الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على الأغلب ثم الأنسب أن يقال هذا النعت من خصائص يحيى عليه السلام وأنه من صغره إلى كبره ما هم بمعصية قط ولا خطر بباله سيئة قبل البعثة فضلا عما بعد النبوة ولذا قيل في قوله تعالى وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا أي نبئ في أوله أمره ونشأة عمره ولذا امتنع من اللعب مع أقرانه في حال صغره وقد اعطي عيسى عليه الصلاة والسلام أيضا النبوة من أول الوهلة ما يشير إليه قوله تعالى حكاية عنه إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وهو يوم القيامة لم يذكر له ذنبا كسائر أولي العزم من الرسل إلا أنه يتعلل بأنه عبد من دون الله وهو بلا شبهة ما كان يريده ويرضاه لكنه يحتمل أنه هم ببعض الذنوب وتركه خشية من الله فحصر الحكم في يحيى يستقيم بهذا التأويل القويم والله تعالى اعلم ثم إن الحديث الذي أورده المصنف ضعيف فلا يجوز الاحتجاج به على ما أجاب عنه النووي والمصنف إنما أجاب عنه على تقدير صحته ثم اعلم أن هذا الحديث رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده عن زهير عن عفان عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن يوسف بن مهران عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال ما من أحد من ولد آدم إلا وقد اخطأ أو همّ بخطيئة ليس يحيى بن زكريا أي إلا يحيى ولعل هذا لدعاء زكريا وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا أي مرضيا وهذا إسناد ضعيف لأجل علي بن زيد بن جدعان وإن كان حافظا لكنه ليس بالثبت وقد أخرج له مسلم والأربعة ويوسف بن مهران انفرد عنه علي بن زيد بن جدعان وقد وثقه أبو زرعة وقال أبو حاتم يكتب حديثه ويذاكر به أخرج له البخاري في تاريخه وظاهر هذا الإسناد أنه حسن لا ضعيف ولا صحيح والله سبحانه وتعالى اعلم.
فصل (فَإِنْ قُلْتَ فَإِذَا نَفَيْتَ عَنْهُمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ عليهم الذّنوب)
أي الكبائر (والمعاصي) أي الصغائر (بِمَا ذَكَرْتَهُ مِنَ اخْتِلَافِ الْمُفَسِّرِينَ وَتَأْوِيلِ الْمُحَقِّقِينَ) في الفصل السابق وحاصله أن حسنات الأبرار سيئات المقربين (فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى [طه: 121] ) أي جهل حكمه (وَمَا تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مِنَ اعتراف الأنبياء بذنوبهم) في الدنيا أو يوم القيامة (وتوبتهم) أي عن تقصيرهم في طاعتهم (واستغفارهم) أي طلب مغفرتهم عن سهوهم وغفلتهم (وبكائهم على ما سلف منهم) في حالتهم كداود إذ قد ورد أنه بكى حتى بلت دموعه الأرض (وإشفاقهم) أي من عقوبتهم في عاقبتهم (وهل يشفق) بصيغة المجهول أي يخاف (ويتاب ويستغفر من لا شيء) أي من غير شيء هو باعث وفي نسخة من لا يسيء أي لا يذنب على أن الأفعال الثلاثة فيما قبله مبنية للفاعل (فَاعْلَمْ وَفَّقَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ أَنَّ دَرَجَةَ الْأَنْبِيَاءِ في الرّفعة والعلوّ) أي علو الرتبة (والمعرفة بالله) واتصافه بنعوت جلاله وعظمته وكبريائه (وسنّته) أي عادته الجارية (في عباده وعظم سلطانه) وكريم برهانه وعلو شأنه وفي نسخة وعظم سلطانه (وقوّة بطشه) أي أخذه بالقهر والغلبة (مِمَّا يَحْمِلُهُمْ عَلَى
الخوف منه جل جلاله وعظم كماله (والإشفاق) أي وعلى الحذر (مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ بِمَا لَا يُؤَاخَذُ بِهِ غَيْرُهُمْ) كما يشير إليه قوله تعالى إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ وحديث أنا اعلمكم بالله وأخشاكم له (وأنّهم في تصرّفهم بأمور) أي مباحة (لَمْ يُنْهَوْا عَنْهَا وَلَا أُمِرُوا بِهَا ثُمَّ أوخذوا) وفي نسخة وخذوا أي عوقبوا (عليها وعوتبوا بسببها وحذّروا) أي احترسوا وفي نسخة حذروا بتشديد الذال على بناء المجهول أي خوفوا (من المؤاخذة بها وأتوها) أي فعلوها (على وجه التّأويل أو السّهو) أي الخطأ والغفلة (أو تزيّد) بفتح التاء والزاء وتشديد الياء أي على وجه طلب زيادة (من أمور الدّنيا المباحة خائفون) أي وهم مشفقون (وجلون) أي حذرون مضطربون (وهي ذنوب بالإضافة إلى عليّ منصبهم) بفتح العين وكسر اللام وتشديد الياء أي علوه (ومعاص بالنّسبة إلى كمال طاعتهم) وجمال عبادتهم (لا أنّها كذنوب غيرهم ومعاصيهم) أي معاصي غيرهم كما أن طاعات الأنبياء وإيمانهم ليست كطاعات الأمم وإيمانهم في مراتب ايقانهم واتقانهم فلا يقاس الملوك بالحداد والصعلوك (فإنّ الذّنب مأخوذ من الشّيء الدّني) أي الحقير الخسيس (الرّذل) بفتح الراء وسكون الذال المعجمة أي المذموم الردي (ومنه ذنب كلّ شيء) بفتحتين (أي آخره وأذناب النّاس رذّالهم) بضم أوله وتخفيف ثانيه جمع رذل أي خسيستهم وفي نسخة أراذلهم جمع ارذل (فكأن) بتشديد النون وفي نسخة فكان وفي أخرى فكانت (هذه) أي الأمور التي تصرفوا فيها (أدنى أفعالهم) أي أردأها (وأسوأ ما يجري من أحوالهم) بالإضافة إلى أعلى مراتب أفعالهم (لتطهيرهم وتنزيههم) عما لا يليق بهم (وعمارة بواطنهم وظواهرهم بالعمل الصّالح) مما أمروا به واجبا أو مندوبا (والكلم الطّيّب) من تهليل وتسبيح وتكبير واذكار ودعاء واستغفار وفيه إشارة إلى قوله تعالى إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وفي الحديث أن الكلم الطيب سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر إذا قالها العبد عرج بها الملك فحيى بها وجه الرحمن فإذا لم يكن له عمل صالح لم تقبل (والذّكر الظّاهر) أي الجلي (والخفيّ) أي الباطن وفي الحديث خير الذكر الخفي (والخشية لله) لما تقدم من الآية والحديث (وإعظامه في السّرّ والعلانية) بتحسين النية وتزيين الطوية (وغيرهم) من عوام الأمة (يتلوّث) أي يتلطخ بقاذورات الذنوب (من الكبائر والقبائح) أي الشاملة اللصغائر (والفواحش) أي اعظم الكبائر وهو ما يتعلق بحقوق العباد (ما) وكان حقه أن يقول كما في نسخة بما أي يتلوث غيرهم بأشياء (تكون هذه الهنات) بفتح الهاء والنون أي العثرات والزلات وفي نسخة الهيئات بفتح الهاء وسكون الياء وهمزة ممدودة أي الحالات وفي نسخة بالإضافة إلى هذه الهنات ويروى بالإضافة إليه هذه الهنات فالهنات بالرفع فاعل تكون والمعنى تكون الهنات التي صدرت عن أصحاب النبوات بالإضافة إليه على أن الضمير في إليه يعود إلى ما أي بالنسبة إلى ما يتلوث به ذلك الغير من السيئات (في حقّه) أي في حق غيرهم (كالحسنات) بل حسنات إذ ليست في الحقيقة سيئات بل طاعات (كما قيل حسنات الأبرار) أي من المؤمنين (سيّئات
المقرّبين) من الأنبياء والمرسلين (أي يرونها) أي يظنون تلك الحسنات (بالإضافة إلى عليّ أحوالهم كالسّيّئات) وهذا كما قيل كان المقربون أشد استعظاما للزلة الصغيرة من الإبرار للمعصية الكبيرة وكانوا فيما أحل لهم أزهد من الإبرار فيما حرم عليهم وكان الذي لا بأس به عند الإبرار كالموبقات عند أولئك الأخبار فبين المقامين بون بين (وكذلك العصيان) أي معناه (التّرك) أي ترك الموافقة (والمخالفة) في الطاعة إلا أنه إن كان عن عمد فذنب ومعصية وإلا فزلة وعثرة (فعلى مقتضى اللّفظة) أي إطلاقها (كيف ما كَانَتْ مِنْ سَهْوٍ أَوْ تَأْوِيلٍ فَهِيَ مُخَالَفَةٌ وترك) أي وترك طاعة إما حقيقة وإما صورة (وقوله غوى أي جهل) وكان الأحسن في العبارة أن يقول لم يعرف (أنّ تلك الشّجرة) المأكول منها (هي التي نهي عنها) أي بعينها أو غيرها من جنسها فأكل منها غير عالم أنها هي بخصوصها وهذا معنى قوله تعالى فَنَسِيَ (والغيّ الجهل) وأصل معنى غوى ضل وقد يأتي متعديا فيكون المعنى أنه أغوته حواء بأن تبعها في الهوى (وقيل) أي في معنى غوى (أَخْطَأَ مَا طَلَبَ مِنَ الْخُلُودِ إِذْ أَكَلَهَا) إذ تعليلية والمعنى لأنه أكلها (وخابت أمنيّته) بضم الهمزة وكسر النون وتشديد التحتية وهي ما يتمنى والجمع أماني مشددا ويخفف (وهذا يوسف عليه السلام قد ووخذ) بواوين وفي نسخة أوخذ أي عوتب (بقوله لأحد صاحبي السّجن) أي ساكنه معه وهو الشرابي للملك (اذْكُرْنِي) أي حالي عِنْدَ رَبِّكَ) أي سيدك ليخلصني من سجني (فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) مصدر مضاف إلى مفعوله أي أنساه ذكر يوسف لسيده (فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ) أي مكث في الحبس (بِضْعَ سِنِينَ [يوسف: 42] ) وأكثر ما قيل إنه عليه السلام لبث فيه سبع سنين وقيل لبثها سبعا أي بعد قوله اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ (قيل أنسي يوسف) بصيغة المجهول أي أنساه السيطان (ذكر الله تعالى) حتى استعان بما سواه؛ (وَقِيلَ أُنْسِيَ صَاحِبُهُ أَنْ يَذْكُرَهُ لِسَيِّدِهِ الْمَلِكِ) كما قدمناه وفي الجملة، (قال النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم لولا كلمة يوسف) أي هذه (ما لبث في السّجن ما لبث) أي مدة لبثه وفي رواية رحم الله أخي يوسف لم يقل اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ لما لبث في السجن سبعا بعد الخمس على ما بيناه والاستعانة في كشف شدائد البلاء وإن كانت محمودة في الجملة لكن لا تليق بمنصب الأنبياء والكمل من الأولياء والاصفياء ونظيره ما حكي عن الجنيد أنه كان في جنازة فرأى سائلا يسأل فخطر بباله لو اكتسب هذا لكان خيرا له من أن يسأل فرأه في منامه ميتا ويقال له كل منه فقال كيف آكل منه وهو آدمي فقيل له إنك اغتبته فقال معاذ الله وإنما خطر ببالي ذلك فقيل له إنا لا نرضى من مثلك بهذا (قال ابن دينار) من اجلاء التابعين واسمه مالك مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة وهو من أجل علماء البصرة وزهادهم يروي عن أنس وسعيد بن جبير وثقه النسائي وغيره وقد ذكره ابن حبان في الثقات أخرج له الأربعة وعلق له البخاري وقد رواه ابن أبي حاتم أيضاف عن أنس موقوفا (لمّا قال ذلك يوسف) أي اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ (قيل له) أي بالوحي الجلي أو الخفي وهو الإلهام الغيبي (أتّخذت من
دوني وكيلا) بهمزة الاستفهام الانكاري مقررا أو مقدرا (لأطيلنّ حبسك) أي عن غيري لتطمئن إلى أمري وتسلم لي في قضائي وقد روي وتعرف حقيقة قدري فحبسه كان تهذيبا لا تعذيبا كالأربعين للمريدين تأديبا وتدريبا، (فقال) أي يوسف اعتذارا (يا ربّي أنسى قلبي كثرة البلوى) النازلة على قلبي من حين ألقيت في جبي وفورق بيني وبين أبي وحبي؛ (وقال بعضهم يؤاخذ) بصيغة المفعول وفي نسخة بالفاعل وفي أخرى أخذ (الأنبياء بمثاقيل الذّرّ) أي من محقرات الأمر (لمكانتهم عنده) أي لرفعة مرتبتهم لديه في القدر (ويجاوز) بالوجهين وفي نسخة ويتجاوز وفي أخرى وتجاوزه (عن سائر الخلق لقلّة مبالاته بهم) أي لعدم عنايته ورعايته وحمايته فيهم وإلا لكانوا كلهم اصفياء من انبياء أو أولياء (في أضعاف ما أتوا به) بقصر الهمزة أي ما فعلوه (من سوء الأدب) أي كالجبال في مخالفة أمر الرب (وقد قال المحتجّ للفرقة الأولى) أي اعترض المستدلي الموافق للطائفة السابقة القائلة بإثبات المعصية للأنبياء بعد البعثة وأورد (على سياق ما قلناه) ولحاق ما أولناه بطريق السؤال لما ظهر له من الإشكال حيث قال (إذا كان الأنبياء يؤاخذون بهذا) الحال والمنوال (مِمَّا لَا يُؤَاخَذُ بِهِ غَيْرُهُمْ مِنَ السَّهْوِ والنّسيان) في الأقوال والأفعال (وما ذكرته) من حالهم بأنهم يؤاخذون بمثاقيل الذر مما لا يؤاخذ به غيرهم في مقادير الجبال (وحالهم أرفع) جملة حالية أي والحال أنهم أرفع درجة في نفس الأمر (فحالهم إذن) أي حينئذ (في هذا) أي في حق المؤاخذة (أسوأ حالا من غيرهم) حيث يعاملون بالمسامحة والمساهلة وهذا من خسافة العلم ورثاثة الفهم إذ لم يهتد إلى أن الأرفع درجة والأقرب منزلة من ربه لا يسامح بما يسامح البعيد عن مقام قربه كالوزراء والأمراء بالنسبة إلى الملوك إذا كانوا على بساط الانبساط يخالف عليهم أقوى من الرعايا في المفازات البعيدة المشتغلين بأنواع النشاط ومن هنا يعلم معنى قوله تعالى إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ وحديث أنا أخشاكم له واتقاكم إذا عرفت ذلك مجملا، (فاعلم) ما سنلقي إليك مفصلا (أكرمك الله أنّا لا نثبت) بالتشديد والتخفيف (لك) أي مخاطبا لك ومبينا لأجلك (المؤاخذة) أي مؤاخذتهم (في هذا) الباب (على حدّ مؤاخذة غيرهم) من حلول العقاب وحصول الحجاب الدنيوي أو الأخروي؛ (بل نقول إنّهم) أي الأنبياء ونحوهم من العلماء (يؤاخذون بذلك في الدّنيا ليكون ذلك) مع كونه كفارة لما صدر عنهم هنالك (زيادة) أي لهم كما في نسخة (في درجاتهم) في العقبى (ويبتلون) بضم الياء وفتح اللام على صيغة المجهول أي ويمتحنون (بذلك) أي بمؤاخذة ربهم (ليكون استغفارهم له) وفي أصل الأنطاكي ليكون استشعارهم له أي ليكون وقوع ذلك في قلوبهم (سببا لمنماة رتبهم) بفتح الميم الأولى أي لزيادة مراتبهم ومزية مناقبهم (كما قال) عز من قائل في حق آدم عليه الصلاة والسلام (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى [طَهَ: 122] ) وقال في حق يونس عليه الصلاة والسلام فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ أي الكاملين في الصلاح القائمين بحقوق الله تعالى وحقوق العباد على وجه الفلاح (وقال تعالى لداود) أي في حقه ولأجله (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ [ص: 35] الآية) أي
وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (وَقَالَ بَعْدَ قَوْلِ مُوسَى تُبْتُ إِلَيْكَ. إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ [الأعراف: 144] ) أي برسالاتي وبكلامي (وَقَالَ بَعْدَ ذِكْرِ فِتْنَةِ سُلَيْمَانَ وَإِنَابَتِهِ فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ [ص: 36] إِلَى وَحُسْنَ مَآبٍ [ص: 25] ) أي إلى قوله وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ وأمثال ذلك مما ورد في هذا الباب (وقال بعض المتكلّمين) من أرباب الإشارات (زلّات الأنبياء في الظّاهر زلّات) أي عثرات تستوجب ملامات (وفي الحقيقة كرامات وزلف) بضم الزاء وفتح اللام أي قربات ومكرمات (وأشار إلى نحو ممّا قدّمناه) من مستحسنات عبارات (وأيضا فلينبّه) من التنبيه بصيغة المجهول أو من الانتباه بصيغة المعلوم (غيرهم من البشر) وهم خواص أمتهم وأولياء ملتهم وعلماء شريعتهم (منهم) أي من جهة أحوالهم (أو ممّن ليس في درجتهم) من أهل النبوة لتفاوت مرتبتهم (بمؤاخذتهم بذلك) أي بمعاتبتهم بما فعلوا هنالك (فيستشعروا الحذر ويعتقدوا المحاسبة) فيما قل وكثر (ليلتزموا الشّكر على النّعم) بأن سلموا من موجب النقم (ويعدّوا) بضم الياء وكسر العين وتشديد الدال أي ويهيئوا (الصّبر على المحن) عند ابتلائهم بالفتن (بملاحظة ما وقع) أي حل (بأهل هذا النّصاب) أي القدر الكامل من النصب ويروى هذا النمط أي الطريق (الرّفيع) في الرتبة (المعصوم) أي المحفوظ من الفتنة والمحنة (فكيف بمن سواهم) ممن يدعي المحبة والمتابعة في طريق المودة، (ولهذا قال صالح المرّيّ) بضم الميم وتشديد الراء نسبة إلى قبيلة بني مرة وهو الواعظ الزاهد يروي عن الحسن البصري وعنه يونس المؤدب ويحيى بن يحيى ضعفوه وقال أبو داود لا يكتب حديثه وقال الترمذي له غرائب ينفرد بها ولا يتابع عليها وهو رجل صالح وقد أخرج له الترمذي (ذكر داود) مبتدأ أي ذكر الله تعالى قصة داود خبره (بسطة للتّوّابين) أي تسلية ونشاط وسبب انبساط للمذنبين ليتهيأوا للتوبة ولا ييأسوا من الرحمة (قال ابن عطاء) وهو من العلماء الأجلاء (لم يكن ما نصّ الله تعالى من قصّة صاحب الحوت) وهو يونس عليه السلام (نقصا له) في المرتبة (ولكن) كان نصه (استزادة من نبيّنا عليه الصلاة والسلام في علو الدرجة (وأيضا فيقال لهم) أي للقائلين بجواز صدور المعصية عن ارباب النبوة بعد البعثة بطريق الالزام في القضية (فإنّكم ومن وافقكم) في هذه العقيدة (تقولون) أي اتقولون (بغفران الصّغائر باجتناب الكبائر) أي بمجرد اجتنابها فيلزم منه غفران الكبائر (ولا خلاف) أي بيننا وبينكم (فِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْكَبَائِرِ فَمَا جَوَّزْتُمْ من وقوع الصّغائر عليهم) أي بالفرض والتقدير (هي مغفورة على هذا) التقرير (فما معنى المؤاخذة بها إذا) أي حينئذ (عندكم) مع قولكم إنهم منزهون عن الكبائر (وخوف الأنبياء) أي وما معنى خوف الأنبياء من الصغائر (وتوبتهم منها وهي مغفورة لهم) أي لاجتنابهم الكبائر (لو كانت) أي الصغائر موجودة (فما أجابوا به) لنا (فهو جوابنا عن المؤاخذة بأفعال السّهو والتّأويل) وفيه أن مذهب أهل السنة والجماعة أنه يجوز العقوبة على الصغائر لو اجتنب مرتكبها الكبائر لدخولها تحت قوله تعالى وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ نعم ذهب بعض المعتزلة إلى أنه إذا اجتنب الكبائر لم يجز تعذيبه
بالصغائر لا بمعنى أنه يمتنع عقلا بل بمعنى أنه لا يجوز أن يقع لقيام الأدلة السمعية على أنه لا يقع مستدلا بظاهر قوله تعالى إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وأجيب بأن الكبيرة المطلقة هي الكفر لأنه الكامل في المعصية وجمع الاسم بالنظر إلى أنواع الكفر الصادر من اليهود والنصارى والمشركين وإن كان الكل ملة واحدة في حكم الكفر أو إلى أفراده القائمة بأفراد المخاطبين فيكون من قبيل مقابلة الجمع بالجمع فيكون التقدير أن تجتنبوا أنواع الكفر نكفر عنكم سيئاتكم السابقة وأما اللاحقة فهي تحت المشيئة للآية المتقدمة فالخطاب على هذا للكفرة أو المعنى إن تجتنبوا الكبائر نكفر عنكم الصغائر بالحسنات من الطاعات كالصلاة والزكاة وسائر العبادات والله سبحانه وتعالى أعلم بحقيقة الحالات، (وَقَدْ قِيلَ إِنَّ كَثْرَةَ اسْتِغْفَارِ النَّبِيِّ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم وتوبته) أي بوصف كثرته (وغيره من الأنبياء) إنما كان (على وجه ملازمة الخضوع والعبوديّة) ولوازمها من المسكنة والخشوع (والاعتراف بالتّقصير) في القيام بحق العبودية كما يقتضيه كمال الربوبية وجمال الألوهية (شكرا لله على نعمه) أي من إحسانه وكرمه (كما قال عليه الصلاة والسلام وقد أمن) بفتح فكسر وفي نسخة بضم فتشديد ميم مكسور مجهول من باب التفعيل وليس كما قال الأنطاكي الظاهر إنه غلط إذ البناء المجهول من هذا الباب أو من بالميم المخففة وأصله أو من قلبت الهمزة الثانية واوا لسكونها وانضمام ما قبلها هذا مقتضى القواعد التصريفية انتهى نعم هذا مقتضاها لو اريد مجهول أمن من باب الأفعال والله اعلم بالأحوال أي والحال أنه قد اعطى الأمن (من المؤاخذة بما تقدّم وما تأخّر) من ذنبه ومع هذا قام في التهجد لربه حتى تورمت قدماه من طول قيامه مع علو مقامه وقلة منامه مغاتبه بعض أصحابه اتفعل هذا وقد غفر الله لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ فقال في جوابه (أفلا أكون عبدا شكورا) أي كثير الشكر لربي على مغفرة ذنبي وشرح صدري وقلبي (وقال) في حديث آخر في جواب من قال يبيح الله لنبيه ما شاء من الأشياء (إنّي أخشاكم لله) وفي نسخة لأخشاكم الله أي أكثركم خشية (وأعلمكم بما أتّقى) أي احذره فأتركه من المعصية والمخالفة ورواه البخاري بلفظ إني لأتقاكم وأخشاكم له وفي رواية أن أخشاكم واتقاكم لله أنا (قال الحارث بن أسد) وفي نسخة سويد والأول هو المعول وهو المحاسبي العارف الزاهد المعروف البصري الأصل صاحب التأليف منها كتاب الرعاية ومنها النصائح ومن جملة كلامه أنه لا يعمل بما فيه خلاف الأولى والمحاسبي بضم الميم نسبة إلى محاسبة نفسه كما في النووي روى عن زيد بن هارون وغيره وعنه ابن مسروق ونحوه وهو ممن اجتمع له علم الظاهر والباطن والشريعة والطريقة والحقيقة ورث من أبيه سبعين ألف درهم فلم يأخذ منها شيئا لأقل ولأجل لأن أباه كان يقول بالقدر فرأى من الورع أن لا يأخذ من ميراثه ومات وهو محتاج إلى درهم واحد وكان إذا مد يده إلى طعام فيه شبهة تحرك على أصبعه عرق فكان يمنع منه وفي هذا من مناقبه توفي سنة ثلاث وأربعين ومائتين (خَوْفُ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ خَوْفُ إِعْظَامٍ وَتَعَبُّدٍ لِلَّهِ) على وجه إجلال واكرام (لأنّهم آمنون) من
وقوع إيلام. (وقيل فعلوا) أي الأنبياء (ذلك) أي إظهار التوبة والاستغفار هنالك (ليقتدى بهم) غيرهم (وتستنّ بهم) أي يتابعهم (أممهم كما قال عليه الصلاة والسلام لو تعلمون ما أعلم) أي من الأهوال وشدائد الأحوال (لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا) رواه أحمد والشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أنس ورواه الحاكم في مستدركه عن أبي ذر وزاد ولما ساغ لكم الطعام والشراب ورواه الطبراني والحاكم والبيهقي عن أبي الدرداء وزاد ولخرجتم إلى الصعدات بضمتين أي الطرقات تجأرون إلى الله تعالى لا تدرون تنجون أو لا تنجون (وَأَيْضًا فَإِنَّ فِي التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ مَعْنًى آخَرَ لطيفا) ومبنى شريفا (أَشَارَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ اسْتِدْعَاءُ مَحَبَّةِ الله) باستقصاء الغيبة عما سواه (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) أي الذين يرجعون إلى الله بتوبتهم عن رؤية حولهم وقوتهم أي عن ملاحظة طاعاتهم وعباداتهم (وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة: 222] ) عن وجودهم وشهودهم وعن جودهم (فإحداث الرّسل والأنبياء) أي إيجادهم وإظهارهم (الاستغفار) وفي نسخة الاستغفار أي طلب المغفرة عل وجه الافتقار وطريق الانكسار (والتّوبّة) عن الغفلة (والإنابة) أي الرجوع من المباح إلى الطاعة (والأوبة) أي الانتقال من حال إلى حال لطلب الكمال (في كلّ حين) من زمان الاستقبال (استدعاء) أي استجلاب (لمحبّة الله) بالرجوع إلى ما يحبه ويرضاه (والاستغفار فيه معنى التّوبة) كما أن فيها معنى الاستغفار فهما متلازمان في مقام الاعتبار والحاصل أنه لا يلزم من الاستغفار والتوبة مباشرة الذنب والمعصية، (وقد قال الله لنبّيه) النبيه (بَعْدَ أَنْ غَفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذنبه وما تأخّر) إن كان هنالك ذنب حقيقي يتصور (لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ [التوبة: 117] الآية) أي الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا الآية والمعنى أنه سبحانه وفقهم للتوبة أو قبل توبتهم أو ثبتهم على التوبة وذكر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم تحسين للتوبة وتزيين للقضية وكذا ذكر المهاجرين والأنصار جبر لخواطر أرباب الانكسار من الثلاثة الذين خلفوا وأظهروا التوبة والاستغفار (وقال) أي لله سبحانه وتعالى (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ) أي اجمع في دعائه بين التسبيح والحمد في ثنائه المشعر بنفي الصفات السلبية وبإثبات النعوت الثبوتية (وَاسْتَغْفِرْهُ) أي اطلب منه المغفرة في المجاوزة عما يصدر منك من الغفلة أو التقصير والفترة (إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً [النصر: 3] ) أي كثير الرجوع عليك بالرحمة صلى الله تعالى عليه وسلم كثيرا يقول سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم وبحمده استغفر الله وأتوب إليه وكان نزول هذه الآية الشريفة بعد فتح مكة المنيفة وفيه إيماء إلى الارتحال بعد تحصيل الكمال والانتقال إلى ما كان له من الحال فالعود أحمد والنهاية هي الرجوع إلى البداية فقد روت عائشة رضي الله تعالى عنها أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان قبل موته يكثر أن يقول سبحانك اللهم وبحمدك استغفرك وأتوب إليك وكان آخر كلامه اللهم الرفيق الأعلى وقد بلغه الله تعالى المقام الأعلى والله تعالى أعلم.