الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل (وَمِمَّا يَجِبُ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ فِيمَا يَجُوزُ عَلَى النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم وما لا يجوز)
أي إطلاقه عليه (والذّاكر من حالاته) أي صفاته ومقالاته (ما قدّمناه في الفصل قبل هذا) الفصل (على طريق المذاكرة والتعليم أن يلتزم) أي المتكلم (في كلامه عند ذكره صلى الله تعالى عليه وسلم وذكر تلك الأحوال الواجب) بالنصب على المفعولية من الضمير المستكن في يلتزم وتقدير الكلام ومما يجب على المتكلم في كذا وكذا يلتزم في كلامه الواجب ومن قوله (من توقيره وتعظيمه) للبيان وفي بعض النسخ الواجبة بالتاء إيقاعا لها صفة الأحوال وخطؤه ظاهر إلا أن يتكلف ويأول بالثابتة في الفصول الستة (ويراقب) أي وأن يراعي (حال لسانه) بعظيم شأنه (ولا يهمله) أي يتركه ولا يرسله من غير بيانه (ويظهر عليه) أي على المتكلم (علامات الأدب عند ذكره) خوفا من الرب ونظيره قاله القراء إن الواجب على القارئ إذا قرأ آية فيها فعل الكفر كقوله تعالى لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ أن يخفض صوته عند المقول وأن يخضع في مقام الخوف والنول ويتذكر قوله تعالى لعيسى عليه الصلاة والسلام في المجمع العام أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ فإن مقتضى العقل الباهر والدين الظاهر هو أنه سبحانه وتعالى لولا أنه ذكره في كتابه وقرره في خطابه لكان واجبا أن لا يتحدث أحد عنهم بهذا الكلام تعظيما للملك العلام وتأمل قول ابن دينار لولا أن الله انزل في الفاتحة إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وأوجب علينا قراءته لما تلفظت بهذه الجملة لعدم اتصافي بهذه الخصلة (فإذا ذكر) المتكلم (ما قاساه) أي كابده عليه الصلاة والسلام (من الشّدائد) من جهة الخلق (ظهر عليه الإشفاق) أي الشفقة والرحمة (والارتماض) بالضاد المعجمة أي شدة الاحتراق وأصله القلق والشدة وهو من الرمض شدة الحر أو شدة الغيظ ومعناه أنه يتوقد له ويتغيظ به ويود لو كان في ذلك الوقت لا وقع بعامل ذلك ما قدر من آثار المقت وهذا معنى قوله (والغيظ على عدوّه) والغيظ بالظاء المعجمة الغضب أو شدته أو أوله وسورته وأغرب التلمساني بقوله والغيظ بالظاء والضاد وهي لغة (ومودّة الفداء) وهو بكسر الفاء ممدودا ومقصورا وبفتحها مقصورا أي ويجب أن يفدي بروحه وأبيه وأمه (للنّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) فيما أصابه (لو قدر عليه) أي على الفداء (والنّصرة لو أمكنته) لديه ونظيره في قراءة القرآن إذ قرأ آية الرحمة ينبسط ويطلبها وإذا قرأ آية العقوبة ينقبض ويستعيذ منها (وإذا أخذ في أبواب العصمة) وفي نسخة العظمة والظاهر أنه تصحيف وتحريف والمعنى إذا أشرع المتكلم في أبواب حفظ الله إياه في أحواله (وَتَكَلَّمَ عَلَى مَجَارِي أَعْمَالِهِ وَأَقْوَالِهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم تحرّى) بالحاء المهملة والراء المشددة أي اجتهد في تأديته ويطلب ويقصد (أحسن اللّفظ وأدب العبارة) بهمزة ممدودة أي أولاها (ما أمكنه) أي قدر ما قدر عليه (واجتنب بشيع ذلك) أي كريهه
(وهجر) أي ترك (من العبارة ما يقبح) ظاهره (كلفظة الجهل والكذب والمعصية) والمعنى لا ينسب شيئا منها وأمثالها إليه وإلى غيره من الأنبياء عليهم السلام ولا يستند إلى ما ورد في حقهم من قوله تعالى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى أي جاهلا بتفاصيل الإيمان كما ينبئ عنه قوله تعالى مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ ومن قوله عليه الصلاة والسلام ولم يكذب إبراهيم الا ثلاث كذبات ومفهومه أنه كذب ومن قوله تعالى وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى فإن لله ورسوله أن يعبرا بما شاآ في حق من شاآ (فإذا تكلّم) أي المتكلم (فِي الْأَقْوَالِ قَالَ هَلْ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْخُلْفُ في القول والإخبار) بكسر الهمزة لا يقول أيجوز عليه الكذب في قول أو خبر (بخلاف ما وقع سهوا) في لسانه (أو غلطا) في بيانه (ونحوه من العبارة) كالنسيان في شأنه فإنه لا لوم عليه ولا اعتراض لديه لحديث رفع عن أمتي الخطأ والنسيان (ويتجنّب لفظة الكذب) أي إطلاقها عليه (جملة واحدة) أي بالكلية (وإذا تكلّم على العلم) أي علمه عليه الصلاة والسلام (قَالَ هَلْ يَجُوزُ أَنْ لَا يَعْلَمَ إِلَّا ما علّم) كما يشير إليه قَوْلِهِ تَعَالَى وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ
(وَهَلْ يُمْكِنُ أَنْ لَا يَكُونَ عِنْدَهُ عِلْمٌ من بعض الأشياء حتّى يوحى إليه) لقوله تعالى وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً أي بذاته وقوله تعالى قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وقوله قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وفي الحديث مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ الآية وفي حديث جبريل ما المسؤول عنها بأعلم من السائل وقد قال تعالى إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها أي عن نفسي لو كان أمكن فضلا عن غيري والحاصل أن الأنبياء لم يعلموا المغيبات من الأشياء إلا بما اعلمهم الله تعالى أحيانا وقد صرح علماؤنا الحنيفة بتكفير من اعتقد أن النبي يعلم الغيب لمعارضة قوله تعالى قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ كذا في المسايرة للإمام ابن الهمام (ولا يقول بجهل) النبي (لقبح اللّفظ وبشاعته) بل يقول لا يدري مثلا وقت مجيء الساعة قال حسن العبارة معتبر عند ارباب الإشارة كما حكي أنه كان معبر ان لبعض الأمراء وجعل وظيفة أحدهما ألفا والآخر نصفه ندماؤه وجلساؤه عن وجه الفرق بينهما لاتحادهما في مراتب العلم والصلاح والأدب فسألوه عن ذلك وعن تمييزهما بما هنالك فقال رأيت في النوم أن أسناني سقطت فصاحب الألف عبر بأنك تعيش بعد أقوامك كلهم وعبر الآخر بأنهم يموتون قدامك جميعهم فانظروا فالفرق بين العبارتين مع أن مؤداهما واحد في الإشارتين (وإذا تكلّم) المتكلم (في الأفعال) الصادرة عنه عليه الصلاة والسلام (قَالَ هَلْ يَجُوزُ مِنْهُ الْمُخَالِفَةُ فِي بَعْضِ الأوامر والنّواهي) ولا يعبر عنها بالكبائر والمعاصي (ومواقعة الصّغائر) بل الأولى أن يعبر عنها بالزلات والمكروهات بل وخلاف الأولى (فهو) أي ما ذكر من العبارات (أولى وآدب) بمد الهمزة أي أكثر تأدبا (مِنْ قَوْلِهِ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَعْصِيَ أَوْ يُذْنِبَ أَوْ يَفْعَلَ كَذَا وَكَذَا مِنْ أَنْوَاعِ المعاصي) المشتملة على الصغائر والكبائر (فهذا) الذي قدمناه (من حقّ توقيره) وفي نسخة زيادة وبره أي طاعته أو إكرامه عليه الصلاة والسلام وَمَا يَجِبُ لَهُ مِنْ تعزير) أي تبجيل
(وإعظام وقد رأيت) ويروى ورأيت (بعض العلماء لم يتحفّظ من هذا) الذي ذكرناه ويروى في هذا (فقبّح منه) ما صدر عنه (ولم استصوب عبارته فيه) ولذا اكتفيت بذكر إشارته (ووجدت) وروي رأيت (بعض الجائرين) بالجيم من الجور أي المائلين عن الاقتصاد وفي رواية بالحاء المهملة من الحيرة وهو التردد أي من المتحرين في سبيل الرشاد غير متمكنين على طريق السداد (قوّله) بتشديد الواو أي نسبه إلى الخطأ في قوله الخاص به (لِأَجْلِ تَرْكِ تَحَفُّظِهِ فِي الْعِبَارَةِ مَا لَمْ يقله) والمعنى زعم لأجل ترك تحفظه أنه قال ما لم يقله (وشنّع) ذلك البعض (عليه) أي على من لم يتحفظ (بما يأباه) كلامه (ويكفّر قائله وإذا كان مثل هذا) الاستعمال بالتحفظ في الأقوال (بَيْنَ النَّاسِ مُسْتَعْمَلًا فِي آدَابِهِمْ وَحُسْنِ مُعَاشَرَتِهِمْ وخطابهم فاستعماله في حقّه عليه الصلاة والسلام أوجب) أي الزم (والتزامه آكد) بمد الهمزة أي أوثق وأتم قال الدلجي قوله أوجب أي وجوب فرض لا وجوب تأكيد وهما عند امامنا الشافعي مترادفان سواء ثبت بدليل قطعي أو ظني وفرق أبو حنيفة بأن ما ثبت بقطعي ففرض وما ثبت بظنه فواجب لأن التفاوت بين الكتاب وخبر الآحاد يوجب التفاوت بين مدلوليهما لكنهم خالفوا قاعدتهم من إطلاقهم الفرض على ما ثبت بظني كقولهم الوتر فرض والزكاة واجبة انتهى ولا يخفى أن الفرق بينهما إنما هو بحسب الاعتقاد دون العمل فإن كلاهما فرض بهذا الاعتبار لكن ثواب الفرض أكثر وعقاب ترك الواجب أقل ومما يفيد الفرق أن منكر الفرض كافر بخلاف منكر الواجب وهذا هو بحسب أصل الاصطلاح الشرعي وقد يستعار أحد اللفظين مقام الآخر في الاستعمال اللغوي ومن لم يميز بين الدليل القطعي والظني فلا كلام معه لا من جهة النقل ولا من جهة العقل على أن الشافعية أضطروا إلى الفرق بينهما في أحكام الحج حجة عليهم ثم هذا المبحث لم يكن في محله ولكنه لما أبدي هذا المقال أوجب لنا حل عقال هذا الإشكال على أن قوله وجوب فرض لا وجوب تأكيد لا طائل تحته (فجودة العبارة تقبّح الشّيء) الواحد (أو تحسّنه) كما قدمناه في حكاية المعبرين (وتحريرها وتهذيبها يعظّم الأمر أو يهوّنه ولهذا قال صلى الله تعالى عليه وسلم إنّ من البيان لسحرا) رواه مالك وأحمد والبخاري وأبو داود والترمذي عن ابن عمر ثم البيان فصاحة اللسان والسحر صرف الشيء عن وجهه والحديث يحتمل المدح والذم أما على الأول فمعناه أنه يستميل النفوس ويأخذ بها لحسنه عندها من بلاغته وفصاحته وحسن تأليفه في عبارته وإشارته وتزيين مبانيه وتحسين معانيه بحيث يرتضي به الساخط ويستذل به الصعب كما يفعل السحر من الأمر العجب ولذلك قالوا فيه السحر الحلال ويؤيده أن في نفس الحديث زيادة رواية وأن من الشعر لحكمة وأما على الثاني فمعناه في المتشدق الذي يمدح من لا يمدح في الفعل ويطنب فيما لا يحل من القول ويحسن القبيح من ذلك ويقبح الحسن هنالك وأن فعل ذلك حرام كالسحر ويكتسب صاحبه من الاثم في قوله ما يكتسبه الساحر بعلمه وقد أورد مالك رحمه الله تعالى الحديث في الموطأ في باب ما يكره من الكلام ولعله اختار القول الثاني في هذا
المقام والله تعالى اعلم بالمرام (فأمّا ما أورده) المتكلم (على جهة النّفي عنه والتّنزيه) له عليه الصلاة والسلام منه (فلا حرج في تسريح العبارة) أي إرسالها وإطلاقها (وتصريحها فيه) أي في حقه عليه الصلاة والسلام (كقوله لا يجوز عليه الكذب جملة) أي مجملا ومطلقا أو جميع أنواعه (ولا إتيان الكبائر بوجه) أي لا عمدا ولا سهوا (ولا الجور) أي الميل والظلم (في الحكم) بين الناس (على حال) من الغضب والرضى (وَلَكِنْ مَعَ هَذَا يَجِبُ ظُهُورُ تَوْقِيرِهِ وَتَعْظِيمِهِ وتعزيره) أي تبجيله (عند ذكره مجرّدا) عن إثبات وصف أو نفيه (فكيف عند ذكر مثل هذا) الكلام المشتمل على نعته على جهة النفي أو ثبوته (وقد كان السّلف) من أئمة الدين كزين العابدين وجعفر الصادق ومحمد بن المنكدر (تظهر عليهم حالات شديدة) من تغير لون وبكاء ورعدة (عِنْدَ مُجَرَّدِ ذِكْرِهِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْقِسْمِ الثّاني وكان بعضهم يلتزم مثل ذلك) من ظهور التوقير (عِنْدَ تِلَاوَةِ آيٍ مِنَ الْقُرْآنِ حَكَى اللَّهُ تعالى فيها مقال عداه) بكسر أوله أي اعدائه من اليهود والنصارى (وَمَنْ كَفَرَ بِآيَاتِهِ وَافْتَرَى عَلَيْهِ الْكَذِبَ فَكَانَ يخفض بها صوته) في تلاوته (إعظاما لربّه وإجلالا له) أي لقدره وأمره (وإشفاقا) على نفسه حذرا (من التّشبّه بمن كفر به سبحانه لا إله إلا هو العلي العظيم) فعن إبراهيم النخعي أنه كان إذا قرأ قوله تعالى وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ يخفض بها صوته أي بمقولهم وأمثال ذلك من كفرياتهم.