الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْبَابُ الْأَوَّلُ [فِي فَرْضِ الْإِيمَانِ بِهِ وَوُجُوبِ طاعته واتّباع سنّته]
(فِي فَرْضِ الْإِيمَانِ بِهِ وَوُجُوبِ طَاعَتِهِ وَاتِّبَاعِ سنّته صلى الله تعالى عليه وسلم وشرف وكرم) وفخم وعظم أي في بيان فرضية تصديقه في المعتقدات وفي وجوب طاعته في الواجبات واستحباب متابعته في المستحبات أو التقدير وفي وجوب اتباع شريعته التي تعم جميع الحالات وفي المغايرة بين الفرض والوجوب ايماء بأن الأول ركن الدين ومهماته والأخيران من مكملاته ومتمماته ولا يلزم من عدمهما فقد الأول بخلاف العكس فتأمل (إذا تقرّر بما قدّمناه) أي في ضمن ما تحرر (ثبوت نبوّته) أي بظهور معجزاته (وصحّة رسالته) أي بوضوح آياته (وجب الإيمان به) لأنه فرع ثبوتهما كتوقف المشروط على الشرط (وتصديقه فيما أتى به) أي من عند ربه تعالى من جهة الوحي الجلي أو من طريق الوحي الخفي والمعنى ووجب تصديقه بجميع ما في الكتاب والسنة وان كان وجوب تصديقه من جهة السنة ثابتا بالكتاب أيضا لقوله تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ولقوله تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ واحذروا أي من مخالفتهما فيما أمرا به ونهيا عنه وبما قررنا ظهرت المغايرة في العطف وإما كونه عطف تفسير كما ذكره الدلجي رحمه الله تعالى عند من يقول: الإيمان هو التصديق فقط فلا وجه له لأن المحققين على أن الإيمان هو التصديق والإقرار شرط لاجراء أحكام الإسلام والأعمال شرط الكمال بخلاف المعتزلة والخوارج حيث ادخلوا الأعمال في أجزاء الإيمان وعلى كل تقدير ففرق بين الإيمان برسالته عليه الصلاة والسلام وتصديق ما جاء به من الأحكام حتى لا يحرم الحلال ولا يحلل الحرام (قال الله تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) وهو الفرد الأكمل والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم الأفضل (وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا)[التغابن: 8] أي القرآن المشبه بالنور الفرقان بين الحق والباطل والبرهان المزيل لظلمات الشكوك والظنون والأوهام الحاصلة للجاهل والغافل وسمي نورا لأنه بإعجازه ظاهر بنفسه مظهر ما فيه لغيره (وقال: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً) أي بتصديق من بعثت إليهم وإخلاصهم وهدايتهم وبتكذيبهم وضلالتهم (وَمُبَشِّراً) أي بالجنة ونعيمها للمؤمنين (وَنَذِيراً) أي بالنار وأليمها للكافرين (لِتُؤْمِنُوا) قرىء بالخطاب والغيبة في السبعة أي لتصدقوا (بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ)[الفتح: 8- 9]، قال الدلجي رحمه الله تعالى: الخطاب له ولأمته أي على سبيل التغليب أولهم تنزيلا لخطابه منزلة خطابهم انتهى. والأظهر أن الضمير للأمة على قراءة الخطاب والغيبة كما يدل عليه سياق الكلام والله تعالى أعلم بحقيقة
المرام (وقال تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ) أي بذاته وصفاته (وَرَسُولِهِ) أي الثابت رسالته بمعجزاته (النَّبِيِّ) أي الجامع بين نعتي الرسالة والنبوة التي هي عبارة عن ولايته التي يأخذ بها الفيض السبحاني ويفيد النوع الإنساني (الْأُمِّيِّ)[الأعراف: 158] أي المنسوب إلى أم القرى وهي مكة المكرمة كما قال تعالى: لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها أو المنسوب إلى أمة العرب التي غالبها لم يقرأ ولم يكتب كما ورد أنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الحديث أو المنسوب إلى الأم يعني على الوصف الذي خرج به من بطن أمه ما اكتسب شيئا من القراءة والكتابة ونحوهما، وفيه إيماء إلى أنه على أصل الفطرة كما قال تعالى: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها وكما ورد كل مولود يولد على الفطرة الآية أي إلى آخرها وهو قوله تعالى: الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ أي بما أنزل عليه وعلى غيره من الرسل أو بأسمائه وصفاته واتبعوه في مأموراته ومنهياته لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ تفوزون بما تسعدون ببركاته (فالإيمان بالنبيّ محمد صلى الله تعالى عليه وسلم واجب) أي امتثالا لأمر ربه (متعيّن) أي لا يمكن التخلص عن حكمه (لا يتمّ) أي لأنه لا يتم لأحد (الإيمان) أي الشرعي (إلّا به) أي إلا بالإيمان به أو إلا بسببه (ولا يصحّ الإسلام) أي استسلام الأحكام (إلّا معه) أي إلا مع الإيمان به أو مع موافقة انقياده في حكم ربه. وفي نسخة إيمان وإسلام بتنكيرهما ثم هذا بناء على تغايرهما حقيقة واتخاذهما شريعة قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً)[الفتح: 13] . قيل: وضع الظاهر موضع الضمير إيذانا بأن من لم يجمع بين الإيمانين فهو كافر وعندي إن الأظهر في المعنى أن يقال واعتدنا للكافرين منهم ومن غيرهم فيكون المعنى الأعم هو الأتم أو المعنى اعتدنا لمن مات على كفره لتكون الآية جامعة بين النذارة والبشارة وهذا الملحظ أولى لأنه يشمل الكل كما لا يخفى (حدّثنا أبو محمد الخشنيّ الفقيه) بضم الخاء وفتح الشين المعجمتين نسبة إلى قبيلة خشينة، وقد تقدم.
وفي نسخة زيد الفقيه وقوله: (بقراءتي عليه) أي لا بمجرد سماعي لديه (ثنا) أي قال حدثنا (الإمام أبو عليّ الطّبريّ) بفتح مهملة وموحدة (حدّثنا) أي حدثنا (عبد الغافر الفارسيّ) بكسر الراء ويسكن. وفي نسخة: القاري وهو تصحيف وقد تقدم أيضا (حدّثنا) أي حدثنا (ابن عمرويه) بفتح مهملة وسكون ميم وفتح راء وواو فسكون تحتية فكسرها وضبط أيضا بضم راء وسكون واو فتحتية وفوقية مفتوحتين وهو الجلودي وقد تقدم (ثنا) أي حدثنا (ابن سفيان) وهو إبراهيم بن محمد بن سفيان راوي صحيح مسلم عنه (ثنا) أي حدثنا (أبو الحسين) رحمة الله تعالى عليه هذا هو مسلم صاحب الصحيح (ثنا) أي حدثنا (أميّة) بالتصغير (ابن بسطام) بكسر الموحدة وفتحها ويصرف وقد يمنع (ثنا) أي حدثنا (يزيد بن زريع) بضم الزاء مصغرا أخرج له الأئمة الستة (ثنا) أي حدثنا (روح) بفتح الراء أخرج له الستة ما عدا الترمذي رحمه الله (عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ) أحد علماء المدينة روى عنه شعبة ومالك وأخرج له مسلم والأربعة (عن أبيه.) هو عبد الرحمن بن يعقوب
الجهني أخرج له مسلم والأربعة (عن أبي هريرة رضي الله عنه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: (أمرت) أي أمرني الله تعالى إذ لا آمر له سواه (أن أقاتل النّاس) أي بمقاتلة الكفار وهو عام خص منه من أقر بالجزية (حتّى يشهدوا أن) أي أنه (لا إله إلّا الله) استثناء من الكثرة المفهومة من إله إذ مفهومه كلي في الذهن يتوهم منه الكثيرة في الخارج مع أنه ليس هناك إلا واحد واجب الوجود الموصوف بنعوت الكرم والجود. وفي رواية حتى يقولوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ (وَيُؤْمِنُوا بِي وَبِمَا جئت به،) أي مما أمرني ربي أو ألهمني في قلبي (فإذا فعلوا ذلك) أي آمنوا بهما والتزموا أحكامهما أو إذا فعلوا ما أقاتلهم لأجله (عصموا منّي دماءهم وأموالهم) أي منعوها فلا يجوز سفك دمائهم وأخذ أموالهم بسبب من الأسباب (إلّا بحقّها) أي إلا بحق يتعلق بها كقتل نفس بعدوان وزنى بعد احصان وكفر بعد إيمان كما ورد ويلحق بها ترك صلاة وزكاة بتأويل باطل فيهما (وحسابهم على الله) أي فيما يسرونه من كفر ومعصية فالحكم بالإيمان لظواهرهم والله متول لسرائرهم والحديث هذا قد أخرجه القاضي كما ترى من عند مسلم وهو في الإيمان. ورواه البخاري رحمه الله تعالى أيضا وفي رواية أخرجها الستة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال السيوطي وهو متواتر ولفظه أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إله إلا الله وإني رسول الله فإذا قالوها عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ على الله. وفي رواية عن أنس رضي الله تعالى عنه قيل: وما حقها، قال زنى بعد احصان أو كفر بعد اسلام أو قتل نفس فيقتل بها (قال القاضي أبو الفضل رحمه الله تعالى) يعني المصنف (والإيمان به صلى الله تعالى عليه وسلم) أي بالنبي عليه الصلاة والسلام (هو تصديق نبوّته) أي إنبائه عن الحق (ورسالة الله تعالى له) أي إلى الخلق والإضافة فيهما بمعنى الباء أوفى أي تصديقه بهما أو فيهما وهذا باعتبار ذاته وصفاته (وتصديقه في جميع ما جاء به) أي من معتقداته (وما قاله) أي وفي جميع مقولاته من مأموراته ومنهياته (ومطابقة تصديق القلب بذلك) أي بما ذكر (شهادة اللّسان) بالنصب وقيل بالرفع أي إقراره (بأنّه رسول الله) أي إلى جميع أفراد الإنس والجن أو إلى الخلق كافة (فإذا اجتمع) أي في العبد (التّصديق به بالقلب) وهو حقيقة الإيمان (والنّطق) أي معه (بالشّهادة بذلك) أي بما ذكر (باللّسان) أي وبالإقرار الذي هو شطر أو شرط على خلاف بين الأعيان (تمّ) أي كمل (الإيمان به) أي بالجنان (والتصديق له) أي باللسان (كما ورد في هذا الحديث) أي حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (نفسه) أي بعينه إلا أنه (من رواية ابن عمر رضي الله تعالى عنهما) أي لا من أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (أمرت أن) أي بأن (أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إلّا الله وأنّ محمّدا رسول الله) ، الحديث أخرجه الشيخان وفد سبق أن هذا اللفظ جاء من طريق أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أيضا وقد رواه أصحاب الستة عنه إلا أنه بلفظ أني رسول الله (وقد زاده) أي النبي عليه الصلاة والسلام ما ذكر (وضوحا في حديث جبريل) عليه السلام أي سؤاله عنه (إذ قال) أي حين
قال جبرائيل عليه السلام (أخبرني عن الإسلام فقال) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كما في نسخة وفي نسخة قال: ( «أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وأنّ محمّدا رسول الله» ) وهو الإقرار فعده من الإسلام وهو الانقياد الظاهري دال على أن الإيمان هو التصديق القلبي والانقياد الباطني (وذكر أركان الإسلام) أي بقية أركانه إذ الجملة خمسة كما ورد بني الإسلام على خمس حيث قال أن تشهد بالله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا (ثمّ سأله) أي سأله جبرائيل (عن الإيمان فقال: أن تؤمن بالله) أي أن تصدق بحقيقة ذاته وحقيقة صفاته (وملائكته) أي بأنهم عباد مكرمون مطيعون معصومون لا يوصفون بذكورة ولا أنوثة (وكتبه) أي بأنها منزلة من عنده (ورسله) أي بأنهم مبعوثون من الله تعالى إلى خلقه صادقون فيما جاؤوا به (الحديث) ؛ وتمامه واليوم الآخر أي وبأنه وما فيه كالبعث والحساب والثواب والعقاب حق وصدق وتؤمن بالقدر خيره وشره أي حلوه ومره والحديث بطوله مذكور في الأربعين وقد شرحناه في المبين المعين وهو حديث رواه الستة وغيرهم (فقد قرّر) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (أنّ الإيمان به) أي بالله سبحانه وتعالى وبما يجب الإيمان به من غيره (محتاج) وفي نسخة يحتاج (إلى العقد بالجنان) بفتح الجيم أي الاعتقاد الجازم بالقلب (والإسلام) أي وإن الإسلام (به) أي الانقياد الظاهري إليه وهو الإقرار به (مضطرّ إلى النّطق باللّسان) أي ليتم بالبيان فإن اللسان ترجمان الجنان (وهذه الحال) وفي نسخة الحالة (المحمودة التّامة) وفي نسخة هي المحمودة التامة أي عند الخاصة والعامة فإنه حينئذ نور على نور وسرور على سرور وجمع بين الظاهر والباطن فيصدق عليه أنه مؤمن مسلم إذ لا خلاف بين أهل السنة أنه حينئذ مؤمن وإن اختلفوا في كون الإقرار شطرا للإيمان أو شرطا لإجراء أحكام الإسلام فاندفع قول الدلجي رحمه الله تعالى إن هذا ذهاب منه إلى أن الإيمان اسم لفعل القلب واللسان وعليه بعض الأشعرية وغيرهم وإما قوله ووصفها بكونها تامة مؤذن بأن العقد بالجنان كاف وإن لم ينطق باللسان فهو مع كونه مناقضا لما سبق له من البيان مدفوع بالفرق الظاهر بين التمام والكمال كما لا يخفى على أرباب الحال لأن تمام الشيء يتوقف على حصول جميع اجزائه بخلاف كماله فإنه يتوقف على وجود ضيائه وبهائه وهو ههنا بأن يكتسب جميع الأوامر ويجتنب جميع الزواجر من الصغائر والكبائر والمعتزلة والخوارج جعلوا الأركان من أجزاء الإيمان والله المستعان هذا ويدل على ما قررنا ويشهد لما حررنا قوله: (وأمّا الحالة المذمومة) أي عند جميع الأمة المسلمة (فالشّهادة باللّسان دون تصديق القلب) أي من غير اعتقاد الجنان (وهذا) أي الاعتقاد المشتمل على الشقاق (هو النّفاق) أي الحقيقي وهو ابطان الكفر واظهار الإيمان وهذا كافر إذا علم حاله بالاتفاق (قال الله تعالى:) حال لازمة أي متعاليا عما لا يليق بذاته وصفاته (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ) أي توهيما منهم شهادة واطأت فيها قلوبهم ألسنتهم لا زعما منهم كما قاله
الدلجي رحمه الله لأنهم ما يزعمون ذلك حيث يعلمون حقيقة ما هنالك (وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) أي كما ظهروه ولو كان مخالفا لما ابطنوه والجملة احتراس من نفي رسالته المتوهم من قوله تعالى: (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ [المنافقون: 1] ) ولذا فسره المصنف بقوله: (أي كاذبون في قولهم) أي في دعواهم (ذلِكَ) أي كونك رسول الله صادرا (عن اعتقادهم وتصديقهم وهم لا يعتقدونه) أي والحال أنهم لا يعتقدون قولهم إنك لرسول الله (فلمّا لم يصدّق) أي لم يوافق (ذلك) أي قولهم وظواهرهم (ضميرهم) أي قلوبهم وبواطنهم وفي نسخة ضمائرهم وهو يحتمل الرفع والنصب (لم ينفعهم أن يقولوا) أي مجرد قولهم (بألسنتهم ما ليس في قلوبهم) أي لاعتقادهم أن قولهم ذلك كذب وخبر على خلاف ما عليه خال المخبر عنه (فخرجوا عن اسم الإيمان) أي عن أن يسموا بما اشتق منه فلم يكونوا مؤمنين في الدنيا (ولم يكن لهم في الآخرة حكمه) أي حكم الإيمان فلا يحشرون مع المؤمنين (إذ لم يكن معهم) أي إيمان كما في نسخة (ولحقوا بالكافرين) وفي نسخة بالكفار (فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) بفتح الراء وسكونها أي الطبقة السفلى من دركاتها كما أن المخلصين من المؤمنين في أعلى أماكن الجنة وأرفع درجاتها (وبقي عليهم حكم الإسلام) أي بحسب ظواهر الأحكام فيعاملون كالمسلمين لهم ما لهم وعليهم ما عليهم (بإظهار شهادة اللّسان) أي بسبب اظهارها منهم وهذا (في أحكام الدّنيا المتعلّقة بالأئمّة) أي أئمة الدين من العلماء العاملين (وحكّام المسلمين) أي من القضاة والسلاطين (الذّين أحكامهم على الظّواهر) أي جارية وسارية (بما أظهروه من علامة الإسلام) أي من الإذعان والانقياد وقبول الأحكام وهذا كله بحسب الظواهر (إِذْ لَمْ يُجْعَلْ لِلْبَشَرِ سَبِيلٌ إِلَى السَّرَائِرِ ولا أمروا) أي الأئمة والحكام (بالبحث عنها) أي عن السرائر (بل نهى النبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ التَّحَكُّمِ عَلَيْهَا وَذَمَّ ذَلِكَ) أي التحكم هنالك (وقال) أي فيما رواه البخاري لأسامة بن زيد لما قتل من اضطره فأسلم اقتلته بعد أن أسلم فقال معتذرا إنما أسلم مكرها فقال: (هلا شققت عن قلبه) أي لم ما كشفت عن ضميره وهذا أمر تعجيز إذ لا اطلاع على قلب أحد إلا لربه وقيل هلا إذا دخل على المضارع يفيد الأمر كقولك هلا تضرب زيدا وإذا دخل على الماضي يفيد التوبيخ كقولك هلا ضربت زيدا والحديث في صحيح مسلم عن أسامة بن زيد قال بعثنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في سرية فصبحنا الحرقات من جهينة فأدركت رجلا فقال لا إله إلا الله فطعنته فوقع في نفسي من ذلك فذكرته للنبي عليه الصلاة والسلام فقال أقال لا إله إلا الله وقتلته قلت يا رسول الله إنما قالها خوفا من السلاح فقال: هلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا الحديث والمعنى قالها عن قلبه أم لم يقل عن قلبه وأبعد الأنطاكي حيث قال الفاعل في قوله أقالها هو القلب (والفرق) وفي نسخة وللفرق (بين القول) أي باللسان (والعقد) أي بالجنان (ما جعل) بصيغة المفعول أو الفاعل وما مصدرية أي جعله أو موصولة أي الذي جعله النبي صلى الله تعالى
عليه وسلم (في حديث جبريل) عليه السلام أي المتقدم (الشّهادة) بالرفع أو النصب أي الإقرار (من الإسلام) أي من أركانه حيث قال مجيبا له عن سؤاله عنه أن تشهد (والتّصديق من الإيمان) أي وجعله فيه منه بقوله مجيبا له عن سؤاله عنه أن تؤمن (وبقيت حالتان أخريان بين هذين) أي الحالين وهما الحالة المحمودة لخلص المؤمنين والحالة المذمومة للمنافقين فيحتاج إلى بيانهما (إحديهما: أن يصدّق) أي المكلف (بقلبه ثمّ يخترم) بالخاء المعجمة على صيغة المجهول أي يقتطع ويموت (قبل اتّساع وقت للشّهادة) أي قبل أن يأتي بها (بلسانه) أي لضيق زمانه (فاختلف فيه) أي في أنه مؤمن أم لا (فَشَرَطَ بَعْضُهُمْ مِنْ تَمَامِ الْإِيمَانِ الْقَوْلَ وَالشَّهَادَةَ به) فعلى هذا لا يكون مؤمنا لعدم تمكنه من الإتيان بها وهذا قول ضعيف سواء قيل إن الإقرار شرط لإجراء الأحكام لا لحقيقة الإسلام أو شطر لأن قائله قائل بأنه ركن قابل لسقوطه في بعض الأنام كالأخرس وخال ضيق المقام (ورآه بعضهم) أي المصدق المذكور قبل تمكنه من الإقرار المسطور (مؤمنا) أي مصدقا ومسلما (مستوجبا للجنة) أي لعذره بعدم تمكنه من الإتيان به وأيضا لو لم يعتبر إيمانه للزم أن يكون في النار مخلدا وهو غير واقع كما أشار إليه المصنف حيث قال: (لقوله عليه الصلاة والسلام أي فيما رواه الشيخان (يخرج) بصيغة المفعول أو الفاعل (مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذرّة من الإيمان) وفيه تلويح إلى أنه وإن صغر قدره فقد عظم عند الله تعالى أمره ولا يضيع أجره وقد قال تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وهي كل جزء من أجزاء الهباء في الهواء والمراد بها غاية القلة التي قد يعبر عنها بالعدم أي لا يظلم أصلا (أجزائه بخلاف كماله فإنه يتوقف على وجود ضيائه وبهائه وهو ههنا بأن يكتسب جميع (فلم يذكر) أي النبي عليه الصلاة والسلام (سوى ما في القلب) أي لأن غيره غير نافع عند الرب في العقبى لانقضاء أحكام ظاهر الإسلام في الدنيا (وهذا) أي المؤمن بالجنان العاجز عن إقرار اللسان (مؤمن بقلبه) أي فينفعه إيمانه عند ربه (غير عاص) أي حيث اطاعه وآمن به (ولا مفرّط بترك غيره) أي بترك غير أمره من إقراره لعدم إدراك وقته وفقد استقراره (وهذا) أي الرأي من هذا البعض (هو الصحيح في هذا الوجه) أي لما بيناه من الوجه الذي عيناه (الثانية) أي الحالة الثانية (أن يصدّق بقلبه) أي ويكتفي بعلم ربه (ويطوّل مهله) بفتح الميم وسكون الهاء وتحرك أي زمانه (وعلم ما يلزمه من الشهادة) أي النطق بها (فلم ينطق بها جملة) أي مطلقا (ولا استشهد في عمره) أي ولا تشهد في عمره مرات كثيرة كما كان اللائق به أن يكررها ويتلذذ بذكرها ويقوم بشكرها (ولا مرّة واحدة) أي بل ولا كرة (فهذا) أي المؤمن المذكور بالوصف المسطور (اختلف فيه أيضا) أي كما اختلف فيما قبله (فقيل هو مؤمن) أي لأنه أتى بما يكفي من مقصود الإيمان (لأنّه مصدّق) أي بقلبه وهو من أحسن الأحوال (والشّهادة من جملة الأعمال) أي أركان الإسلام الموجبة للكمال (وهو) في نسخة فهو (عاص بتركها) أي بترك الشهادة كما لو ترك الصلاة والزكاة (غير مخلّد) أي في النار كما في نسخة
والمعنى إن دخلها لا يخلد فيها كما هو شأن المؤمن العاصي حيث يكون تحت المشيئة إلا أن هذا القول لا يصح عند من يقول الإقرار شطر وكذا عند من يقول إنه شرط حيث لا يوجد المشروط بدون الشرط حال إمكان وجوده فبطل قول الدلجي وهذا كما مر عند المحققين هو الحق ولا يعصى عند من يقول الإيمان هو التصديق فقط انتهى ولا يخفى أنه مخالف للإجماع لأن تارك الشهادة مع القدرة عاص عند الكل من غير نزاع وإنما الخلاف في أنه مؤمن أو ليس بمؤمن والله سبحانه وتعالى أعلم (وقيل ليس بمؤمن حتّى يقارن عقده) أي اعتقاده وتصديقه بالجنان (شهادة) أي إقرار بالله وبرسوله وفي نسخة شهادة اللسان وهي بالنصب وقيل بالرفع وكلاهما جائز لأن من قارن الشيء فقد قارنه ذلك الشيء وإنما قيل بنفي إيمانه (إذ الشّهادة إنشاء عقد والتزام إيمان) أي قبول أحكام الإسلام (وهي) أي الشهادة (مرتبطة مع العقد) أي جزم القلب (ولا يتمّ التّصديق مع المهلة) بضم فسكون أي مع الإمهال زمانا يسعه القيام بشرطه أو شطره (إلّا بها) أي بالشهادة سواء قلنا إنها شرط أو شطر كما بينا (وهذا) أي القول الثاني (هو الصّحيح) أي في أنه ليس بمؤمن لعدم قرانه عقد جنانه بإقرار لسانه مع تمكنه من بيانه في مهلة زمانه وأما قول الدلجي إن هذا إنما يقول به من يجعل الأعمال جزءا منه فخطأ ظاهر إذ أجمع أهل السنة على أن الأعمال ليست جزءا من حقيقة الإيمان خلافا للخوارج والمعتزلة وأما نسبة هذا القول إلى الشافعي رحمه الله تعالى والمحدثين فمحمول على أنها جزء من كمال الإيمان وإنما الخلاف لفظي في مراتب الإيقان فبطل قول الدلجي إن الإيمان قول وعمل واعتقاد كما هو مذهب الفقهاء والمحدثين أو قول واعتقاد كما هو مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى وأشياعه انتهى ولا يخفى أن هذا غفلة منه عن تحقيق الأشعري واتباعه ثم هذا الخلاف فيما إذا لم يؤمر بأداء الشهادة وإذا أمر بها وامتنع وتأبى عنها كأبي طالب فهو كافر بالإجماع (وهذا) أي ما ذكرنا في بحث الإيمان وفي نسخة وهذه أي هذه المسائل أو الأقوال هي الوسائل التي كتب فيها الرسائل لينتفع بها كل طالب وسائل (نبذ) بنون مفتوحة وسكون موحدة فذال معجمة أي شيء قليل يسير على ما في القاموس وهو مطابق لما في النسخ المعتبرة وموافق لما في الشروح المعتمدة وأما ما ذكره الدلجي من قوله بنون وباء موحدة مفتوحتين وفي نسخة بضم النون وسكون الباء جمع النبذة فليس في النسخ وهو مخالف لما في كتب اللغة بل في القاموس أن النبذة بفتح النون وتضم الناحية ولا ريب أن هذا المعنى لا يناسب مقام المرام فهو خالف الرواية والدراية نعم في نسخة نبذ بضم ففتح جمع نبذة أي قطعة يسيرة والمعنى أن ما ذكر من الإيمان وما يتعلق به صحة وعدما في هذا المكان شيء يسير يترتب عليه أمر كثير (يفضي) من الإفضاء أي يوصل ويؤدي (إِلَى مُتَّسَعٍ مِنَ الْكَلَامِ فِي الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وأبوابهما) أي مما يتعلق بهما من الأحكام (وفي الزّيادة فيهما والنّقصان) وفيه أن لا خلاف في زيادة مراتب الإسلام المتعلقة بالأعمال ونقصانها وإنما الخلاف في زيادة نفس الإيمان ونقصانه ويتفرع عليهما قوله: