المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل (في الرد على من أجاز عليهم الصغائر - شرح الشفا - جـ ٢

[الملا على القاري]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثّاني

- ‌[المقدمة]

- ‌(الْقِسْمُ الثَّانِي فِيمَا يَجِبُ عَلَى الْأَنَامِ مِنْ حقوقه صلى الله تعالى عليه وسلم)

- ‌الْبَابُ الْأَوَّلُ [فِي فَرْضِ الْإِيمَانِ بِهِ وَوُجُوبِ طاعته واتّباع سنّته]

- ‌فصل [وَأَمَّا وُجُوبُ طَاعَتِهِ فَإِذَا وَجَبَ الْإِيمَانُ بِهِ وتصديقه فيما جاء به]

- ‌فصل [وَأَمَّا وُجُوبُ اتِّبَاعِهِ وَامْتِثَالُ سُنَّتِهِ وَالِاقْتِدَاءُ بِهَدْيِهِ]

- ‌فصل [وأما وَرَدَ عَنِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ مِنِ اتِّبَاعِ سُنَّتِهِ]

- ‌فصل [وَمُخَالَفَةُ أَمْرِهِ وَتَبْدِيلُ سُنَّتِهِ ضَلَالٌ وَبِدْعَةٌ مُتَوَعَّدٌ من الله تعالى عليه بالخذلان والعذاب]

- ‌الباب الثاني [في لزوم محبته عليه الصلاة والسلام]

- ‌فصل [في ثواب محبته صلى الله تعالى عليه وسلم]

- ‌فصل [فِيمَا رُوِيَ عَنِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ مِنْ مَحَبَّتِهِمْ للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم]

- ‌فصل [في علامات محبته صلى الله تعالى عليه وسلم]

- ‌فصل [في معنى المحبة للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وحقيقتها]

- ‌فصل [في وجوب مناصحته صلى الله تعالى عليه وسلم]

- ‌الْبَابُ الثَّالِثُ [فِي تَعْظِيمِ أَمْرِهِ وَوُجُوبِ تَوْقِيرِهِ وبره]

- ‌فصل [في عادة الصحابة في تعظيمه عليه الصلاة والسلام وتوقيره وإجلاله]

- ‌فصل [واعلم أن حرمة النبي بعد موته وتوقيره وتعظيمه لازم]

- ‌فصل [فِي سِيرَةِ السَّلَفِ فِي تَعْظِيمِ رِوَايَةِ حَدِيثِ رسول الله وسنته عليه الصلاة والسلام]

- ‌فصل [ومن توقيره صلى الله تعالى عليه وسلم وبره بر آله]

- ‌فصل [ومن توقيره وبره توقير أصحابه عليه الصلاة والسلام]

- ‌فصل [ومن إعظامه وإكباره إعظام جميع أسبابه]

- ‌الباب الرابع [في حكم الصلاة عليه صلى الله تعالى عليه وسلم والتسليم]

- ‌فصل [اعلم أن الصلاة على النبي فرض في الجملة]

- ‌فصل [في المواطن التي تستحب فيها الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ويرغب فيها]

- ‌فصل [في كيفية الصلاة عليه والتسليم]

- ‌فصل (في فضيلة الصلاة على النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم والتسليم عليه والدّعاء له)

- ‌فصل (فِي ذَمِّ مَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله تعالى عليه وسلم وإثمه)

- ‌فصل [في تخصيصه عليه الصلاة والسلام بتبليغ صلاة من صلى عليه صلاة أو سلم من الأنام]

- ‌فصل (فِي الِاخْتِلَافِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى غَيْرِ النَّبِيِّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

- ‌فصل (فِي حُكْمِ زِيَارَةِ قَبْرِهِ صلى الله عليه وسلم وَفَضِيلَةِ مَنْ زَارَهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ

- ‌فصل (فِيمَا يَلْزَمُ مَنْ دَخَلَ مَسْجِدَ النَّبِيِّ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم من الأدب)

- ‌الْقِسْمُ الثَّالِثُ [فِيمَا يَجِبُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم وما يستحيل في حقه وما يمتنع]

- ‌الْبَابُ الْأَوَّلُ (فِيمَا يَخْتَصُّ بِالْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ وَالْكَلَامُ فِي عِصْمَةِ نَبِيِّنَا عليه الصلاة والسلام وَسَائِرِ الأنبياء صلوات الله عليهم

- ‌فصل (فِي حُكْمِ عَقْدِ قَلْبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم)

- ‌فصل (وأمّا عصمتهم من هذا الفنّ)

- ‌فصل [قال القاضي أبو الفضل قد بان مما قدمناه عقود الأنبياء في التوحيد والإيمان]

- ‌فصل [وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى عِصْمَةِ النَّبِيِّ من الشيطان إلى آخره]

- ‌فصل [وأما قوله صلى الله تعالى عليه وسلم فقامت الدلائل إلى آخره]

- ‌فصل [وقد توجهت ههنا لبعض الطاعنين سؤالات]

- ‌فصل [فصل هذا القول فيما طريقه البلاغ]

- ‌فصل (فإن قلت فما معنى قوله عليه الصلاة والسلام في حديث السّهو)

- ‌فصل (وأمّا ما يتعلّق بالجوارح)

- ‌فصل [وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي عِصْمَتِهِمْ مِنَ الْمَعَاصِي قَبْلَ النبوة]

- ‌فصل [هَذَا حُكْمُ مَا تَكُونُ الْمُخَالَفَةُ فِيهِ مِنَ الْأَعْمَالِ عَنْ قَصْدٍ وَهُوَ مَا يُسَمَّى مَعْصِيَةً ويدخل تحت التكليف]

- ‌فصل (فِي الْكَلَامِ عَلَى الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورِ فِيهَا السَّهْوُ

- ‌فصل (فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ أَجَازَ عَلَيْهِمُ الصَّغَائِرَ

- ‌فصل (فَإِنْ قُلْتَ فَإِذَا نَفَيْتَ عَنْهُمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ عليهم الذّنوب)

- ‌فصل [قد استبان لك أيها الناظر بما قررناه ما هو الحق من عصمته عليه السلام]

- ‌فصل (في القول في عصمة الملائكة)

- ‌الْبَابُ الثَّانِي [فِيمَا يَخُصُّهُمْ فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ]

- ‌فصل [فَإِنْ قُلْتَ فَقَدْ جَاءَتِ الْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام سحر]

- ‌فصل [هذا حاله عليه الصلاة والسلام في جسمه]

- ‌فصل [وَأَمَّا مَا يَعْتَقِدُهُ فِي أُمُورِ أَحْكَامِ الْبَشَرِ إلى آخره]

- ‌فصل [وَأَمَّا أَقْوَالُهُ الدُّنْيَوِيَّةُ مِنْ أَخْبَارِهِ عَنْ أَحْوَالِهِ]

- ‌فصل (فَإِنْ قُلْتَ قَدْ تَقَرَّرَتْ عِصْمَتُهُ صَلَّى اللَّهُ تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَقْوَالِهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ)

- ‌فصل (فَإِنْ قِيلَ فَمَا وَجْهُ حَدِيثِهِ أَيْضًا الَّذِي حدّثناه الفقيه أبو محمد الخشنيّ)

- ‌فصل (وأمّا أفعاله عليه الصلاة والسلام الدّنيويّة)

- ‌فصل [فَإِنْ قِيلَ فَمَا الْحِكْمَةُ فِي إِجْرَاءِ الْأَمْرَاضِ وشدتها عليه عليه الصلاة والسلام]

- ‌الْقِسْمُ الرَّابِعُ (فِي تَصَرُّفِ وُجُوهِ الْأَحْكَامِ فِيمَنْ تنقّصه أو سبّه عليه الصلاة والسلام

- ‌الْبَابُ الْأَوَّلُ (فِي بَيَانِ مَا هُوَ فِي حقّه صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبٌّ أَوْ نَقْصٌ مِنْ تَعْرِيضٍ أو نصّ)

- ‌فصل (فِي الْحُجَّةِ فِي إِيجَابِ قَتْلِ مَنْ سَبَّهُ أو عابه صلى الله تعالى عليه وسلم)

- ‌فصل (فَإِنْ قُلْتَ فَلِمَ لَمْ يَقْتُلِ النَّبِيُّ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم اليهوديّ الّذي قال له)

- ‌فصل (قَالَ الْقَاضِي تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي قَتْلِ الْقَاصِدِ لسبّه)

- ‌فصل [أن يقصد إلى تكذيبه فيما قاله إلى آخره]

- ‌فصل (الْوَجْهُ الرَّابِعُ أَنْ يَأْتِيَ مِنَ الْكَلَامِ بِمُجْمَلٍ)

- ‌فصل [أَنْ لَا يَقْصِدَ نَقْصًا وَلَا يَذْكُرَ عَيْبًا ولا سبا لكنه ينزع إلى آخره]

- ‌فصل [أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ ذَلِكَ حَاكِيًا عَنْ غَيْرِهِ وآثرا عن سواه]

- ‌فصل [أن يذكر ما يجوز على النبي أو يختلف في جوازه عليه]

- ‌فصل (وَمِمَّا يَجِبُ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ فِيمَا يَجُوزُ عَلَى النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم وما لا يجوز)

- ‌الْبَابُ الثَّانِي [فِي حُكْمِ سَابِّهِ وَشَانِئِهِ وَمُتَنَقِّصِهِ ومؤذيه]

- ‌فصل (إذا قلنا بالاستتابة حيث تصحّ)

- ‌فصل (هذا حكم من ثبت عليه ذلك)

- ‌فصل [هذا حكم المسلم]

- ‌فصل (فِي مِيرَاثِ مَنْ قُتِلَ فِي سَبِّ النَّبِيِّ صلى الله تعالى عليه وسلم وغسله والصلاة عليه)

- ‌الْبَابُ الثَّالِثُ (فِي حُكْمِ مَنْ سَبَّ اللَّهَ تعالى وملائكته وأنبياءه وكتبه وآل النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم وأزواجه وصحبه

- ‌فصل (وَأَمَّا مَنْ أَضَافَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَا لَا يَلِيقُ بِهِ لَيْسَ عَلَى طَرِيقِ السَّبِّ)

- ‌فصل [فِي تَحْقِيقِ الْقَوْلِ فِي إِكْفَارِ الْمُتَأَوِّلِينَ قَدْ ذكرنا مذاهب السلف وإكفار أصحاب البدع والأهواء]

- ‌فصل (فِي بَيَانِ مَا هُوَ مِنَ الْمَقَالَاتِ كُفْرٌ وَمَا يُتَوَقَّفُ أَوْ يُخْتَلَفُ فِيهِ وَمَا لَيْسَ بكفر)

- ‌فصل [هَذَا حُكْمُ الْمُسْلِمِ السَّابِّ لِلَّهِ تَعَالَى وَأَمَّا الذمي الخ]

- ‌فصل [هَذَا حُكْمُ مَنْ صَرَّحَ بِسَبِّهِ وَإِضَافَةِ مَا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ فَأَمَّا مُفْتَرِي الْكَذِبِ الخ]

- ‌فصل (وأمّا من تكلّم من سقط القول)

- ‌فصل (وَحُكْمُ مَنْ سَبَّ سَائِرَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وملائكته)

- ‌فصل (واعلم أن من استخفّ بالقرآن)

- ‌فصل [من سب آل بيته وأزواجه وأصحابه عليه الصلاة والسلام وتنقصهم حرام ملعون فاعله]

- ‌ نظم

- ‌فهرس محتويات الجزء الثاني من شرح الشفا

الفصل: ‌فصل (في الرد على من أجاز عليهم الصغائر

الله نسخه) أي رفعه (ومحوه من القلوب) أي من قلبه عليه الصلاة والسلام وقلب سائر الأنام (وترك استذكاره) في بقية الأيام فإنه من أنواع نسخ الكلام؛ (وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَنْسَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم) بصيغة المفعول أو الفاعل (ما هذا سبيله) أي المحو بعد البلاغ (كرّة) أي بالمرة (وَيَجُوزُ أَنْ يُنَسِّيَهُ مِنْهُ قَبْلَ الْبَلَاغِ مَا لَا يُغَيِّرُ نَظْمًا وَلَا يُخَلِّطُ حُكْمًا مِمَّا لا يدخل خللا في الخبر) أي في مبناه أو معناه (ثمّ يذكّره إيّاه) كما يشير إليه قوله سبحانه وتعالى لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ

وحاصله بيان عصمته عن أن يقع له خطأ في قراءته عند تبليغ أمته (وَيَسْتَحِيلُ دَوَامُ نِسْيَانِهِ لَهُ لَحِفْظِ اللَّهِ كِتَابَهُ) بقوله إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (وتكليفه) ويروى وتكفيله (بلاغه) بقوله يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ.

‌فصل (فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ أَجَازَ عَلَيْهِمُ الصَّغَائِرَ

وَالْكَلَامِ عَلَى مَا احْتَجُّوا بِهِ فِي ذَلِكَ) أي ما استدلوا به من الظواهر هنالك (اعْلَمْ أَنَّ الْمُجَوِّزِينَ لِلصَّغَائِرِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الفقهاء والمحدّثين ومن شايعهم) أي تابعهم كما في نسخة (على ذلك من المتكلّمين) كأبي جعفر الطبري وغيره (احتجّوا على ذلك) أي على تجويزها عليهم (بظواهر كثيرة من القرآن) أي القديم (والحديث) أي السنة (إن التزموا ظواهرها) من غير أن يأولوا أكثرها واتخذوها مذهبا وطريقة (أفضت بهم) أوصلتهم (إلى تجويز الكبائر) عليهم (وخرق الإجماع) أي وإلى مخالفتهم (وما لا يقول به مسلم) أي من تجويز الكبائر بعد البعثة عمدا فإنه لا يقول به إلا الحشوية (فكيف) يجوزون الصغائر عليهم (وَكُلُّ مَا احْتَجُّوا بِهِ مِمَّا اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ في معناه) أي في تأويل مبناه (وتقابلت الاحتمالات) أو الاحتمالان (في مقتضاه) أي موجبه ومؤداه ومع وجود الاحتمال لا يصح الاستدلال (وجاءت أقاويل) جمع أقوال جمع قول أي أقوال كثيرة (في هذا المبحث) وفي نسخة فيها أي في هذه القضية (للسّلف) الصالحين من الصحابة والتابعين (بخلاف ما التزموه) أي بعض الخلف (من ذلك) أي من تجويز ما هنالك وفي نسخة في ذلك (فإذا لم يكن مذهبهم إجماعا) أي بجمع المسلمين (وكان الخلاف فيما احتجّوا به قديما) من أيام المتقدمين (وقامت الدّلالة) أي العقلية (على خطأ قولهم وصحّة غيره) أي غير مقالهم (وجب تركه) جواب إذا (والمصير إلى ما صحّ) دليله عقلا ونقلا على أن متابعة السلف أولى من موافقة الخلف (وها) تنبيه (نحن نأخذ) أي نشرع (في النّظر فيها) أي في التأويل والتفكر في الأدلة وما يترتب عليها من حكم المسألة (إِنْ شَاءَ اللَّهُ؛ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى لنبيّنا صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح: 2] ) أي ما صدر منه جائزا وكان تركه أولى فغفر له بترك عتابه في مقام خطابه؛ (وقوله) تعالى (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [محمد: 19] ) كتقصير في العبادة أو رؤية

ص: 279

الطاعة أو غفلة الساعة أو ملاحظة ما سواه في مقام أن تعبد الله كأنك تراه (وقوله) تعالى (وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ) أي ثقل أعباء الرسالة ومرارة وعثاء الكلفة (الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ [الشرح: 2- 3] ) أي كسره لولا أنه سبحانه وتعالى هون عليه وسهل أمره لديه صلى الله تعالى عليه وسلم (وقوله) تعالى (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ) أي لو صدر ذنب منك (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة: 43] ) أي للمنافقين المتخلفين إعلاما بأن اذنه لهم كان من باب ترك الأولى كما بينه بقوله حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين ودليل ذلك أنه سبحانه وتعالى فوض الإذن إليه في مقامه هنالك حيث قال فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لبعض شأنهم فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ (وقوله) تعالى (لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ) أي حكم أزلي ظهر منه وهو (سَبَقَ) من أن الغنائم تحل لهذه الأمة (لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [الأنفال: 68] ) فهذه قضية فرضية لا يتفرع عليها نهي مسألة فرعية يترتب على تركها خصلة غير مرضية نعم ربما يقال كان الأولى انتظار الوحي الأعلى (وقوله)(عَبَسَ وَتَوَلَّى) أي كلح وجهه وتغير لونه (أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى [عبس: 1- 2] ) أي كراهة مجيئه في غير محله اللائق به ثم عدم التفاته عليه الصلاة والسلام إليه لسؤاله منه قبل تمام الكلام من حضار مجلسه من الأنام (الآية) أي الآيات بعدها مما وقع فيه المعاتبة على اقباله عليه الصلاة والسلام على عبادة الأصنام طمعا أن يدخلوا في الإسلام على اعراضه عمن جاءه ليستفيد منه بعض الأحكام لقوله وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى وَهُوَ يَخْشى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى والأعمى هو عبد الله ابن أم مكتوم العامري شهد القادسية ومعه اللواء فقتل وقد هاجر إلى المدينة وكان مؤذنه عليه الصلاة والسلام واستخلفه على المدينة ثلاث عشرة مرة وقيل مات بالمدينة (وما قصّ الله تعالى) أي حكى وفي نسخة ما نص أي ما صرح سبحانه (من قصص غيره) بفتح القاف أي حاية غيره وفي نسخة بكسرها أي حكايات غيره صلى الله تعالى عليه وسلم (من الأنبياء) عليهم الصلاة والسلام (كقوله وَعَصى آدَمُ أي خالف (رَبَّهُ) بأكل الشجرة نسيانا أو خطأ (فَغَوى [طه: 121] ) فضل عن المطلوب وزل عن المحبوب أو عن المنهي عنه أو عن طريق الرحمن حيث اغتر بقول الشيطان أو خاب حيث طلب الخلد بأكل الشجرة من حيث لم يوجد له الثمرة (وقوله) تعالى (فَلَمَّا آتاهُما) أي الله تعالى اعطاهما (صالِحاً) أي ولدا سويا (جَعَلا) أي آدم وحواء (لَهُ) أي له سبحانه وتعالى (شُرَكاءَ) وفي قراءة شريكا حيث سمياه عبد الحارث ولم يدريا ما الحارث وهو اسم للشيطان وقد وسوس لحواء حين حملت بأنه ما يدريك لعله بهيمة أو كلب وأني من الله بمنزلة فأن دعوت الله أن يجعله خلفا مثلك فسميه عبد الحارث وكان اسمه حارثا في الملكية (الآية) أي فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ وهذا ليس بشرك حقيقي لأنهما ما اعتقدا أن الحارث ربه بل قصدا أنه سبب صلاحه فسماه الله شركا للتغليظ فإن الذنب من العارفين المقربين أشد وأعظم والله اعلم ويكون لفظ شركاء من

ص: 280

اطلاق الجمع على الواحد ويقال إنهما لما فعلا ذلك اقتدى بهما بعض الناس فيما هنالك فسموا أولادهم عبد شمس ونحوه كما في الجاهلية وكعبد النبي في الإسلامية (وقوله) تعالى (عنه) أي حكاية عن آدم وحواء عليهما السلام (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا [الأعراف: 23] ) بوضع الشيء في غيره موضعه الأولى (الآية) أي وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ أي الخائبين الضائعين في الدنيا والآخرة إذ لا يستغني أحد عن مغفرة ربه لنوع تقصير في حقه قال تعالى كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (وقوله) تعالى (عن يونس) أي حكاية (سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء: 87] ) أي ولو في غفلة ساعة أو تقصير طاعة (وما ذكره من قصّة) أي يونس كما سبق (وقصة داود) كما سيأتي، (وقوله) تعالى (وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ) أي ابتليناه (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ [ص: 25] ) أي سقط حال كونه راكعا إلى السجدة شكرا للمغفرة أو عذرا للتقصير في الغفلة (وأناب) أي رجع من الغفلة إلى الحضرة فإن الانابة أخص من التوبة فإنها من المعصية (إلى قوله مَآبٍ) حيث جبر خاطره بقوله فَغَفَرْنا لَهُ ذلك ما كان في صورة الذنب هنالك وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى لقربة في الباب وَحُسْنَ مَآبٍ مرجع إلى الجناب (وقوله) تعالى (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ) أي هم الشهوة (وَهَمَّ بِها [يوسف: 24] ) أي هم الخطرة (وما قصّ من قصّته مع إخوته) فيوسف ثابت نسبة نبوته ومنزه ساحته ببراءته وأما ما سبق من أمور إخوته فسيأتي بعض أجوبته، (وقوله) تعالى (عن موسى: فَوَكَزَهُ مُوسى) أي ضربه بجمعه دفعا له عن ظلمه من غير قصد لقتله (فَقَضى عَلَيْهِ) أي مات لديه (قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) نسب إليه لأنه لم يكن أمر بضربه نزل عليه على أن الصحيح أنه كان قبل النبوة (وقول النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دُعَائِهِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ما قدّمت) أي من التقصير في العبودية (وما أخّرت) أي الطاعة عن الأوقات الأولوية (وما أسررت) من الخواطر النفسانية (وما أعلنت) أي من العوارض الإنسانية (ونحوه من أدعيته عليه الصلاة والسلام من إظهار التواضع والخضوع والخشوع والمسكنة وبيان المهابة والخشية تعليما للأمة وتكميلا للمرتبة ورفعة الدرجة (وذكر الأنبياء) بالرفع أي وذكر الله تعالى الأنبياء أو بالجر أي ومن ذكر الأنبياء (في الموقف) أي القيامة (ذنوبهم) خوفا من ربهم (في حديث الشّفاعة) لمشاهدة الأهوال ومطالعة الأحوال الدالة على كمال غضب ذي الجمال والكبرياء فعدوا تقصيراتهم سيئات وخافوا عليها من التبعات، (وقوله إنّه) أي الشأن (ليغان على قلبي) أي فيحجب عن ربي (فأستغفر الله) من ذنبي على ما تقدم (وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ) أي لأطلب مغفرة الذنوب وستر العيوب (وأتوب إليه) أي ارجع عن ملاحظة اسرار الخلق إلى مطالعة أنوار الحق (في اليوم) الواحد (أكثر من سبعين مرّة) لأنه عليه الصلاة والسلام كان بوصف الكائن البائن القريب الغريب العرشي الفرشي (وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي [هود: 47] الآية) أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ ومن الذي يستغني عن مغفرة الله تعالى ورحمته ولو كان في أعلى مراتب نبوته

ص: 281

ومناقب رسالته، (وقد كان) أي نوح قبل ذلك (قَالَ اللَّهُ لَهُ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي كفروا (إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ [هود: 37] ) وقد خاطبه نوح في ابنه فعاتبه ربه في أمره (وَقَالَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي) أي خطاي أو ما كان من عمد في صورة ذنب لي (يَوْمَ الدِّينِ [الشعراء: 82] ) أي الجزاء وفصل القضاء (وقوله عن موسى تُبْتُ إِلَيْكَ [الأعراف: 143] ) أي رجعت عن سؤالي بعد ما أظهرت لك حالي وطلبت منك مآلي من منالي (وقوله وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ [ص: 34] ) أي ابتليناه بالجهاد الدنيوي أولا وألقينا على كرسيه جسدا خاويا ثانيا (إلى ما أشبه هذه الظّواهر) مع أمثاله من الآيات والروايات؛ (قال القاضي رحمه الله تعالى) يعني المصنف (فأمّا احتجاجهم) أي استدلال المجوزين للصغائر على الأنبياء (بِقَوْلِهِ: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح: 1] فهذا) الكلام المكنون (قد اختلف فيه المفسّرون) أي في تدقيق مبناه وتحقيق معناه؛ (فَقِيلَ الْمُرَادُ مَا كَانَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَبَعْدَهَا) من الحالة المجملة المحتملة فلا يكون فيه دليل على المسألة، (وَقِيلَ الْمُرَادُ مَا وَقَعَ لَكَ مِنْ ذَنْبٍ) سابقا (وما لم يقع) لا حقا (أعلمه أنّه مغفور له) حقا، (وَقِيلَ الْمُتَقَدِّمُ مَا كَانَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَالْمُتَأَخِّرُ عصمتك بعدها) والمعنى ليغفر لك الله ما تقدم بمحو السيئة وما تأخر ببركة حراسة العصمة؛ (حَكَاهُ أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ) أي بخطابه لك ومن ذنبك (أمّته عليه الصلاة والسلام على حذف مضاف (وَقِيلَ الْمُرَادُ مَا كَانَ عَنْ سَهْوٍ وَغَفْلَةٍ وتأويل) وقع فيه زلة وهذا أحسن ما قيل في هذه المسألة؛ (حكاه الطّبريّ) وهو محمد بن جرير (واختاره القشيريّ) وهو عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك إمام الشريعة والحقيقة وصاحب الرسالة في الطريقة؛ (وَقِيلَ مَا تَقَدَّمَ لِأَبِيكَ آدَمَ وَمَا تَأَخَّرَ من ذنوب أمّتك) على أن الإضافة لأدنى الملابسة ولك معناه لأجلك، (حكاه السّمرقنديّ) وهو الفقيه الإمام أبو الليث من أكابر الحنفية (والسّلميّ) بضم السين وفتح اللام هو أبو عبد الرحمن الصوفي صاحب طبقات الصوفية ومؤلف التفسير في التصوف (عن ابن عطاء وبمثله والّذي قبله) أي وبمثل وهذا التأويل والتأويل الذي تقدم قَبْلَهُ (يُتَأَوَّلُ قَوْلُهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [مُحَمَّدٍ: 19] قَالَ مَكِّيٌّ مُخَاطَبَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم ههنا هي مخاطبة لأمّته) لأدنى الملابسة في إضافة أو بحذف مضاف عن مرتبته، (وقيل إنّ النبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أُمِرَ أَنْ يَقُولَ: وَما أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ [الْأَحْقَافِ: 9] ) أي تفصيلا لحالي وحالكم (سرّ) بضم السين وتشديد الراء أي فرح (بِذَلِكَ الْكُفَّارُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح: 1] الآية) أي ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما وينصرك الله نصرا عزيزا (وبما للمؤمنين) وفي نسخة وبمآل المؤمنين بهمزة ممدودة قبل اللام أي بما يؤولون إليه (في الآية الأخرى بعدها) أي بعد الآية الأولى، (قاله ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما) فالآية الأولى قَوْلِهِ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ والآية الأخرى التي أشار إليها هي قوله تعالى لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ إلى آخرها وهما على هذا

ص: 282

التأويل جواب لقوله وما أدري ما يفعل بنا ولا بكم وذلك لما نزلت وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ أدري ما فرح المشركون وقالوا واللات والعزى ما أمرنا وأمر محمد عند الله إلا واحد وما له علينا مزية زائدة ولولا أنه ابتدع ما يقوله من تلقاء نفسه لأخبره الذي بعثه بما يفعل به فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ الآية فقالت الصحابة هنيئا لك يا رسول الله قد علمنا ما يفعل الله بك فماذا يفعل فأنزل الله تعالى لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ الآيات، (فمقصد الآية) بكسر الصاد أي مرادها (إِنَّكَ مَغْفُورٌ لَكَ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ بِذَنْبٍ أَنْ لو كان) أي حقيقة أو حكما، (قال بعضهم المغفرة ههنا) أي في هذه الآية (تبرئة من العيوب) وتنزيه من الذنوب لأن أصلها الستر فهو كالعصمة في معنى الستر من الحجاب والمنع عن الوزر (وأمّا قوله: وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ رددنه الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ [الشَّرْحِ: 2- 3] فَقِيلَ مَا سَلَفَ مِنْ ذَنْبِكَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ زيد) أي ابن اسلم (والحسن) أي البصري (ومعنى قول قتادة) أي ابن دعامة؛ (وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ حُفِظَ قَبْلَ نُبُوَّتِهِ مِنْهَا) أي من الذنوب (وعصم) بصيغة المجهول فيهما؛ (ولولا ذلك) أي ما ذكر من الحفظ والعصمة (لأثقلت ظهرك) وفي نسخة ظهره، (حكى معناه السّمرقنديّ) أي أبو الليث، (وقيل المراد بذلك ما) أي الذي (أثقل ظهره من أعباء الرّسالة) بفتح الهمزة أي أثقالها وتحمل أحمالها وتصبر أحوالها (حتّى بلّغها) إلى أهلها، (حكاه الماورديّ والسّلميّ؛ وقيل) أراد (حططنا) أي وضعنا أو رفعنا (عنك ثقل أيّام الجاهليّة) أي اثقال آثامهم ومشاهدة أعلامهم المنكرة في الشرائع الإسلامية، (حكاه مكّيّ، وقيل ثقل شغل سرّك) أي خاطرك (وحيرتك) أي تحيرك في باطنك وظاهرك (وطلب شريعتك) وفق طريقتك (حتّى شرعنا ذلك لك) بحسب حقيقة ما هنالك، (حكى معناه القشيريّ) أي في تفسيره، (وقيل معناه) وفي نسخة المعنى (خفّفنا) بالتشديد (عليك) وفي نسخة عنك (ما حمّلت) بضم مهملة فتشديد ميم مكسورة أي كلفت حمله (بحفظنا) أي لك (لما) بكسر اللام وتخفيف الميم أو بالفتح والتشديد (استحفظت) بصيغة المجهول أي استرعيت (وحفظ عليك) أي أمرك لديك، (معنى أنقض ظهرك أي كاد ينقضه) أي قارب ولم ينقض فهو من باب مجاز المشارفة (فيكون المعنى) أي معنى الانقاض (على من جعل ذلك) أي عند من جعل ذلك الوزر (لِمَا قَبْلَ النُّبُوَّةِ اهْتِمَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم بأمور فعلها قبل النّبوّة وحرّمت عليه بعد النّبوّة فعدّها) أي تلك الأمور (أوزارا وثقلت عليه) ويروى وثقلت واثقلت (وأشفق منها) أي خاف من غاية خشيته من الله وتصور عظمته، (أَوْ يَكُونُ الْوَضْعُ عِصْمَةَ اللَّهِ لَهُ وَكِفَايَتَهُ) أي حمايته (من ذنوب لو كانت) أي فرضا وتقديرا (لأنقضت ظهره) وشغلت فكره وشتتت أمره، (أو يكون) أي الوضع (من ثقل الرّسالة) أي بأدائها إلى الأمة وخلاصه عن الكفالة (أو ما ثقل عليه) أي أمره (وَشَغَلَ قَلْبَهُ مِنْ أُمُورِ الْجَاهِلِيَّةِ وَإِعْلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ بِحِفْظِ مَا اسْتَحْفَظَهُ مِنْ وَحْيِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التَّوْبَةِ: 43] فَأَمْرٌ لَمْ يَتَقَدَّمْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى الله تعالى عليه

ص: 283

وَسَلَّمَ فِيهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى نَهْيٌ فَيُعَدُّ) بالنصب أي حتى يعد مخالفته (سيئة ولا عدّه الله تعالى عليه معصية) حيث أذن له بقوله فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ (بل لم يعدّه) بفتح الدال المشددة وضمها (أهل العلم معاتبة) على أنه فعل خلاف الأولى كما هو ظاهر قوله تعالى حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (وغلّطوا) بتشديد اللام وبالطاء المهملة أي ونسبوا إلى الغلط في معنى الآية (من ذهب إلى ذلك) أي على خلاف ما هنالك؛ (قال نفطويه) بكسر نون وسكون فاء وفتح مهملة وواو مفتوحة وتحتية ساكنة وهاء مكسورة (وقد حاشاه الله تعالى) أي نزهه (من ذلك) العتاب (بل كان مخيّرا في أمرين) كما في الكتاب (قَالُوا وَقَدْ كَانَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا شاء فيما لم ينزل عليه) بالبناء للفاعل أو المفعول (فيه وحيّ) مشتمل على نهي (فكيف وقد قال الله تعالى) أي له كما في نسخة (فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ [النُّورِ: 62] فَلَمَّا أَذِنَ لهم) أي لبعضهم وهم المنافقون بناء على ظنه أنهم مؤمنون وكان الإذن مختصا بالمؤمنين لقوله تعالى وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ لأن الله تعالى لم يأمره بالاستغفار للمنافقين (أَعْلَمَهُ اللَّهُ بِمَا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ مِنْ سرّهم) أي باطنهم يقينا (أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ لَقَعَدُوا وَأَنَّهُ لا حرج) أي لا أثم ولا تبعة (عليه فيما فعل) أي من الأذن لهم (وليس عَفَا [التوبة: 43] ههنا بِمَعْنَى غَفَرَ بَلْ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَفَا اللَّهُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الخيل والرّقيق ولم تجب عليهم قطّ) جملة حالية (أي لم يلزمكم ذلك) من الإلزام الشرعي هنالك، (ونحوه للقشيريّ) في تفسيره، (قال) أي القشيري (وَإِنَّمَا يَقُولُ الْعَفْوُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ ذنب) بطريق الحصر (من لم يعرف كلام العرب) أي مستوفيا، (قال ومعنى) ويروى معناه (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ أَيْ لَمْ يُلْزِمْكَ ذَنْبًا) أي وضع عنك شيئا لو لم يضعه لكان ذنبا (قال الدّاوديّ روي أنها تكرمة) أي في أول الكلام كالتقدمة ويوروى أنها كانت تكرمة؛ (قال مكّيّ هو استفتاح كلام) لمن يكون من أهل اكرام (مثل أصلحك الله وأعزّك الله) خطابا للملوك أو الأمراء أو سائر العظماء، (وحكى السّمرقنديّ أنّ معناه عافاك الله) من المعافاة وفيه نكتة خفية صوفية أي عافاك عنك وخلصك منك حتى تكون بكليتك لنا وبنا وآخذا عنا وآمنا منا ممتعا بما تتمنى من غير أن تتعنى؛ (وأمّا قوله في أسارى بدر ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى [الأنفال: 67] الآيتين) يعنى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ روي أنه لما كان يوم بدر جيء بالأسارى فقال عليه الصلاة والسلام ما تقولون في هؤلاء فقال أبو بكر يا رسول الله قومك وأهلك استبقهم واستأن بهم لعل الله أن يتوب عليهم وخذ منهم فداء يكون لنا قوة على الكفار وقال عمر يا رسول الله كذبوك وأخرجوك قدمهم لضرب اعناقهم فسكت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم قال إن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال تعالى فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ومثلك يا عمر مثل نوح قالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً قال عمر فهوى رسول الله

ص: 284

صلى الله تعالى عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت فلما كان الغد جئت فإذا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأبو بكر يبكيان فقلت يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت فقال أبكي على أصحابك في أخذهم الفداء ولقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة أشار لشجرة قريبة منه وأنزل الله تعالى ما كانَ لِنَبِيٍّ الآية وقوله أَسْرى جمع أسير مثل قتلى وقتيل وقوله حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ أي يبالغ في قتل المشركين ذكره البغوي وحاصل القضية أن الصديق كان مظهر الجمال كإبراهيم وعيسى عليهما السلام في قوله إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ والفاروق كان مظهر الجلال كنوح وموسى عليهما السلام في قوله رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وكان نبينا محمد عليه الصلاة والسلام مظهر الكمال إلا أنه يغلب عليه الجمال فلهذا مال إلى قول الصديق وعلى طبقه أيضا نزل القرآن على التحقيق وفي قوله سبحانه وتعالى لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ إيماء إلى قوله في الحديث القدسي والكلام الأنسي سبقت رحمتي غضبي وفي رواية غلبت والله ولي التوفيق فإذا عرفت ما تقدم (فليس فيه إلزام) ويروى فليس دليل الزام (ذنب للنبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ فِيهِ بَيَانُ مَا خُصَّ به) من كريم الشيم (وفضّل من بين سائر الأنبياء) وأمته من بين سائر الأمم (فكأنّه قال) تعظيما له وامتنانا وتكريما (ما كان هذا لنبيّ غيرك) لكمال فضلك أو رفعة قدرك وطولك (كما قال عليه الصلاة والسلام أُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِنَبِيٍّ قَبْلِي) روي لم تحل بضم التاء وفتح الحاء على بناء المجهول وبفتح التاء وكسر الحاء على بناء الفاعل والأولى لمناسبة أحلت هي الأولى (فَإِنْ قِيلَ فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا [الأنفال: 67] ) أي تختارونه (الآية) أي وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ أي يختارها لكم والله عزيز غالب على أمره حكيم في قضائه وقدره وحكمه (قيل المعنى) بكسر النون وتشديد الياء أي المقصود (بالخطاب) والمراد بالعتاب (من أراد) ويروى المعنى بفتح النون بالخطاب لمن أراد (ذلك منهم) أي من الأصحاب لا لعزة قوة أهل الإسلام في هذا الباب (وتجرّد غرضه لغرض الدّنيا) الذي في صدد الزوال (وحده) أي لا يريد غيره (والاستكثار منها) لنفسه وهم بعض ضعفاء المؤمنين ومع هذا إنما كانوا أرادوا الدنيا ليستعينوا بها على العقبى لكنه مقام أدنى بالإضافة إلى تارك الدنيا كما قال عيسى عليه السلام يا طالب الدنيا لتبر بها وتركك الدنيا أبر (وليس المراد بهذا) الخطاب المشتمل على العتاب (النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم ولا علية أصحابه) بكسر العين المهملة وسكون اللام وفتح التحتية جمع على مثل صبي وصبية أي اشرافهم ورؤساءهم ومن هنا قال ابن مسعود ولم أكن أظن أحدا من أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يحب الدنيا حتى نزل قوله تعالى مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ولما سمع الشبلي رحمه الله تعالى قال آه فأين من يريد الله وأجيب عنه بلسان العبارة أن من يريد الآخرة هو من يريد الله لقوله تعالى وَاللَّهُ يُرِيدُ

ص: 285

الْآخِرَةَ وببيان الإشارة فكأنه سبحانه وتعالى يقول إن من يريد الله فهو ليس منكم بل منا في دنياه وعقباه ومستغرق فينافي مقام الإحسان المعبر عنه بأن تعبد الله تعالى كأنك تراه مشتغلا بمولاه عز وجل معرضا عما سواه فانيا عن غيرنا باقيا بنا لا ينظر إلى دنيا ولا إلى آخرة وهذا معنى قول بعضهم الدنيا حرام على أهل الآخرة والآخرة حرام على اهل الدنيا وهما حرامان على أهل الله وهذا محمل قوله عليه الصلاة والسلام أكثر أهل الجنة البله وعليون لأولي الألباب والله تعالى أعلم بالصواب، (بَلْ قَدْ رُوِيَ عَنِ الضَّحَّاكِ أَنَّهَا نَزَلَتْ حِينَ انْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ بَدْرٍ وَاشْتَغَلَ النَّاسُ بالسّلب) بفتحتين وهو ما على القتيل من السلاح والثوب (وجمع الغنائم عن القتال) أي معرضين عنه في ذلك الحال مخالفين لما كان عليه أرباب الكمال من عدم التفاتهم إلى جمع المال (حتّى خشي عمر أن يعطف) بكسر الطاء أي يكر (عليهم العدوّ) ويغلبهم (ثمّ قال تعالى: لَوْلا كِتابٌ) أي مكتوب في اللوح المحفوظ أو حكم في القضاء الملحوظ (مِنَ اللَّهِ سَبَقَ [الأنفال: 68] ) أي في القدر وتحقق الأمر بالأثر (واختلف) وفي نسخة فَاخْتَلَفَ (الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ فَقِيلَ: مَعْنَاهَا لولا أنّه سبق منّي) أي في الأزل (أني) وفي نسخة أَنْ (لَا أُعِذِّبَ أَحَدًا إِلَّا بَعْدَ النَّهْيِ لعذّبتكم؛ فهذا) تعليق بالفرض والتقدير (ينفي) وفي نسخة فهذا كله ينفي (أن يكون أمر الأسرى معصية) أي في مقام التحقيق والتقرير؛ (وَقِيلَ الْمَعْنَى: لَوْلَا إِيمَانُكُمْ بِالْقُرْآنِ وَهُوَ الْكِتَابُ السّابق) أي القديم أو المقدم رتبة على غيره من الكتاب اللاحق (فاستوجبتم به الصّفح) أي الاعراض والعفو عن اختياركم الاعراض (لعوقبتم على الغنائم) أي أخذها في جميع الأحوال أو قبل الفراغ من تكميل القتال فيكون تقدير الآية بحسب الإعراب لولا إيمان كتاب عظيم الشأن سبق لكم فيما مضى من الزمان لمسكم في المستقبل لأجل ما أخذتم من الغنائم الدنيوية عذاب عظيم مشتمل على الأهوال الأخروية؛ (ويزاد هذا القول تفسيرا وبيانا) أي تعبيرا وبرهانا (بأن يقال لولا) وفي نسخة لوما وفي أخرى لَوْلَا مَا (كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِالْقُرْآنِ وَكُنْتُمْ مِمَّنْ أحلّت لهم الغنائم) في مستقبل الزمان (لعوقبتم كما عوقب من تعدّى) أي تجاوز عن الحد في العصيان؛ (وقيل) أي معنى الآية (لَوْلَا أَنَّهُ سَبَقَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أَنَّهَا) أي الغنائم (حَلَالٌ لَكُمْ لَعُوقِبْتُمْ؛ فَهَذَا كُلُّهُ يَنْفِي الذَّنْبَ والمعصية) من غير شك وشبهة (لأنّ من فعل ما أحلّ لم يعص) فيما فعله، (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً [الأنفال: 69] ) أي خالصا (وقيل بل كان عليه الصلاة والسلام قد خيّر في ذلك) أي بين القتل وأخذ الفداء وأنه عليه الصلاة والسلام كان من عادته أن يختار أيسر الأمرين ويستشير أصحابه في اختيار أحد الحكمين فشاور الشيخين ومال إلى رأي أفضلهما في الحال وأجملهما في المقال وكان أمر الله قدرا مقدورا في الآزال فحسن الأحوال وزان الآمال في المآل، (وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ جَاءَ جِبْرِيلُ عليه السلام إِلَى النَّبِيِّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالَ خَيِّرْ أَصْحَابَكَ في الأسارى إن شاؤوا القتل) أي قتل الكفار فيها (وإن شاؤوا الفداء) فيكون

ص: 286

(عَلَى أَنْ يُقْتُلَ مِنْهُمْ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ) أي في السنة الآتية من غزوة أحد (مثلهم) أي في عددهم؛ (فقالوا) أي جمهورهم ومنهم الصديق (الفداء) بالرفع أي مختارنا أو بالنصب أي نختار الفداء (ويقتل منّا) عدتهم ونكون شهداء فقتل منهم يوم أحد سبعون عدد أسارى بدر قال بعض الفضلاء هذا الحديث مشكل جدا لمخالفته ما يدل عليه ظاهر التنزيل ولما صح من الأحاديث في أمر أسارى بدر أن أخذ الفداء كان رأيا رأوه فعوتبوا ولو كان هنالك تخيير بوحي سماوي لم تتوجه المعاتبة عليهم وقد أنزل الله تعالى إليهم ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى إلى قوله عَذابٌ عَظِيمٌ وأجيب بأنه لا منافاة بين الحديث والآية وذلك أن التخيير في الحديث وارد على سبيل الاختبار والامتحان ولله أن يمتحن عباده بما شاء ولعله سبحانه امتحن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه بين أمرين القتل والفداء وأنزل جبريل عليه الصلاة والسلام بذلك هل هم يختارون ما فيه رضى الله تعالى من قتل الأعداء أو يؤثرون الأعراض العاجلة من قبول الداء فلما اختاروا الثانية عوتبوا على ذلك والله سبحانه وتعالى اعلم بما هنالك والأظهر في الجواب والله اعلم بالصواب أن يقال إنه عليه الصلاة والسلام شاور أولا بعض أصحابه الكرام فاختاروا الفداء ووافقهم أيضا في ذلك المرام فعوتبوا في ذلك المقام ثم خيروا بين أحد الأمرين من البلاء وهو قتل الاعتداء من الاحياء أو اختيار الفداء وكون سبعين منهم يصيرون شهداء فاختاروا ما جرى به القلم ومضى به القضاء، (وهذا دليل على صحّة ما قلنا) أي وقوة ما قدمناه (وَأَنَّهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا إِلَّا مَا أُذِنَ لَهُمْ فيه لكن بعضهم مال إلى أضعف الوجهين) أي في نفس الأمر وإن كان هو أقواهما في رأيه (ممّا كان الأصلح غيره) أي عند غيره (من الإثخان) وهو تكثير القتل في العدو (والقتل) كالتفسير لما قبله (فعوتبوا على ذلك) أي اختيار الأضعف فيما هنالك حيث أخطأوا في الاجتهاد وأصاب بعضهم في هذا الباب حين وافق رأيه فصل الخطاب كعمر بن الخطاب (وبيّن لهم) بصيغة المفعول (ضعف اختيارهم) أي الأولين (وتصويب اختيار غيرهم) أي الآخرين (وكلّهم غير عصاة ولا مذنبين) لكونهم مجتهدين في أمر الدين (وإلى نحو هذا) التأويل (أشار الطّبريّ، وقوله عليه الصلاة والسلام مبتدأ في الكلام (في هذه القضيّة) وفي نسخة في هذه القصة (لَوْ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ عَذَابٌ مَا نَجَا منه إلّا عمر) أي ومن تبعه في هذا الأمر المقرر (إشارة إلى هذا) هذا هو الخبر وفي نسخة أشار إلى هذا (من تصويب رأيه) أي رأي عمر (وَرَأْيِ مَنْ أَخَذَ بِمَأْخَذِهِ فِي إِعْزَازِ الدِّينِ وإظهار كلمته وإبادة عدوّه) أي افنائهم واهلاكهم من أصله وذلك لما ورد في حقه من دعاء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم اللهم أعز الإسلام بعمر كما ورد في بعض الخبر (وأنّ هذه القضيّة لو استوجبت عذابا) أي بالفرض والتقدير (نجا منه عمر ومثله) أي ومن قال بمثل قوله (وعيّن عمر) في الخبر (لأنّه أوّل من أشار بقتلهم) وتبعه بعض الصحابة في الأثر (وَلَكِنَّ اللَّهَ لَمْ يُقَدِّرْ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ عذابا) أي نازلا يتحقق (لِحِلِّهِ لَهُمْ فِيمَا سَبَقَ، وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ وَالْخَبَرُ بهذا) أي

ص: 287

التخيير (لا يثبت) الأولى لم يثبت، (ولو ثبت) أي فرضا (لما جاز أن يظنّ) بصيغة المجهول أي يظن أحد (أنّ النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَمَ بِمَا لَا نَصَّ فِيهِ وَلَا دَلِيلَ مِنْ نَصٍّ وَلَا جُعِلَ الْأَمْرُ فِيهِ إِلَيْهِ وَقَدْ نَزَّهَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ ذلك) وكأنه خالف جمهور العلماء الأعلام فيما قرروا أن له عليه الصلاة والسلام أن يجتهد في الأحكام بل وقد فوض إليه كثير من أحكام الإسلام أو المعنى أنه عليه الصلاة والسلام ما جعل له فعل ذلك من تلقاء نفسه مستبدا برأيه من غير تأويل في أمره؛ (وقال القاضي بكر بن العلاء) أي المالكي (أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أنّ تأويله) أي ما اختاره من الأشياء (وَافَقَ مَا كَتَبَهُ لَهُ مِنْ إِحْلَالِ الْغَنَائِمِ والفداء وقد كان) أي وقع (قبل هذا فادوا) فعل ماض من المفاداة أي فدا بعض أصحابه (فِي سَرِيَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ الَّتِي قتل فيها ابن الحضرميّ) أخوه العلاء من أكابر الصحابة (بالحكم بن كيسان) بفتح الكاف وسكون التحتية فمهملة مولى هشام بن المغيرة المخزومي (وصاحبه) وهو عثمان بن عبد الله أسر ومات كافرا (فما عتب الله ذلك عليهم) اعلم أن عبد الله بن جحش بفتح الجيم وسكون الحاء المهملة فشين معجمة هو ابن عمة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعثه عليه الصلاة والسلام في جمادى الآخرة في السنة الثانية من الهجرة قبل بدر بشهر ليترصد عير قريش وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد وهم سعد بن أبي وقاص وعكاشة بن محصن وعتبة بن غزوان وأبو حذيفة بن عتبة وسهيل ابن بيضاء وعامر بن ربيعة وواقد بن عبد الله وخالد بن بكير وقيل إن هذه السرية كانت أكثر من ذلك قال ابن سعد بعث عبد الله بن جحش في اثني عشر رجلا من المهاجرين انتهى وفي هذه السرية سمي عبد الله بن جحش أمير المؤمنين فساروا على بركة الله حتى نزلوا بطن نخلة بين مكة والطائف فمرت عير لقريش تحمل تجارة من الطائف فيها عمرو بن عبد الله الحضرمي والحكم بن كيسان وعثمان بن عبد الله ونوفل بن عبد الله فرمى واقد بن عبد الله عمر بن الحضرمي فقتله فكان أول قتيل من المشركين واستأسروا الحكم وعثمان وكانا أول أسيرين في الإسلام وأفلت نوفل فأعجزهم فاستاقوا العير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأسلم الحكم بن كيسان وأقام بالمدينة وحسن إسلامه فقتل يوم بئر معونة وصاحبه عثمان بن عبد الله رجع إلى مكة ومات بها كافرا كذا ذكره التلمساني وليس فيه ما يدل على فداء على أنه لو ثبت فهذا فداء كافر بمسلم وما نحن فيه فداء كافر بمال فلا يستويان في مآل ثم رأيته ذكر في محل آخر أن الحكم بن كيسان كان ممن أسر في سراية عبد الله بن جحش حين قتل واقد اليميمي عمرا بن الحضرمي أسره المقداد قال فأراد أميرنا ضرب عنقه فقلت له دعه نقدم به على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقدمنا به على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأسلم وحسن إسلامه انتهى وهذا كما ترى ليس فيه ذكر فداء لا بمال ولا بغيره وإنما هو تأخير أمره إلى حكم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في حقه وقد صرح

ص: 288

الحجازي بأن الباء في بالحكم تتعلق بفادوا لا بقتل فإن الحكم أسلم وصاحبه لحق بمكة ومات بها كافرا والله سبحانه وتعالى اعلم (وذلك قبل بدر بأزيد من عام) بل كانا في سنة واحدة فإن تلك في رجب في السنة الثانية وبدر في رمضان فيكون قبل بدر بشهر (فَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ النَّبِيِّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَأْنِ الْأَسْرَى كَانَ عَلَى تأويل وبصيرة) أي اجتهاد صادر عن فكرة (وعلى ما تقدّم قبل) مبني على الضم وقوله (مثله) مرفوع فاعل تقدم (فَلَمْ يُنْكِرْهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ لَكِنَّ اللَّهَ تعالى أراد لعظم أمر بدر) ويروى لعظيم أمر بدر (وكثرة أسراها) أي أسراها) (والله أعلم) جملة معترضة بين الفعل ومفعوله أعني (إظهار نعمته وتأكيد منّته بتعريفهم) ويروى بتعريف (مَا كَتَبَهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مِنْ حِلِّ ذلك لهم لا على وجه عتاب) فضلا عن طريق عقاب (وإنكار وتذنيب) أي نسبة إلى ذنب، (هذا معنى كلامه) أي كلام بكر بن العلاء وتمام مرامه؛ (وأمّا قوله عَبَسَ) أي بوجهه (وَتَوَلَّى [عبس: 1] ) أعرض بخده (الآيات) كما قدمناها (فليس فيه إثبات ذنب له عليه الصلاة والسلام أي يستحق به الملام (بل إعلام الله تعالى) أي له في ذلك المقام (أنّ ذلك المتصدّي له) بصيغة المجهول أي المتعرض له بالتوجه والإقبال (ممّن لا يتزكّى) أي لا يتطهر من الشرك في الاستقبال وأن الاشتغال به من جملة تضييع الأحوال وهذا معنى قوله وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أي الأعمى أو يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى أن تتعرض وعليك ألا يزكى أي إن لم يؤمن فما عليك ألا البلاغ وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى وَهُوَ يَخْشى أي الله تعالى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى أي تتلهى وتتشاغل عنه وتعرض عن التوجه إليه والإقبال عليه (وأن الصّواب) في هذا الباب (والأولى) بالنسبة إلى حاله الأعلى (كان لو كشف) وفي نسخة ما لو كشف أي بين وظهر (لك) وفي نسخة له (حال الرّجلين) من الأعمى في الظواهر والبصير في السرائر ومن عكسه وهو البصير صورة والأعمى سيرة بل هو الأعمى حقيقة فإنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ومنه قوله تعالى وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ وقوله وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (لاختار الإقبال على الأعمى) والاعراض عن الآخر من أهل الدنيا إلا أنه عليه الصلاة والسلام لحرصه على إيمان الأنام أدى اجتهاده إلى أن التفاته إليه يكون سببا لإيمانه بما أنزل عليه (وفعل النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم لما فعل) أي هنالك (وتصدّيه) أي تعرضه وإقباله (لذاك الكافر) لكونه من الأكابر وإيمانه باعث لقومه من الأصاغر (كان طاعة لله وتبليغا عنه) في مقام رضاه (واستئلافا له) أي طلب ألفة حين آواه (كما شرعه الله له) فيما قضاه (لا معصية ومخالفة له) في مؤداه (وما قصّه الله عليه) أي حكاه (من ذلك إعلام بحال الرّجلين) أي المؤمن والكافر أو الصالح والفاجر أو الفقير الصابر والغني المكابر مثلا (وتوهين أمر الكافر عنده) أي جنسه وفي نسخة أمر الكافر (والإشارة) الأولى وإشارة (إلى الإعراض عنه بقوله وَما عَلَيْكَ) أي ضرر (أَلَّا يَزَّكَّى) بعد ما بلغت الرسالة وأديت الأمانة ونصحت

ص: 289

وبلغت النصيحة بقدر الطاقة (وقيل أراد) ويروى المراد (بعبس وتولّى) أي بضميره (الْكَافِرَ الَّذِي كَانَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم قاله أبو تمّام) بتشديد الميم الأولى هو علي ابن محمد بن أحمد البصري من أصحاب الأبهري وكان حسن الكلام قيل إن أباه كان نصرانيا له كتاب الحماسة ومجموع سماه فحول الشعراء نشأ بمصر وقيل كان يسقي الماء بالجرة في جامع مصر توفي بالموصل سنة إحدى وثلاثين ومائتين وهذا التأويل مخالف لظاهر التنزيل بل كان في مقام النزاع أن يكون مخالفا للإجماع قال أبو محمد بن عبد السلام في تفسيره الصغير الأعمى عبد الله ابن أم مكتوم وكان ضريرا أتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يستقرئه ويقول علمني مما علمك الله فجعل يناديه ويكرر النداء وهو لا يعلم تشاغله عنه فكره رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قطعه لكلامه فعبس وأقبل على العباس وأمية وجاآ ليسلما وفي تفسير البغوي أن ابن أم مكتوم أتى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو يناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب وأبي بن خلف وأخاه أمية فعلى هذا يكون ال في الكافر للجنس روي أنه عليه الصلاة والسلام كان بعده يكرمه ويقول إذا رآه مرحبا بمن عاتبني فيه ربي ويقول هل لك من حاجة. (وأمّا قصّة آدم عليه الصلاة والسلام في متفرقات الكلام (وقوله تعالى:

فَأَكَلا) أي آدم وحواء (مِنْها [طه: 121] ) أي الشجرة المنهية (بعد قوله) لهما (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) أي جنسها أو عينها (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ [البقرة: 35] ) أي العاصين فيكون النهي للتحريم أو من الواضعين للأشياء في غير موضعها على أن يكون النهي للتنزيه (وَقَوْلُهُ: أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ [الْأَعْرَافِ: 22] ) وهي شجرة الكرم وقيل السنبلة وقيل شجرة العلم عليها معلوم الله من كل لون وطعم وقيل غير ذلك (وتصريحه تعالى عليه) أصالة وعلى حواء تبعية (بِالْمَعْصِيَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى [طه: 121] أي جهل) مقامه وضل مرامه (وقيل أخطأ) في اجتهاده حيث ظن أن الإشارة إلى الشجرة بعينها والحال أن النهي كان متوجها إلى جنسها أو عرف أولا أن المراد جنسها فنسي فحملها على خصوصها وإنما أولنا هذه التأويلات كلها (فإنّ الله تعالى قد أخبر) وفي نسخة قد أخبرنا (بعذره بقوله: وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ) أي أمرا أو عهدا (مِنْ قَبْلُ) أي قبل خروجه من الجنة أو قبل ظهور الذرية (فَنَسِيَ) أمرنا بالكلية أو محل نهينا في الجملة (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه: 115] ) على المخالفة أو لم نجد له عزيمة جزما على الموافقة فإنه لما اشتبه عليه الحال من أن النهي عن عين تلك الشجرة أو جنسها كانت العزيمة أن يجتنبها بالكلية ولن يعمل بالرخصة في القضية ولذا قيل إن آدم عليه السلام لم يكن من أولي العزم فقد قال تعالى فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وكذا يونس عليه السلام فقد قال عز وجل فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ (قال ابن زيد) أي ابن اسلم وقد تقدم (نسي عداوة إبليس له) هنالك (وَمَا عَهِدَ اللَّهُ إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ

ص: 290

[طه: 117] الآية) أي فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى أي فتعب أنت بالإصالة وزوجك بالتبعية؛ (وقيل نسي ذلك بما أظهر لهما) من النصيحة أي الشيطان على وجه الخديعة وحلفه في القضية (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِنَّمَا سُمِّيَ الْإِنْسَانُ إِنْسَانًا لأنه عهد إليه) بصيغة المجهول (فنسي) وفيه إشكال لأن الظاهر أن حروف أصول الإنسان كما يدل عليه قوله تعالى امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ

وقال في القاموس الإنس البشر كالإنسان والواحد إنسي جمعه أناسي وقرأ يحيى بن الحارث وأناسى كثيرا فهو مهموز الفاء وأما النسيان فمادته ناقصة يسمى معتل اللام فاختلفا مادة اللهم الا أن يقال أصل الإنسان انسيان فنقلت حركة الياء إلى ما قبلها بعد سلب حركته فحذفت تخفيفا لكثرة استعماله فصح ما يقال أول الناس أول الناسي والله اعلم (وقيل لم يقصد) أي آدم وحواء (المخالفة استحلالا لها) أي جعلها حلالا فإنه لا يصح عنهما إجماعا (ولكنّهما) باشرا مكرها لا على قصد مخالفتهما أمر ربهما بل بسبب أنهما (اغْتَرَّا بِحَلِفِ إِبْلِيسَ لَهُمَا إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الأعراف: 21] توهّما إنّ أحدا لا يحلف بالله حانثا) أي كاذبا كذبا يوجب الحنث أي الاثم (وقد روي عذر آدم بمثل هذا) الاغترار (في بعض الآثار) ولا شك أن هذا نوع من الاعذار؛ (وقال ابن جبير) وهو سعيد من اجلاء التابعين (حلف بالله لهما) أي متكررا (حتّى غرّهما والمؤمن يخدع) وفي الحديث المؤمن غر كريم والفاجر خب لئيم رواه أبو داود والترمذي والحاكم في مستدركه عن أبي هريرة (وقد قيل) يروى وقال أي ابن جبير (نسي ولم ينو المخالفة) وهذا ظاهر (فلذلك قال) أي سبحانه وتعالى (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه: 117] أَيْ قَصْدًا لِلْمُخَالَفَةِ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ العزم هنا الحزم) أي الاحتياط في الأمر (والصّبر) أي عن المخالفة بالتحمل على مرارة الموافقة (وقيل كان) أي آدم (عند أكله سكران) أي من حب المولى كما قيل في آية لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى من حب الدنيا أو من خمر الجنة (وَهَذَا فِيهِ ضَعْفٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ خمر الجنّة أنّها لا تسكر) وروي أنه لا يسكر لأن الخمر قد تذكر ويمكن أن يقال لعلها كانت تسكر ثم سلب الله تعالى سكرها ويناسبه أنها كانت حلالا في الدنيا أولا وصارت حراما آخرا والله سبحانه وتعالى وصف خمر الجنة بما يكون نعتها بعد القيامة ويريده أن الجنة لا يكون فيها التكليف آخرا وقد صح تكليفهما فيها أولا (وإذا) وفي نسخة فإذا (كان) أي أكله (نَاسِيًا لَمْ تَكُنْ مَعْصِيَةً وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ ملبّسا) بتشديد الموحدة المفتوحة أي مخلطا (عليه غالطا) أي مخطئا (إِذِ الِاتِّفَاقُ عَلَى خُرُوجِ النَّاسِي وَالسَّاهِي عَنْ حكم التّكليف) وفيه أن الله سبحانه وتعالى قد صرح بعصيانه فينبغي أن يقال النسيان أو الخطأ لم يكن معفوا حينئذ كما يدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه رواه الطبري عن ثوبان؛ (وقال الشَّيْخُ أَبُو بَكْرِ بْنُ فُورَكٍ وَغَيْرُهُ إِنَّهُ يمكن أن يكون ذلك قبل النّبوّة) بل وهو الظاهر من سياق القضية لقوله تعالى قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً الآية (ودليل ذلك قوله تعالى: وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ [طه: 121] )

ص: 291

أي بالنبوة (فَتابَ عَلَيْهِ) أي فوفقه للتوبة والثبات على الطاعة أو فرجع عليه بقبول التوبة ونزول الرحمة (وَهُدىً) به الأمة (فذكر) أي الله سبحانه وتعالى (أنّ الاجتباء والهدى) وفي نسخة الهداية (كانا) وفي نسخة كان أي كل واحد منهما (بعد العصيان) بدلالة الفاء التعقيبية (وقيل بل أكلها متأولا) لأن النهي عنه لم يكن مصرحا (وهو لا يعلم أنّها) أي الشجرة التي أكل منها هي (الشّجرة التي نهي عنها لأنّه تأوّل) أي حمل (نهي الله عن شجرة مخصوصة) أي عليها بعينها (لا على الجنس) الشامل لها ولغيرها فأكل مما عداها، (وَلِهَذَا قِيلَ إِنَّمَا كَانَتِ التَّوْبَةُ مِنْ تَرْكِ التّحفّظ) وهو التحرز ورعاية الأحوط في باب الموافقة (لا من المخالفة) أي الصريحة في الواقعة، (وَقِيلَ تَأَوَّلَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَنْهَهُ عَنْهَا نهي تحريم) ولم يعلم أن الأصل في النهي أن يكون للتحريم والحاصل أنه حمل النهي على التنزيه الذي يوجب للمكلف نوعا من التخيير وإن كان الأول هو الانتهاء لا سيما بالنسبة إلى الأنبياء والأصفياء.

(فإن قيل فعلى كلّ حال) أي تقدير وتأويل (فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) فأثبت له العصيان والغواية (وقال فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى [طه: 121] ) والتوبة لم تكن إلا عن المخالفة (وقوله في حديث الشّفاعة ويذكر ذنبه) حين يخاف ربه قائلا (وإنّي نهيت عن أكل الشّجرة فعصيت) اعترافا بذنبه وتواضعا لربه (فسيأتي الجواب عنه وعن أشباهه) مما وقع لغير آدم من إخوانه وأمثاله (مجملا) شاملا له ولغيره (آخر الفصل) يعني في الفصل الذي يلي آخر هذا الْفَصْلِ (إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَأَمَّا قِصَّةُ يُونُسَ عليه الصلاة والسلام وقد تقدم أنه بضم الياء والنون أشهر لغاته من تثليث النون مع الهمز وعدمه (فقد مضى الكلام على بعضها آنفا) بمد الهمزة وقصرها وقد قرئ بهما في السبعة أي قريبا (وَلَيْسَ فِي قِصَّةِ يُونُسَ نَصٌّ عَلَى ذَنْبٍ وإنّما فيها أبق) أي من مولاه أو من أمته لشكواه أو من تحمل أعباء النبوة ومقتضاه (وذهب مغاضبا) أي على أمته أو على نفسه وحالته من ضيق قلبه وقلة صبره (وقد تكلّمنا عليه) بحسب ما ظهر لنا من أمره، (وقيل إنّما نقم الله) بفتح القاف وبكسر أي أنكر (عليه) أي عاب أو كره (خروجه عن قومه) من غير إذن ربه (فارّا من نزول العذاب) أي لئلا يشاهد حلول العقاب وحصول الحجاب، (وَقِيلَ بَلْ لَمَّا وَعَدَهُمُ الْعَذَابَ ثُمَّ عَفَا الله عنهم) يرفعه لإسلامهم بعد خروجه ووصول خبرهم إليه (قال والله لا ألقاهم بوجه كذّاب) أي صورة (أبدا) حياء من الخلق بمقتضى العادة البشرية وهو بالوصف أو الإضافة (وَقِيلَ بَلْ كَانُوا يَقْتُلُونَ مَنْ كَذَبَ فَخَافَ ذلك) وفيه إن إخباره بالعذاب كان مبنيا على اصرارهم بالكفر الموجب للعقاب وإذا لم يقتلوه وهو مشركون كيف يتصور أن يقصدوا قتله وهم مؤمنون، (وقيل ضعف عن حمل أعباء الرّسالة) أي أثقالها وشدائد أهوالها ومكابدة أحوالها (وقد تقدّم الكلام أنّه لم يكذبهم) بفتح أوله أي بل صدق لهم وقد شاهدوا صدق كلامه بآثار العذاب ومقدمة العقاب فآمنوا فارتفع الحجاب كما أخبر الله تعالى عنه بقوله فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ؛ (وهذا) أي الذي

ص: 292

ذكرنا (كلّه) على وجه قررنا (لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ عَلَى مَعْصِيَةٍ إِلَّا عَلَى قول مرغوب عنه) لطائفة (وقوله أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ

[الصافات: 140] ) أي المملوء (قال المفسّرون تباعد) أي عن قومه تباعد المملوك عن مالكه حيث أمر الله تعالى بكونه عندهم وفق أمره وبهذا التقرير لا يضر لو قيل أبق من ربه وسيده لتخلفه عن حكمه بتباعده وفي أبق إيماء بقائه على عبوديته وتحت قضائه وربوبيته، (وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الْأَنْبِيَاءِ: 87] فالظّلم وضع الشيء في غير موضعه) حتى قيل لمن وضع حب غير ربه في صدره وقلبه هو ظالم لنفسه ومنه قول العارف بن الفارض:

عليك بها صرفا وإن شئت مزجها

فعدلك عن ظلم الحبيب هو الظلم

بل عد الصوفية السنية الغفلة عن الله تعالى وارادة ما سواه ظلما بل شركا وقد قال الله تعالى إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ وقال العارف أيضا:

ولو خطرت لي في سواك ارادة

على خاطري سهوا حكمت بردتي

(فهذا اعتراف منه) أي من يونس عليه الصلاة والسلام (عند بعضهم بذنبه فإمّا أن يكون) فعله ذنبا (لِخُرُوجِهِ عَنْ قَوْمِهِ بِغَيْرِ إِذْنِ رَبِّهِ أَوْ لضعفه عمّا حمّله) بصيغة المجهول أي كلفه (أو لدعائه بالعذاب على قومه) بعد يأسه من إيمان قومه، (وقد دعا نوح عليه السلام بهلاك قومه فلم يؤاخذ) بذنبه إذ لا يجب على الله تعالى شيء من عفو أو عقوبة وسائر حكمه ويحتمل أن دعاء نوح عليه السلام كان عن اذن من ربه بخلاف يونس عليه الصلاة والسلام في حق قومه وهو الظاهر لعلمه سبحانه وتعالى بإيمان قومه في آخر أمره، (وقال الواسطيّ) من أكابر الصوفية المتقدمين (في معناه) أي معنى قوله سبحانك إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (نزّه ربّه عن الظّلم) إذ لا يتصور منه (وأضاف الظّلم إلى نفسه اعترافا) بقصوره (واستحقاقا) لعفوه (ومثل هذا قول آدم وحوّاء) بالمد فعلاء من الحياة وهي أم بني آدم وسماها آدم حواء حين خلقت من ضلعه فقيل له من هذه فقال امرأة قيل وما اسمها قال حواء قيل ولم ذلك قال لأنها خلقت من حي (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا [الْأَعْرَافِ: 23] ) إِذْ كَانَا السَّبَبُ في وضعهما) أي في وضعه سبحانه وتعالى إياهما (فِي غَيْرِ الْمَوْضِعِ الَّذِي أُنْزِلَا فِيهِ وَإِخْرَاجِهِمَا) أي وكانا السبب في اخراجهما (من الجنّة وإنزالهما إلى الأرض) وهي مكان المحنة والمشقة ودار الكلفة. (وأمّا قصّة داود عليه الصلاة والسلام فلا تجب أن يلتفت) الاولى فيجب أن لا يلتفت (إلى ما سطّره) بتشديد الطاء وتخفف أي كتبه (فيها) أي القصة وفي نسخة فيه أي في الأمر (الأخباريّون) بفتح الهمزة أي الناقلون (عن أهل الكتاب) أي اليهود والنصارى (الّذين بدّلوا) أي ألفاظ التورية ومبناها (وغيّروا) معناها ومقتضاها (ونقله) عنهم (بعض المفسّرين) اعتمادا على أخبارهم عن أحبارهم وقد ورد أن من العلم جهلا (وَلَمْ يَنُصَّ اللَّهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ولا ورد في حديث صحيح) موافق لما هنالك (والّذي نصّ الله عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما

ص: 293

فَتَنَّاهُ [ص: 24] ) أي ابتليناه وامتحناه (فاستغفر ربه) أي طلب غفران مولاه في دنياه وأخراه (إلى قوله وَحُسْنَ مَآبٍ [ص: 25] ) يعني وَخَرَّ راكِعاً أي وسقط للسجود بالخضوع والخشوع حال انتقاله من الركوع وأناب أي رجع من الغفلة إلى الحضرة فإن الإنابة أخص من التوبة فهي الرجوع من المعصية إلى الطاعة فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ أي إن كان له ذنب هنالك وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى أي لقربى وَحُسْنَ مَآبٍ مرجع إلى الجناب (وقوله فيه) أي في حقه وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ أي صاحب القوة في الطاعة إِنَّهُ أَوَّابٌ كثير الأوبة وهي الرجعة حتى عن الخطرة (فمعنى فتنّاه اختبرناه) أي امتحناه (وأواب قال قتادة مطيع) أي في كل باب (وهذا التّفسير أولى) في حق أولي الألباب؛ (قال ابن عبّاس وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم) لعل تقديم ابن عباس لكونه من ذوي القربى وإلا فابن مسعود أفقه الصحابة بعد الخلفاء الأربعة بل ابن عباس أخذ عنه التفسير والحديث والقراءة (ما زاد داود) أي إن صح عنه (على أن قال للرّجل) من أمته تلويحا أو تصريحا (انزل لي عن امرأتك) أي طلقها لأني أريد أن أتزوجها وأكد الأمر بقوله (واكفلنيها) أي أعطنيها وحقيقة ضمها إلي واجعل كفالتها لدي ومؤنتها علي وكان أهل زمان داود عليه الصلاة والسلام يسأل بعضهم بعضا أن ينزل له عن امرأته فيتزوجها إذا أعجبته وكان ذلك مباحا لهم غير أن الله تعالى لم يرض له بما هنالك (فعاتبه الله على ذلك ونبّهه عليه) كما في الآية (وأنكر عليه شغله بالدّنيا) وقلة رغبته في الآخرة وازدياد النساء وقد أغناه الله تعالى عنها بما اعطاه من غيرها على أن مثل هذا الاستدعاء ليس محظورا في مذاهب سائر الأنبياء كطلب سائر المماليك وباقي الأشياء غير أنه لا يستحسن عرفا بين الأحياء (وهذا) التأويل (الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُعَوَّلَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِهِ) أي يعتمد عليه لجلالة قدره (وقيل خطبها على خطبته) بكسر أوله أي قبل زواجه وهو مكروه في ملتنا إذا وقع التراضي في قضيته قال التلمساني روي أنه كان خطبها أورياء ثم خطبها داود عليه السلام فآثره أهلها فكان ذنبه أن خطبها على خطبة أخيه المؤمن مع كثرة نسائه أي بالشرط الذي قدمناه وهو غير معلوم مما نقلناه، (وقيل بل أحبّ بقلبه) وهذا مما لا يعرفه غير ربه (أن يستشهد) أي أورياء ليأخذ امرأته بعده ولعله كان خطرة من غير اصرار عليه والحاصل أنه لا ينبغي أن يلتفت إلى ما نقله أهل القصص من أن داود تمنى منزلة أبيه إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام فقال يا رب إن آبائي قد ذهبوا بالخير كله فأوحى الله تعالى إليه أنهم ابتلوا بالبلاء فصبروا عليه قد ابتلي إبراهيم بنمرود وإسحاق بذبحه ويعقوب بالحزن على يوسف وذهاب بصره فسأل الابتلاء فأوحى الله تعالى إليه إنك لتبتلي في يوم كذا فاحترس فلما كان ذلك اليوم دخل محرابه وأغلق بابه وجعل يصلي ويقرأ الزبور فجاء الشيطان في صورة حمامة من ذهب فمد يده ليأخذها لابن له صغير فطارت فوقفت في كوة فتبعها فأبصر امرأة جميلة قد نقضت شعرها فغطي بدنها وهي امرأة أورياء وهو من غزاة البلقاء فكتب إلى أيوب بن صوريا وهو صاحب البلقاء أن أبعث أورياء وقدمه على التابوت

ص: 294

وكان من يتقدم على التابوت لا يحل له أن يرجع حتى يفتح الله تعالى على يديه أو يستشهد لديه فبعثه وقدمه فسلم وأمر برده مرة أخرى وثالثة حتى قتل فتزوج امرأته وهي أم سليمان فهذا ونحوه مما يقبح أن يتحدث به عن بعض المتسمين بالصلاح من المسلمين فضلا عن بعض أعلام الأنبياء والمرسلين فعن علي كرم الله وجهه من حدثكم بحديث داود على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين وهو حد الفرية على النبيين، (وحكى السّمرقنديّ) وهو الفقيه أبو الليث الحنفي رحمه الله تعالى (أَنَّ ذَنْبَهُ الَّذِي اسْتَغْفَرَ مِنْهُ قَوْلُهُ لِأَحَدِ الخصمين لَقَدْ ظَلَمَكَ [ص: 24] فظلّمه) بتشديد لامه أي نسبه إلى ظلمه (بقول خصمه) أي من غير أن يقر المدعى عليه بذنبه وهذا غير مستفاد من التنزيل لأنه ليس فيه دليل على اثباته ولا على نفيه مع أنه يحتمل أن لا يكون هذا حكما بأن قاله افتاء على تقدير سؤاله وقبول خصمه لقوله؛ (وقيل بل لما خشي على نفسه) من الغفلة (وظنّ من الفتنة) أي من جملة الابتلاء بالمحنة (بما بسط له) أي وسع عليه (من الملك) وهو كمال الجاه الصوري (والدّنيا) أي كثرة المال المحتاج إليه في الحال الضروري كذا في بعض النسخ قوله وقيل إلى هنا وسيأتي ما في بعض آخر مؤخرا، (وإلى نفي ما أضيف في الأخبار) أي عن الأحبار (إلى داود) أي ما نسب إليه من ذلك (ذهب) قدم عليه الجار والمجرور المتعلق به لا فائدة الحصر فيما ذهب إليه (أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ وَأَبُو تَمَّامٍ وَغَيْرُهُمَا مِنَ المحقّقين) وذلك لأنهم الكفرة الفجرة وقد غيروا أخبار البررة قال عليه الصلاة والسلام لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وهذا إذا لم يكن منافيا لقواعد ملتنا وقوانين شريعتنا وإلا فلا شك أنا نكذبهم في أخبارهم عن رهبانهم وأحبارهم وعن كتبهم وأسرارهم، (قال الدّاوديّ: ليس في قصّة داود وأورياء) بفتح الهمزة وقد يضم بسكون الواو وكسر الراء فتحتية فألف ممدودة (خبر يثبت) أي بشروط المعتبرة عند أرباب الأثر (ولا يظنّ) بصيغة المجهول أي ولا ينبغي أن يظن (بنبيّ محبّة قتل مسلم) لحصول أمر دني ثم الخصمان قيل جبريل وميكائيل عليهما السلام وقال تسوروا بصيغة الجمع إما بناء على إطلاقه على ما فوق الواحد أو تعظيما لهما أو لأجلهما ومن معهما من الملائكة قال التلمساني أو حملا على لفظ الخصم إذ كان كلفظ الجمع ومشابها مثل الركب والصحب وفيه أنه لو كان حملا على لفظه لأفراد ضميره كالفوج والقوم على ما حقق في قوله تعالى كَالَّذِي خاضُوا وقوله هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا أي فوجان وقد جمع اختصموا بناء على أفراد الفوجين (وقيل إنّ الخصمين اللّذين اختصما إليه) أي إلى داود (رجلان) أي لا ملكان وهو مرفوع على خبر ان على ما هو ظاهر وفي حاشية التلمساني قيل صوابه رجلين نصبا ووجه الألف إما على لغة بني الحارث فالألف في الجر والنصب كألف المقصود أو خبر لمحذوف أي هما رجلان وهو بعيد انتهى وخطاؤه لا يخفى (في نعاج) وفي نسخة في نتاج (غنم) متعلق باختصما (على ظاهر الآية) فيكون الاختصام تحقيقا أي لا تمثيليا وتصويريا لكن يستفاد من الحقيقة أيضا بطريق الإشارة ما يراد

ص: 295

به من مجاز الطريقة. (وقيل) أي علة ذنبه الذي استغفر منه (لما خشي على نفسه وظن) في باطنه (من الفتنة) أي البلية والمحنة (بما بسط له) أي وسع له (من الملك والدنيا) وأي فتنة أعظم من الدنيا لولا عصمة المولى مع أنها سبب لنقصان الدرجة في الآخرة (وأمّا قصّة يوسف عليه السلام وهو بضم الياء والسين أشهر لغاته من تثليث السين مع الهمزة وعدمه (وإخوته فليس على يوسف منها) أي في قصتهم وفي نسخة منها أي من جهتهم (تعقّب) بتشديد القاف أي اعتراض أو تعتب كما في نسخة أي مطالبة عتاب وملامة (وأمّا إخوته فلم تثبت نبوّتهم) أي عند بعض العلماء فلا إشكال في أحوالهم (فيلزم) بالنصب أي حتى يلزمنا (الكلام على أفعالهم) ونأولها على تحسين آمالهم (وَذِكْرُ الْأَسْبَاطِ وَعَدُّهُمْ فِي الْقُرْآنِ عِنْدَ ذِكْرِ الأنبياء) ليس تصريحا في كونهم من أهل الإنباء حيث قال تَعَالَى قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وهو جمع سبط بالكسر أولاد يعقوب وأحفاد إسماعيل وإسحاق وسموا بذلك لأنه ولد لكل واحد منهم جماعة وسبط الرجل حافده ومنه قيل للحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما سبطا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والسبط في بني إسرائيل كالقبيلة في العرب والشعوب من العجم ومنه قوله تعالى وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وهم أخوة يوسف كلهم بحسب ظاهره ويشير إليه رؤيا يوسف إياهم على هيئة الكواكب إيماء إلى أن مراتبهم في المناقب دون مرتبة الرسالة التي كانت لأبيهم يعقوب على أنه يحتمل أن يكون تصوير الكواكب اشعارا بنور الإيمان وظهور المناقب، (قال المفسّرون) أي بعضهم (يريد من نبّىء من أبناء الأسباط) قال البغوي وكان في الاسباط انبياء ولذلك قال وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ وقيل هم بنو يعقوب من صلبه فصاروا كلهم انبياء والله سبحانه وتعالى اعلم (وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُمْ كَانُوا حِينَ فَعَلُوا بِيُوسُفَ مَا فَعَلُوهُ صِغَارَ الْأَسْنَانِ وَلِهَذَا لَمْ يُمَيِّزُوا يوسف) أي لم يعرفوه في مصر (حين اجتمعوا عليه) وفي نسخة به (ولهذا) أي ولكونهم صغارا أيضا (قالوا أرسله معنا غدا نرتع ونلعب) على قراءة النون والظاهر أنها محمولة على التغليب لقراءة يرتع ويلغب بصيغة الغيبة والرتع الأكل رغدا ثم كون كلهم صغارا في غاية البعد عقلا ونقلا على أن لعب الكبار لا يستبعد شرعا وعرفا (وإن ثبتت) يروى فإن ثَبَتَتْ (لَهُمْ نُبُوَّةٌ فَبَعْدَ هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ) الأمر والقصة وهذا مما لا شك فيه أنه قبل البعثة وإنما الإشكال فيما وقع لهم من العقوق وقطع الرحم والكذب وبيع الحر وهذه الأمور كلها كبائر لا يستقيم إلا عند من يجوز ارتكابها على الأنبياء قبل البعثة والمحققون على خلاف هذه القصة، (وأمّا قول الله تعالى فيه) أي في حق يوسف عليه السلام (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ) أي هم شهوة ومراودة (وَهَمَّ بِها) أي هم مصيبة ومكايدة والباء للسببية فيهما أو هم فكرة وخطرة شفقة عليها وحسرة على قبيح همها لديها وارادتها عدم حفظ الغيب المفوض إليها ويكون بين همت وهم صنعة المجانسة أو طريقة المشاكلة (لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ [يوسف: 24] ) أي لولا النبوة ولوازمها من العصمة لهم

ص: 296

هم الشهوة لكن النبوة موجودة فلم يهم هم المعصية وحذف هم في جواب لولا لدلالة همت عليه من قبلها (فعلى مذهب كَثِيرٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ أَنَّ هَمَّ النَّفْسِ) أي خاطرها (لا يؤاخذ به) أي وإن صمم عليه (وليست سيّئة) إلا صورة (لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم عن ربّه) أي حاكيا عنه في الحديث القدسي والكلام الأنسي (إذا همّ عبدي بسيئة فلم يعملها) أي وتركها خوفا مني فلم يثبت عليها ظاهرا وباطنا من أجلي (كتبت له حسنة) بصيغة المجهول ويجوز أن يكون بصيغة الفاعل والمعنى أمرت بأن يكتب لَهُ حَسَنَةٌ (فَلَا مَعْصِيَةَ فِي هَمِّهِ إِذًا) أي حينئذ (وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ فإنّ الهمّ إذا وطّنت) بضم الواو وتشديد الطاء المكسورة أي إذا استقرت (عَلَيْهِ النَّفْسُ سَيِّئَةٌ وَأَمَّا مَا لَمْ تُوَطَّنْ عَلَيْهِ النَّفْسُ مِنْ هُمُومِهَا وَخَوَاطِرهَا فَهُوَ الْمَعْفُوُّ عنه وهذا) القول الثاني (هو الحقّ) أي الصواب جملة معترضة بين أما وجوابها (فيكون إن شاء الله هم يوسف عليه السلام أي إن كان هم الشهوة (من هذا القبيل) كما هو اللائق بالأنبياء من حسن الظن في أحوالهم (ويكون قوله: وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي [يوسف: 53] ) أي من التقصير والزلة ولا أزكيها بكمال النظافة والظهارة (الآية) أي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ أي لكثيرة الأمر بما يسوء الإنسان في جميع الأزمان إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي أي من رحمة أو وقت رحمة ربي فإنه يعصم من خطراتها ووساوسها وتكدراتها وهواجسها أي ربي لغفور لمن فرط في خدمته من عباده رحيم بمن أحسن في طاعته من عباده (أي ما أبرّئها من هذا الهمّ) المورث للغم (أو) وفي نسخة (ويكون ذلك) القول (منه على طريق التّواضع) في ساحة الربوبية (والاعتراف بمخالفة النّفس) في زاوية العبودية (لما) وفي نسخة بما (زكّي قبل وبرّىء) بصيغة المجهول فيهما أي لما زكته النسوة وبرأته قبل ذلك وشهدن له بالعصمة هنالك (فكيف) أي لا يأول على طريق يعول (وقد حكى أبو حاتم) أي الرازي السختياني الحنظلي وهو الإمام الحافظ الكبير أحد الاعلام ولد سنة تسع وخمسين ومائة ومات بالبصرة وسمع محمد بن عبد الله الأنصاري والاصمعي وأبا نعيم وغيرهم وحدث عنه يونس بن عبد الاعلى وابو داود والنسائي وجماعة قال الدارقطي ثقة وأما ابنة عبد الرحمن فله تفسير جليل وله حال جميل (عن أبي عبيدة رحمه الله وهو معمر بن المثنى (أنّ يوسف لم يهمّ) أي أصلا وهو بضم الهاء والميم ويفتح ويكسر (وَأَنَّ الْكَلَامَ فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ أَيْ وَلَقَدْ همّت به) أي وتم الكلام بِهِ (وَلَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ لَهَمَّ بها) وإنما قال بالتقديم والتأخير لأن جواب لولا لم يتقدم عليها في الأصح (وقد قال الله تبارك وتعالى عن المرأة) وهي زليخا أو راعيل (وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ) أي طالبته أن يجامعني وقصدت منه أنه يواقعني (فَاسْتَعْصَمَ [يوسف: 132] ) أي امتنع وتصمم ولم يقع منه ميل ولا هم (وقال تعالى كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ) أي الصغيرة وهي نحوا لهم (وَالْفَحْشاءَ [يوسف: 24] ) أي الكبيرة وهي الزنى (وقال تعالى: وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ) اهتماما للأسباب ومبالغة في الستر والحجاب (وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ) فيه قراءات

ص: 297

مشهورة ومعاني مذكورة في كتب مسطورة وحاصلها هلم إلى ما أدعوك إليه (قالَ مَعاذَ اللَّهِ) أي أعوذ بالله معاذا (إِنَّهُ) أي الله (رَبِّي) أو العزيز مربي وسيدي (أَحْسَنَ مَثْوايَ [يوسف: 23] الآية) أي منزلي ومأواي (قيل ربّي) وفي نسخة في ربي أي في معناه (الله) أي وهو المراد به (وقيل الملك) صوابه العزيز أو وزير الملك (وقيل همّ بها أي بزجرها) أي طردها أو ضربها (ووعظها) أي نصحها ومن جملة نصيحتها أنها في اثناء مراودتها قامت وسترت على وجه صنم لها فقال لها إذا كنت تستحيين مما لا حياة له ولا بصر ولا نفع ولا ضر فكيف لا استحيي من ربي المطلع على جميع أمري (وقيل همّ بها) باؤه للتعدية أو مزيدة وفاعله محذوف (أَيْ غَمَّهَا امْتِنَاعُهُ عَنْهَا وَقِيلَ هَمَّ بِهَا نظر إليها) نظر غضب أو أدب (وقيل همّ بضربها ودفعها) عن نفسه وكفى شرها وهذا كالتكرار لما تقدم والله تعالى اعلم (وقيل هذا كلّه كان قبل نبوّته) أي قبل رسالته إذ المشهور أنه نبئ وهو في الجب كما يشير إليه قوله تعالى فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ولا يبعد أن الوحي هنا يكون بمعنى الإلهام (قد ذكر بعضهم ما زال النّساء يملن) بفتح الياء وكسر الميم (إِلَى يُوسُفَ مَيْلَ شَهْوَةٍ حَتَّى نَبَّأَهُ اللَّهُ فَأَلْقَى عَلَيْهِ هَيْبَةَ النُّبُوَّةِ فَشَغَلَتْ هَيْبَتُهُ كُلَّ من رآه عن حسنه) أي صورته. (وأمّا خبر موسى عليه الصلاة والسلام مع قتيله الّذي وكزه) أي ضربه بجمعه فقتله (فقد نصّ الله تعالى أنّه) وفي نسخة على أنه (من عدوّه قال) أي أراد ويروى قيل وهي رواية حسنة (كان من القبط) بكسر القاف أمة من أهل مصر (الّذين) وفي نسخة الذي أي القوم الذي (كانوا على دين فرعون) وهو الوليد بن مصعب وفرعون لقب لكل ملك مصر كقيصر للروم وكسرى للفرس والنجاشي للحبشة وتبع لليمن وخاقان للترك قيل وكان طباخا لفرعون وقد أراد أن يحمل السبطي الحطب إلى مطبخه (ودليل السّورة) أي دلالتها (فِي هَذَا كُلِّهِ أَنَّهُ قَبْلَ نُبُوَّةِ مُوسَى) لأنه خرج بعد قتله واجتمع بشعيب وتزوج ببنته وكان عنده عشر سنين أو أكثر ثم نبئ وأرسل إلى فرعون بدعوة الرسالة، (وقال قتادة وكزه بالعصا) أي لا بآلة من السلاح (ولم يتعمّد قتله) بل أراد دفعه عن الظلم ورده إلى الصلاح فكان قتله على وجه الخطأ (فعلى هذا لا معصية في ذلك) مع أن القتيل كان كافرا هنالك إلا أنه عليه الصلاة والسلام لم يؤمر بقتل من لم يكن من أهل الإسلام ولهذا ندم على فعله؛ (وقوله هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ [القصص: 15] ) محمول عليه أي أنه من عمل يحبه الشيطان ولا يبعد أن تكون الإشارة لما جرى بين السبطي والقبطي وما أدى إلى معاونته عليه الصلاة والسلام لمحبه على عدوه (وقوله ظَلَمْتُ نَفْسِي) حيث ضربته من غير أن أكون مأمورا به (فَاغْفِرْ لِي [القصص: 16] ) ما صدر عني ففي الحديث اللهم اغفر لي ذنبي وخطاي وعمدي وكل ذلك عندي (قال ابن جريج) بجيمين مصغرا القرشي مولاهم المكي الفقيه أحد الأعلام يروي عن مجاهد وابن أبي مليكة وعطاء وعنه القطان وغيره قال ابن عيينة سمعته يقول ما دون العلم

ص: 298

تدويني أحد أخرج له الأئمة الستة (قال) أي موسى (ذلك) الكلام (مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ يقتل) أحدا (حتّى يؤمر) بقتله ولما أدى ضربه إلى قتله استغفر ربه في تقصير أمره؛ (وقال النّقّاش) أي الموصلي (لَمْ يَقْتُلْهُ عَنْ عَمْدٍ مُرِيدًا لِلْقَتْلِ وَإِنَّمَا وكزه وكزة يريد بها دفع ظلمه) عن أهل وده (قال) النقاش (وقد قيل إنّ هذا) أي القتل مع أنه كان خطأ (كان قبل النّبوّة وهو مقتضى التّلاوة) لقوله تعالى فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة إلى آخر القصة فإن النبوة كانت له بعدها بمدة طويلة (وقوله تعالى في قضيته) وفي نسخة في قصته أي حال رفع غصته (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً [طَهَ: 40] أَيِ ابْتَلَيْنَاكَ ابْتِلَاءً بَعْدَ ابتلاء) أي امتحناك فتونا (قيل) أريد ابتلاؤه (فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ وَمَا جَرَى لَهُ مَعَ فرعون) حيث ائتمر قومه في قتله (وقيل إلقاؤه في التّابوت) أولا (واليمّ) أي البحر ثانيا ووقوعه في يد فرعون ثالثا (وغير ذلك) مما ابتلي هنالك (وقيل معناه أخلصناك إخلاصا) لأن ابتلاءه إنما هو للتهذيب لا للتعذيب (قاله ابن جبير) وهو سعيد (ومجاهد) وهو ابن جبير تابعيان جليلان وهو مأخوذ (من قولهم) أي العرب (فتنت الفضّة في النّار إذا خلّصتها) أي أذبتها وأصفيتها من غيرها مما اختلط بها (وأصل الفتنة معنى) بالتنوين أي في اصطلاح الخاصة (الاختبار) أي الامتحان وهو مرفوع (وإظهار ما بطن) أي مطلقا ومنه قول بعضهم عند الامتحان يكرم المرء أو يهان (إِلَّا أَنَّهُ اسْتُعْمِلَ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ فِي اختبار أدّى) ويروى يؤدي (إلى ما يكره) بصيغة المجهول أي إلى أمر مكروه في الطبع (وكذلك ما روي في الخبر الصّحيح) أي في صحيح البخاري في كتاب الأنبياء (من أنّ ملك الموت جاءه) أي موسى مصورا بصورة إنسان (فلطم عينه) أي ضربها بباطن راحته (ففقأها) أي أخرجها (الحديث) أي إلى آخره (ليس فيه) أي في الحديث من الدليل (ما يحكم على موسى عليه السلام بالتّعدّي) أي بشيء يقضي عليه بالتجاوز عن الجد على ملك الموت حيث لم يعرفه (وفعل ما لم) وفي نسخة ما لا (يجب له) أي وبفعل شيء لا يجوز له ولم يثبت شرعا ويروى ما يحكم التعدي وفعل ما لم يجب بالنصب فيهما أي ما يمنعهما (إِذْ هُوَ ظَاهِرُ الْأَمْرِ بَيِّنُ الْوَجْهِ جَائِزُ الفعل) بالعقل والنقل (لِأَنَّ مُوسَى دَافَعَ عَنْ نَفْسِهِ مَنْ أَتَاهُ لِإِتْلَافِهَا وَقَدْ تُصُوِّرَ لَهُ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ) أراد هلاكها (ولا يمكن) أي لا يتصور في حق موسى عليه الصلاة والسلام ولا غيره من سائر الأنام (أنه علم حينئذ أنه ملك الموت) وأنه من عند ربه وعن اذنه وأمره (فَدَافَعَهُ عَنْ نَفْسِهِ مُدَافَعَةً أَدَّتْ إِلَى ذَهَابِ عَيْنِ تِلْكَ الصُّورَةِ الَّتِي تُصُوِّرَ لَهُ فِيهَا الملك امتحانا من الله تعالى) أي اختبارا لموسى عليه السلام وفي نسخة لهما ولا يظهر وجهه (فلمّا جاءه) أي الملك (بعد) أي بعد ذهابه إلى الله تعالى ورجوعه من عند مولاه (وأعلمه الله تعالى) أي موسى عليه السلام (أنه) الملك المصور (رسوله إليه) ليقبض روحه (استسلم) أي انقاد؛ (وللمتقدّمين والمتأخّرين) من علماء المحدثين والمتكلمين (على هذا) ويروى عن هذا الحديث (أجوبة) أي متعددة (هذا) الجواب المتقدم (أسدّها عندي) بسين

ص: 299

مهملة وتشديد ثانية أي أقواها وأقومها ومنه قول الشاعر:

اعلمه الرماية كل يوم

فلما استد ساعده رماني

وقيل في البيت إنها بالمعجمة (وَهُوَ تَأْوِيلُ شَيْخِنَا الْإِمَامِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ المازريّ) بفتح الزاء وهو الأكثر وقد تكسر وهو منسوب لمازر بلدة بجزيرة صقلية وقيل قبيلة تسمى بمازر افتى وهو ابن عشرين سنة وهو مشهور بالإمام سماه النبي عليه الصلاة والسلام بذلك في المنام مات بالمهدية سنة ست وثلاثين وخمسمائة وهو ابن ثلاث وثمانين سنة واحتمل في البحر إلى المنستير فدفن بها وهو أحد الأعلام المالكية وقد شرح مسلما شرحا جيدا سماه المعلم لفوائد كتاب مسلم وعليه بنى القاضي عياض المصنف كتاب الإكمال وهو تكملة لهذا الكتاب وله كتاب إيضاح المحصول في برهان الأصول وله في الأدب كتب متعددة مفيدة (وقد تأوّله قديما ابن عائشة) وهو عبيد الله بن محمد بن حفص التيمي القرشي المعروف بالعيشي لأنه من ولد عائشة بنت طلحة كان أحد العلماء والأشراف والمحدثين روى عن حماد بن سلمة وغيره وعنه أبو داود والبغوي وخلق وثقه أبو حاتم وأخرج له أبو داود والترمذي والنسائي ومات سنة ثمان وعشرين ومائتين (وغيره) أي من العلماء المتقدمين (على صكّه) المعنوي (وَلَطْمِهِ بِالْحُجَّةِ وَفَقْءِ عَيْنِ حُجَّتِهِ وَهُوَ كَلَامٌ مستعمل في هذا الباب في اللّغة ومعروف) عند أهلها فإنه يقال صكه ضربه مطلقا وضربه بشيء عريض وصكه غلبه بالحجة وكذا يقال لطمه ضربه على الوجه بباطن الراحة ولطمه غلبه بالحجة والظاهر أن المعنى الأول حقيقي والآخر مجازي. (وَأَمَّا قِصَّةُ سُلَيْمَانَ وَمَا حَكَى فِيهَا أَهْلُ التَّفَاسِيرِ مِنْ ذَنْبِهِ وَقَوْلُهُ:

وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ [ص: 34] فمعناه ابتليناه) أي امتحناه واختبرناه (وابتلاؤه بما) وفي نسخة ما (حكي) الأولى روي (عن النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال) أي سليمان عليه الصلاة والسلام في بعض الأيام (لأطوفنّ) وفي رواية لأطيفن بضم الهمزة أي أدورن والمراد أقعن (اللّيلة) أي المقبلة (على مائة امرأة أو تسع وتسعين) أي امرأة والشك من الراوي (كلّهنّ يأتين) أي كل واحدة منهن تأتي (بفارس) أي بمولود يكبر ويصير راكب فرس (يجاهد في سبيل الله تعالى) ولا شك أن هذا نية صالحة يترتب عليها مثوبة كاملة وقد روي عن أبن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كَانَ فِي ظَهْرِ سُلَيْمَانَ مَاءُ مِائَةِ رَجُلٍ (فقال له صاحبه) أي مخاطبه وهو الملك وقيل آدمي وقيل القرين وأبعد من قال خاطره (قل إن شاء الله فلم تقل) حيث شغله عنه شيء وانساه لما قدره الله وقضاه. (فلم تحمل) بكسر الميم أي فلم تحبل (منهنّ) أي النساء كلهن (إلّا واحدة جاءت بشقّ رجل) بكسر الشين وتشديد القاف أي بنصفه وفي صحيح مسلم فولدت له بنصف إنسان قال النووي في شرح مسلم عقيب قوله فقال له صاحبه أو الملك قل إن شاء الله تعالى قيل المراد بصاحبه الملك وهو الظاهر من لفظه ثم حكى القولين الآخرين (قال النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ قَالَ إن

ص: 300

شاء الله لجاهدوا) أي لجاءت كل واحدة بولد وكبروا (وقاتلوا فوق الفرسان في سبيل الله تعالى قال أصحاب المعاني) أي المؤولون للمباني (وَالشِّقُّ هُوَ الْجَسَدُ الَّذِي أُلْقِيَ عَلَى كُرْسِيِّهِ) أي سرير سليمان عليه الصلاة والسلام (حين عرض عليه) أي ولده وذكر عصمة الأنبياء أن الجسد عبارة عن ولد لسليمان ولد له بفرد رجل وهو ميت فوضع في سريره (وهي) أي هذه الحالة (عقوبته) أي بليته (ومحنته) المعبر عنها بفتنته (وقيل بل مات) الولد (فألقي على كرسيّه ميّتا) وهو الظاهر من إطلاق الجسد والعدول عن الولد وهذا يحتمل أن يكون من أصله نزل ميتا أو كان حيا ثم صار ميتا وروي أنه ولد له ابن فقال الشياطين إن عاش لم تنفك من السخرة فسبيلنا أن نقتله فعلم ذلك وكان ينفذه في السحابة فما راعه إلا أن ألقي على كرسيه ميتا فنبه على خطئه في أنه لم يتوكل فيه على ربه فاستغفر ربه وأناب ثم يحتمل أن هذا الابتلاء لأجل ترك الاستثناء على ما هو ظاهر الحديث، (وقيل ذنبه حرصه على ذلك) أي جنس الولد (وتمنّيه) أي كثرتهم في البلد ولا ينبغي للكامل أن يطلب من الله سواه، (وقيل لأنّه لم يستثن) أي لم يقل إن شاء الله تعالى (لِمَا اسْتَغْرَقَهُ مِنَ الْحِرْصِ وَغَلَبَ عَلَيْهِ مِنَ التّمنّي) أي فكان سبب نسيان الاستثناء في ذلك المتمني (وقيل عقوبته) المعبر عنها بفتنته (أن سلب ملكه) أي حكمه في رعيته وفي هذا امتحان من الله تعالى لأرباب الجاه (وذنبه) أي الذي كان سبب سلب ملكه (أَنْ أَحَبَّ بِقَلْبِهِ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ لِأَخْتَانِهِ) بفتح الهمزة جمع الختن أي اصهاره أو كل من كان من قبل المرأة كالأب والأخ (على خصمهم) ولعل هذا كان على خطرة من لوازم البشرية فلا يعد من المعصية إلا للكمل في القضية وقال الأنطاكي فقد ورد عن السدي أنه قال كان سبب فتنة سليمان هو أنه كانت في نسائه امرأة يقال لها جرادة وهي آثر نسائه عنده فقالت له يوما إن أخي بينه وبين فلان خصومة وأنا أحب أن يقضى له إذا جاء فقال نعم ولم يفعل فابتلي بقوله (وقيل ووخذ) مجهول وأخذ كووري مجهول وارى وفي نسخة أو خذ أي عوقب (بذنب قارفه بعض نسائه) أي كسبته من غير إطلاعه وفيه أنه تعالى لا يؤاخذ أحدا بفعل غيره ولعله عوقب لتقصيره في أمره ومقارفتهن إنما تكون من تأخير صلاة أو صوم أو زكاة أو لبس حلية محرمة أو نياحة مكروهة وأمثالها ولا يجوز أن يتوهم فعل فاحشة منهن فقد قال المفسرون في قوله سبحانه وتعالى فَخانَتاهُما أي في الطاعة لهما والإيمان بهما إذ ما بغت امرأة نبي قط أي ما زنت ويشير إليه قوله تعالى الطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ الآيات وأما ما نقله التلمساني عن السهيلي في قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الآية أن من قذف أزواج النبي عليه الصلاة والسلام فقد سبه فمن اعظم الأذية أن يقول عن الرجل قرنان وإذا سب نبي بمثل هذا فهو كفر صريح انتهى فهو معلول إذ لا يلزم هذا إلا إذا كان عالما بالفاحشة وراضيا بها عليه تقدير وجودها نعم الآن قذف عائشة كفر بلا شبهة بناء على أنه إنكار للقرآن بخلاف من سبق له قذفها قبل نزول آيات البراءة فإن كان مرتكب كبير ولذا حدهم النبي

ص: 301

صلى الله تعالى عليه وسلم حد القذف ولم يقتلهم لارتدادهم ولا أمرهم تحديد الإسلام وسائر ما يترتب عليه من الأحكام وقال الأنطاكي حكي أن سليمان عليه الصلاة والسلام بلغه أن في بعض الجزائر مدينة عظيمة وبها ملك عظيم الشأن فخرج إليها يحمله الريح حتى أناخ بها بجنوده من الجن والإنس فقتل ملكها وأصاب بنتا له من أحسن النساء وجها فاصطفاها لنفسه وأسلمت فأحبها وكان لا يرقأ بدمعها حزنا على أبيها فأمر الشياطين فمثلوا لها صورة أبيها فكستها مثل كسوته وكانت تغدو إليها وتروح مع ولائدها يسجدون لتلك الصورة فأخبر آصف سليمان بذلك فكسر الصورة وعاقب المرأة ثم خرج وحده إلى فلاة وفرش الرماد فجلس عليه تائبا إلى الله تعالى متضرعا إلى مولاه (وَلَا يَصِحُّ مَا نَقَلَهُ الْأَخْبَارِيُّونَ مِنْ تَشَبُّهِ الشّيطان به) أي بصورته وفي نسخة ما قاله الاخباريون من خرافاتهم عما فعله ومن تشبه الشيطان به (وتسلّطه على ملكه) أي سرير دولته (وتصرّفه في أمّته) وسائر رعيته (بِالْجَوْرِ فِي حُكْمِهِ لِأَنَّ الشَّيَاطِينَ لَا يُسَلَّطُونَ عَلَى مِثْلِ هَذَا؛ وَقَدْ عُصِمَ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ مثله) قلت ومما يؤيد هذا قوله عليه الصلاة والسلام إن الشيطان لا يتمثل بي ولا يتصور بصورتي فهذا إذا كان ممنوعا عنه في حال المنام فبالأولى أن لا يقدر على التمثل في حال اليقظة بشكله عليه الصلاة والسلام والظاهر أن سائر الأنبياء عليهم السلام يكون أمرهم على هذا النظام فإن الأنام مأمورون باتباع أوامرهم ونواهيهم والاقتداء بأقواله وأفعالهم فلو صور الشيطان بصور الأنبياء لوقع التشكيك في حقيقة أحوالهم ومن جملة ما نقله الأخباريون في تشبه الشيطان به وتسلطه على ملكه أن سليمان عليه السلام كانت له أم ولد يقال لها أمينة وكان إذا دخل للطهارة أو لإصابة امرأة وضع خاتمه عندها وكان ملكه في خاتمه فوضعه عندها يوما فأتاها الشيطان صاحب البحر واسمه الصخر على صورة سليمان فقال يا أمينة خاتمي فناولته إياه فتختم به وجلس على كرسي سليمان فعكفت عليه الطير والجن والإنس وغير سليمان من هيئته فأتى أمينة لطلب الخاتم فأنكرته وطردته فكان عليه السلام يدور على البيوت يتكفف وإذا قال أنا سليمان حثوا عليه التراب وسبوه ثم عمد إلى السماكين ينقل لهم السمك ويعطونه كل يوم سمكتين فمكث على ذلك أربعين صباحا عدد ما عبد الوثن في بيته فأنكر آصف وعظماء بني إسرائيل حكم الشيطان وسأل آصف نساء سليمان فقلن ما يدع امرأة منا في دمها ولا يغتسل من جنابة ثم طار الشيطان وقذف الخاتم في البحر فابتلعته سمكة ووقعت السمكة في يد سليمان فبقر بطنها فإذا هو بالخاتم فتختم به فوقع ساجدا لله تعالى ورجع إليه ملكه هذه فرية عظيمة بلا مرية ولقد أبى العلماء المحققون قبول هذا النقل تنزيها لنساء الأنبياء عما نسب إليهن من الانباء، (وإن سلم لِمَ لَمْ يَقُلْ سُلَيْمَانُ فِي الْقِصَّةِ الْمَذْكُورَةِ إن شاء الله فعنه أجوبة) متعددة (أحدها) وفي نسخة فعنه جوابان أي مرضيان أحدهما (مَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ نَسِيَ أن يقولها وذلك) أي وقوع النسيان (لينفذ مراد الله تعالى) وفق ما قدره وقضاه فهذا كقوله تعالى وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ

ص: 302

يَشاءَ اللَّهُ (والثّاني أنّه لم يسمع صاحبه) أي كلامه (وشغل عنه) بشيء خالف مرامه (وَقَوْلُهُ وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي [ص: 35] لَمْ يَفْعَلْ هَذَا سُلَيْمَانُ) أي لم يصدر عنه هذا القول (غيرة) بفتح الغين ويكسر أي حرصا ونهمة (على الدّنيا) من مالها وجاهها (ولا نفاسة بها) بفتح النون أي لا رغبة فيها إذ جل رغبتهم في حضرة المولى ونعمة الأخرى قال تعالى وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ لأن النفاسة رغبة في الشيء النفيس دون الخسيس وقد ورد لو كانت الدنيا تعدل جناح بعوضة لما سقي كافرا منها شربة ماء وإنما ابتلي سليمان عليه السلام بهذا الملك الوسيع والجاه الرفيع ليكون حجة على الملوك في القيام بحق العبودية والعمل بأحكام الربوبية ومع هذا فقد ورد أنه يدخل الجنة بعد سائر الأنبياء بخمسمائة عام لتعرف أن الفقير الصابر أفضل من الغني الشاكر ولهذا ورد أن عبد الرحمن ابن عوف يدخل الجنة بعد فقراء المهاجرين بخمسمائة عام فكل هذا تزهيد في الدنيا وترغيب في العقبى والحكم فيهما للمولى رزقنا الله العمل بالأولى وبلغنا المقام الأعلى والمرام الأعلى (ولكن مقصده) بكسر الصاد أي مراده بهذا الدعاء (في ذلك) النداء (على ما ذكره المفسّرون) أي بعضهم (أَنْ لَا يُسَلَّطَ عَلَيْهِ أَحَدٌ كَمَا سُلِّطَ عليه الشّيطان الّذي سلمه إِيَّاهُ مُدَّةَ امْتِحَانِهِ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ) ويروى على من قال (ذلك) وقد عرفت ضعف ما هنالك.

(وَقِيلَ بَلْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِنَ الله فضيلة) زائدة (وخاصّة) أي مزية خالصة (يَخْتَصُّ بِهَا كَاخْتِصَاصِ غَيْرِهِ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ ورسله بخواصّ منه) كالخلة لإبراهيم وكالتكليم لموسى ونحوهما فإن قيامه على وجه العدالة والاستقامة مع كثرة الرعية من الجن والإنس والطير والذرة وتفقدهم بالرعاية والحماية لعله من خواصه لم يكن لغيره أن يقوم مقامه فسبحان من أقام العباد فيما أراد وقد قال تعالى إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً فمن عباده من يصلح للفقر والعناء ومنهم من يصلح للجاه والغنى وليس أحد يطلع على حقيقة القدر والقضاء، (وقيل ليكون ذلك) أي بقاء ملكه حقيقة وحكما (دَلِيلًا وَحُجَّةً عَلَى نُبُوَّتِهِ كَإِلَانَةِ الْحَدِيدِ لِأَبِيهِ) أي دواد كما في نسخة (وَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى لِعِيسَى وَاخْتِصَاصِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم بالشّفاعة) أي الكبرى وهي المقام المحمود (ونحو هذا) من اختصاص موسى بنعت الكليم ووصف إبراهيم بالخلة. (وأمّا قصّة نوح عليه السلام وهو منصرف وجوز منع صرفه قيل اسمه عبد الغفار وسمي نوحا لكثرة بكائه وتضرعه في دعائه (فظاهرة العذر) فيما وقع له من الأمر (وأنّه أخذ فيها بالتّأويل) وفي نسخة بالتأويل (وظاهر اللّفظ لقوله تعالى وأهلك) أي عمومه في الخلاص من هلاكه وكأنه صرف الاستثناء إلى غير أهله، (فطلب مقتضى هذا اللّفظ) من عمومه (وأراد علم ما طوي عنه) بصيغة المجهول أي ستر وخفي (من ذلك) خصوصه بإخراجه من جملة أهله (لا أنّه) أي نوحا (شكّ في وعد الله تعالى) بنجاة أهله (فبيّن الله عليه) أي أظهر لديه وفي نسخة علته أي سببه (أنّه ليس من أهله الّذين وعدهم) وفي نسخة وَعَدَهُ (بِنَجَاتِهِمْ لِكُفْرِهِ وَعَمَلِهِ الَّذِي هُوَ

ص: 303

غير صالح وقد أعلمه) أي الله تعالى (أنّه مغرق الّذين ظلموا) بالإضافة ودونها (ونهاه عن مخاطبته) إياه (فيهم فأوخذ) بصيغة المجهول من المؤاخذة بالهمزة والواو لغتان وقراءتان وفي نسخة فووخذ بواوين بناء على اللغة الأخيرة فهو كقوله تعالى ما وُورِيَ والمعنى فعوقب (بهذا التّأويل) حيث خالف حقيقة التنزيل (وعتب عليه) عطف تفسير وكان الأظهر وعوتب عليه وفي نسخة وعيب بكسر فسكون تحتية والظاهر أنه تصحيف (وأشفق) أي خاف (هو) أي نوح (من إقدامه على ربّه) أي جراءته (لسؤاله) أي لأجله وفي نسخة بسؤاله أي بسببه (ما لم يؤذن له) وفي نسخة ما لم يأذن (في السّؤال فيه) أي في حقه (وَكَانَ نُوحٌ فِيمَا حَكَاهُ النَّقَّاشُ لَا يَعْلَمُ بكفر ابنه) لأنه كان منافقا في أمره وتابعا لأمه في كفره (وقيل في الآية غير هذا) لبعض العلماء في تفسيره (وكلّ هذا لا يقضي) أي لا يحكم (على نوح بمعصية) أي كبيرة (سوى ما ذكرناه من تأويله) للمقال (وإقدامه بالسّؤال فيمن لم) وفي نسخة فِيمَا لَمْ (يُؤْذَنْ لَهُ فِيهِ وَلَا نُهِيَ عنه؛ وما روي في الصّحيح) أي صحيح الأحاديث مما رواه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة (من أنّ نبيّا قرصته نملة) أي عضته (فحرّق) بتشديد الراء أي فأحرق (قرية النّمل) أي بيتها وجحرها (فأوحى الله تعالى إليه أن) بفتح الهمزة وسكون النون أي لأن (قرصتك نملة) أي واحدة كما في نسخة (أحرقت أمّة من الأمم تسبّح) وذلك لقوله تعالى وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ وقوله وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وقال الزكي المنذري إن هذا النبي جاء من غير وجه أنه عزير انتهى ولا شك أن المبهمين في الأحاديث لا يعرفون إلا من حديث آخر مصرح بتسمية الشخص منهم ويشكل هذا بما في أبي داود مرفوعا لا أدري أعزير نبي أم لا وصححه الحاكم في مستدركه من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه والجواب لعل الله أطلعه على أنه نبي بعد ذلك فأخبره وفي كلام الطبري أن هذا النبي هو موسى عليه الصلاة والسلام ونقله عن الحكيم الترمذي وعن ابن عباس قال نهى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن قتل أربع من الدواب النملة والنحلة والهدهد والصرد رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والصرد بضم الصاد المهملة وفتح الراء طائر معروف ضخم الرأس والمنقار له ريش عظيم نصفه أسود ونصفه أبيض قال الخطابي أما نهيه عن قتل النحلة فلما فيها من المنفعة وأما الهدهد والصرد فإنما نهى عن قتلهما لتحريم لحمهما وذلك أن الحيوان إذا نهي عن قتله ولم يكن ذلك لحرمة ولا لمضرة كان ذلك لتحريم لحمه انتهى ولعل النهي عن قتل النمل محمول على حال عدم الأذية أو المضرة فالمعاتبة على النبي من حيث قتله سائر النمل من غير حصول العلة والله تعالى اعلم بالحقيقة ثم النمل جنس منفرده النملة ويستوي مذكرها ومؤنثها كالحمامة ونحوها وإنما استدل إمامنا الأعظم على أن نملة سليمان عليه الصلاة والسلام كانت أنثى بدليل قوله تعالى قالت لأنها لو كانت ذكرا لقيل قال لا سيما والفعل مقدم والتأنيث غير حقيقي وقد وهم التلمساني ولم يتحقق كلام الإمام

ص: 304

الرباني وإذا عرفت حقيقة القضية (فليس في هذا الحديث) أي السابق ما يقتضي (أنّ هذا الّذي أتى معصية) ووقع في أصل التلمساني أن هذا الذي أتى معصية فتكلف له بأن الذي موصول وأتى صلته وعائده محذوف لأنه منصوب أي أتاه معصية برفعها على خبر أن أو خبر محذوف (بل فعل ما رآه مصلحة وصوابا) أي صورة (بقتل من) وفي نسخة صحيحة ما (يؤذي جنسه) ولعل وجه من أن جنس المؤذي مختلط بين من يعقل وما لا يعقل و (يمنع المنفعة بما أباح الله تعالى) أي من الراحة بالنوم ونحوه، (أَلَا تَرَى أَنَّ هَذَا النَّبِيَّ كَانَ نَازِلًا تحت الشّجرة) وفي نسخة تحت شجرة ولعلها كانت بعيدة عن العمارة (فلمّا آذته النّملة) أي الواحدة بأن عضته (تحوّل برحله) أي متاعه (عنها مخافة تكرار الأذى عليه) منها (وليس فيما أوحى الله تعالى إليه) من الملامة (ما يوجب عليه معصية بل ندبه) أي دعاه (إلى احتمال الصّبر) على الأذية (وترك التّشفيّ) أي الانتقام في القضية (كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ [النحل: 126] ) وفيه أن الصبر على أذى الحيوان ليس كالصبر على مضرة أفراد الإنسان كما بينه العلماء الأعيان (إذ ظاهر فعله) من الإحراق (إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ أَنَّهَا آذَتْهُ هُوَ فِي خاصّته) أي خاصة نفسه (فكان انتقاما لنفسه) أي انتصارا لروحه (وقطع مضرّة يتوقّعها) أي يخشاها أي يمكن حصولها (من بقيّة النّمل هناك) ولنا توقف في ذلك (ولم يأت) أي لم يفعل النبي (في كلّ هذا أمرا نهي عنه فيعصّى به) بضم الياء وفتح الصاد المشددة أي حتى ينسب إلى المعصية (وَلَا نَصَّ فِيمَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ بِذَلِكَ ولا بالتّوبة والاستغفار منه) أي تصريحا وإلا فيستفاد منه تلويحا فإنه وإن كان لم يوح إليه نهي أولا فكأنه نسب إلى خطأ في اجتهاده ثانيا وهو يستدعي في الجملة رجوعه إلى الاستغفار والتوبة كما هو طريق أرباب النبوة وأصحاب الفتوة هذا وفي حديث رواه الطبراني عن ابن عمر مرفوعا وما من دابة ولا طائر ولا غير تقتل بغير حق إلا تخاصم يوم القيامة (فَإِنْ قِيلَ فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ عليه السلام ما من أحد إلّا ألّم بذنب) أي نزل به وتنزل بارتكابه (أو كاد) أي قارب أن يلم به (إِلَّا يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا أَوْ كَمَا قَالَ عليه الصلاة والسلام ما هذا معناه وإنما الشك في مبناه وإنما قال هذا لأن الحديث روي بألفاظ مختلفة منها ما رواه القاضي ومنها ما من نبي إلا وقد هم أو الم ليس يحيى بن زكريا ومنها غير ذلك (فَالْجَوَابُ عَنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ ذُنُوبِ الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي وَقَعَتْ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ وَعَنْ سَهْوٍ وغفلة) ويدل عليه أن اللمم إنما يطلق على الصغيرة من الزلة كما قال تعالى الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ واللمم هو أن يلم الرجل بالذنب مرة ثم يتوب ولا يعود إليه كما قال ابن عباس والمشهور أنه الصغير من الذنوب وقد قال عليه الصلاة والسلام

إن تغفر اللهم فاغفر جما

وأي عبد لك لا الما

فهذا الاستثناء الدال على العموم ينافي الحديث المذكور من استثناء يحيى إلا أن يحمل

ص: 305