوما عبدوا شكرا فتلك عبادة الأحرار كذا نقله عنه صاحب ربيع الأبرار (وعلى هذه الوجوه) أي الأخيرة كما في نسخة وهي من قوله وقالوا وقد يكون الغين إلى آخره (يُحْمَلُ مَا رُوِيَ فِي بَعْضِ طُرُقِ هَذَا الحديث عنه عليه الصلاة والسلام إنه) بكسر الهمز أي الشأن (لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سبعين مرّة فأستغفر الله تعالى) ولا يخفى أن هذه الرواية تؤيد أن المراد بالعدد في الحديث السابق هو الغين المرتب عليه الاستغفار لا الاستغفار المجرد عن الغين كما قدمناه (فَإِنْ قُلْتَ فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ صلى الله تعالى عليه وسلم وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ أي الخلق بأجمعهم (عَلَى الْهُدى) بتوفيقهم للإيمان وترك العصيان لكن لم تتعلق المشيئة بما هنالك فلم يجمعهم على ذلك وأما تأويل المعتزلة بأن يأتيهم بآية ملجئة تجمعهم عليه لكن لم يفعل لخروجه عن الحكمة فمردود عليهم لأن المشيئة لا تتعلق بالخارج عن الحكمة والحكم الالهية لا نهاية لها ولا غاية لمعرفتها بل أكثرها مجهول عندنا (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ [الأنعام: 35] ) أي بصفات الله تعالى المقتضية لذلك فإن منها الجلالية التي توجب هلاك الكفار وانتقامهم بالنار خالدين فيها أبدا ومنها الجمالية التي توجب الرحمة على المؤمنين وإنعامهم بالجنة خالدين فيها أبدا (وقوله تعالى) أي والحال أنه قد قال وفي نسخة وقوله أي وما معنى قوله (لِنُوحٍ عليه السلام: مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [هود: 46] ) وحاصل الإشكال نهاهما عن كونهما من الجهال فأجاب عنه بقوله؟ (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يُلْتَفَتُ فِي ذَلِكَ إِلَى قول من قال في آية نبيّنا عليه الصلاة والسلام وهي الآية الأولى (فلا تَكُونُنَّ مِمَّنْ يَجْهَلُ أَنَّ اللَّهَ لَوْ شَاءَ لجمعهم على الهدى) لأنه عليه الصلاة والسلام لم يكن جاهلا بهذا المقام ولا يجوز جهل الأنبياء بصفاته الكرام لكن لا يلزم من نهيه عن كونه منهم أنه منهم كما قال تعالى في آيات كثيرة فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ فإن المراد به التهييج والتثبيت على تحقيق ذلك
المرام والتعريض بأن من كان على خلاف ذلك الاعتقاد فهو جاهل بالرشاد وضال عن طريق السداد (وفي آية نوح) وهي الآية الثانية (لَا تَكُونُنَّ مِمَّنْ يَجْهَلُ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حقّ) أي واخباره صدق (لقوله) أي لتصريح نوح نفسه (وإنّ وعدك الحقّ إذ فيه) أي فيما قاله هذا القائل الجاهل مجترئا بقوله عليهما تفسيرا للآيتين (إثبات الجهل بصفة من صفات الله تعالى) أي تجويزا مكان ذلك لأن النهي غالبا لا يكون إلا هنالك وإلا فقد سبق أنه لا يلزم من قوله فيهما اثبات الجهل لهما بصفة من صفات الله تعالى (وذلك) أي الجهل المذكور (لا يجوز على الأنبياء) بل ولا على العلماء والأولياء (والمقصود) أي من نهي الأنبياء عن هذه الأشياء (وعظهم أن لا يتشبّهوا في أمورهم) أي من أحوالهم وأقوالهم وأعمالهم وفي نسخة أن لا يتسموا بتشديد التاء أي لا يتصفوا (بسمات الجاهلين) بكسر السين المهملة أي بصفاتهم (كما قال) أي الله سبحانه وتعالى إيماء إلى ذلك (إنّي أعظك وليس في آية منها دليل على كونهم على تلك الصّفة) أي صفة الجهل (الّتي نهاهم عن الكون عليها) أي الاتصاف بها (فكيف) أي لا يكون الأمر كذلك (وآية نوح قبلها فلا تسألني) فيه قراآت أي فلا تطلبني (ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) من نجاة ابنك (فحمل ما بعدها) أي ما بعد هذه الآية وهو قوله إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ (على ما قبلها) وهو قوله (فلا تسألني ما ليس لك به علم)(أولى) لصراحتهم بعدم علمه بموجب ترك نجاة ابنه (لأنّ مثل هذا) أي سؤال ما ليس له به علم من نجاة ابنه (قد يحتاج إلى إذن) من ربه ليقدم عليه بأمره (وقد تجوز إباحة السّؤال فيه ابتداء) أي من ابتداء الحال قبل النهي عن السؤال (فنهاه الله أن يسأله عمّا طوى) أي زوى الله تعالى (عنه علمه وأكنّه) بتشديد النون أي ستره وكتمه (من غيبه) أي عن ادراكه بالبصر أو البصيرة ومن بيان لما وقوله (من السّبب) بيان للغيب فكأنه قال من الغيب الذي هو السبب (الموجب لهلاك ابنه) وفي نسخة لإهلاك ابنه مع أنه قال تعالى وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ لكن لما كان على وجه الإجمال حمله على هذا السؤال ليتبين له جملة الأحوال وقال الماتريدي ظن أنه على دينه إذ كان يظهر له ذلك ويبطن كفره نفاقا هنالك وإلا لما تأتي له أن يقول إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وقيل إنه غلب عليه الشفقة الوالدية ومقتضى الطباع البشرية والأظهر قول الماتريدي ولذا قال المصنف (ثمّ أكمل الله تعالى نعمته عليه) أي هنالك (بِإِعْلَامِهِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ أي الموعودين بالنجاة كما قدمنا الإشارة إليه بأداة المستثناة أو المعنى ليس من أهلك حقيقة وإن كان ابنك صورة حيث خالفك سيرة كما بينه سبحانه وتعالى بقوله (إِنَّهُ عَمَلٌ) أي ذو عمل (غَيْرُ صالِحٍ [هود: 46] ) وفي قراءة الكسائي إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ بصيغة الفعل ونصب غير والمراد بعمل غير صالح الكفر فكل من كان من ذرية الأنبياء ولم يكن من الاتقياء فلم يكن من أهلهم وإن كان من نسلهم ولذا ورد آلى كل تقي (حكى معناه مكّيّ كذلك) أي ومثل أمره سبحانه وتعالى لنوح عليه السلام (أمر نبيّنا) صلى الله تعالى عليه وسلم (في الآية
الأخرى بالتزام الصّبر) في آية وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا (على إعراض قومه) أي عن الإيمان به (ولا يحرج) بالحاء المهملة وفتح الراء أي لا يضيق صدرا (عند ذلك) أي الاعراض (فيقارب) أي حالك (حال الجاهل بشدّة التّحسّر) كما يشير إليه صدر الآية وهو قوله تعالى وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ أي ملجئة إلى الإيمان بالأنبياء والمعنى لا تقدر على ذلك فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ بما هنالك، (حكاه أبو بكر ابن فورك) بضم الفاء وفتح الراء وجوز فيه الصرف وعدمه (وقيل معنى الخطاب) أي وجهه (لأمّة محمد) على أن الخطاب له والمراد غيره أو الخطاب لغيره ابتداء (أَيْ فَلَا تَكُونُوا مِنَ الْجَاهِلِينَ: حَكَاهُ أَبُو محمّد مكّي؛ وقال) أي مكي (مثله في القرآن كثير) أي من الآيات التي فيها الخطاب له والمراد أمته أو التي لا يصلح فيها الخطاب له حقيقة فالمراد به خطاب غيره من الأمة؛ (فبهذا الفضل) أي الذي أوجب لهم مزيد الفضل (وجب القول) وفي نسخة فهذا الفضل أوجب القول وفي أخرى يوجب القول (بعصمة الأنبياء منه) أي مما ذكر من الجهل بالله تعالى وصفاته ومن السهو واللهو والفترة والغفلة (بعد النّبوّة قطعا) أي جزما من غير تردد وشبهة (فَإِنْ قُلْتَ فَإِذَا قَرَّرْتَ عِصْمَتَهُمْ مِنْ هَذَا وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ) أي والشرك من جملة ذلك بل هو أعظم ما هنالك (فما معنى وعيد الله تعالى) وفي أكثر النسخ المصححة فما معنى إذا وعيد الله تعالى بالتنوين بمعنى حينئذ وبجر وعيد وكان الأظهر أن يقال فإذا ما معنى وعيد الله تعالى (لنبيّنا صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ إِنْ فَعَلَهُ وَتَحْذِيرِهِ منه) بناء على أن الوعيد والتحذير غالبا إنما يكون فيمن يتصور فيه فعلى ذلك لا فيمن يكون معصوما من وقوعه فيما هنالك وصورة الوعيد والتحذير وقعت كثيرة في حق نبينا عليه الصلاة والسلام (كَقَوْلِهِ: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزُّمَرِ: 65] الْآيَةَ) أي وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ وقبله وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ أي من الأنبياء والرسل فتوحيد الخطاب باعتبار كل واحد منهم وإطلاق الاحباط ظاهر على مقتضى مذهبنا والشافعية يحملونه على أنه خاص بهم أو على تقييده بموتهم عليه (وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ [يُونُسَ: 106] الْآيَةَ) وهي قوله تعالى فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ [الْإِسْرَاءِ: 75] الآية) يعني قوله تَعَالَى وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا أي لقاربت أن تميل إلى مرادهم فأدركك تثبيتنا وعصمتنا فلم تقارب الركون إليهم فضلا عن أن تركن إليهم إذا أي لو قاربت الركون إليهم فرضا وتقديرا لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ أي عذاب الدنيا وعذاب الآخرة مضاعفين والأصل عذابا ضعفا في الحياة وعذابا ضعفا في الممات بمعنى مضاعفا فحذف الموصوف وأقيم صفته مقامه ثم أضيفت والمعنى أن المعصوم لا يتصور منه الركون إلى الكفر الموجب للعذاب (وقوله لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ [الحاقة: 45] ) وهو جواب لو
في قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ أي لو افترى علينا ما لا يصح نسبته إلينا لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين أي لأهلكناه وعذبناه وهذا تصوير لقتله صبرا بأفظع ما يفعله الملوك قهرا فيؤخذ بيمينه فيضرب عنقه فينقطع وتينه وهو عرق يقال له حبل الوريد مناط القلب فإذا قطع مات صاحبه والمعنى أن المعصوم لا يفتري على الله تعالى حتى يتفرع عليه ما هدد به (وَقَوْلِهِ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام: 116] ) والمعنى أن المعصوم لا يتصور منه إطاعة أرباب الضلال حتى يضلوه عن طريق الوصال (وقوله: فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ [الشورى: 24] ) أي بعد قوله أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فالمعنى إن يشأ يجعلك ممن يختم على قلبه حتى يجترئ بالكذب على ربه أو المعنى يختم على قلبك فينسيك كلام ربك وقيل المعنى يربط عليه بالصبر فلا يشق عليه مقالة أهل الكفر فلا إشكال حينئذ (وقوله: وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ) أي ما أمرت به من تبليغ جميع ما أنزل إليك (فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ [المائدة: 67] ) قرئ بالإفراد والجمع أي حق رسالته أو فكأنك ما بلغت شيئا منها (وقوله: اتَّقِ اللَّهَ) كذا في نسخة وقبله يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ كما في أخرى أي دم على تقواه (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ [الأحزاب: 1] ) أي فيما يؤدي إلى وهن في الدين ومن المعلوم أن المعصوم لا يكون إلا متقيا ولا يتصور فيه أن يطيع كافرا فما معنى أمره بالتقوى ونهيه عن إطاعة غير المولى (فاعلم) أيها المخاطب الأعم (وفقنا الله وإيّاك) للطريق الأقوم (أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لا يصحّ) أي له (ولا يجوز عليه أن لا يبلّغ) أي شيئا مما أمر به (ولا أن يُخَالِفَ أَمْرَ رَبِّهِ وَلَا أَنْ يُشْرِكَ بِهِ ولا يتقوّل على الله) أي ولا أن يتكلف بالقول عليه (ما لا يحبّ) أي ما لا ينبغي أن يقال ولم يؤذن في ذلك المقال (أو يفتري عليه) أي من تلقاء نفسه (أو يضلّ) بصيغة المجهول وفي نسخة بفتح الياء وكسر الضاد (أو يختم على قلبه) بالبناء للمفعول (أو يطيع الكافرين) أي أعم من المنافقين (لكن) وفي نسخة ولكن الله تعالى (يسّر أمره) أي سهله (بالمكاشفة والبيان في البلاغ) أي في تبليغه (للمخالفين) أي من اليهود والنصارى والمشركين (وَأَنَّ إِبْلَاغَهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ بِهَذِهِ السَّبِيلِ) أي الطريق المرضي (فكأنّه ما بلّغ) والمعنى أنه عليه الصلاة والسلام كان خائفا من وقوع تقصير له في هذا المقام ولذا عقبه (وطيّب نفسه) أي أراحه من تعبه (وقوّى قلبه) بتوفيق ربه وتحقيق أمره (بقوله وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67] ) أي مما بين الناس من أن تقع منك معصية أو تقصير في طاعة وهذا المعنى هو المناسب لهذا المقام كما يشير إليه السابق واللاحق للكلام وهو قوله تعالى وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ وهو لا ينافي ما ذكر بعضهم في معناه أنه سبحانه وتعالى يعصمه من تعرض الكفار له بقتل ونحوه ففيه تنبيه نبيه على أنه لا بد له من إكمال تبليغه وهذه التسلية له عليه الصلاة والسلام (كما قال لموسى وهارون لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما [طه: 45] ) أي حافظكما وناصركما على أعدائكما وهذا كله (لتشتدّ بصائرهم) أي لتتقوى سرائرهم (في الإبلاغ) ويروى في البلاغ أي في باب