الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل [أن يذكر ما يجوز على النبي أو يختلف في جوازه عليه]
(الوجع السّابع أن يذكر ما يجوز) أي إطلاقه (على النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم أو يختلف) بصيغة المجهول (في جوازه عليه وما يطرأ) أي يحدث ويعرض عليه (من الأمور البشريّة) والأحوال الطبيعة (به) أي فيه (ويمكن إضافتها إليه أو يذكر) أي أحد (ما امتحن به) أي ابتلى عليه الصلاة والسلام (وصبر في ذات الله على شدّته) أي قوة بلائه (مِنْ مُقَاسَاةِ أَعْدَائِهِ وَأَذَاهُمْ لَهُ وَمَعْرِفَةِ ابْتِدَاءِ حاله وسيرته) أي في أفعاله وأقواله (وما لقيه من بؤس زمنه) بضم موحدة فهمز ساكن ويبدل أي شدة في وقته (ومرّ عليه من معاناة عيشته) أي مقاساة في أمر معيشته (كلّ ذلك على طريق الرّواية) وسبيل الحكاية (ومذاكرة العلم) لتحصيل الدراية (ومعرفة ما صحّت منه العصمة للأنبياء) أي عموما (وما يجوز عليهم) من بين سائر البشر خصوصا (فهذا) أي فما ذكر هنا (فنّ) أي نوع (خارج عن هذه الفنون السّتّة) المذكورة في الفصول السابقة (إذ ليس فيه) أي في هذا الفن (غمض) بفتح معجمة وسكون ميم فمهملة أي عيب (ولا نقض ولا إزراء) أي استحقار (ولا استخفاف) أي استهزاء (لا في ظاهر اللّفظ) من جهة مبناه (ولا في مقصد اللفظ) من جهة معناه (لَكِنْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ فِيهِ مَعَ أهل العلم) اليقين (وفهماء طلبة الدّين) بضم الفاء وفتح الهاء جمع فهيم أو فهم وهو الفطن الذكي (ممّن يفهم مقاصده ويحقّقون فوائده) أفرد وجمع باعتبار لفظ من ومعناه (ويجنّب) بتشديد النون المفتوحة أي يصان عن (ذلك) الكلام (من عساه لا يفقه) وروي لا يتفقه وروي لا يفهمه (أو يخشى به) وروي فيه أي يخاف عليه (فتنته) أي وقوعه في محنته (فقد كره بعض السّلف تعليم النّساء سورة يُوسُفَ لِمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْقَصَصِ) كيد النساء بسبب الابتلاء (لضعف معرفتهنّ ونقص عقولهنّ وإدراكهنّ) في اصل فطرتهن (فقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم مخبرا عن نفسه) ما وقع له في سابق الأيام (باستيجاره) قال الدلجي لقريش وأقول لعله لبعض أهله أن صح الاستيجار في فعله كما وقع عليه الصلاة والسلام (لرعاية الغنم في ابتداء حاله وقال) كما رواه الشيخان عن جابر والبخاري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ رَعَى الْغَنَمَ وَأَخْبَرْنَا اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ عَنْ مُوسَى عليه الصلاة والسلام وقد ورد عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أن موسى قضى أقصى الأجلين وهو العشر هذا وقال الحلبي اعلم أن في الحديث الصحيح كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة وفي سنن ابن ماجه هذا الحديث وفي آخره قال سويد بن سعيد وهو راوي الحديث كل شاة بقيراط انتهى والقيراط جزء من أجزاء الدينار وهو نصف عشره في أكثر البلاد وأهل الشام يجعلونه جزءا من أربعة وعشرين جزءا والياء فيه بدل من الراء فإن أصله قراط هذا لفظ النهاية وفي الصحاح القيراط نصف دانق وهو سدس درهم وقد رأيت في حاشية على سنن ابن ماجه أصلنا وهو أصل صحيح معتمد قال محمد بن ناصر أخطأ سويد في تفسيره القيراط بالذهب
والفضة إذ لم يرع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لأحد بأجرة قط وإنما كان يرعى غنم أهله والصحيح ما فسره به إبراهيم بن إسحاق الحربي الإمام في الحديث واللغة وغيرهما أن قراريط اسم مكان في نواحي مكة وكان ذلك منه وسنه نحو العشرين فيما استقرئ من كلام ابن إسحاق والواقدي وغيرهما انتهى وهذا يرد ما قاله القاضي وكذا ما بوب عليه البخاري في صحيحه في كتاب الإجارة باب رعي الغنم على قراريط انتهى وفي القاموس القيراط يختلف وزنه بحسب البلاد فبمكة ربع سدس دينار وبالعراق نصف عشره (فهذا) أي رعى الغنم ولو بأجرة (لا غضاضة فيه) أي لا منقصة (جملة واحدة) أي من حيث هو لأنه من جملة كسب المال على وجه الحلال (بخلاف من قصد به الغضاضة) أي النقص (والتّحقير بل كانت) أي الرعاية بالأجرة وغيرها (عادة جميع العرب) أي طوائفهم وقبائلهم ومثل هذا يختلف باختلاف العرف في الزمان والمكان بل كان عادة غير العرب أيضا كما يستفاد من قصة موسى وشعيب عليهما السلام فإنهما من بني إسرائيل وهم الاعجام فإن قيل فهل لرعي الأنبياء للغنم من فائدة فيقال، (نعم في ذلك) أي رعي الغنم (للأنبياء حكمة بالغة) لا يدركها إلا الأصفياء (وتدريج) وفي نسخة وتدريج الله تعالى (لهم إلى كرامته وتدريب) أي تعويد (بِرِعَايَتِهَا لِسِيَاسَةِ أُمَمِهِمْ مِنْ خَلِيقَتِهِ بِمَا سَبَقَ لهم من الكرامة) بالنبوة والرسالة والإمامة والإمارة (في الأزل ومتقدّم العلم) بكسر الدال أي سابقه الذي ظهر في القلم الأول (وكذلك قد ذكر الله يتمه) لموت أبيه جنينا قد أتت عليه ستة أشهر فكفله جده عبد المطلب ثم عمه أبو طالب إذ كان شقيق أبيه فأحسن التربية فيه قال تعالى أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى وَوَجَدَكَ ضَالًّا أي جاهلا بتفصيل الإيمان وَوَجَدَكَ عائِلًا فقيرا فَأَغْنى وهذا معنى قول المصنف (وعيلته) أي وذكر الله فقره وحاجته (على طريق المنّة عليه) بإيوائه واغنائه (والتّعريف بكرامته له) أي بهدايته وهداية غيره بنور رسالته (فذكر الذّاكر) أي المخبر (لها) أي لحالته من يتمه وعيلته (على وجه تعريف حاله) المتضمن لكرامته (والخبر عن مبتدئه) أي ابتداء أمره وظهور قدره (والتّعجّب من منح الله) بكسر الميم وفتح النون جمع منحة أي نعمه (قبله) بقاف مكسورة فموحدة مفتوحة أي في جهته (وعظيم منّته) وفي نسخة بنونين وفي نسخة منن الله (عنده ليس فيه) على ما ذكر به (غضاضة) أي ما يؤدي إلى منقصته (بَلْ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى نُبُوَّتِهِ وَصِحَّةِ دَعْوَتِهِ) لجميع أمته (إذ أظهره الله تعالى بعد هذا) أي أطلعه وغلبه وعلاه (على صناديد العرب) أي أكابرهم (ومن ناوأه) مفاعلة من النوء وهو النهوض فأصله الهمز وابدل أي عاداه (من أشرافهم شيئا فشيئا) أي سنة فسنة ساعة فساعة وفي أصل التلمساني فيما فشا من الفشو وهو الكثرة والظهور والنمو وما موصولة واقعة على الخبر وفي بمعنى على أي على ما فشا وشاع وذاع من الخبر أي أن أمره في ذلك ليس بخفي بل هو ظاهر جلي أو فى على أصلها أي في فاشي الخبر وظاهر الأثر (ونمى) بتشديد الميم أي زكى (أمره) وعلا قدره وفي نسخة بتخفيف الميم (حتّى قهرهم) أي غلبهم فنهاهم وأمرهم كما روي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال يوم فتح مكة
من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن دخل داره وأغلق بابه فهو آمن وقال للأسراء منهم ما كنتم تقولون في أني فاعل بكم فقالوا أخ كريم وابن أخ كريم فقال اذهبوا فأنتم الطلقاء (وتمكّن من ملك مقاليدهم) جمع مقلاد بمعنى المفتاح أي مما ملكوه من البلاد واستولوا عليه بالانقياد أو بمعنى الخزانة أي مما خزنوه وجعلوه ذخيرة للنوائب وأعدوه عدة للمصائب فقد ملكه النبي عليه الصلاة والسلام وحواه (واستباحة ممالك كثير من الأمم) أي محال ملكهم ومواضع ملكهم وفي أصل التلمساني مماليك بالياء فهو جمع مملوك (غيرهم) أي غير صناديد العرب ونحوهم (بإظهار الله تعالى له) أي باعلاء كلمته في الدين (وتأييده) أي تقويته (بنصره) أي بإعانته من عنده (وبالمؤمنين) أي وبجعلهم أسبابا لنصره (وألّف بين قلوبهم) حتى صاروا اخوانا مسلمين وهذا كله مقتبس من قوله سبحانه وتعالى هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ومن قوله عز وعلا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً (وإمداده بالملائكة المسوّمين) بكسر الواو وفتحها كما قرىء بهما في السبعة قوله تعالى بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ أي معلمين بسيما خاصة أي علامة مختصة وهي إما بالملائكة وهي عمائم صفر وقيل كانت عمائم الملائكة يومئذ بيضاء وعمامة جبريل صفراء وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال لأصحابه الكرام يوم بدر تسوموا فإن الملائكة قد تسومت بالصوف الأبيض في فلانسهم ومغافرهم وأما بخيولهم فأنهم كانوا على خيل بلق مجزوزة الآذان والأعراف معلمة النواصي والأذناب بالصوف والعهن والمعنى اعلموا خيلهم واعلموا أنفسهم (ولو كان) أي محمد (ابن ملك) بكسر اللام (أو ذا أشياع) أي صاحب اتباع (متقدّمين) عليه في الزمان (لحسب كثير من الجهّال أنّ ذلك) أي ما ذكر (مُوجِبُ ظُهُورِهِ وَمُقْتَضَى عُلُوِّهِ وَلِهَذَا قَالَ هِرَقْلُ) بكسر الهاء وفتح الراء وسكون القاف ويجوز إسكان ثانيه وكسر ثالثه وهو منصرف والمراد به عظيم الروم (حين سأل أبا سفيان) أي ابن حرب وهو بإيليا (عنه) أي عن أحوال النبي عليه الصلاة والسلام كما رواه البخاري (هل في آبائه من ملك) بكسر الميم على أنها جارة إلا أنها زائدة لا بيانية ولا تبعيضية كما ذكره التلمساني أي من سلطان وروي من ملك بالفتح فيهما فمن موصولة لا شرطية كما وهم التلمساني (فقال) أي أبو سفيان (لاثم قال) أي هرقل (ولو كان في آبائه ملك) أي أحد من الملوك (لقلنا) في حقه هذا (رجل يطلب ملك أبيه وإذا) الظاهر أنها ظرفية والأولى أن تكون تعليلية أي ولأن (اليتم) وفي نسخة وأن اليتم وهو بضم أوله وأصله الانفراد ومنه الدر اليتيم لما لا نظير له في مقام التقويم ثم استعمل في فقد الأب قبل بلوغ ولده (مِنْ صِفَتِهِ وَإِحْدَى عَلَامَاتِهِ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ) كالتوراة والانجيل (وأخبار الأمم السّالفة) باللام والفاء أي السابقة الماضية (وكذا) أي نعت اليتم (وقع ذكره في كتاب أرمياء) بفتح الهمزة وسكون الراء وكسر
الميم فتحتية فألف مقصورة وروي ممدودة قال التلمساني وهو ابن حلقيا وقال الدلجي كأنه من انبياء بني إسرائيل وفي القاموس أرميا بالكسر نبي (وبهذا) أي نعت اليتم (وصفه ابن ذي يزن) بفتح الياء والزاء غير منصرف واسمه سيف وهو مالك اليمن (لعبد المطلّب) على ما تقدم من أنه يموت أبوه وأمه ويكلفه جده وعمه (وبحيرا) بفتح الموحدة وكسر الحاء المهملة وسكون التحتية فراء بعدها الف مقصورة أو ممدودة وهو الراهب الذي أبصره بأرض الشام وقد عد من الصحابة عند بعض الاعلام والمقصد أنه أيضا كذا ذكره (لأبي طالب) في ذلك المقام فروي نزل من صومعته وأخذ بيده عليه الصلاة والسلام وذلك حين خرج مع عمه أبي طالب إلى الشام فقال لعمه ما هذا الغلام منك فقال ابني فقال بحيرا ما هو بابنك وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا قال فإنه ابن أخي قال فما فعل أبوه قال مات وأمه حبلى به قال صدقت وتقدمت هذه القصة في فصل دلائل النبوة (وَكَذَلِكَ إِذَا وُصِفَ بِأَنَّهُ أُمِّيٌّ كَمَا وَصَفَهُ الله به) بقوله فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ وقوله الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ (فهي) أي صفة الأمية (مدحة له) بكسر الميم أي منقبة له وإن كانت منقصة لغيره (وفضيلة ثابتة فيه) أي في حقه بخصوصه (وقاعدة معجزته) أي أساس كرامته في خرق عادته الدالة على تحقق رسالته (إذ معجزته العظمى) بضم العين أي العظيمة في الغاية (من الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ إِنَّمَا هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِطَرِيقِ الْمَعَارِفِ) أي العلوم الجزئية (والعلوم) الكلية من الأخبار السابقة والآثار اللاحقة والأصول الدينية والفروع الشرعية والأحكام والحدود في السياسات العرفية مع قطع النظر عن جمال بلاغته وكمال فصاحته (مع ما منح) أي أعطي (صلى الله تعالى عليه وسلم) من الفضائل وحسن الشمائل هنالك (وفضّل) بصيغة المفعول مشددا أو مخففا أي وميز (به) عن غيره (من ذلك) أي من أجل كمالات ذاته وكمالات صفاته (كما قدّمناه في القسم الأوّل) وفي نسخة في القسم الأول أي من الباب الرابع (ووجود مثل ذلك) الكتاب الجامع للأبواب كما قال في مدحه بعض أولي الباب:
جميع العلم في القرآن لكن
…
تقاصر عنه أفهام الرجال
والمعنى أن ظهوره (مِنْ رَجُلٍ لَمْ يَقْرَأْ وَلَمْ يَكْتُبْ وَلَمْ يدارس) الممارس (ولا لقّن) في المدارس (مقتضى العجب) في عالم الفكر (ومنتهى العبر ومعجزة البشر وليس) أي فيه كما في نسخة (ذلك) الوصف بالأمي (نقيصة إذ المطلوب) بالذات (من الكتابة والقراءة المعرفة وإنّما هي) أي القراءة ونحوها (آلة لها) أي للمعرفة (وَوَاسِطَةٌ مُوَصِّلَةٌ إِلَيْهَا غَيْرُ مُرَادَةٍ فِي نَفْسِهَا فإذا حصلت الثّمرة والمطلوب) كان الأنسب أن يقال المطلب ليكون مسجعا مع قوله (استغني عن الواسطة) كالشجرة (وَالسَّبَبِ، وَالْأُمِّيَّةُ فِي غَيْرِهِ نَقِيصَةٌ لِأَنَّهَا سَبَبُ الجهالة وعنوان الغباوة) أي ومقدمة الضلالة والعنوان بضم أوله ويكسر ما يكتب على ظاهر الكتب ليعلم مجمل ما في باطنها وبهذا يعرف أن كشف العوارف وظهور المعارف في بعض الأميين من هذه الأمة
يكون من جملة الكرامة كما أشار إليه قوله سبحانه وتعالى وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً فإن العلم اللدني في العرف اللغوي ما يحصل للأمي من غير كسب ظاهر في الآدمي (فسبحان من باين أمره) أي غاير أمر النبي (مِنْ أَمْرِ غَيْرِهِ وَجَعَلَ شَرَفَهُ فِيمَا فِيهِ محطّة سواه) أي محل خفض قدر غيره (وَجَعَلَ حَيَاتَهُ فِيمَا فِيهِ هَلَاكُ مَنْ عَدَاهُ) أي من سواه من أرباب الأرواح وأصحاب الأشباح (وهذا شقّ قلبه) أي صدره مرة بعد مرة في حقه (وإخراج حشوته) بضم الحاء المهملة وتكسر وسكون الشين المعجمة وأصله ما في جوف الشيء مما هو محشو به كالإمعاء والكرش وسائر الأشياء والمراد بها هنا علقة سوداء كما رواه البخاري كانت حظا للشيطان وتعلقا له بها في مقام وسوسة الإنسان فإن شقه وإخراجها (كان تمام حياته) ونظام صفاته (وغاية قوّة نفسه) ونهاية قوة أنسه (وثبات روعه) بضم الراء أي قلبه حال خوفه وروعه ولله در من قال:
اقتلوني يا ثقاتي
…
إن في موتي حياتي
ولبعض أرباب الحال موتوا قبل أن تموتوا (وهو) على ما في نسخة أي شقه وإخراجها (فيمن سواه منتهى هلاكه) أي غاية أسباب هلاكه (وحتم موته) بالحاء المهملة أي وجوب وقوعه (وفنائه) والمعنى أنه نهاية علة موته وأفنائه (وهلمّ جرّا) أي وهكذا الأمر مستمرا (إِلَى سَائِرِ مَا رُوِيَ مِنْ أَخْبَارِهِ وَسِيَرِهِ) المؤذنة بآثاره وأسراره (ومآثره) أي مفاخرة ومكارمه التي تؤثر عنه (وتقلّله) أي طلب قلته ووري تبلغه أي طلب بلاغه وزاده إلى معاده (من الدّنيا) زاهدا فيها لا اضطرارا عنها (ومن الملبس) الناعم (والمطعم) اللذيذ (والمركب) المزين (وتواضعه) مع الخلق مع كمال ترفعه عند الحق عملا بقوله من تواضع لله رفعه الله رواه أبو نعيم في الحلية عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (ومهنته) بفتح الميم وتكسر على ما ذكره التلمساني وأبو زيد فلا يلتفت إلى نفي الأصمعي والزمخشري فإن من حفظ حجة على من لم يحفظ أي خدمته (نفسه في أموره) المحتاج إليها (وخدمة بيته) تهوينا على أهله وخدمه (زهدا) في الملك والملك والجاه المعد للهلك وقد سئل الزهري عن الزهد فقال هو أن لا يغلب الحلال شكره ولا الحرام صبره (ورغبة عن الدّنيا) أي اعراضا عنها لسرعة فنائها وقلة بقائها وكثرة عنائها وخسة شركائها وقد ورد لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة لما سقي كافرا منها شربة ماء رواه الترمذي عن سهل بن سعد (وتسوية بين حقيرها وخطيرها) أي عظيمها من قليلها وكثيرها (لسرعة فناء أمورها) وبقاء شرورها (وتقلّب أحوالها) وتغير أرباب أموالها ونعم المقول:
فلا تدوم على حال تكون بها
…
كما تلون في أثوابها الغول
(كلّ هذا) الذي ذكرناه (من فضائله) أي بعض شمائله (ومآثره) أي مكارمه التي تؤثر وتروى من مفاخره (وشرفه) أي طرفه وتحفه (كما ذكرناه) فيما سبق من محله ومجمل الكلام
ما ورد عنه عليه الصلاة والسلام بعثت لأتمم مكارم الأخلاق (فمن أورد شيئا منها مورده) أي ذكره في محله اللائق به (وقصد به مقصده) من تعظيم قدره وتبجيل أمره (كان حسنا) أي مستحسنا عند الله وخلقه (ومن أورد ذلك على غير وجهه) بتساهل في حقه (وقد علم منه) أي من إيراده ذلك (سوء قصده) من تنقص به (لحق بالفصول) الستة (التي قدّمناها) فيقتل أو يعزل أو يحبس كما قدرناها (وكذلك ما ورد من أخباره) من أفعاله وأقواله وأثاره (وأخبار سائر الأنبياء عليهم السلام في أحاديث) وفي نسخة في الأحاديث (ممّا في ظاهره إشكال) كحديث لم يكذب إبراهيم إلا إلى ثلاث كذبات (يقتضي أمورا لا تليق بهم بحال) من أحوالهم (وتحتاج إلى تأويل) يصرفها إلى تحسين مقالهم (وتردّد احتمال) من نقصان في جمال كمالهم (فلا يجب) أي فلا ينبغي (أن يتحدّث منها) بل يجب أن يسكت عنها ولا يؤتى بشيء منها (إلّا بالصّحيح) الثابت فيها (ولا يروى منها إلّا المعلوم) في الرواية (الثّابت) في الدراية (وَرَحِمَ اللَّهُ مَالِكًا فَلَقَدْ كَرِهَ التَّحَدُّثَ بِمِثْلِ ذلك من الأحاديث الموهمة للتّشبيه) المحتاجة إلى التأويل المقتضي للتنزيه (والمشكلة المعنى) المبنية على استعارة في المبنى كحديث البخاري وغيره ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول هل من داع فاستجيب له هل من سائل فأعطيه هل من مستغفر فاغفر له فإن نزوله سبحانه وتعالى كناية عن تنزيلات رحمته وموجبات إجابة دعوته وأسباب مغفرته أو يقال إنه سبحانه وتعالى له نزول يليق بشأنه مع اعتقاد التنزيه له عن انتقال وتغير ووجود مكان وزمان في ذاته وكذا الحكم في الآيات المتشابهات وسائر الأحاديث المشكلات فللسلف والخلف مذهبان فالمتقدمون على التسليم والتوكيل ومنهم أبو حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل والمتأخرون على التأويل والكل قائلون بالتنزيه ومانعون عن التشبيه وبالغ الإمام مالك حتى منع السؤال عن ذلك كما صرح به في قوله المجيب عن سؤاله الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة (وقال) أي مالك (ما يدعو النّاس) أي أي شيء يلجئ العامة ويسوقهم (إلى التّحدّث بمثل هذا) كحديث خلق الله آدم على صورته وكحديث إذا كان أحدكم يصلي فلا يبصقن قبل وجهه فإن الله بينه وبين القبلة (فقيل له إنّ ابن عجلان) بفتح أوله (يحدّث بها فقال لم يكن) ابن عجلان (من الفقهاء) مع أنه كان شيخ مالك ومن أعلام التابعين بالمدينة وروي عن أبيه وأنس بن مالك وغيرهما وعنه شعبة ويحيى بن سعيد القطان ونحوهما وثقه أحمد وابن معين وقال غيرهما سيىء الحفظ روي أنه حملت به أمه ثلاثة أعوام فشق بطنها لما ماتت فأخرج وقد نبتت أسنانه وفي الميزان للذهبي قال عبد الرحمن بن القاسم قيل لمالك إن ناسا من أهل العلم يحدثون قال من هم فقيل له ابن عجلان فقال لم يكن ابن عجلان يعرف هذه الأشياء ولم يكن عالما قال الذهبي قلت قال مالك هذا لما بلغه أن ابن عجلان حدث بحديث خلق الله آدم على صورته ولابن عجلان فيه متابعون وخرج في الصحيح انتهى فمعناه لم يكن يفقه ما ينشأ عن هذا من الفساد للعباد والخوض في
الباطل لأهل الفساد أو لم يكن من الفقهاء الذين يقدرون على تأويل الأخبار بل ممن يبقى على ظاهر ما ورد من الآثار والحاصل أنه كره التحديث مالك بأمثال ذلك في مجالس العامة لا التحديث المطلق المترتب عليه كتم العلم بالخاصة كما بسطنا هذه القضية في الخطبة قال القاضي المؤلف (وليت النّاس وافقوه) أي مالكا (عَلَى تَرْكِ الْحَدِيثِ بِهَا وَسَاعَدُوهُ عَلَى طَيِّهَا) أي عاونوه على طيء ذكرها في مجلس العامة (فأكثرها ليس تحته عمل) يحتاج إليه جمهور الخلق وحمله الدلجي على كراهة مطلق التحديث بها رواية وكتابة فقال هذه دعوى بلا بينة ومن ثمة لم يوافقه أحد كراهة التحديث بها إذ لم يقله عليه الصلاة والسلام لأصحابه عبثا ولا أخبر به عن ربه ليترك سدى مع أنه يلزم من كراهة التحديث بها كراهة تعليم الناس متشابه القرآن والتلاوة مع أمره عليه الصلاة والسلام بقوله (بلغوا ولو آية) وإنما ورد في الكتاب والسنة بعض المتشابهات ابتلاء للراسخين في العلم على قدم الثبات قلت اختار مالك سد باب الذريعة للمهالك العامة في ذلك كما وقع لسيدنا عمر رضي الله تعالى عنه مع أبي هريرة حيث أمره صلى الله تعالى عليه وسلم بأن يروي عنه عليه الصلاة والسلام أن من يشهد ان لا إله إلا الله حرمه الله على النار ومنعه عمر لئلا يتكل الناس ويتركوا عمل الأبرار بسماع هذه الأخبار ووافقه سيد الأخيار وقال دعهم يعلموا هذا ولم يرد عن أحد من الأئمة جواز رواية مثل هذه الأحاديث في مجالس الجهلاء والسفهاء فلم يخالف مالك في هذه المسألة أحدا من العلماء بل ثبت عنهم منع العامي عن علم الكلام ودقائق الصوفية الكرام خوفا عليهم من تزلزل عقائدهم وعدم الانتقاع بفوائدهم (وقد حكي) بصيغة المجهول أي روي مثل ذلك (عن جماعة من السّلف بل عنه) أي عن السلف (على الجملة) أي من حيث مجموعهم لا جميعهم (أنّهم كانوا يكرهون الكلام) أي مع العوام (فيما ليس تحته عمل) من الاحكام مما يؤخذ منه حكم شرعي ينتفع به الأنام (والنبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم أوردها) أي أحاديثه (على قوم عرب) في كمال أدب (يفهمون كلام العرب على وجهه) بدون صرفه عن ظاهر عبارته إلا لموجب يدعو إليه من حمله على إشارته (وتصرّفاتهم في حقيقته) باستعمال اللفظ فيما وضع له بحسب أصله (ومجازه) باستعماله في غير ما وضع له بقرينة عقلية أو حالية (واستعارته) باستعارة حرف كما في قوله تعالى وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ أي عليها أو فعل كما في ولما سكت عن موسى الغضب أي سكن وذهب (وبليغه) أي وبلاغته مما يطابق مقتضى الحال من فصاحته (وإيجازه) الجامع لقلة مبانيه وكثرة معانيه (فلم تكن في حقّهم مشكلة) أي لم توجد في الأحاديث بالنسبة إليهم كلمة مشكلة وجملة معضلة أو لم تكن هذه الأشياء المتقدمة في حقهم مشكلة موهمة لمعرفتهم بأساليب كلامهم وقوة إدراكهم وسرعة أفهامهم وفق مرامهم وهذا كله ببركة مجالسة نبي الأمة وكاشف الغمة (ثمّ جاء من غلبت عليه العجمة) بضم أوله أي اللكنة العجمية (وداخلته الأمّيّة) أي النسبة الجهولية والحالة الطفولية (فلا يكاد يفهم من مقاصد العرب) في مراصد الأدب (إلّا نصّها) أي ظاهرها لا تلويحها
(وصريحها) وفي نسخة تصريحها (ولا يتحقّق بإشاراتها) وفي نسخة إشاراتها (إلى غرض الإيجاز) أي الاقتصار والاختصار ميلا إلى الإطناب في عباراتها (ووحيها) أي خفي كلامها (وتبليغها) وفي نسخة صحيحة وبليغها وهو الأبلغ أي الأقوال المتضمنة لبلاغتها (وتلويحها) أي إشارتها إلى تحسين عبارتها بحسب فصاحتها (فتفرّقوا) أي من غلبت عليه العجمة حقيقة أو طبيعة (في تأويلها) أي الأحاديث الموهمة للشبهات المشكلة (أو حملها على ظاهرها) من غير تنزيه في باطنها (شذر مذر) بفتح أولهما وكسره فمعجمتين اسمان جعلا اسما واحدا للتأكيد فبنيا على الفتح كخمسة عشر ومحلهما نصب على الحال تفرقوا في كل وجه بحيث لا يرجى اجتماعهم بوجه ولا يقال في الإقبال وهذا في الأمثال مثل قولهم تفرقوا أيدي سبا وتمزقوا كل ممزق (فمنهم من آمن به) حق إيمانه من التنزيه (ومنهم من كفر) بحمله على التشبيه وهذا كله في الأحاديث الصحيحة والروايات الصريحة كحديث إن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب رجل واحد يصرفه كيف يشاء رواه أحمد ومسلم عن عمرو (فَأَمَّا مَا لَا يَصِحُّ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ) التي اشتهرت على ألسنة العوام أو ذكرت في كتب بعض العلماء الأعلام (فواجب أن لا يذكر منها شيء) لا سيما الوارد منها (فِي حَقِّ اللَّهِ وَلَا فِي حَقِّ أَنْبِيَائِهِ ولا يتحدّث بها) أي بألفاظها ومعانيها (وَلَا يُتَكَلَّفُ الْكَلَامُ عَلَى مَعَانِيهَا، وَالصَّوَابُ طَرْحُهَا) أي حذفها وعدم ذكرها (وترك الشّغل) وروي الاشتغال (بِهَا إِلَّا أَنْ تُذْكَرَ عَلَى وَجْهِ التَّعْرِيفِ بأنّها ضعيفة المقاد) بفتح الميم والقاف أي ضعيفة الرجال (واهية الإسناد) في المقال (وقد أنكر الأشياخ) جمع الشيوخ من العلماء (على أبي بكر بن فورك) بضم الفاء وفتح الراء غير منصرف للعجمة والعلمية وقد يصرف لعدم ثبوت العجمة (تكلّفه في مشكله) كأنه اسم كتابه (الكلام) بالنصب على أنه مفعول تكلفه وفي أصل الدلجي في مشكل الكلام (على أحاديث ضعيفة) إسنادا أو متنا (موضوعة لا أصل لها) لا موقوفة ولا مرفوعة وكان الأولى أن يقال ضعيفة أو موضوعة للفرق بينهما عند أرباب الأصول فإن الحديث الضعيف يعمل به في فضائل الأعمال اتفاقا (أو منقولة عن أهل الكتاب) من اليهود والنصارى وغيرهم (الّذين يلبّسون الحقّ بالباطل) كما أخبر الله به عنهم (كان) وفي نسخة وكان أي ابن فورك (يكفيه) أي ابن فورك (طرحها) أي نبذها وراء ظهره بعدم التفات إلى ذكرها (ويعنيه عن الكلام عليها) من جهة معانيها (التّنبيه على ضعفها) ووضعها ليجتنب عن التعلق بها إِذِ الْمَقْصُودُ بِالْكَلَامِ عَلَى مُشْكِلِ مَا فِيهَا إزالة اللّبس) أي الخط الكائن (بها واجتثاثها) مبتدأ أي اقتطاعها (من أصلها وطرحها) وتركها في فصلها (أكشف) أي أبين (للّبس وأشفى للنّفس) وفيه بحث إذ الحكم على الحديث بأنه ضعيف أو موضوع ليس بمقطوع لاختلاف المحدثين في رجال الاسناد بحيث لم يبق الاعتماد إذ قل حديث صحيح لم يقل بضعفه وعلته وقل حديث ضعيف بل موضوع لم يقل بصحته أو ثبوته فكأنه رحمه الله تعالى أتى بالتأويل في معناه على تقدير صحة مبناه ليزول الإشكال على جميع الاحتمال من الأحوال والله تعالى أعلم بمقاصد الرجال.