الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس بيع الأراضي للاحتلال حال الاستضعاف
الأصل في التعامل مع الكافر في البيع أو الشراء هو الحل والإباحة، إلا أنه عندما تتعرض دولة إسلامية للاحتلال، فإن قاعدة سد الذرائع تقتضي تحريم المباح إذا أفضى إلى حرام، فهل يجوز للمسلمين بيع الأراضي أو العقارات أو تأجيرها على الكافر المحارب؟
إن عموم الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع والمعقول تدل بوضوح على حرمة التعامل مع الاحتلال في أي أمر من شأنه أن يزيدهم قوة وتسلطًا على المسلمين، ويُطيل من أمد بقائهم في ديار الإسلام، ومن جملة هذه الأدلة ما يلي:
1 -
قال تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1)، وفي بيع الأرض أو تأجير العقار للكافر المحارب فردًا أو جماعة إعانة لهم على العدوان ومحاربة المسلمين.
2 -
قال تعالى: {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} (2)، قال ابن القيم رحمه الله:"ومن أعظم السبيل تسليط الكافر على انتزاع أملاك المسلمين منهم وإخراجهم منها قهرًا"(3)، فإن من يملك الأرض ملك كل شيء.
3 -
قال اللَّه تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (4)، إن بيع الأرض أو العقارات وتأجيرها للمحاربين فيه خيانة عظيمة للمسلمين.
(1) سورة المائدة، من الآية [2].
(2)
سورة النساء، من الآية [141].
(3)
أحكام أهل الذمة، 1/ 593.
(4)
سورة الأنفال، الآيتان [27 - 28].
4 -
حرم الفقهاء بيع السلاح للكفار المحاربين وكل ما يُستعان به في القتال ضد المسلمين (1)، ونقل النووي رحمه الله الإجماع على ذلك، فقال:"وأما بيع السلاح لأهل الحرب فحرام بالإجماع"(2)، كما ذهب الفقهاء إلى تحريم بيع الطعام، أو بيع الدار أو تأجيرها لمن يتخذنها كنيسة أو معبدًا أو من يجعل فيها الخمر (3)، وبيع الأرض للكافر المحارب عون له على القتال ضد المسلمين، بل هو أعظم من بيع السلاح له، فهو إنما يشتري السلاح ليحتل الأرض، وببيعها له فإن يحصل على مراده دون الحاجة إلى السلاح.
5 -
قال صلى الله عليه وسلم: (المُسْلِمُ أَخو المُسْلِمِ لا يظلمه ولا يُسْلِمُهُ)(4)، وفي بيع السلاح للكافر المحارب خذلان للمسلم وإسلام وظلم له.
6 -
عن علي رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: (لعن اللَّه من لعن والده، ولعن اللَّه من ذبح لغير اللَّه، ولعن اللَّه من آوى مُحدِثًا، ولعن اللَّه من غيَّرَ منار الأرض (5)) (6).
(1) فتح الباري، 4/ 410، ومرقاة المفاتيح، 6/ 93، والبحر الرائق، 5/ 86، والوسيط، محمد بن محمد الغزالي، تحقيق: أحمد محمود، دار السلام: القاهرة، ط 1، 1417 هـ، 3/ 69.
(2)
المجموع، 9/ 335.
(3)
انظر: مواهب الجليل، 4/ 254، والفروع، 2/ 336.
(4)
أخرجه البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه، رقم: 2310، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، رقم:2580.
(5)
منار الأرض: "بفتح الميم: علامات حدودها، جمع منارة، وهي العلامة التي تجعل بين حدين للجارين، وتغييرها أن يدخلها في أرضه فيكون في معنى الغاصب"، فيض القدير، 5/ 275.
(6)
أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب حرم المدينة، رقم: 1771، ومسلم، باب تحريم الذبح لغير اللَّه تعالى ولعن فاعله، رقم:1978.
والمراد بالمحدث هو من يأتي بفساد في الأرض بفعل جناية أو معصية توجب الْحَدَّ أو بدعة في الدين أو ظلم (1)، "ومن أَعظَمِ الحَدَثِ تَعطِيلُ كتابِ اللَّه وسُنَّةِ رسُولهِ، وإِحدَاثُ ما خَالفَهُمَا، وَنَصرُ من أَحدَثَ ذلك والذَّبُّ عنه"(2)، قال ابن تيمية رحمه الله:"ومن آوَى مُحَارِبًا، أَو سَارِقًا، أَو قَاتِلًا ونَحْوَهُم، ممَّن وجب عَلَيْهِ حَدٌّ أَو حَقٌّ للَّه تَعَالَى أَو لآدَمِيَّ، ومَنَعَهُ مِمَّن يَسْتَوْفِي منْهُ الوَاجِبَ بِلا عُدْوَانٍ، فَهُوَ شَرِيكُهُ في الجُرْمِ. ولقد لَعَنَهُ اللَّه ورَسُولُهُ"(3)، فمن آوى المحاربين فقد شاركهم في الإثم فاستحق اللعنة، وكذلك من غير منار الأرض وتلاعب بعلاماتها، ولا شك أن من باع الأرض للكافر المحارب أو أجرها له يكون أشد إثمًا، وأعظم ضررًا على المسلمين، فمن غير منار أرض سرق أمتارًا أو أقل له ولذريته وهو مسلم، أما من باعها للمحتل فقد سرق أرض الأمة، وأجيال المسلمين وتنازل عن تضحيات من حفظها وفتحها، وباع حق القادم من أبنائها، ولا عذر له بالاضطرار، لأن الاضطرار لا يسقط حق الغير كما هو مقرر لدى الفقهاء (4).
(1) والمحدث: "بضم أوله وسكون الحاء المهملة وبعد الدال مثلثة، أي" أحدث المعصية"، فتح الباري، 13/ 281، وانظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 13/ 141، وتبيين الحقائق، 4/ 135، وفتح الباري، 13/ 281، والمفهم لما أشكَل من تَلخِيصِ كتاب مُسلم، أحمد بن عمر القرطبي، تحقيق: محيي الدين ديب، ويوسف بديوي، وأحمد السيد، ومحمود بزال، دار ابن كثير، ودار الكلم الطيب: دمشق - بيروت، ط 1، 1417 هـ، 3/ 487.
(2)
إعلام الموقعين، 4/ 405.
(3)
السياسة الشرعية، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد: المملكة العربية السعودية، ط 1، 1419 هـ، ص 119.
(4)
انظر: درر الحكام، 1/ 38، وقواعد الفقه، 1/ 60، وشرح القواعد الفقهية، 1/ 213، وحاشية ابن عابدين، 3/ 391.
7 -
أنه عليه الصلاة والسلام هم أن يُصالح غَطفان على شطر ثمار المدينة ليكفوا عن المدينة ويفرق الأحزاب وكتب بذلك صحيفة (1).
ووجه الدلالة: أن أقصى ما أراد أن يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم في حال الضرورة (2) هو أن يعطي الكفار جزءًا من الثمار، ومع هذا رفض الصحابة رضي الله عنهم هذا الأمر، فدل هذا على عدم جواز بيعهم الأرض حال الضرورة.
8 -
ما رواه عمران بن حصين (3) موقوفًا: (نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن بيع السلاح في الفتنة)(4)، وهذا النهي مرتبط بالزمان، وإن كان الأصل جواز بيع السلاح للمسلمين، فإن منع بيع الأرض للمحتل أو لمن يبيعها له أشد ضررًا وخطرًا من بيع السلاح حال الفتنة.
(1) سبق تخريجه ص 61.
(2)
انظر: شرح السير الكبير، 5/ 1695.
(3)
عمران بن حصين بن عبيد بن خلف بن كعب بن عمرو الخزاعي، يكنى أبا نجيد بابنه نجيد، وكان إسلامه هو وأبو هريرة عام خيبر وغزا عدة غزوات، وكان صاحب راية خزاعة يوم الفتح، وقال الطبراني أسلم قديما هو وأبوه وأخته، وكان ينزل ببلاد قومه ثم بعثه عمر رضي الله عنه إلى البصرة ليفقه أهلها، اعتزل الفتنة فلم يقاتل فيها، مات بالبصرة سنة اثنتين وخمسين في خلافة معاوية رضي الله عنهما، انظر: الإصابة في تمييز الصحابة، 4/ 705، والاستيعاب في معرفة الأصحاب، 3/ 1208.
(4)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، 5/ 327، رقم: 10561، ومسند البزار، 9/ 63، رقم: 3589، قال في شرح فتح القدير، 5/ 461:"وأخرجه ابن عدي في الكامل عن محمد بن مصعب القرقساني، وقد اختلف فيه، ضعفه ابن معين، وقال ابن عدي: وهو عندي لا بأس به، ونقل عن أحمد نحو ذلك"، وفى نصب الراية، 3/ 391:"والصواب موقوف"، وفي مجمع الزوائد، 4/ 87:"فيه بحر بن كنيز السقاء، وهو متروك"، وفي تلخيص الحبير، 3/ 18:"رواه بن عدي والبزار والبيهقي مرفوعًا وهو ضعيف، والصواب وقفه وكذلك ذكره البخاري تعليقًا".
9 -
ومن المعقول أن بيع الأراضي للاحتلال قد يؤدي إلى تحول الدار من دار إسلام إلى دار حرب مع مرور السنين، وقد منع الفقهاء المسلم في حال قدرته على الامتناع في دار الحرب أن يهاجر منها لئلا يصير موضعه دار حرب، قال النووي رحمه الله:"إن قدر -أي: المسلم- على الامتناع في دار الحرب والاعتزال، وجب عليه المقام بها؛ لأن موضعه دار إسلام، فلو هاجر لصار دار حرب، فيحرم ذلك"(1)، وبالتالي فإن بيع الأرض للكافر المحارب أشد حرمة وضررًا؛ "لأن حفظ الموجود أولى من تحصيل المفقود، ودفع الضرر أولى من جلب النفع"(2).
10 -
إن من أركان الدولة الأساسية في النظم الوضعية المعاصرة هي: السكان (الشعب)، الأرض، السلطة الحاكمة (3)، فإن تم بيع الأرض للمحتل تبعه مع مرور الوقت خروج السكان، لاسيما مع فرض الاحتلال للقوانين التي ترتبط بتملك الأرض والعقار، واستغلاله للقوانين والأنظمة حتى إذا تمكن من الأرض وضيق على السكان وأخرجهم، تذرع بالاستفتاء أو الانتخابات ونحوها من الأنظمة لاكتساب القانونية وإضفاء الشرعية على وجوده.
11 -
ذهب الحنابلة إلى عدم جواز الشفعة للذمي على المسلم خلافًا للجمهور (4)، واستدلوا لهذا المنع بأن الشفعة من حقوق المسلمين بعضهم على بعض فلا حق للذمي
(1) روضة الطالبين، 10/ 282.
(2)
انظر: قواعد الأحكام في مصالح الأنام، 1/ 81.
(3)
انظر: مبادىء القانون الدولي العام، محمد حافظ غانم، مطبعة النهضة الجديدة: القاهرة، ط 1، 1967 م، ص 146، ومعالم الدولة الإسلامية، محمد سلام مدكور، مكتبة الفلاح: الكويت، ط 1، 1983 م، ص 57، والدولة الإسلامية المعاصرة الفكرة والتطبيق، جمال الدين محمد محمود، دار الكتاب المصري: القاهرة، ودار الكتاب اللبناني: بيروت، ط 1، 1413 هـ، ص 19.
(4)
انظر: المبسوط للسرخسي، 14/ 93، والأم، 4/ 213، ومواهب الجليل، 5/ 311.
فيها، وبالأمر الوارد باضطرارهم إلى أضيق الطريق (1)، ولم يجعل لهم حقًا في الطريق المشترك عند تزاحمهم مع المسلمين، فكيف يجعل لهم حقًا إلى انتزاع ملك المسلم منه قهرًا، بل هذا تنبيه على المنع من انتزاع الأرض من يد المسلم وإخراجه منها لحق الكافر لنفي ضرر الشركة عنه، وضرر الشركة على الكافر أهون عند اللَّه من تسليطه على إزالة ملك المسلم عنه قهرًا، ولأن حق الشفعة للذمي يتضمن مع إضراره بالمسلم إضرارًا بالدين، وتملك دار المسلمين منهم قهرًا وشغلها بما يُسخط اللَّه بدل ما يرضيه وهذا خلاف قواعد الشرع، كما أن الذمي تبع لنا في الدار وليس بأصل من أهل الدار، وتملكه فيها من باب الضرورة (2). فإن كان هذا الأمر في شأن الذمي الذي هو من رعايا الدولة الإسلامية وتبع لها ويدفع الجزية مع الصغار، واختلاف الفقهاء في مسألة حق الشفعة للذمي فيه إشارة لعدالة الإسلام معهم، وذلك الخلاف في حال الأمن من شرهم وخضوعهم لأحكام المسلمين، فكيف الحال ببيع الأرض أو الدار للكافر المحارب؟.
(1) لما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: (لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتم أحدهم في الطريق فاضطروهم إلى أضيقه)، أخرجه الترمذي، كتاب السير، باب ما جاء في التسليم على أهل الذمة، رقم: 2700، وقال:"حديث حسن صحيح"، وابن حبان في صحيحه، 2/ 253، رقم: 500، قال ابن حجر رحمه الله في فتح الباري، 11/ 40:"معناه لا تتنحوا لهم عن الطريق الضيق إكراما لهم واحتراما، وعلى هذا فتكون هذه الجملة مناسبة للجملة الأولى في المعنى، وليس المعنى إذا لقيتموهم في طريق واسع فألجئوهم إلى حرفه حتى يضيق عليهم؛ لأن ذلك أذى لهم وقد نهينا عن أذاهم بغير سبب".
(2)
انظر: اقتضاء الصراط، 1/ 242 - 243، وأحكام أهل الذمة، 1/ 591 - 593، والمغني، 5/ 224.
وخلاصة هذه المسألة: عدم جواز بيع الأرض أو تأجيرها على الكافر المحارب، وقد أصدر مؤتمر علماء فلسطين الأول في 25 يناير 1935 م فتوى بالإجماع تحرِّم بيع أي شبر من أراضي فلسطين لليهود، ويعدُّ البائع والسمسار والوسيط المستحل للبيع مارقين من الدين، خارجين من زمرة المسلمين، وحرمانهم من الدفن في مقابر المسلمين، ومقاطعتهم في كل شيء والتشهير بهم (1)، وإن كان لفلسطين خصوصية وأهمية، إلا أن الأدلة التي وردت كفيلة للدلالة على أن هذا الحكم يشمل كل بلاد الإسلام.
* * *
(1) انظر: موسوعة الأسئلة الفلسطينية، ص 220 - 269.