الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
منهم والحق المصير إلى امتثال أفعالهم واتباع سيرهم وآثارهم مطلقا بلا قرينة على ما ذهب إليه أبو حنيفة ومالك وأكثر أصحاب الشافعي (بسط بيانه) بصيغة المصدر وفي نسخة وبسط وهو يحتمل أن يكون مصدرا وأن يكون فعلا مجهولا أي وشرح بيان امتثال الفعل (في كتب ذلك العلم) أي علم الأصول في الدين المذكور فيه اختلافهم في وقوع الصغائر منهم أو علم أصول الفقه المذكور فيه اختلافهم في امتثال أفعالهم المقصودة دون أفعالهم بمقتضى العادة (فلا نطوّل) أي الكلام (فيه) وفي نسخة أي لا نطول الكتاب بذكره اكتفاء بما هنالك من استيفاء ذلك (وفائدة ثالثة يحتاج إليها الحاكم) قاضيا كان أو غيره (والمفتي) أي مجيب السائل عن مسألته الحادثة (فيمن أضاف) أي نسب (إلى النبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ وَوَصَفَهُ بها) أي مما يجب له أو يجوز أو يمتنع مما سيأتي تفصيلها (فمن لم يعرف ما يجوز) أي له فعله (وما يمتنع عليه) أي وقوعه منه (وما وقع الإجماع فيه والخلاف) أي ولم يعرف موضع الاتفاق ومحل الاختلاف (كيف) أي على أي حال (يصمّم) أي يتمادى عليه ويجزم به ويعزم (في الفتيا) بضم الفاء وأما الفتوى فبفتحها وقد يضم وكلاهما اسم للافتاء (في ذلك) أي الذي يجب له أو يجوز أو يمتنع عليه إذا رفع السؤال إليه (ومن أين يدري هل ما قاله) أي الحاكم أو المفتي (فيه) أي في حقه عليه الصلاة والسلام (نقص) أي طعن (أو مدح) حتى يقدم على حكمه ليعمل به وإذا لم يعلم وأقدم (فإمّا أنّ يجترىء) أي يهجم (على سفك دم مسلم حرام) أي اراقته من غير استحقاقه (أو يسقط حقّا) أي أمرا ثابتا (ويضيّع حرمة للنّبيّ) وفي نسخة حرمة النبي (صلى الله تعالى عليه وسلم) فيهلك من حيث لا يعلم والثاني أقبح من الأول لأنه موجب كفر له ولغيره فتأمل (ولسبيل هذا) أي ما ذكر من الكلام في عصمة الأنبياء عليهم السلام (ما) ظائدة أو موصولة (قد اختلف أرباب الأصول) أي أصول الدين (وأئمة العلماء) من المجتهدين (والمحقّقين) من المفسرين والمحدثين (في عصمة الملائكة) المقربين والمعتمد أنهم كالأنبياء والمرسلين في تنزيههم عن المخالفة في أمر الدين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
فصل (في القول في عصمة الملائكة)
جمع ملك أصله ملأك حذفت همزته بعد نقل حركتها لكثرة الاستعمال وقيل أصله مألك من الألوكة وهي الرسالة فأخرت ثم جمع وقد تحذف الهاء فيقال ملائك (أجمع المسلمون على أنّ الملائكة مؤمنون) كاملون (فضلاء) بضم ففتح أي فاضلون في قدرهم عند ربهم (واتّفق أئمّة المسلمين) من علماء الأمة وعظماء الملة (على أن حكم المرسلين منهم) أي من الملائكة المقربين إلى الأنبياء والمرسلين (حكم النّبيّين سواء) أي مستوين (في العصمة) وتعظيم الحرمة (ممّا ذكرنا عصمتهم) أي النبيين (منه) أي من السهو في القول والتبليغ في الفعل (وأنّهم) أي رسل الملائكة (في حقوق الأنبياء والتّبليغ
إليهم) ما أمرهم الله تعالى به من الأنباء (كالأنبياء مع الأمم) في هذه الأشياء (واختلفوا) أي العلماء (في غير المرسلين منهم) أمعصومون هم كمرسليهم أم لا (فَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى عِصْمَةِ جَمِيعِهِمْ عَنِ الْمَعَاصِي واحتجّوا) أي استدلوا وهم الأئمة وفي نسخة واحتجت أي الطائفة والفرقة في عصمتهم من جميع المعصية (بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ) أي فيما أمرهم به فيما مضى (وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6] ) فيما يستقبل أو لا يمتنعون عن قبول الأوامر والتزامها ويؤدون ما يؤمرون ولا يتثاقلون عن القيام به (وبقوله وَما مِنَّا) أي معشر الملائكة أحد (إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) لعبادته لا يتجاوز إلى غير حالته (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) أقدامنا في الصلاة أو الحافون حول العرش وافقون (وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ [الصافات: 164- 166] ) أي المنزهون لله عما يشركون وبقوله: وَمَنْ عِنْدَهُ) أي عندية مكانة ومنزلة وهو مبتدأ خبره (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) تعظما (وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) أي لا يعيون ولا يتعبون ولا ينقطعون تفاقما (الآية) أي يسبحون الليل والنهار لا يفترون كما في نسخة أي لا ينقطعون ولا يملون (وبقوله: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ أي مقربون (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ [الأعراف: 206] ) بل يفتخرون بطاعته (الآية) أي ويسبحونه وله يسجدون حقيقة أو ينقادون لحكمه ويتذللون بالخضوع والخشوع لأمره، (وبقوله) تبارك وتعالى في وصفهم (كِرامٍ) أي مكرمين على الله (بَرَرَةٍ [عبس: 16] ) أي اتقياء مطيعين في مقام رضاه (لا يَمَسُّهُ) أي اللوح المحفوظ أو القرآن المحفوظ (إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة: 79] ) أي الملائكة المتطهرون من أدناس الذنوب وأجناس العيوب (ونحوه) أي وبأمثال ما ذكر (من السّمعيّات) من الكتاب والسنة، (وذهبت طائفة) من العلماء (إلى أنّ هذا) أي ما ذكر من قضية العصمة وعدم المخالفة (خصوص للمرسلين والمقرّبين منهم) أي من الملائكة، (واحتجّوا بأشياء ذكرها أهل الأخبار والتّفاسير) المعتمدة على ما نقله فيها عن الرهبان والأحبار (نحن نذكرها إن شاء الله بعد) أي بعد ذلك (ونبيّن الوجه) أي إلا وجه (فيها) هنالك (إن شاء الله تعالى) أي أراده وقضاه وما أحسن ما قاله الشافعي رحمه الله تعالى:
فما شئت كان وإن لم أشأ
…
وما لم تشأ أن اشأ لم يكن
وهو مضمون كلام اتفق عليه السلف والخلف مما ثبت في الحديث ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن (والصّواب عصمة جميعهم) أي الملائكة من جنس المعصية (وتنزيه نصابهم) أي تبرئة ساحة منصبهم وقدرهم (الرّفيع) عند ربهم (عن جميع ما يحطّ من رتبتهم) ويروى من رتبهم (ومنزلتهم عن جليل مقدارهم) وجميل درجتهم (ورأيت بعض شيوخنا أشار بأن) وفي نسخة مال إلى أن أي أنه يعني الشأن (لا حاجة بالفقيه) أي له (إلى الكلام في عصمتهم) بل يجوز له السكوت عن تفصيل حالتهم ومرتبتهم، (وأنا أقول إنّ للكلام في ذلك) المرام من كثرة الفوائد (ما للكلام) وفي نسخة كالكلام (فِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْفَوَائِدِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا) فيما
تقدم من الفصول المشتملة على أنواع من الفوائد (سوى فائدة الكلام في الأقوال والأفعال) لعدم اطلاعنا على ما يصدر عنهم من قول وقيل مفصلا وإنما نعرف أحوالهم مجملا مع أنا لسنا مكلفين باتباعهم فيها فلا داعي إلى إثبات عصمتهم فيها من طرق ما لا يليق بهم فيها حمدا أو سهوا (فهي) أي فائدة الكلام في أقوالهم وأفعالهم (ساقطة ههنا) أي غير مذكورة في بيان عصمتهم لعدم احتياجنا إليها فإذا عرفت هذا، (فَمِمَّا احْتَجَّ بِهِ مَنْ لَمْ يُوجِبْ عِصْمَةَ جميعهم) أي جميع أفراد الملائكة بل يوجب عصمة جنسهم الصادق على بعضهم (قصّة هاروت وماروت) وهما ملكان نزلا ببابل قرية بالعراق اسمان اعجميان بدلالة منع صرفهما للعلمية والعجمة (وما ذكر) عطف على قصة أي وما ذكره (فيها) أي في قصتهما (أهل الأخبار ونقلة المفسّرين) عن الأحبار من أن الملائكة عيرت بني آدم بعصيانهم الله تعالى كما رواه البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر يا رب هؤلاء ما أقل معرفتهم بعظمتك فقال لو كنتم في مسلاخهم لعصيتموني قالوا كيف يكون هذا ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال فاختاروا منكم ملكين فاختاروهما فأهبطا إلى الأرض وركبت فيهما شهوات بني آدم ومثلت لهما امرأة فما عصما حتى واقعا المعصية فقال الله تعالى لهما اختارا عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا (وما روي) أي عن إسحاق بن راهويه وعبد بن حميد وغيرهما (عن عليّ) كرم الله تعالى وجهه (وابن عبّاس) رضي الله تعالى عنهما (في خبرهما) أي هاروت وماروت فعن علي رضي الله تعالى أن هذه الزهرة يسميها العجم ناهيذ وكان الملكان يحكمان بين الناس فأتتهما امرأة فأرادها كل منهما مخفيا من الآخر فقال أحدهما يا أخي أريد أن أذكر لك ما في نفسي فقال اذكره لعله ما في نفسي فاتفقا فقالت لا أمكنكما أو تخبراني أي حتى تعلماني بما تصعدان به إلى السماء وتهبطان به فقالا باسم الله الاعظم قالت علمانية فعلماها إياه فتكلمت به فطارت إلى السماء فمسخها الله تعالى كوكبا وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن ملائكة سماء الدنيا قالوا يا ربنا أهل الأرض يعصونك فقيل لهم اختاروا منكم ثلاثة يحكمون في الأرض وجعل فيهم شهوة بني آدم وأمروا أن لا يقترفوا ذنبا فاستقال منهم واحد فأقبل فهبط اثنان فأتتهما امرأة من أحسن النساء فهوياها فأتيا منزلها وأراداها فأبت حتى يشربا خمرها ويقتلا ابن جارها ويسجدا لوثنها فأبيا إلا أن يشربا فشربا ثم قتلا ثم سجدا وقالت أخبراني بالكلمة التي إذا قلتماها طرتما إلى السماء فأخبراها فطارت فمسخت حمرة وهي الزهرة فأرسل إليهما سليمان بن داود وقيل ادريس فخيرهما بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا فهما مناطان بين السماء والأرض قيل معلقان بشعورهما وقيل جعل في جب ملئت نارا منكوسان يضربان بسياط الحديد (وابتلائهما) أي ما روي من اختبارهما بما ذكر وبالسحر فتنة للناس أي امتحانا لهم فمن تعلمه وعمل به معتقدا حله كفر ومن تجنبه أو تعلمه ليتوقي شره لم يكفر، (فَاعْلَمْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ أَنَّ هَذِهِ الْأَخْبَارَ لَمْ يُرْوَ مِنْهَا شَيْءٌ لَا سَقِيمٌ وَلَا صَحِيحٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وسلم) أي وإنما رويت عن
علماء اليهود والنصارى ممن لا يصدق ولا يكذب في اخبارهم ولا يعتمد على آثارهم لكن يشكل هذا بما رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده فقال حدثنا يحيى بن أبي بكير وقال عبد ابن حميد في مسنده حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثني ابن أبي بكير حدثنا زهير بن محمد عن موسى بن جبير عن نافع مولى عبد الله بن عمر عن عبد الله بن عمر أنه سمع نبي الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول إن آدم عليه السلام لما أهبطه الله تبارك وتعالى إلى الأرض قالت الملائكة أي رب أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ قالوا ربنا نحن أطوع لك من بني آدم قال تعالى للملائكة هلموا ملكين من الملائكة حتى يهبط بهما إلى الأرض لينظره كيف يعملان قالوا ربنا هاروت وماروت فاهبطا إلى الأرض ومثلت لهما الزهرة امرأة من أحسن البشر فجاآها فسألاها نفسها فقالت لا والله حتى تكلما بهذه الكلمة من الاشراك فقالا لا والله لا نشرك به أبدا فذهبت عنهما ثم رجعت بصبي تحمله فسألاها نفسها فقالت لا والله حتى تقتلا هذا الصبي فقالا لا والله لا نقتله أبدا فذهبت ثم رجعت بقدح خمر تحمله فسألاها نفسها فقالت لا والله حتى تشربا هذه الخمر فشربا فسكرا فوقعا عليها وقتلا الصبي وتكلما بكلمة الإشراك فلما افاقا قالت المرأة والله ما تركتما شيئا مما ابيتماه علي إلا وقد فعلتماه حتى سكرتما فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا انتهى ويحيى بن أبي بكير شيخ أحمد ثقة أخرج له الأئمة الستة وزهير بن أحمد أخرج له أيضا أصحاب الكتب الستة ووثقه أحمد وروى الميموني عن أحمد مقارب الحديث وروى المروزي عن أحمد ما به بأس وروى البخاري عن أحمد قال كان زهير الذي روى عنه أهل الشام زهيرا آخر وروى الأشرم عن أحمد قال للشاميين عن زهير مناكير وقال الترمذي في العلل سألت البخاري عن حديث زهير هذا فقال أنا أتقي هذا الشيخ كان حديثه موضوع وليس هذا عندي بزهير بن محمد قال وكان أحمد بن حنبل يضعف هذا الشيخ ويقول هذا الشيخ ينبغي أن يكونوا قلبوا اسمه قال الحلبي وله ترجمة في الميزان وقد ذكر فيها مناكير ولم يذكر هذا منها وأما موسى بن جبير فقد أخرج له أبو داود وابن ماجه وذكره أبو حيان في الثقات وأما نافع فلا يسأل عنه فيحتاج هذا الحديث إلى جواب على وجه صواب قال الحلبي وقد رأيت الحديث في مستدرك الحاكم في تفسير سورة الشورى من طريق ابن عباس وقال في آخره صحيح ولم يتعقبه الذهبي في تلخيصه للمستدرك هذا وذكر في الميزان في ترجمة سنيد بن داود اسمه الحسين أنه حافظ له تفسير وله ما ينكر ثم ساق بسند إلى سنيد حدثنا فرج بن فضالة عن معاوية بن صالح عن نافع قال سرت مع ابن عمر فقال طلعت الحمراء قلت لاثم قال قد طلعت قلت لا قال لأمر حبابها ولا أهلا قلت سبحان الله نجم ساطع مطيع قال ما قلت إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن الملائكة قالت يا رب كيف صبرك على بني آدم قال اني قد ابتليتهم وعافيتهم قالوا لو كنا مكانهم ما عصيناك قال فاختاروا ملكين منكم فاختاروا
هاروت وماروت فنزلا فألقى عليهما الشهوة فجاءت امرأة يقال لها الزهرة الحديث بطوله ثم قال روى عنه أبو زرعة والأشرم وجماعة وضعفه أبو حاتم وقال أبو داود لم يكن بذلك وقال النسائي الحسين سنيد بن داود ليس بثقة ثم أخرج الذهبي وفاته انتهى ولا يخفى أن الحديث كما تراه مرفوعا وموقوفا له أصل ثابت في الجملة لتعدد طرقه واختلاف سنده في مسند أحمد وصحيح ابن حبان وتفسير ابن جرير وشعب البيهقي ومسند عبد بن حميد والعقوبات لابن أبي الدنيا وغيرهم مطولا ومن رواية أبي الدرداء في ذم الدنيا لابن أبي الدنيا وموقوفا عن علي وابن عباس كما مر وعن ابن عمر وابن مسعود بأسانيد صحيحة وقد قيل لهذه القصة طرق تفيد العلم لصحتها فالجواب الصواب إن الكلام في عصمة الملائكة الكرام وهذان قد خرجا عن صفة الملائكة بإلقاء نعت البشرية من الشهوة النفسية عليهما ابتلاء لهما في القضية والتحقيق والله ولي التوفيق أن الملائكة خلقوا للطاعة كما أن الشياطين خلقوا للمعصية وكل من الطائفتين جبلوا بما لهم من القابلية وأما الأفراد الإنسانية فمعجون مركب من الصفات الملكية والنعوت الشيطانية مرتب بين المراتب العلوية والمناقب السفلية فمن مال إلى أطوار الملائكة ترقى عنهم ومن مال إلى انشاز الشياطين تنزل عنهم فالإنسان كالبرزخ بين البحرين شارب من النهرين جامع بين نعوت الجلال وصفات الجمال وقابل لقبول ما لله من صفات الكمال فقد ورد لو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم إيماء إلى نعت الغفور والغفار والحليم والستار ومن هنا يتبين أن الأنبياء يتصور منهم المعصية في الجملة بخلاف الملائكة مع أن المعتمد في المعتقدان رسل البشر أفضل من رسل الملائكة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ولعل العلة أنهم مع كون الشهوة فيهم مركبة وقعت أحوالهم مرتبة في رفعة منزلة وعلو مرتبة (وليس هو) أي ما نقل من الأخبار (شيئا يؤخذ بقياس) أي من الآثار في مقام الاعتبار (والّذي منه) أي من خبر قصتهما (في القرآن) أي في سورة البقرة (اختلف المفسّرون في معناه) فكل ذهب إلى ما اطلع عليه نقلا من جهة مبناه، (وأنكر ما قال بعضهم فيه) أي في معناه (كثير من السّلف كما سنذكره) فيما سيأتي فلا نطول هنا بذكره، (وهذه الأخبار) التي أوردها المفسرون فيه (من كتب اليهود وافترائهم) على انبياء الله وملائكته من أرباب الشهود (كما نصّه الله تعالى) أي صرحه (أوّل الآيات) أي في أولها (من افترائهم) أي كذب اليهود (بذلك على سليمان وتكفيرهم إيّاه) في قوله واتبعوا أي اليهود ما تتلوا الشياطين أي كتب السحر والشعوذة التي كانت تقرؤها على ملك سليمان أي في زمن ملكه وعهده وذلك أن الشياطين كانوا يسترقون السمع ثم يخلطون بما سمعوا أكاذيب كثيرة ويلقونها إلى الكهنة وقد دونوها في الكتب يقرؤونها ويعلمونها الناس وفشا ذلك في زمنه حتى قالوا إن الجن تعلم الغيب وكانوا يقولون هذا علم سليمان وما تم له ملكه إلا به وما سخر له الجن والإنس والطير والريح إلا به وما كفر سليمان شهادة من الله وتكذيبا لليهود ودفعا لما بهتت به سليمان من اعتقاد السحر والعمل به ولكن الشياطين كفروا باستعمالهم
السحر وتدوينهم يعلمون الناس السحر يقصدون به إغواءهم وإضلالهم؛ (وقد انطوت القصّة) أي احتوت واشتملت قصة هاروت وماروت (على شنع) بضم المعجمة وفتح النون أي قبائح (عظيمة وها) للتنبيه (نحن نخبّر) بضم نون وفتح مهملة وكسر موحدة مشددة أي نحسن (في ذلك) القول من العبارات (ما يكشف غطاء هذه الإشكالات) أي ما يرفع حجابها ويزيل نقابها (إن شاء الله فاختلف) أي فاختلفوا (أوّلا في هاروت وماروت هل هما ملكا) بفتح اللام وهو الصحيح (أو إنسيّان) أي منسوبان إلى الإنس أي آدميان ويمكن الجمع بأنهما كانا ملكين وتشكلا بصورة رجلين، (وهل هما) أي هاروت وماروت (المراد بالملكين) في آية وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ وهو الصحيح (أم لا) وهذا مما لا يلتفت إليه أصلا، (وهل القراءة ملكين) بفتح لامها كما في القراءة المتواترة التي اتفق عليها القراء السبعة والعشرة (أو ملكين) بكسرها كما في قراءة شاذة وهما كانا ببابل أنزل عليهما السحر ولا معنى للاختلاف فيهما إذ الرواية الشاذة الغير المعتبرة لا تقاوم القراءة المتواترة على أنه يمكن الجمع بينهما بأنهما ملكان في أصلهما نزل على صورة ملكين حاكمين في عهدهما، (وهل ما في قوله تعالى وَما أُنْزِلَ [البقرة: 102] ) أي على الملكين (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ [البقرة: 102] نافية) فيهما فيكون عطفا على ما كفر أي وما كفر سليمان ولا أنزل على الملكين أي جبريل وميكائيل فإن سحرة اليهود زعموا أن السحر أنزل على لسانهما إلى سليمان فردهم الله به (أو موجبة) أي ثابتة موصولة معطوفة على السحر على الصحيح والمراد بهما واحد والعطف لتغاير الاعتبار أو يراد به نوع أقوى منه أي ويعلمونهم ما الهما أو معطوفة على ما تتلوا قال البيضاوي وهما ملكان انزلا لتعليم السحر ابتلاء من الله تعالى للناس وتمييزا بينه وبين المعجزة وإذا عرفت هذا الاختلاف إجماعا فاعلم ما يبين لك المصنف تفصيلا (فَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى امْتَحَنَ النَّاسَ بالملكين) بفتح اللام (لتعليم السّحر وتبيينه) في مقام تعيينه (وأن علمه) أي تعلمه وفي نسخة عَمَلَهُ (كُفْرٌ، فَمَنْ تَعَلَّمَهُ كَفَرَ، وَمَنْ تَرَكَهُ آمن) بمد الهمزة أي دام على إيمانه ولم يكفر ولا يبعد أن يكون بفتح الهمزة وكسر الميم أي أمن من الوقوع في الكفر واعلم أن استعمال السحر كفر عند أبي حنيفة ومالك وأحمد وعند الشافعي استعماله من الكبائر إذا لم يعتقد جوازه ولم يكن في السحر ما يوجب الكفر وظاهر الآية يؤيد إطلاق قول الأئمة الثلاثة حيث؛ (قال الله تعالى خبرا عنهما وما يعلمان من أحد حتى يقولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ [الْبَقَرَةِ: 102] وَتَعْلِيمُهُمَا النّاس له) مبتدأ خبره (تعليم إنذار) أي تخويف وانكار (أي يقولان لمن جاء يطلب تعلّمه منهما لا تفعلوا) وفي نسخة لا تفعل (كذا) أي لا تتعلمه (فإنّه يفرّق بين المرء وزوجه) أي هو سبب للتفريق بينهما بإيجاد الله عنده البغض والنشوز في قلوبهما فالسحر له بنفسه أثر يحدثه الله عند تعاطيه وقد لا يحدثه بدليل قوله تعالى وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ (ولا تتخيّلوا) بخاء معجمة من التخيل وفي نسخة لا تخيلوا من التخييل من باب التفعيل وهو ظن الشيء على خلاف ما هو
عليه ومنه قوله تعالى يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى وفي نسخة لا تتحيلوا بالحاء المهملة (بكذا) أي وكذا (فإنّه سحر فلا تكفروا فعلى هذا) التفسير (فعل الملكين طاعة) بلا شبهة (وتصرّفهما فيما أمرا به) بما أنزل عليهما (ليس بمعصية) وفي نسخة معصية أي مخالفة (وهي) أي هذه الحالة (لغيرهما فتنة) أي ابتلاء ومحنة، (وروى ابن وهب) وهو عبد الله بن وهب المصري المعلم وقد تقدم (عن خالد بن أبي عمران) التجيبي التونسي قاضي إفريقية يروي عن عروة وجماعة وعنه الليث بن سعد وعدة صدوق فقيه عابد ثقة (أَنَّهُ ذُكِرَ عِنْدَهُ هَارُوتُ وَمَارُوتُ وَأَنَّهُمَا يُعَلِّمَانِ) أي الناس كما في نسخة (السّحر فقال نحن ننزّههما عن هذا) أي عن تعليم السحر لأنه كفر أو كبيرة ويروى عن هذه النقيصة (فَقَرَأَ بَعْضُهُمْ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ [الْبَقَرَةِ: 102] ) بناء على أن ما موصولة وهاروت وماروت بدل منهما فيكون حجة على إثباته لهما (فقال خالد) دفعا لما ورد عليه بقوله وَما أُنْزِلَ معناه أنه (لم ينزل عليهما) بناء على كون ما نافية (فهذا خالد على جلالته) أي عظيم رتبته (وعلمه) أي وكثرة معرفته (نَزَّهَهُمَا عَنْ تَعْلِيمِ السِّحْرِ الَّذِي قَدْ ذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّهُمَا مَأْذُونٌ لَهُمَا فِي تَعْلِيمِهِ بِشَرِيطَةِ أن يبيّنا أنه كفر وأنّه) أي أمرهما (امتحان من الله تعالى وابتلاء) أي اختبار لخلقه وليس فيه محظور ولا يترتب عليه محذور ويمكن الجمع بأن المثبت يحمل أمرهما على أنهما مأموران والنافي على ضد ذلك فيرتفع الخلاف هنالك، (فكيف لا ينزّههما عن كبائر المعاصي) من قتل النفس والزنا وشرب الخمر (والكفر) من السجدة للصنم (المذكورة في تلك الأخبار) المسطورة المشهورة وقد قدمنا دفع الإشكال حيث حملنا حالهما حينئذ على سلب ماهية الملكية عنهما وتركيب الشهوة البشرية فيهما والكلام في حق الملائكة الثابتة على جبلتهم الأصلية بخلاف الأحوال العارضية، (وَقَوْلُ خَالِدٍ لَمْ يُنْزَلْ يُرِيدُ أَنَّ مَا نافية) كما قدمناه (وهو قول ابن عباس) أي رواية عنه، (قال مكّيّ وتقدير الكلام) على قول خالد تبعا لابن عباس أن ما نافية عطفا على قوله تعالى (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ يريد) أي الله سبحانه وتعالى أن سليمان ما كفر (بالسّحر الّذي افتعلته عليه) أي افترته عليه (الشّياطين واتّبعهم في ذلك اليهود) فإن الشياطين كتبوا السحر ودفنوه تحت كرسيه ثم لما مات سليمان عليه السلام أو نزع منه ملكه استخرجوه وقالوا تسلطه في الأرض بهذا السحر فتعملوه وبعضهم نفوا نبوته وقالوا ما هو إلا ساحر فبرأه الله مما قالوا فقال وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ، قَالَ مَكِّيٌّ هُمَا) يعني الملكين اللذين لم ينزل عليهما (جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ ادَّعَى الْيَهُودُ عَلَيْهِمَا الْمَجِيءَ بِهِ كَمَا ادَّعَوْا عَلَى سُلَيْمَانَ فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ فِي ذلك) فإن سحرة اليهود زعموا أن السحر أنزل على لسانهما إلى سليمان فردهم الله تعالى وعلى هذا فقوله ببابل متعلق بيعلمون وهاروت وماروت اسمان لرجلين صالحين سيما ملكين باعتبار صلاحهما ويؤيده قراءة الملكين بالكسر ابتلاهما الله بالسحر وقعا بدل بعض من الشياطين هذا وعن مجاهد وسعيد بن جبير وغيرهما أن سليمان أخذ ما في أيدي الشياطين من السحر ودفنه
تحت كرسيه ثم لما مات أخرجه الإنس بتعليم الجن وعملوا به وعن الحسن ثلث ما أخرجوا من تحت كرسيه شعر وثلثه سحر وثلثه كهانة (وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا) قرئ في السبعة بتشديد لكن وتخفيفها (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ [البقرة: 102] ببابل) قرية بالعراق ومنع صرفه للعلمية والتأنيث أو العجمة وعن ابن مسعود لأهل الكوفة أنتم بين الحرة وبابل وقيل بابل موضع بالمغرب وهو بعيد ولعله اسم مشترك وإنما الكلام في المراد والله تعالى اعلم (هاروت وماروت) سبق أنهما ملكان في أصلهما وقع منهما ما وقع ثم ابتليا بتعليم السحر للخلق ابتلاء من الحق (قيل هما رجلان تعلّماه) ويؤيده أنه، (قال الحسن) أي البصري رحمه الله تعالى (هاروت وماروت علجان) تثنية علج بكسر أوله وقد يفتح وهو الشديد القوي الغليظ الجافي والمعنى أنهما كافران من العجم (من أهل بابل، وقرأ) أي الحسن (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ [الْبَقَرَةِ: 102] بِكَسْرِ اللَّامِ) بناء على أنهما كانا من بابل أنزل عليهما السحر ابتلاء من الله تعالى لهما ولغيرهما (وتكون ما) في الآية حينئذ (إيجابا) أي موصولة لا نافية (على هذا ومثله) أي ومثل قراءة الحسن، (قراءة عبد الرّحمن بن أبزى) بموحدة ساكنة وزاء مقصورا (بكسر الّلام) قال صليت خلف النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وكان لا يتم التكبيرات انتهى ونقل الذهبي عن البخاري أن له صحبة عن ابن أبي حاتم أنه صلى خلف النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقال الكلابادي له صحبة وحدث عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وكذا في الإكمال قال إنه صحابي وقال ابن أبي داود أنه تابعي وقال ابن قرقول في مطالعه إنه لم يدرك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وفي التجريد للذهبي عده في الصحابة وكذا النووي في التهذيب وقد روي عن أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، (ولكنّه) أي ابن أبزى (قال الملكان هنا) أي في آية وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ (داود وسليمان وتكون ما) على قراءته (نفيا على ما تقدّم) عن اليهود أنهم كانوا ينسبون إنزال السحر تارة إلى جبريل وميكائيل وأخرى إلى داود وسليمان؛ (وقيل كانا ملكين) أي آخرين (من بني إسرائيل) ساحرين (فمسخهما الله، حكاه السّمرقنديّ) وهو الفقيه أبو الليث (والقراءة بكسر اللام شاذّة) أي ليست متواترة (فمحمل الآية) وروي فحمل الآية أي آية وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ (على تقدير أبي محمد مكيّ) بجعل ما نافية عطفا على ما كَفَرَ سُلَيْمانُ (حسن) لو قيل إنهما لم يؤمرا بتعليم السحر للناس ابتلاء وامتحانا لهم إما على القول بأنهما مأموران بما ذكر فلا حاجة إلى ارتكاب القول بجعل ما نافية لمخالفته ظاهر الآية ولأن فعلهما ذلك حينئذ طاعة (ينزّه الملائكة) عن الخروج عن الطاعة بارتكاب المعصية (ويذهب الرّجس عنهم) أي جنس الذنب (ويطهّرهم تطهيرا) بالعصمة عن العيب (وقد وصفهم الله تعالى) أي الملائكة (بأنّهم مطهّرون) من الأدناس (وكِرامٍ بَرَرَةٍ [عبس: 16] ) عند الله تعالى وعند الناس (ولا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ [التحريم: 6] ) في جميع الأنفاس ومجمل الكلام في هذا المقام أن الأصح عند العلماء الكرام في هذه القصة أن الملكين بفتح
اللام يراد بهما هاروت وماروت وما موصولة وبكسر اللام يراد بهما داود وسليمان عليهما اللام وما نافية وكذا إذا فسر الملكين بفتح اللام بجبريل وميكائيل يكون ما نافية فارتفع الخلاف في المرام واجتمع نظام الالتئام (وممّا يذكرونه) أي الطائفة القائلة بعدم عصمة جميعهم ويستدلون به (قصّة إبليس) ويروى من قصة إبليس (وإنه كان من الملائكة) على زعمهم (ورئيسا فيهم) وفيه أنه لا يلزم من كونه رئيسا فيهم أنه في أصله منهم (ومن خزّان الجنّة) بضم الخاء وتشديد الزاء أي خزنتها (إلى آخر ما حكوه) وليس فيه دلالة على ما ادعوه (وأنه) أي الله سبحانه وتعالى (اسْتَثْنَاهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بِقَوْلِهِ: فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ [البقرة: 34] ) والأصل في الاستثناء أن يكون متصلا إلا أنه قيل بانقطاعه لقوله تعالى كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ وبأن الملائكة ليس لهم ذرية وقال تعالى أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ والملائكة ليس هم اعداء لنا (وهذا) وروي وهو أي القول بأنه من الملائكة (أيضا) قول طائفة قليلة (لم يتّفق عليه) بين العلماء (بل الأكثر منهم ينفون ذلك) القول بأنه منهم (وأنه أبو الجنّ) عندهم على الصحيح (كما آدم أو الإنس وهو) أي القول بأنه أبو الجن (قول الحسن وقتادة وابن زيد) وإنما استثنى منهم لأنه كان مغمورا بين الوف منهم فأمر بالسجود لآدم معهم ثم استثنى استثناء واحد منهم بقوله فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ والحاصل أنه استثناء متصل مجازا أو منقطع حقيقة ولا يبعد أن يقال جمعا بين الأقوال أنه كهاروت وماروت كان من جنس الملائكة لكن الله سبحانه وتعالى خلق في جبلته المعصية فتغير عن حالته الأصلية فخالف أمر الالهي في السجدة الصورية فانتقل إلى الخلقة الجنية وحصلت منه الذرية، (وقال شهر بن حوشب) بفتح الحاء المهملة فواو ساكنة فشين معجمة مفتوحة فموحدة يروي عن مولاته اسماء بنت يزيد وعن ابن عباس وأبي هريرة وعنه مطر الوراق وثابت وثقه ابن معين وأحمد وضعفه شعبة وقال النسائي ليس بالقوي توفي سنة مائة أخرج له الأربعة (كان) أي إبليس (مِنَ الْجِنِّ الَّذِينَ طَرَدَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ فِي الْأَرْضِ حين أفسدوا) يعني، (والاستثناء) بقوله إِلَّا إِبْلِيسَ منقطع لأنه من غير الجنس المستثنى هو منه وهو أي الاستثناء (مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ شَائِعٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ) نظما ونثرا (سائغ) بسين مهملة وغين معجمة أي جائز من ساغ الشراب في الحلق إذا جاوزه بسهولة وفي نسخة زيادة وشائع بشين معجمة وعين مهملة أي فاش ذائع من شاع الخبر إذا ذاع ومنه كل سر جاوز الاثنين شاع (وقد قال الله تعالى) تكذيبا لمن زعم قتل عيسى (مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ [النساء: 157] ) لأن اتباعه ليس من جنس العلم فهو استثناء منقطع أي ولكنهم اتبعوا فيه ظنهم (وممّا رووه) أي الطائفة القائلة بعدم عصمة جنس الملائكة (في الأخبار) كابن جرير عن ابن عباس وابن أبي حاتم عن يحيى بن كثير (أن خلقا من الملائكة عصوا الله تعالى فحرّقوا) أي أحرقوا (وَأُمِرُوا أَنْ يَسْجُدُوا لِآدَمَ فَأَبَوْا فَحُرِّقُوا ثُمَّ آخرون كذلك حتّى سجد له) أي لآدم (من ذكر الله) أي جميع الملائكة (إِلَّا إِبْلِيسَ فِي أَخْبَارٍ لَا أَصْلَ لَهَا)
مما يعتمد عليها (تردّها صحاح الأخبار فلا يشتغل) أي فينبغي أن لا يشتغل (بها) ويروى بهذا وفي نسخة بصيغة المتكلم ثم على تقدير صحتها يحمل على أن الله تعالى غير ماهيتهم عن أصل جبلتهم وعصمتهم فوقع فيهم ما أراد الله من معصيتهم وهذا كقضية بلعم بن باعوراء حيث تغير عن جبلته إلى صورة كلب وماهيته وعكسه كلب أصحاب الكهف وقد ورد أن بلعم يدخل النار بصورة ذلك الكلب وذلك الكلب يدخل الجنة بصورة بلعم ثم رأيت في حاشية الأنطاكي روي أن الله تعالى لما خلق الأرض خلق لها سكانها من بني الجن من نار فركبت فيهم الشهوة وأمرهم ونهاهم فلما سكنوا فيها أفسدوا وعصوا أمر ربهم وسفكوا الدماء فأنزل الله تعالى نارا من السماء فأحرقتهم إلا إبليس سأله من الله ملك من الملائكة فوهب له ثم خلق الله ثانيا وثالثا مثلهم ففعلوا ذلك فأهلكهم الله عز وجل (والله أعلم) وفي نسخة والله سبحانه وتعالى الموفق وزيد في نسخة للصواب.