الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لشناعة بشين وعين أي لقبحه وإن كان يمكن صرفه عن ظاهره بأنهم متهمون ببعض المعاصي (وكان القاضي أبو محمد بن منصور) اللخمي ولد سنة ثمان وخمسين وأربعمائة (يتوقّف عن القتل) أي احتياطا (لاحتمال اللّفظ عنده) أي احتمالا بعيدا (أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَمَّنِ اتَّهَمَهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) أي بالكذب في الأخبار (وأفتى فيها) أي في المسألة هذه (قاضي قرطبة) بضم القاف والطاء المهملة (أبو عبد الله بن الحاج) أي التجيبي قتل بجامع قرطبة يوم الجمعة ظلما وهو ساجد وقتله رجل معتوه وقتلته العامة في الموضع الذي قتله فيه وقد ضرب رحمه الله تعالى بسكين في خاصرته وقيل قتل يوم الجمعة سادس عشر شهر رمضان سنة تسع وعشرين وخمسمائة ودفن بعد صلاة العصر قال الدلجي هو غير ابن الحاج صاحب المدخل (بنحو من هذا) أي توقف ابن منصور وفي نسخة بنحو هذا (وشدّد القاضي أبو محمد) أي ابن منصور (تصفيده) أي توثيقه وتقييده (وأطال سجنه ثمّ استحلفه بعد) أي حلفه بعد أن فعل به ذلك (على تكذيب ما شهد به عليه) من الحق (إِنْ دَخَلَ فِي شَهَادَةِ بَعْضِ مِنْ شَهِدَ عليه وهن) أي نوع طعن يوجب ضعف اعتماد وقلة اعتقاد (ثمّ أطلقه) أي من التقليد وتركه وفيه أن هذه التحليف ليس له دخل في أصل المقصود من المسألة في تهمة بعض الشهود وإنما الكلام في نسبة التهمة إلى أرباب النبوة اللهم إلا أن يقال إنه كان منكرا لهذه المقالة وثبت عليه بالبينة في تلك الحالة إلا أن بعض الشهود لم يكونوا مزكين (وشاهدت شيخنا القاضي أبا عبد الله) اسمه محمد (ابن عيسى) أي ابن حسين التيمي ولد سنة تسع وعشرين وأربعمائه وقد تفقه المنصف به (أَيَّامَ قَضَائِهِ أُتِيَ بِرَجُلٍ هَاتَرَ رَجُلًا اسْمُهُ محمّد) أي قال له سفها من القول يقال هتر العرض أي مزقه وقال ابن الأثير ومن قبله الهروي في الغربيين واللفظ للثاني المستبان شيطانان يتهاتران ويتكاذبان أي يتقاولان ويتفالجان في القول (ثمّ قصد إلى كلب) هنالك زيادة على ذلك (فَضَرَبَهُ بِرِجْلِهِ وَقَالَ لَهُ: قُمْ يَا مُحَمَّدُ فَأَنْكَرَ الرَّجُلُ أَنْ يَكُونَ قَالَ ذَلِكَ وَشَهِدَ عليه لفيف) أي جمع كثير (من النّاس) أي من قبائل شتى ومنه قوله تعالى جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً أي مجتمعين مختلطين (فأمر به إلى السّجن) بكسر السين أي إلى إدخاله فيه وفي نسخة بفتحها أي إلى حبسه (وتقصّى) بقاف وصاد مهملة مشددة أي استقصى وبالغ في التفحص والبحث (عن حاله) ليظهر منه حقيقة مقاله (وهل يصحب من يستراب بدينه) أي يشك في إسلامه من ذمي ونحوه (فلمّا لم يجد) أي ابن عيسى (عليه ما يقوّي الرّيبة) أي التهمة والشبهة (باعتقاده ضربه بالسّوط) وفي نسخة بالسياط تعزيرا له حيث خاطب الكلب بالاسم الشريف ولم يظهر منه ما يدل على أنه أراد الإهانة بالنبي المنيف (وأطلقه) ولم يقتله.
فصل [أَنْ لَا يَقْصِدَ نَقْصًا وَلَا يَذْكُرَ عَيْبًا ولا سبا لكنه ينزع إلى آخره]
(الوجه الخامس أن لا يقصد) أي في مجمل قوله (نقصا) لنبيه (ولا يذكر عيبا) في أمره (ولا سبّا) أي شتما أو ذما في حقه (لكنّه) في محتمل كلامه (ينزع) أي يميل وينجذب (بذكر
بعض أوصافه) عليه الصلاة والسلام إلى ما يصرفه عن أن يفهم منه نقص أو ذم في اثناء الكلام (أو يستشهد) في بعض ما قاله (ببعض أحواله عليه الصلاة والسلام الجائزة عليه في الدّنيا) مما سبق بيانه وتقدم برهانه (على طريق ضرب المثل) متعلق بيستشهد (وَالْحُجَّةِ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ أَوْ عَلَى التَّشَبُّهِ به) أي قوله عليه الصلاة والسلام أو فعله (أو عند هضيمة) أي نقيصة عظيمة (نالته) أي أصابته (أو غضاضة) بالغين والضاد المعجمتين أي مذلة وحقارة (لحقته) حصلت له عليه الصلاة والسلام (ليس على طريق التّأسّي) أي الاقتداء به (وطريق التّحقيق) أي الاهتداء به (بل على مقصد التّرفيع) بالفاء أي على جهة اعلائه (لنفسه) في ابتلائه (أو لغيره) من نحو آبائه أو ابنائه (أو على سبيل التّمثيل) أي التشبيه لنفسه أو لغيره به عليه الصلاة والسلام (وعدم التّوقير) أي التبجيل والتعظيم في تمثيله (لنبيّه عليه الصلاة والسلام أو قصد الهزل) بصيغة الماضي أو المصدر المضاف (والتّنذير) مصدر ندر بدال مهملة مشددة ومعناه الإسقاط أي أو قصد الساقط من القول أو الفعل (بقوله) ويجوز أن يكون من مادة الندور وهو الشذوذ فالمراد الإتيان بنادر من قول أو فعل بشيء غريب والحاصل أنه خلاف التشهير مما يقتضي التعظيم والتوقير وقع في أصل الدلجي بالموحدة والذال المعجمة والظاهر أنه تصحيف في المبنى وتحريف في المعنى حيث قال أي الإعلام بقوله وقال التلمساني وعند الشارح التنديد بالدال أي في آخره قال وهو كالغيبة يقال ندد بفلان إذا قال فيه كلمة سوء قال الجوهري يقال ندد به أي شهره وسمع به ومعناهما متقاربان انتهى ولا يخفى أنه تصحيف أيضا لأن هذا وقع سجعا في مقابلة قوله التوقير فيتعين أن يكون براء في آخره والله تعالى أعلم بباطنه وظاهره (كقول القائل إن قيل فيّ) بتشديد الياء أي أن ذكر في حقي (السّوء) بفتح السين وضمها كما قرئ بهما في السبعة قوله تعالى عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وروي هنا بال وبدونها (فقد قيل في النبيّ) أي السوء بمثل ما يسوءه ويحزنه (أو إن كذّبت) بتشديد الذال مجهولا (فقد كذّب الأنبياء) وهذا وما قبله له محل حسن إذ ظاهره أنه أراد به التسلية بهم في مقام الاقتداء ومرام الاهتداء بالصبر على أقوال الأعداء ورميهم للناس بالأشياء من الأسواء وأما قوله (أو إن أذنبت فقد أذنبوا) ففيه خطر عظيم لعصمة الأنبياء لاسيما وقد غفر لهم ما كان في صورة المعصية وظهر منهم الأوبة في مقام التوبة فلا يذكر الذنب المعفو بلا شبهة في مقابلة الذي هو حقيقة المعصية وإن تاب صاحبه عنه فهو تحت المشيئة لعدم صحة شرائط التوبة فلا يقاس الصعلوك بالملوك (أو أنا) أي وأنا (أسلم من ألسنة النّاس) أي من أن ينسبوا إلى ما لم أفعله (ولم يسلم منهم أنبياء الله ورسله) كما قال قائل:
ولا أحد من ألسن الناس سالم
…
ولو أنه ذاك النبي المطهر
(أَوْ قَدْ صَبَرْتُ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ) وهذا خطأ فاحش عند أولي الحزم بل يوهم أنه فضل نفسه على بعض الأنبياء الذين قيل في حقهم أنهم ليسوا من أولي العزم كآدم عليه
الصلاة والسلام لقوله تعالى فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً وكيونس عليه الصلاة والسلام لقوله تعالى فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ (أو كصبر أيّوب) وهذا كذب ومجازفة في القول (أَوْ قَدْ صَبَرَ نَبِيُّ اللَّهِ عَنْ عِدَاهُ) بكسر العين اسم جمع لعدو أي عن أعدائه ويروى على عداه (وحلم) بضم اللام أي تحمل (على أكثر ممّا صبرت) أي تحملت عليه (وكقول المتنبّي) وهو أبو الطيب الجعفي الكوفي الشاعر الأديب المجيد الأريب صاحب الديوان المعروف وله من بدائع الشعر وحكمه أشياء عجيبة مشتملة على آداب وغيرها من أمور غريبة ولد بالكوفة سنة ثلاث وثلاثمائة ونشأ بالشام والبادية وقال الشعر في صغره واعتنى الفضلاء بشرح ديوان شعره قال السماني في أنسابه إنما قيل له المتنبي لأنه ادعى النبوة في بادية السماوة وتبعه كثيرة من بني كلب وغيرهم فخرج إليه لؤلؤ أمير حمص بالأخشيدية فأسره وفرق اصحابه وسجنه طويلا ثم أشهد عليه أنه تاب وكذب نفسه فيما ادعاه فأطلقه ثم طلب الشعر وقاله فأجاد وفاق أهل عصره في حسن شعره واتصل بسيف الدولة بن حمدان فأكثر مدحه ثم سار إلى عضد الدولة بفارس ومدحه وعاد إلى بغداد فقتل في طريقه بالقرب من النعمانية في شهر رمضان سنة أربع وخمسين وثلاثمائة وقيل إنما قيل له المتنبي لأنه قال:
(أَنَا فِي أُمَّةٍ تَدَارَكَهَا اللَّهُ
…
غَرِيبٌ كَصَالِحٍ في ثمود)
وفيه أنه لا يلزم من هذا التشبيه دعوة النبوة والرسالة في مقام التنبيه وجملة تداركها الله دعائية معترضة وقبله:
ما مقامي بأرض نحلة إلا
…
كمقام المسيح بين اليهود
(ونحوه) بالرفع أي ومثل شعره ويجوز جره أي وكقول نحوه (من أشعار المتعجرفين) أي المتجازفين المفرطين في المدح بحيث لم يبالوا في كلامهم ولم يهموا في أديانهم وعقائدهم (فِي الْقَوْلِ الْمُتَسَاهِلِينَ فِي الْكَلَامِ كَقَوْلِ الْمَعَرِّيِّ) بفتح الميم والعين المهملة وتشديد الراء وهو أبو العلاء اللغوي الشاعر المشهور كان متضلعا من فنون الأدب وله من النظم لزوم ما لا يلزم في خمس مجلدات وذكر أن له كتابا سماه الإيك والغصون يقارب مائة جزء في الأدب أيضا ومكث مدة خمس وأربعين سنة لا يأكل اللحم تدينا لأنه كان يرى رأي الحكماء توفى ليلة الجمعة ثالث شهر الربيع الأول سنة تسع وأربعين وأربعمائة بالمعرة وكان مرضه في ثلاثة أيام وقبره في ساحة من دور أهله ذكره ابن خلكان وذكره الذهبي في الميزان فقال روى جزءا عن يحيى بن مسعر عن أبي عروبة الحراني وله شعر يدل على الزندقة سقت أخباره في تاريخي الكبير انتهى وفي حاشية التلمساني قال القراوي في كتاب اقتراح السميري في شرح مقامات الحريري يزعمون أنه منتحل لمذهب البراهمة مدمن على اعتقاده وفي أشعاره وأسماعه ما يدخل القلب منه ريبا منها قوله (كنت) بالخطاب (موسى وافته) أي من الموافاة أي أتته (بنت شعيب) واختلف في اسمها (غير أن ليس فيكما من فقير) فإنه شبه فيه
ممدوحه وزوجته بموسى عليه السلام وامرأته وهي بنت نبي جهلا منه برفيع شأنهم وبديع مكانهم (على أنّ آخر البيت) أي مع أن عجزه (شديد) في القبح عند تدبره لأن مضمونه التعيير لموسى بفقره (وداخل في الإزراء) أي الاحتقار والانتقاص (والتّحقير بالنبيّ) أي الكليم عليه الصلاة والسلام وتفضيل حال غيره) من الأمراء الأغنياء (عليه) وسبب هذا كله التوصل للأغراض الدنية والأعراض الفانية والاعراض عن الدار الباقية بما يخفض الأنبياء ويرفع السخفاء (وكذلك) أي ومثل هذا الإزراء في حق الأنبياء (قوله) أي شعر أبي العلاء المعري عن مقام الثناء:
(لَوْلَا انْقِطَاعُ الْوَحْيِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ
…
قُلْنَا مُحَمَّدُ) بالضم (عن أبيه بديل)
لغة في بدل كمثل ومثيل وشبه وشبيه:
(هُوَ مِثْلُهُ فِي الْفَضْلِ إِلَّا أَنَّهُ
…
لَمْ يأته برسالة جبريل)
قال التلمساني اجترأ على الله ورسوله في قوله من أبيه فأثبت له أبوة والله تعالى يقول مَا كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ فكذب كتاب الله وجعل الفضل متساويا وهو كما قال الغزالي شبه الملائكة بالحدادين من شبه من ليس بشيء برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بل جعله مساويا له وهو محمد بن الرشيد العباسي (فصدر البيت الثّاني من هذا الفصل) بالصاد المهملة أي النوع من الكلام (شديد) أي في مقام قبح المرام وشدة الملام (لتشبيهه غير النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم في فضله بالنّبي والعجز) أي وآخر البيت الثاني (محتمل لوجهين) وفي نسخة محتمل لوجهين وفي أخرى يحتمل الوجهين أي أحدهما أقبح من الآخر (أحدهما أنّ هذه الفضيلة نقّصت الممدوح) بتشديد القاف أي خفصته عن رفيع مقام النبي (والآخر استغناؤه عنها) أي عن رسالة جبريل عليه الصلاة والسلام (وهذه) الإرادة (أشد) كفرا من الاحتمال الأول فتأمل وإن كان الاحتمال الأول هو الأظهر فتدبر (ونحو منه قول الآخر) قال الحلبي لا أعرفه وقال التلمساني وهو للمعرى انتهى والأول أظهر وإلا قال قوله الْآخَرِ:
(وَإِذَا مَا رُفِعَتْ رَايَاتُهُ
…
صَفَّقَتْ بَيْنَ جناحي جبريل)
وفي نسخة جبرئين بالنون وهو لغة كما يقال في إسرائيل وإسماعيل ونحوهما وما زائدة ورفعت مبنى للمجهول والرايات جمع راية وهي العلم وصفقت بتشديد الفاء من التصفيق بمعنى التصويب والتضعيف للتكثير وفي نسخة خفقت والمعنى اضطربت برياح النصر وهذا اجتراء على هذا الملك العظيم (وقول الآخر من أهل العصر) أي زمن المصنف قال الحلبي لا أعرفه:
(فَرَّ مِنَ الْخُلْدِ وَاسْتَجَارَ بِنَا
…
فَصَبَّرَ اللَّهُ قلب رضوان)
بكسر الراء وضمها أي خازن الجنة قال الدلجي أي على فراقه إذ لم يجاوره فيه وهذه
عجرفة كاذبة وقال التلمساني استجار من الجوار أي لجأ إليه وسأله الاستنقاذ انتهى ومع هذا كله يتبين خلاصة المعنى من هذا المبنى حتى يتفرع عليه مذمة من كفر أو فسق على ما لا يخفى (وكقول حسّان) يصرف ولا يصرف (المصيصي) نسبة إلى مصيصة كسفينة بلد بالشام ولا يشدد كذا في القاموس وقال التلمساني بكسر الميم يخفف ويشدد وقيل لا يصح التشديد وقيل إن كسر شدد وإن فتح خفف وقيل بكسر الميم ويخفف ويفتح ويخفف وهو موضع من ثغور الشام (من شعراء الأندلس) بفتح الهمزة وسكون النون وفتح الدال ويضم وضم اللام وفي نسخة شعار الأندلس على أنه مبالغة شاعر (في محمد بن عبّاد) بتشديد الموحدة وكنيته أبو القاسم من ملوك الأندلس (المعروف بالمعتمد) بكسر الميم الثانية أي المعتمد بالله تعالى توفي في السجن سنة ثمان وثمانين وأربعمائة له قصة عجيبة مذكورة في تاريخ ابن خلكان (ووزيره) أي وفي وزيره ومشيره (أبي بكر بن زيدون) يصرف ويمنع:
(كَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَبُو بَكْرِ الرِّضَا
…
وَحَسَّانَ حسّان وأنت محمّد)
أي كان وزيرك أيها الممدوح أبا بكر بن زيدون أبو بكر الصديق وشاعرك حسان المصيصي حسان بن ثابت شاعر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وكأنك أنت الممدوح محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وقد أطال الشراح تبعا للمصنف على هذا المقال لكن لا يخلو عن نوع من الإشكال فإنه لا يلزم من التشبيه التسوية في الكمال بل من القاعدة المقررة أن المشبه به أقوى في جميع الأحوال كما هو مقرر في زيد الأسد الذي هو أبلغ من زيد كالأسد ومنه قولهم أبو يوسف أبو حنيفة ويقال وجه فلان كالبدر أو الشمس أو القمر وأمثال ذلك فتدبر وكان المصنف رحمه الله تعالى أراد سد باب الذريعة ليحذر الناس عن المقالات الشنيعة (إلى أمثال هذا) أي الذي ذكرناه من المتعجرفين (وإنّما أكثرنا) بتشديد المثلثة وفي نسخة أكثرنا (بشاهدها مع استثقالنا حكايتها) أي روايتها عل أن ثقل الكفر ليس بكفر لكن صيانة الألسنة عنه أولى إلا لضرورة داعية (لتعريف أمثالها) وفي أصل التلمساني لتعرف بها أمثلتها وروي لتعرف أمثلتها وروي لتعريف أمثلتها (ولتساهل كثير من النّاس) أي من الشعراء وغيرهم (في ولوج هذا الباب الضّنك) بفتح الضاد المعجمة وسكون النون أي دخول هذا الطريق الضيق في المعيشة وغيرها ومنه قوله تعالى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وقيل الطريق المظلم ويلائمه قوله تعالى وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (واستخفافهم فادح هذا العبء) بكسر العين المهملة وسكون الموحدة بعدها همزة الحمل والفادح بالفاء وكسر الدال والحاء المهملتين الثقل أي وعد الناس ثقل هذا الحمل خفيفا (وَقِلَّةِ عِلْمِهِمْ بِعَظِيمِ مَا فِيهِ مِنَ الْوِزْرِ) أي الإثم الثقيل (وكلامهم منه بما) وفي نسخة وكلامهم فيه مما (ليس لهم به علم وتحسبونه هيّنا وهو عند الله عظيم) وهذا مقتبس من قوله تعالى إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً أي صغيرة وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ
عَظِيمٌ أي كبيرة وقد جزع بعض الأكابر عند موته فقيل له لم جزعت فقال أخاف ذنبا لم يكن مني على بال قلت ونعم ما قيل وجودك ذنب لا يقاس به ذنب (لا سيّما الشّعراء) الذين ورد في حقهم وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وقليل ما هم وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ قال التلمساني لا سيما يشدد ويلزمه الواو وقيل لا ويخفف ولا واو وقيل بالواو وبدونها يخفف ويشدد ويقال لا سواها وما بعد لا سيما معرفة فيجر ويرفع وينصب وقيل النصب فيه لا يصح ونكرة فالثلاثة والمختار أن ما زائدة وسي مضاف لما بعده والرفع خبر لمحذوف وما موصولة أو نكرة موصوفة وهو ضعيف في المعرفة قيل وينصب المعرفة وجهه أن ما كافة ولا سيما كذلك في الاستثناء وهو ضعيف لأن الاستثناء إخراج وهذا فيه إدخال هذا وقد قيل الشعراء أمراء الكلام يصرفونه حيث شاؤه وجاز لهم ما لا يجوز لغيرهم من إطلاق المعنى وتقييده ومد مقصوره وقصر ممدوده والجمع بين لغاته والتألق في صفاته وقيل الاقتصاد محمود إلا منهم والكذب مذموم إلا منهم وقيل إياكم والشاعر فإنه يطلب على الكذب مثوبة ويقرع جليسه بأدنى زلة ولذا قيل فيهم:
الكلب والشاعر في رتبة
…
يا ليت أني لم أكن شاعرا
وأقول بل الكلب أحسن منه ما أشار إليه الشاطبي بقوله:
وقد قيل كن كالكلب يقصيه أهله
…
وما يأتلي في نصحهم متبذلا
والمشهور أن فيه عشر خصال من خصال الرجال الإبدال ما أظن أن واحدة منها توجد في شاعر الحال (وأشدّهم فيه تصريحا وللسانه تسريحا) أي إرسالا وإطلاقا من غير أن يكون تلويحا (ابن هانىء) بكسر النون فهمز وقد يسهل (الأندلسيّ) قال الحلبي هو أبو القاسم محمد الأزدي وكان أبوه هانئ من قرية من قرى المهدية ولد بمدينة اشبيلية ونشأ بها واشتغل وحصل له حظ وافر من الأدب وعمل الشعر فهمر فيه وكان حافظا لأشعار العرب وأخبارهم وكان متهما بمذهب الفلاسفة توجه إلى مصر ثم عاد إلى المغرب فلما كان ببرقة إضافة شخص فأقام عنده أياما فعربدوا عليه فقتلوه وقيل بل وجد مخنوقا وقيل بل نام فوجد ميتا وذلك سنة اثنتين وستين وثلاثمائة وهو في المغرب كالمتنبي في المشرق وكانا متعاصرين ذكره ابن خلكان (وابن سليمان) وفي نسخة وأبو سُلَيْمَانَ (الْمَعَرِّيُّ بَلْ قَدْ خَرَجَ كَثِيرٌ مِنْ كلامهما إلى حدّ الاستخفاف والنّقص) بالنبي (وصريح الكفر) بالله (وقد أجبنا عنه) أي عن كلامهما وما يترتب على مقامهما فيما مضى وفي هذا تنبيه نبيه على أنه يحرم سماع شعرهما وأمثالهما كما يحرم مطالعة كتب ابن عربي بل ومطالعة الكشاف ونحوهما حذرا من دسهما في كلامهما ما يعد من سمهما في دسمهما (وغرضنا الآن) هو (الكلام في هذا الفصل الذي سقنا أمثلته) نظما ونثرا (فإنّ هذه) الأمثلة (كلّها وإن لم تتضمّن سبّا) أي ذما صريحا (ولا
أضافت إلى الملائكة والأنبياء نقصا) أي عيبا قبيحا (ولست أعني) أي أريد بهذا النفي (عجزي بيتي المعرّي) فإنه كفر واضح وإلحاد لائح وأما قول الدلجي ولست أعني عجزي بيتي المعري بل جميع ما ذكرناه من الأمثلة فخطأ فاحش من جهة لزوم التسوية ثم الجملة حالية معترضة بين المتعاطفين مما قبلها وما بعدها وهو قوله (ولا قصد قائلها إزراء) أي احتقارا (وغضا) أي انتقاصا كالمعرى لكن مع ذلك ما قام بحق الكلام فيما هنالك (فما وقّر النّبوّة) أي ما بجلها ولا صاحبها (ولا عظّم الرّسالة) ولا مرسلها (ولا عزّر) بتشديد الزاء وفي آخره راء أي ولا قوى (حرمة الاصطفاء ولا عزّز) بتشديد الزاء الأولى (حظوة الكرامة) بضم الحاء المهملة ويكسر وسكون الظاء المعجمة أي المترتبة المكرمة والمنزلة المعظمة (حتّى شبّه) من الممدوحين من الأمراء والوزراء (من شبّه) بما ذكر من الأنبياء والأصفياء (في كرامة نالها) أي لأجل جائزة أصابها من ممدوحه (أو معرّة) أي مصيبة أو منقصة أو مشقة (قصد الانتفاء منها) والتبري عنها (أو ضرب مثل) لكشف المراد (لتطييب مجلسه) أي لتطبيب مجلس القائل والمقول له ترغيبا في مجالسته ومخالطته ومصاحبته ومكالمته (أو إعلاء) بعين مهملة أي رفع ومبالغة وبغين معجمة أي مغالاة ومجاوزة في مقالات (في وصف لتحسين كلامه) وتزيين مرامه (بمن عظّم الله خطره) بفتح الخاء المعجمة والطاء المهملة أي منزلته (وشرّف قدره) أي مرتبته من انبيائه وأصغيائه (وألزم) كل أحد (توقيره) أي تعظيمه (وبرّه) بطاعته له وانقياده اكتسابا واجتنابا بقوله أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ (ونهى عن جهر القول له) بقوله سبحانه وتعالى وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ (ورفع الصّوت عنده) أي حيا وميتا بقوله عز وجل لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ قال الدلجي أي نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم وهو موهم أن هذا مختص به وليس كذلك فإنه يشمله وغيره فمن أدرك عيسى عليه الصلاة والسلام فيجب عليه أن يكون معه كذلك في مقام الإكرام بل ويؤخذ منه التأدب مع العلماء الأعلام والمشايخ الكرام والقضاة الفخام بل مع الوالدين وسائر صلحاء الأنام (فحقّ هذا) القائل الذي لم يقصد بقوله نقصا ولم يذكر عيبا ولا سبا لكن كلامه بذكر بعض أوصافه ينزع إلى ما يصرفه عن أن تفهم من سبا أو نقصا (إن درىء) أي دفع (عنه القتل) أي احتياطا (الأدب) بضرب وجيع وتوبيخ فظيع (والسّجن) أي في مكان شنيع بحسب حاله (وقوّة تعزيره) أي شدة تأديبه وتشهيره (بحسب شنعة مقاله) بضم فسكون نون أي نكارته (وَمُقْتَضَى قُبْحِ مَا نَطَقَ بِهِ وَمَأْلُوفِ عَادَتِهِ) أي دأبه (لمثله) أي لمثل ما نطق به (أو ندوره) بضمتين أي مخلوف عادته (وقرينة كلامه) حالية أو مقالية (أو ندمه) أي أو بحسب ظهور ندامته (على ما سبق منه) وصدر عنه (ولم يزل المتقدّمون) من العلماء والأمراء (ينكرون مثل هذا) المدح الموهم للقدح (ممّن جاء به) من الشعراء (وقد أنكر الرّشيد) وهو هارون من أحفاد العباس (على أبي نواس) بضم النون فهمزة ويبدل كان والده مولى الجراح بن عبد الله الحكمي والي خراسان ولد بالبصرة ونشأ بها ثم خرج إلى الكوفة ثم صار إلى بغداد ديوانه معروف توفي
سنة خمس وتسعين ومائة ببغداد ودفن في مقابر الشونيزية ومن جيد شعره قوله في نعت النرجس:
تأمل في نبات الأرض وانظر
…
إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين جاريات
…
على أطرافها الذهب السبيك
على قضب الزمرد شاهدات
…
بأن الله ليس له شريك
وقال إسحاق التمار رأيت أبا نواس فيما يرى النائم فقلت له ما فعل الله بك قال غفر لي فأنكرت ذلك فقلت ألست أبا نواس قال نعم غفر لي ربي بأبيات قلتها وهي في البيت تحت رأسي فقال فبكرت إلى ابنه فسألته عن الرقعة فأدخلني الدار فرفعت الحصير فإذا رقعة مكتوب فيها بخطه:
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة
…
فلقد علمت بأن عفوك أعظم
إن كان لا يرجوك إلا محسن
…
فمن الذي يدعو ويرجو المجرم
ما لي إليك وسيلة إلا الرجا
…
وجميل ظني ثم إني مسلم
أدعوك رب كما أمرت تضرعا
…
فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم
هذا وإنما أنكر الرشيد (قَوْلَهُ:
فَإِنُ يَكُ بَاقِي سِحْرِ فِرْعَوْنَ فِيكُمُ
…
فإنّ عصا موسى بكفّ خصيب)
بخاء معجمة وصاد مهملة أي رحيب الجانب كريم على الأقارب والأجانب قال التلمساني وعند الشارح أن المراد بخصيب عامل لبعض الملوك العباسيين وهو المأمون بن الرشيد وروي خضيب بالخاء والضاد المعجمتين يقال كف خضيب مختضب بالحناء أي إن يكن في مملكتكم أرض مصر بقية من سحر فرعون فلا هي تجدي نفعا مع وجود عصا موسى بكف أميرها خصيب تلقف ما يأفكون ولا شبهة أنه ما أراد به إثبات النبوة لممدوحه إلا أن في كلامه نوع من الاستعارة الموهمة في ظاهر العبارة لسوء الأدب هنالك فوبخه بذلك (وقال له يا بن اللّخناء) بفتح اللام وسكون الخاء المعجمة فنون فألف ممدودة من اللخن وهو النتن أي يا ابن المنتنة (أنت المستهزىء) أي المستحقر (بعصا موسى) بجعلك إياها بكف خصيب (وأمر بإخراجه عن عسكره من ليلته) وفي نسخة من ليلته (وذكر القتيبيّ) بضم القاف وفتح الفوقية قال الحلبي أنه عبد الله بن مسلم بن قتيبة وفي نسخة بضم العين المهملة وسكون الفوقية (أنّ ممّا أخذ عليه) أي أنكر على أبي نواس (وكفّر فيه) وفي نسخة بتشديد الفاء مجهولا وفي نسخة به أي بسببه (أو قارب) أي قرب أن يكفر أو يكفر (قوله في محمد الأمين) أي ابن هارون الرشيد بن المهدي وتوفي الرشيد سنة ثلاث وتسعين ومائة فبويع للأمين بالخلافة في عسكر الرشيد صبيحة الليلة التي توفي فيها الرشيد وكان المأمون حينئذ بمرو وكتب صالح بن الرشيد إلى أخيه الأمين بوفاة الرشيد مع رجاء الخادم فأرسل معه خاتم الخليفة والبردة والقضيب ولما وصل إلى الأمين ببغداد أجيزت له البيعة ببغداد وتحول إلى
قصر الخلافة ثم قدمت عليه زبيدة أمه من الرقة ومعها خزائن الرشيد فتلقاها ابنها الأمين بالإقبال ومعه جميع وجوه بغداد وقضاياه مشهورة قتل سنة ثمان وتسعين ومائة وكانت خلافته أربع سنين وثمانية أشهر وكسرا (وتشبيهه) أي أبي نواس (إيّاه) أي محمد الأمين (بالنبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم حيث قال) وفي نسخة في الشعر
(تنازع الأحمدان الشّبه فاشتبها)
…
أي تشابها (خلقا وخلقا كما قدّ الشّراكان)
الشبه بكسر الشين وسكون الموحدة لغة في شبه بفتحتين والخلق بفتح أوله ظاهر الخلقة وبضمه باطنها وأراد بها الصورة والسيرة يقال هذا شبه وشبهه أي شبيهة وقد يضم القاف وتشديد الدال المهملة أي قطع وقدر والشراك بكسر الشين سير النعل وأراد المبالغة في استوائهما في الفضل وهذا كفر صريح ليس له تأويل صحيح إلا أن يدعى أنه أراد بالأحمد غير محمد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وكأنه عدل عن المحمدين إلى الأحمدين ليستقيم الوزن ولعله أراد بالسيرة صفة الأمانة ولكن بين الأمينين بون بين وإنما حمله على مقاله صورة موافقة الاسمين والوصفين (وقد أنكروا) أي العلماء أو الأمراء أو هما جميعا (أيضا عليه قوله) أي على أبي نواس وفي نسخة على الآخر وهو أصل التلمساني وقال هكذا روي وصوابه عليه لأنه قوله وقال الحلبي وفي نسخة على الآخر وفي نسخة عليه وهو الصحيح إذ قد صرح السهيلي في روضه بأنه من قول أبي نواس (كيف لا يدنيك من أمل) أي كيف لا يقربك من رجائك (من رسول الله من نفره) بفتح الميم الأولى وكسر الثانية أي رهطه وعشيرته وقرابته وأما إطلاق النفر على الخادم فحادث وإنما انكروا عليه (لأن حقّ الرسول) أي رسول الله (وموجب تعظيمه) بفتح الجيم أي مقتضى تكريمه وأبعد الدلجي فقال بكسر الجيم أي ما يوجب ترغيبا في تعظيمه (وإنافة منزلته) أي رفعة مرتبته (أن يضاف) أي ينسب غيره (إليه) أي إلى شرف نسبه وكريم حسبه (ولا يضاف) أي هو إلى أحد وفي نسخة إلى غيره وإلا فالإضافة النسبية وغيرها كلها تشبيه وقد يعذر قائله بصيغة القلب كما في قولهم عرضت الناقة على الحوض لا سيما في ضرورة الشعر إلا أنه في حقه عليه الصلاة والسلام لا يعذر بمثل هذا الكلام وحكي عن علي بن الأصفر وكان من رواة أبي نواس قال لما عمل أبو نواس قصيدة:
أيها المنساب عن عفره
…
أنشدنيها فلما بلغ قوله
كيف لا يدنيك من أملي
…
من رسول الله من نفره
وقع لي أنه كلام مستهجن في غير موضعه إذ كان حق رسول الله أن يضاف إليه ولا يضاف هو إلى أحد فقلت له أعرفت عيب هذا البيت قال ما يعيبه إلا جاهل بكلام العرب إنما أردت أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من القبيل الذي هو المدوح أما سمعت قول حسان بن ثابت شاعر دين الإسلام:
وما زال في الإسلام من دين هاشم
…
دعائم عز لا ترام ومفخر
بهاليل منهم جعفر وابن أمه
…
علي ومنهم أحمد المتخير
قال الحلبي نقلا عن السهيلي أن البهاليل جمع بهلول وهو الوضيء الوجه مع طول وقوله ومنهم أحمد المتخير فدعا به بعض الناس لما أضاف أحمد المتخير إليهم وليس بعيب لأنها ليست بإضافة تعريف وإنما هو تشريف لهم حيث كان منهم وإنما ظهر العيب في قول أبي نواس كيف لا يدنيك البيت لأنه ذكر واحدا وأضاف إليه قال التلمساني وإنما أراد التخلص بحجة ما في رواية أقول لما قيل الغريق يتعلق بكل حشيش وأما قول الأنطاكي ويستند أيضا بقول حسان هذا على جواز التقديم والتأخير في الواو فإنه بدأ في اللفظ بجعفر ثم جاء بعده بعلي ثم بالنبي عليه الصلاة والسلام وهو المقدم في الحقيقة ففيه أن هذا من قبيل الترقي لا التدلي (فالحكم في أمثال هذا) الذي أوردناه وفي نسخة في مثل هذا قال التلمساني هو أنسب (ما بسطناه) أي ما فصلناه وبيناه (من) وفي نسخة في (طريق الفتيا) بضم الفاء لغة في الفتوى بفتحها وهما مشهورتان ما ذكره النووي يعني أن كلا يقضى عليه بحسب ما ظهر منه وصدر عنه (على هذا المنهج) الذي سلكناه والمعنى على طبقه ووفقه (جَاءَتْ فُتْيَا إِمَامِ مَذْهَبِنَا مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ رحمه الله وأصحابه) أي اتباعه ممن أدركه وغيره (فَفِي النَّوَادِرِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي مَرْيَمَ) أي الجمحي البصري أبو محمد الحافظ يروي عن الليث وطائفة وعنه ابن معين وأبو حاتم وجماعة ثقة أخرج له الأئمة الستة (عنه) أي عن مالك (فِي رَجُلٍ عَيَّرَ رَجُلًا بِالْفَقْرِ فَقَالَ: تُعَيِّرُونِي) أي بالفقر كما في نسخة أي اتعيرني به (وقد رعى النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم الغنم) قال الدلجي على قراريط لقريش والمحققون أنه عليه الصلاة والسلام لم يرع لأحد بالأجرة وإنما رعى غنم نفسه وهذا لم يكن عيبا في قومه كما يعرف من رعى بنات شعيب ورعى موسى عليهما السلام بل قيل كل نبي رعى الغنم والله تعالى اعلم ليتدرب على رعاية الأمة بوجه الترحم كما أشار إليه بقوله كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسؤولة عن رعيتها والخادم راع في مال سيده وهو مسؤول عن رعيته والرجل راع في مال أبيه وهو مسؤول عن رعيته فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن ابن عمر وسيأتي زيادة الكلام على هذا المرام وقد حكي أن موسى عليه الصلاة والسلام رأى شاة شاردة فتبعهما ليردها فزادت في شرادها وتنفرها حتى بعدت عن قطيعها فلحقها فحملها على كتفه رحمة لها فنودي في الملكوت بين المقربين أيصلح هذا العبد أن يكون من الأنبياء والمرسلين فقالوا نعم يا رب العالمين ويا أرحم الراحمين هذا وأما رواية رعى بقراريط فقالوا إنه اسم موضع (فقال مالك قد عرّض) بتشديد الراء أي لوح (بذكر النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم في غير موضعه) اللائق به (أرى أن يؤدّب) قال الأنطاكي روي أنه عليه الصلاة والسلام قال يوم حنين لذلك المنافق الذي قال ألا ترون صاحبكم يقسم صدقاتكم في رعاة الغنم ويزعم
أنه يعدل ويلك أما كان موسى راعيا أما كان داود راعيا والحديث في الكشاف وفيه دليل على جواز إطلاق اسم الراعي على الأنبياء وأن ذلك لا يستوجب التأديب إذا لم يقصد القائل به منقصة ولعل هذا الحديث لم يبلغ مالكا أو لم يصح عنده انتهى ولا يخفى أن الحديث إذا لم يصح عنده كيف يخفى عليه أن موسى عليه السلام رعى الغنم (قال) أي مالك (ولا ينبغي لأهل الذّنوب إذا عوتبوا) فيما صدر عنهم من خطأ في قول أو فعل (أن يقولوا) في جواب العتاب (قد أخطأت الأنبياء قبلنا) فإن هذا خطأ من وجوه إذ لا يقاس الحدادون بالملائكة فإن خطأ الأنبياء ما كانت إلا زلات نادرة في بعض أوقات تسمى صغائر بلا خلاف الأولى بل حسنات بالنسبة إلى سيئات غيرهم وهي مع هذا ممحوة بتوبة عقيبها وتحقيق قبولها كما أخبر الله تعالى بها بخلاف ذنوب الأمم فإنها شاملة للكبائر وغيرها عمدا وخطأ واستمرارا وعلى تقدير توبتهم لا يعرف تحقق شروط صحتها وقبولها بل ولا يدري خاتمة أمر صاحبها بخلاف الأنبياء فإنهم معصومون من الإصرار على المعصية ومأمونون من سوء الخاتمة فلا تصح هذه المقايسة، (وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لِرَجُلٍ انْظُرْ لَنَا كَاتِبًا يَكُونُ أَبُوهُ عَرَبِيًّا فَقَالَ كَاتِبٌ لَهُ: قَدْ كَانَ أَبُو النَّبِيِّ كَافِرًا. فَقَالَ جَعَلْتَ هَذَا مَثَلًا فَعَزَلَهُ وَقَالَ لَا تَكْتُبْ لي أبدا) وهذا يوافق ما قال إمامنا في الفقه الأكبر أن والدي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ماتا على الكفر وقد كتبت في هذه المسألة رسالة مستقلة ودفعت فيها ما ذكره السيوطي من الأدلة على خلاف ذلك في رسائله الثلاث لكي لا يجوز أن يذكر مثل هذا في مقام المعيرة (وَقَدْ كَرِهَ سُحْنُونٌ أَنْ يُصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ التَّعَجُّبِ إِلَّا عَلَى طَرِيقِ الثّواب) أي قصده (والاحتساب) أي طلب الأجر (توقيرا له وتعظيما كما أمرنا الله) بقوله صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (وَسُئِلَ الْقَابِسِيُّ عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِرَجُلٍ قَبِيحٍ) أي صورته (كأنّه وجه نكير) هو أحد ملكي سؤال القبر والآخر منكر وإنما سميا بذلك لأنهما يأتيان العبد بهيئة منكرة وصورة مغيرة امتحانا من الله لعبده في المقبرة، (ولرجل) أي أو قال رجل لرجل (عبوس) أي وجهه وجبينه (كأنّه) أي وجهه (وجه مالك الغضبان) على أهل العصيان وهو خازن النار قال تعالى وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ وروي ملك بدون الألف وصوابهما أن يكونا بالتنوين وغضبان نعتهما (فقال) أي القابسي (أيّ شيء) بالرفع ويجوز نصبه أي ما الذي (أراد بهذا) الكلام (ونكير أحد فتّاني القبر) بتشديد الفوقية أي أحد الممتحنين في القبر والجملة معترضة حالية وكذا قوله (وهما) أي نكير ومنكر أو نكير ومالك (ملكان) من جملة الملائكة المقربين ولما طال الفصل بالجملتين أعاد الكلام بقوله (فما الّذي أراد أروع) بفتح الراء أي أخوف وأفزع (دخل عليه) أي على القائل (حين رآه) أي المقول له وفي نسخة إذ رآه (من وجهه) متعلق بدل أي من جهة هيبه وجهه (أم عاف النّظر إليه) أي كره رؤيته لديه ووقوع بصره عليه وفي نسخة عاب بدل عاف (لدمامة خلقه) بالدال المهملة وقيل بالمعجمة أي حقارة صورته (فإن كان) مراد (هذا) أي القصد الثاني (فهو شديد) في التنكير (لأنّه جرى
مجرى التّحقير والتّهوين) الذي يوجب التكفير وفي نسخة التوهين (فهو) أي هذا القائل بهذا المعنى وفي نسخة فهذا (أشدّ عقوبة) أي يستحق أن يعاقب أشد عقوبة من القائل بالمعنى الأول (وليس تصريح بالسّبّ للملك) وإلافكان موجبه القتل (وإنّما السّبّ واقع على المخاطب) إلا أنه يستحق التأديب لما في تشبيهه من قلة الأدب (وفي الأدب بالسّوط) أي بالضرب به (والسّجن) أي حبسه (نكال) أي عبرة (للسّفهاء) وعقوبة تمنعهم عن مثل هذه الاشياء فإن السجن قبر الأحياء ومن أحسن ما قيل في باب السجن قول بعضهم:
خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها
…
فلسنا من الأحياء فيها ولا الموتى
إذا جاءنا السجان يوما لحاجة
…
فرحنا وقلنا جاء هذا من الدنيا
ونفرح بالدنيا فجل حديثنا
…
إذا نحن أصبحنا الحديث عن الرؤيا
ثم من ألفاظ الكفر رجل قال لغيره رؤيتك عندي كرؤية ملك الموت وقد اختلف علماؤنا فيه فقال أكثرهم يكون كفرا وقال بعضهم أن قال ذلك لعداوة ملك الموت يصير كافرا ون قال ذلك لكراهة الموت لا يصير كافرا كذا في فتاوى قاضيخان وهذا الأخير هو الصحيح ودليله قوله تعالى مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (قال) أي القابسي (وَأَمَّا ذَاكِرُ مَالِكٍ خَازِنِ النَّارِ فَقَدْ جَفَا الّذي ذكره) أي غلظ طبعه وقل أدبه حيث تفوه بقوله وجه مالك الغضبان وضبطه الدلجي بالهجرة وفسره برمي (عند ما أنكر حاله) وفي نسخة عند ما رأي (من عبوس الآخر) وهو المقول له (إلّا أن يكون المعبّس) بتشديد الموحدة المسكورة (ممن له يد) أي تصرف سلطنة وقدرة عقوبة (فيرهب) بصيغة المجهول مخففا ومشددا أي فيخاف وقال الحلبي يرهب رباعي مبنى للفاعل أي يخيف والأظهر أنه ثلاثي بصيغة الفاعل أي فيخاف ويفزع (بعبسته) بفتحتين وفي نسخة بضم فسكون وفي نسخة بعبوسه (فيشبّهه) وفي نسخة فشبهه (القائل على طريق الذم) أو المدح أو الخوف أو المزح (لهذا) الذي له يد (في فعله) أي من إظهار سوء خلقه (ولزومه في ظلمه صفة مالك) أي خازن النار (الملك) المعظم المطاع (المطيع لربّه في فعله) إذ هو ممن قال فيهم عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (فيقول كأنّه لله يغضب غضب مالك) خازن النار فيه حينئذ لا يظهر وجه الذم (فيكون) قوله ذلك حينئذ (أخفّ) مما قبله (وما كان ينبغي) مع ذلك (له التّعرّيض) وفي نسخة التعرض (بمثل هذا) التشبيه وهو قوله كأنه وجه مالك الغضبان (ولو كان) هذا القائل (أَثْنَى عَلَى الْعَبُوسِ بِعُبْسَتِهِ وَاحْتَجَّ بِصِفَةِ مَالِكٍ) خازن النار (كان) قوله ذلك (أشدّ) من ذلك الأخف (ويعاقب) عليه (المعاقبة الشّديدة) وفيه بحث حيث جعل مقام الثناء والمدح أشد من مقال الذم والقدح (وليس في هذا) الذي ذكرناه من تأويل قررناه (ذمّ للملك) أي أصلا (ولو قصد ذمّه لقتل) لأنه كفر به وأخطأ الدلجي في قوله قتل حدا لا كفرا لأن كفرة وقتله مجمع عليه وإنما يكون قتله حدا عند المالكية إذا تاب والله تعالى اعلم بالصواب (وقال أبو الحسن) أي القابسي (أيضا في
شابّ معروف بالخير) أي الصلاح (قال لرجل شيئا) من الكلام (فقال الرّجل) أي له (اسكت) زجرا له عما قال (فإنّك أمّيّ) أي مغفل لا تفرق بين الخير والشر أو عامي ما قرأت شيئا من العلم وعند الفقهاء هو من لا يحسن الفاتحة ومن معانيه منسوب إلى الأم أي على أصل ولادته من غير اكتساب في قراءته وكتابته أو منسوب إلى أم القرى وهي مكة وما حولها أو منسوب إلى الأمة بمعنى الجماعة (فَقَالَ الشَّابُّ أَلَيْسَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم أمّيّا فشنّع عليه) بصيغة المجهول مشددا أي قبح وذم (مقاله وكفّره النّاس) أي عامتهم فتغير له الحال (وأشفق الشّابّ) أي خاف على نفسه ودينه (ممّا قال وأظهر النّدم) أي الندامة والتوبة (عليه) من ذلك لسوء المقال (فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ أَمَّا إِطْلَاقُ الْكُفْرِ عَلَيْهِ فخطأ لكنّه مخطىء في استشهاده) أي استدلاله بكونه أميا (بصفة النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) حيث لم يفرق بين الأميين كما بينه المصنف بقوله (وكون النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم أمّيّا آية له) أي معجزة وكرامة كما قال تعالى وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (وكون هذا) الشاب وغيره (أمّيّا نقيصة فيه وجهالة) أي في حقه وقال الدلجي وجهالة برفيع محله عليه الصلاة والسلام (وَمِنْ جَهَالَتِهِ احْتِجَاجُهُ بِصِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم) دفع جهالته عن نفسه (لكنّه إذا استغفر وتاب واعترف) بأنه مخطئ في هذا الباب (ولجأ إلى الله تعالى) على طريق الاضطراب (فيترك) عن العقاب وفي نسخة ترك (لأنّ قوله) أليس كان النبي أميا (لا ينتهي إلى حدّ القتل) أي إلى حد يوجب القتل وإنما يوجب التعزير والتأديب (وما طريقه) أي موجبه (الأدب فطوع فاعله) أي فانقاد فاعله الأعم من قائله (بالذّم عليه يوجب الكفّ عنه) أي بعدم التعرض له بسوء وفي الخلاصة روي عن أبي يوسف أنه قيل بحضرة الخليفة إن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يحب القرع فقال رجل أنا لا أحبه فأمر أبو يوسف بإحضار النطع والسيف فقال الرجل استغفر الله مما ذكرته ومن جميع ما يوجب الكفر أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فتركه ولم يقتله وتأويل هذا أنه قال بطريق الاستخفاف وإلا فالكراهة الطبيعية ليست داخلة تحت الأعمال الاختيارية ولا يكلف بها أحد في القواعد الشرعية (ونزلت أيضا مسألة) أي وردت (استفتى فيها) أي طلب الجواب عنها (بعض قضاة الأندلس) وفي نسخة بعد أي بعد هذه القضية فيرفع قضاة الأندلس لأنه فاعل والمفعول على كل تقدير (شَيْخَنَا الْقَاضِيَ أَبَا مُحَمَّدِ بْنَ مَنْصُورٍ رحمه الله في رجل تنقّصه آخر بشيء) من الكلام وفي أصل الدلجي بشيء من القول (فقال له إنّما تريد نقضي بقولك) لي ذلك (وأنا بشر وجميع البشر يلحقهم النّقص) أي البشري (حتّى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم) بالرفع ويجوز نصبه وجره (فأفتاه بإطالة سجنه) أي حبسه مدة طويلة (وإيجاع أدبه) حال ضربه (إذ لم يقصد السّبّ) وإلا فيحكم بقتله لكفره (وكان بعض فقهاء الأندلس أفتى بقتله) أخذا له بظاهر قوله زجرا له ولغيره ولعل هذا كله مبني على السياسة وسد باب الذريعة وإلا فالمخلوق من حيث هو مخلوق خرج من العدم إلى الوجود