الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذا معنى قوله (فلمّا أخبروه برأيهم رجع عنه) أي عن رأيه، (فمثل هذا) أي ما ذكر عن الحباب ببدر وعن الأنصار في الأحزاب (وأشباهه من أمور الدّنيا) ما لم يكن به الاعتناء (وهي الَّتِي لَا مَدْخَلَ فِيهَا لِعِلْمِ دِيَانَةٍ وَلَا اعتقادها ولا تعليمها) أي مما لم يؤمر به بيانا وتعليما وتبيانا (يجوز عليه فيها ما ذكرناه) وفي نسخة ما ذكروا أي من أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قد يظن شيئا على وجه ويظهر خلافه، (إذ ليس في هذا كلّه نقيصة) أي منقصة (ولا محطّة) له عن رفعة مرتبة وعلو منزلة (وإنّما هي أمور اعتياديّة) اعتادها الناس وألفوها (يعرفها من جرّبها) مرة بعد أخرى (وجعلها همّه) أي غاية همه فيها (وشغل نفسه بها) وعالجها وعاناها (والنبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) يقول في دعائه ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا وهو (مشحون القلب) أي مملوءة (بمعرفة الرّبوبيّة) وما يتعلق بها من آداب العبودية (ملآن الجوانح) أي الاضلاع وفي نسخة الجوارح (بعلوم الشّريعة مقيّد البال) أي مربوط القلب في جميع الحال (بمصالح الأمّة الدّينيّة والدّنيويّة) أي التي لها تعلق بالأمور الأخروية (ولكن هذا) أي ما يظنه على وجه ويظهر خلافه (إنّما يكون في بعض الأمور) الدنيوية أي التي ليس لها تعلق أصلا بالأحوال الدينية (ويجوز) أي وقوع مثله عنه (في النادر وفيما سبيله التّدقيق) أي تدقيق النظر وتحرير الفكر (في حراسة الدّنيا) بكسر أوله أي محافظتها ومراعاتها (واستثمارها) أي تحصيل ثمرتها ونتيجتها المترتبة عليها (لا في الكثير) من أمورها (المؤذن بالبله) بفتحتين أي المشير إلى البلاهة (والغفلة) المؤذنة بقلة شعورها والحاصل أنه عليه الصلاة والسلام واتباعه الكرام كانوا على ضد حال الكفار وأرباب الكفر اللئام كما قال الله تعالى يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (وقد تواتر بالنّقل) من جمع يمتنع من تكذيبهم العقل (عنه صلى الله تعالى عليه وسلم من المعرفة بأمور الدّنيا) وأحوالها (وَدَقَائِقِ مَصَالِحِهَا وَسِيَاسَةِ فِرَقِ أَهْلِهَا مَا هُوَ معجز في البشر) حيث لم يقدر أحد أن يأتي بنظام أمور هذا الباب (مِمَّا قَدْ نَبَّهْنَا عَلَيْهِ فِي بَابِ مُعْجِزَاتِهِ من هذا الكتاب) .
فصل [وَأَمَّا مَا يَعْتَقِدُهُ فِي أُمُورِ أَحْكَامِ الْبَشَرِ إلى آخره]
(وأما ما يعتقده) وفي حاشية الحجازي ويروى بضم أوله وفتح ثالثه والقاف (فِي أُمُورِ أَحْكَامِ الْبَشَرِ الْجَارِيَةِ عَلَى يَدَيْهِ) صلى الله تعالى عليه وسلم (وقضاياهم) المرفوعة منهم إليه (ومعرفة المحق من المبطل) وأغرب التلمساني في ضبطهما بصيغة المفعول وتفسيرهما بالحق والباطل وغرابته من جهة المبنى والمعنى في هذا المقام مما لا يخفى (وعلم المصلح من المفسد) من يداخل بإصلاح أو إفساد من العباد في أمور البلاد (فبهذا السّبيل) أي ما ذكر هنا من معتقده ومعرفته على الوجه الجميل (لقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه الشيخان وغيرهما عن أم سلمة (إنّما أنا بشر) وإنما يوحى إلي أحيانا (وإنّكم تختصمون) بينكم
وترفعون الأمر (إليّ ولعلّ بعضكم أن يكون ألحن) أي أعرف وأفطن (بحجّته) أي خصومته وتبيين بينته وطريق تمشيته ومنه قول عمر بن عبد العزيز عجبت لمن لاحن الناس كيف لا يعرف جوامع الكلم أي فاطنهم (من بعض) لبلاهته أو لصفاء حالته (فأقضي له) أي فاحكم (على نحو) بالتنوين (ممّا أسمع) أي منه كما في نسخة يعني من كلامه حيث لم أعرف حقيقة مرامه وفي نسخة على نحو ما اسمع بالإضافة، (فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ بِشَيْءٍ) فيما ظهر لي على وجه يكون الأمر في الواقع بخلافه (فَلَا يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قطعة من النّار) لبناء أحكام شريعته على الظاهر وغلبة الظن في قضيته وقد ورد نحن نحكم بالظواهر والله اعلم بالسرائر وإنما صدر الحديث بقوله إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ إيذانا بأن السهو والنسيان غير مستبعد من الإنسان وأن الوضع البشري يقتضي أن لا يدرك من الأمور الشرعية إلا ظواهرها تمهيدا للمعذرة فيما عسى يصدر عنه عليه الصلاة والسلام من أمثال تلك الأحكام ولو كان نادرا في الأيام وليس هذا من قبيل الخطأ في الحكم فإن الحاكم مأمور مكلف بأن يحكم بما يسمع من كلام الخصمين وبما تقتضيه البينة لا بما في نفس الأمر في القضية حتى لو حكم المبطل في دعواه بشاهدي زور وفق مدعاه وظن القاضي عدالتهما فهو محق في الحكم وإن لم يكن المحكوم به ثابتا في نفس الأمر. (حدّثنا الفقيه أبو الوليد رحمه الله تعالى) أي الباجي وهو هشام بن أحمد وهو ابن العواد (حدّثنا الحسين بن محمد الحافظ) هو أبو علي الغساني (حدّثنا أبو عمر) أي ابن عبد البر حافظ الغرب (حدّثنا أبو محمد) هو عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن القرطبي من قدماء شيوخ ابن عبد البر كان تاجرا صدوقا (حدّثنا أبو بكر) وهو ابن داسة راوي السنن عن أبي داود (حدّثنا أبو داود) وهو حافظ العصر صاحب السنن (حدّثنا محمد بن كثير) بفتح الكاف وكسر المثلثة العبدي البصري يروي عن شعبة والثوري عاش تسعين سنة أخرج له الأئمة الستة (أخبرنا سفيان) قال الحلبي الظاهر أنه الثوري ومستندي في هذا أن الحافظ عبد الغني ذكر الثوري فيمن روى عنه محمد بن كثير ولم يذكر ابن عيينة وفي التذهيب قال روي عن سفيان وأطلق فحملت المطلق على المقيد قلت وكلاهما إمامان جليلان في مقامهما فلا إشكال في ابهامهما (عن هشام بن عروة عن أبيه) سبق الكلام عليهما (عن زينب بنت أمّ سلمة) ربيبة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم صحابية أخرج لها الأئمة الستة لها الرواية عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أيضا وكان اسمها برة بفتح الموحدة فقال صلى الله تعالى عليه وسلم وسلم فلا تزكوا أنفسكم الله اعلم بأهل البر منكم فسماها زينب (عن أمّ سلمة) إحدى أمهات المؤمنين (قالت قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الحديث) كما تقدم وسبق أنه رواه الشيخان وغيرهما (وفي رواية الزّهريّ) وهو الإمام العالم (عن عروة) وقد تقدم، (فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ) أي أفصح أو أكثر بلاغا يقال بالغ يبالغ مبالغة وبلاغا إذا اجتهد في الأمر أي أجهد نفسه في إيصال كلامه إلى ذهن سامعه واقتصر الدلجي عليه وفيه أنه لا يبنى أفعل من غير الثلاثي المجرد إلا بتقوية
أشد ونحوه فلو أريد هذا المعنى لقيل أكثر تبليغا أو أشد بلاغا ونحوهما (فأحسب أنّه صادق) أي أظن أنه في قوله لما في نفس الأمر موافق (فأقضي له) بما أظنه أنه يستحقه، (ويجري) من الإجراء أي ويمضي (أحكامه عليه الصلاة والسلام وفي نسخة يجري من الجريان أي وتقع أحكامه عليه الصلاة والسلام ويروى أحكامهم (على الظّاهر) من الأمور وأحوال الأنام (وموجب) بفتح الجيم أي ومقتضى (غلبات الظّنّ) جمع باعتبار جمع القضايا (بشهادة الشّاهد) أي جنسه تارة (ويمين الحالف) أخرى عند انكاره وعدم البينة على خلافه (ومراعاة الأشبه) مما يظنه حقا وقال التلمساني يعني في الحكم بالقائف أقول وهذه مسألة مختلف فيها (ومعرفة العفاص) بكسر العين والصاد المهملتين بينهما فاء بعدها ألف الوعاء الذي يكون فيه الشيء (والوكاء) بكسر أوله ممدودا خيط الوعاء والمراد كل ما يربط من صرة وغيرها والمعنى أنه عليه الصلاة والسلام بنى أمره في الأحكام على الأمور الظاهرة من الشهادة واليمين والشبه ومعرفة الوعاء والوكاء في اللقطة من الأشياء وقد أغرب الدلجي حيث قال كني بالعفاص والوعاء عما يظهر له من فحوى كلام الخصمين مما يظن به حقيقة ما ادعى به (مع مقتضى حكمة الله تعالى فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ تَعَالَى لَوْ شَاءَ لَأَطْلَعَهُ) أي نبيه (على سرائر عباده) من أهل ملته (ومخبّآت) أي مخفيات (ضَمَائِرِ أُمَّتِهِ فَتَوَلَّى الْحُكْمَ بَيْنَهُمْ بِمُجَرَّدِ يَقِينِهِ وعلمه) حينئذ (دون حاجة) أي من غير افتقار له (إلى اعتراف) من أحد المتخاصمين بالحق (أو بينة أو يمين أو شبهة) أي مشابهة ومناسبة ترجح الحكم لأحد وكل ذلك على تقدير مشيئة الله تعالى إطلاعه عليه الصلاة والسلام في القضايا (ولكن لمّا أمر الله أمّته باتّباعه) في قواعد شريعته (وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي أَفْعَالِهِ وَأَحْوَالِهِ وَقَضَايَاهُ وَسَيَرِهِ) أي طريقته (وكان هذا) أي ما أمر الله تعالى أمته باتباعه في جميع سيرته (لو كان ممّا يختصّ) أي النبي عليه الصلاة والسلام (بعلمه ويؤثره الله به) أي بانفراده واختصاصه (لَمْ يَكُنْ لِلْأُمَّةِ سَبِيلٌ إِلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِ في شيء من ذلك) لعدم إطلاعهم على حقيقة وقوع ما هنالك (ولا قامت) بعده (حجّة) على من خالف أمرا من أمور دينه (بقضيّة من قضاياه لأحد) من حكام ملته (في شريعته) على أحد من أمته (لأنّا لا نعلم ما أطلع عليه) من الإطلاع أو الإطلاع أي مما أوثر به (هو في تلك القضيّة) المرفوعة إليه (بحكمه هو إذن) أي حينئذ (في ذلك) أي في وقت ورودها هنالك (بالمكنون) أي المستور (مِنْ إِعْلَامِ اللَّهِ لَهُ بِمَا أَطْلَعَهُ عَلَيْهِ من سرائرهم) أي ضمائرهم (وهذا) الأمر المكنون والسر المصون (ممّا لا تعلمه الأمّة) إذ لا يطلع عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رسول وأما الأولياء وإن كان قد ينكشف لهم بعض الأشياء لكن علمهم لا يكون لهم يقينا وإلهامهم لا يفيد إلا أمرا ظنيا وبهذا المقال يندفع ما يرد على الحصر في الآية من نوع الإشكال والله تعالى اعلم بالأحوال ثم الأولياء من أرباب الكشوف لا يوجدون في كل زمان ومكان أيضا وربما يدعي كل أحد أنه في مرتبة الولاية العلية (فأجرى الله تعالى أحكامه على ظواهرهم) في القضية (الّتي يستوي في ذلك هو) أي النبي عليه الصلاة والسلام (وغيره من البشر) في زمنه