المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الأول تفاوت قدرات المستضعفين - الاستضعاف وأحكامه في الفقه الإسلامي

[زياد بن عابد المشوخي]

فهرس الكتاب

- ‌تقريظ

- ‌المقدمة

- ‌الباب الأول تعريف الاستضعاف وأنواعه ومظاهره

- ‌الفصل الأول: تعريف الاستضعاف

- ‌المبحث الأول: تعريف الاستضعاف

- ‌المطلب الأول: تعريف الاستضعاف لغة

- ‌المطلب الثاني: تعريف الاستضعاف اصطلاحًا

- ‌المبحث الثاني: مفهوم الاستضعاف في القرآن الكريم

- ‌المبحث الثالث: مفهوم الاستضعاف في الأحاديث النبوية

- ‌المبحث الرابع: بيان الألفاظ ذات الصلة

- ‌المطلب الأول: تعريف الإكراه

- ‌الفرع الأول: تعريف الإكراه لغة:

- ‌الفرع الثاني: تعريف الإكراه اصطلاحًا:

- ‌الفرع الثالث: استخدام الفقهاء لكلمة الإكراه:

- ‌المطلب الثاني: تعريف الاضطرار

- ‌الفرع الأول: تعريف الاضطرار لغة:

- ‌الفرع الثاني: تعريف الاضطرار اصطلاحًا:

- ‌المطلب الثالث: الفرق بين الضرورة والحاجة

- ‌المطلب الرابع: تعريف الاضطهاد

- ‌المبحث الخامس: المقارنة بين الاستضعاف والألفاظ ذات الصلة

- ‌الفصل الثاني: أنواع الاستضعاف ومظاهره

- ‌المبحث الأول: أنواع الاستضعاف

- ‌المطلب الأول: تقسيم الاستضعاف باعتبار درجته

- ‌المطلب الثاني: تقسيم الاستضعاف باعتبار من يقع عليه

- ‌المطلب الثالث: تقسيم الاستضعاف باعتبار الاعتذار به

- ‌المبحث الثاني: العلاقة بين مرحلة الاستضعاف والمرحلة المكية

- ‌المبحث الثالث: مظاهر الاستضعاف

- ‌المبحث الرابع: استحكام الاستضعاف فى الأرض

- ‌الباب الثاني أسباب الاستضعاف ووسائل دفعه وضوابطها

- ‌الفصل الأول أسباب الاستضعاف

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول أسباب الاستضعاف الداخلية

- ‌المطلب الأول انشقاق المسلمين وتفرقهم

- ‌المطلب الثانى العصبية والعنصرية بين المسلمين

- ‌المطلب الثالث عدم الأخذ بأسباب القوة

- ‌المبحث الثاني أسباب الاستضعاف الخارجية

- ‌المطلب الأول الاحتلال والاستعمار وما خلفه من آثار

- ‌المطلب الثانى الغزو الفكري والثقافي

- ‌المطلب الثالث الحصار بمختلف أشكاله وصوره

- ‌الفصل الثاني وسائل دفع الاستضعاف

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول الأخد بأسباب القوة

- ‌المطلب الأول قوة العقيدة

- ‌المطلب الثانى القوة العسكرية

- ‌المطلب الثالث القوة الاقتصادية

- ‌المطلب الرايع القوة السياسية

- ‌المطلب الخامس القوة الإعلامية

- ‌المطلب السادس القوة المعنوية

- ‌المبحث الثانى الوحدة الإسلامية

- ‌المبحث الثالث الدخول في الجوار

- ‌المطلب الأول تعريف الجوار لغة واصطلاحًا

- ‌المطلب الثاني الأدلة على مشروعية الجوار

- ‌المبحث الرابع المعاهدات والتحالفات

- ‌المطلب الأول تعريف المعاهدة والحلف

- ‌الفرع الأول: تعريف المعاهدات لغة:

- ‌الفرع الثاني: تعريف المعاهدات اصطلاحًا:

- ‌المطلب الثانى الأدلة على مشروعية المعاهدات والتحالفات

- ‌المطلب الثالث الحلف في الإسلام

- ‌المطلب الرابع التقاء مصالح المستضعفين مع الكفار

- ‌المبحث الخامس الجهاد

- ‌المبحث السادس الهجرة

- ‌المطلب الأول تعريف الهجرة لغة واصطلاحًا

- ‌الفرع الأول: تعريف الهجرة في اللغة:

- ‌الفرع الثاني: تعرف الهجرة اصطلاحًا:

- ‌المطلب الثانى الأدلة على مشروعية الهجرة

- ‌المطلب الثالث أهمية الهجرة ومكانتها وبقائها

- ‌الفصل الثالث الأمور والضوابط التي ينبغي على المستضعفين الأخذ بها ومراعاتها

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول تفاوت قدرات المستضعفين

- ‌المبحث الثانى التفريق بين استضعاف العَالِم واستضعاف غيره

- ‌المبحث الثالث تقدير الضرورة والحاجة يكون بالرجوع إلى أهل العلم

- ‌المبحث الرابع عدم الركون للاستضعاف

- ‌المبحث الخامس الأخذ بضوابط العمل بالضرورة والحاجة

- ‌المبحث السادس العمل بشروط الإكراه المعتبر

- ‌المبحث السابع مراعاة الفرق بين فقه الاستضعاف وفقه التمكين

- ‌المبحث الثامن العمل بآيات الصبر والصفح والعفو

- ‌الباب الثالث أحكام الاستضعاف

- ‌الفصل الأول المسائل المتعلقة بالاستضعاف

- ‌المبحث الأول الاستعانة بالكفار في القتال حال الاستضعاف

- ‌المطلب الأول تعريف الاستعانة

- ‌المطلب الثاني حكم الاستعانة بالكفار

- ‌الفرع الأول: حكم الاستعانة بالكفار على الكفار:

- ‌الفرع الثانى: حكم الاستعانة بالكفار على البغاة من المسلمين:

- ‌المطلب الثالث حكم الاستعانة بأهل البدع

- ‌الفرع الأول: تعريف البدعة لغة واصطلاحًا:

- ‌الفرع الثاني: أقوال الفقهاء في حكم الاستعانة بأهل البدع:

- ‌المطلب الرابع حكم الاستعانة بالكفار في الجوانب الأخرى

- ‌المبحث الثاني دفع المال للكفار حال الاستضعاف

- ‌المطلب الأول تعريف الحدود

- ‌الفرع الأول: تعريف الحدود لغة:

- ‌الفرع الثاني: تعريف الحدود اصطلاحًا:

- ‌المطلب الثاني الحكمة من الحدود وأهميتها

- ‌المطلب الثالث التمهيد إقامة الحدود

- ‌المطلب الرابع استبدال الحدود

- ‌المطلب الخامس الفرق بين تعطيل الحدود وتعطيل التعازير

- ‌المطلب السادس الحدود عام الرمادة

- ‌المطلب السابع حالات جواز تعطيل الحدود

- ‌المبحث الرابع الاعتراف بالاحتلال حال الاستضعاف

- ‌المطلب الأول تعريف الاعتراف وأشكاله

- ‌الفرع الأول: الاعتراف في اللغة:

- ‌الفرع الثانى: الاعتراف اصطلاحًا:

- ‌المطلب الثاني آثار الاعتراف ونتائجه

- ‌المطلب الثالث حكم الاعتراف بالاحتلال (الاحتلال الصهيونى نموذجًا)

- ‌المطلب الرابع بدائل الاعتراف بالكيان الصهيونى

- ‌المطلب الخامس الاعتراف الواقعي فى الفقه الإسلامي

- ‌المبحث الخامس بيع الأراضي للاحتلال حال الاستضعاف

- ‌المبحث السادس تسليم المطلوبين المسلمين ونحوهم (الذميين) فى حال الاستضعاف

- ‌المطلب الأول تعريف تسليم المطلوبين

- ‌المطلب الثانى أقوال الفقهاء في مسألة رد المسلم

- ‌المطلب الثالث بيان الفرق بين التسليم والرد

- ‌المطلب الرابع تسليم المطلوبين للدولة الكافرة حال الاستضعاف

- ‌الفرع الأول: الأدلة من القرآن الكريم:

- ‌الفرع الثانى: الأدلة من السنة النبوية:

- ‌الفرع الثالث: الأدلة من عمل الصحابة رضي الله عنهم

- ‌الفرع الرابع: الأدلة من المعقول:

- ‌المبحث السابع التجنس بجنسية دولة غير إسلامية حال الاستضعاف

- ‌المطلب الأول تعريف الجنسية

- ‌المطلب الثانى الإقامة في دار الكفر

- ‌المطلب الثالث حصول المستضعف على جنسية الدولة الكافرة

- ‌المطلب الرابع التجنس الجماعي للمستضعفين

- ‌المبحث الثامن المشاركة فى الحكم حال الاستضعاف

- ‌المبحث التاسع نزع الحجاب حال الاستضعاف

- ‌المطلب الأول تعريف الحجاب والنقاب

- ‌المطلب الثاني الأدلة على وجوب الحجاب

- ‌المطلب الثالث نزع الحجاب حال الاستضعاف

- ‌الفرع الأول: شروط نزع الحجاب حال الاستضعاف:

- ‌الفرع الثانى: شروط نزع النقاب حال الاستضعاف:

- ‌الفصل الثالث ما يُرخص به حال الاستضعاف

- ‌المبحث الأول كتمان الإسلام وشعائره حال الاستضعاف

- ‌المطلب الأول تعريف الشعائر ومكانتها

- ‌الفرع الأول: الشعائر لغة:

- ‌الفرع الثانى: الشعائر اصطلاحًا:

- ‌الفرع الثالث: مكانة شعائر الإسلام وأهمية إظهارها:

- ‌المطلب الثاني كتمان الإسلام وإخفاء شعائره

- ‌المطلب الثالث المفاضلة بين إظهار الشعائر وإخفائها حال الاستضعاف

- ‌المطلب الرابع متى يجب كتمان الإسلام وشعائره

- ‌المطلب الخامس كتمان الجماعة للإسلام وإخفاء شعائره

- ‌المبحث الثانى استخدام المستضعف للحيلة ونحوها

- ‌المطلب الأول تعريف الحيلة وأنواعها

- ‌الفرع الأول: تعريف الحيلة في اللغة:

- ‌الفرع الثانى تعريف الحيلة اصطلاحًا:

- ‌الفرع الثالث: أنواع الحيلة:

- ‌المطلب الثاني الأدلة على مشروعية الحيلة للمستضعف

- ‌المطلب الثالث ما يلحق بالحيلة المشروعة

- ‌الفرع الأول: المعاريض:

- ‌الفرع الثانى: الكيد:

- ‌الفرع الثالث: التورية:

- ‌الفرع الرابع: النطق بكلمة الكفر:

- ‌المسألة الأولى: شروط النطق بكلمة الكفر:

- ‌المسألة الثانية: هل الأفضل النطق بكلمة الكفر أم الصبر

- ‌المسألة الثالثة: هل الأفضل في كل الأحوال عدم النطق بكلمة الكفر

- ‌المسألة الرابعة: النطق بكلمة الكفر لمجرد التهديد أو الخوف على المال:

- ‌المسألة الخامسة: هل الرخصة في القول أم القول والفعل

- ‌المسألة السادسة: هل يقاس على جواز النطق بكلمة الكفر ما دونها من الأفعال

- ‌المبحث الثالث استخدام المستضعف للتَقِيَّة

- ‌المطلب الأول تعريف التَقِيَّةُ

- ‌الفرع الأول: تعريف التَقِيَّةُ فى اللغة:

- ‌الفرع الثانى: تعريف التقية اصطلاحًا:

- ‌المطلب الثانى أدلة مشروعية التقية

- ‌المطلب الثالث متى تكون التَّقِيَّةِ وشروط جوازها

- ‌المبحث الرابع استخدام المستضعف للمدارة والمداهنة

- ‌المطلب الأول تعريف المداراة وحكمها

- ‌الفرع الأول: تعريف المدارة لغة واصطلاحًا:

- ‌الفرع الثانى: حكم المداراة للمستضعف:

- ‌المطلب الثانى حكم المداهنة للمستضعف

- ‌الخاتمة

- ‌فهرس المراجع

الفصل: ‌المبحث الأول تفاوت قدرات المستضعفين

‌المبحث الأول تفاوت قدرات المستضعفين

ينبغي أن ندرك بأن قدرات المستضعفين تختلف من إنسان لآخر، ومن جماعة إلى أخرى، قال الشاطبي رحمه الله:"إن الرخصة إضافية لا أصلية، بمعنى أن كل أحد في الأخذ بها فقيه نفسه، ما لم يحد فيها حد شرعي فيوقف عنده"(1)، وبين سبب ذلك وهو اختلاف القوة والضعف، بحسب الأحوال، وقوة العزيمة وضعفها، وبحسب الأزمان، وبحسب الأعمال، وبحسب الطبائع كالصبر والجبن والشجاعة، فلا يمكن وضع ضابط يطرد في جميع الناس، بل كل مخاطب فقيه نفسه، "والشجاعة ليست هي قوة البدن، وقد يكون الرجل قوي البدن ضعيف القلب، وإنما هي قوة القلب وثباته"(2)، كما أن المشاق تختلف بالنسب والإضافات؛ وذلك يقضى بأن الحكم المبني عليها يختلف بالنسب والإضافات (3)، وقال في موضع آخر:

(1) الموافقات، 1/ 314.

(2)

الفتاوى، 28/ 158.

(3)

المرجع السابق، 1/ 314 - 316، وبقية عبارة الشاطبي: ". . . وبيان ذلك من أوجه:

أحدها: أن سبب الرخصة المشقة والمشاق تختلف بالقوة والضعف، وبحسب الأحوال وبحسب قوة العزائم وضعفها، وبحسب الأزمان، وبحسب الأعمال. . . وكذلك في الصبر على الجوع والعطش، ويختلف أيضا باختلاف الجبن والشجاعة وغير ذلك من الأمور التي لا يقدر على ضبطها، وكذلك المريض بالنسبة إلى الصوم والصلاة والجهاد وغيرها، وإذا كان كذلك فليس للمشقة المعتبرة في التخفيفات ضابط مخصوص ولا حد محدود يطرد في جميع الناس، ولذلك أقام الشرع في جملة منها السبب مقام العلة فاعتبر السفر؛ لأنه أقرب مظان وجود المشقة وترك كل مكلف على ما يجد، أي إن كان قصر أو فطر ففي السفر وترك كثيرا منها موكولا إلى الاجتهاد كالمرض، وكثير من الناس يقوى في مرضه على ما لا يقوى عليه الآخر، فتكون الرخصة مشروعة بالنسبة إلى أحد الرجلين دون الآخر، وهذا لا مرية فيه، فإذا ليست أسباب الرخص بداخلة تحت قانون أصلي ولا ضابطا مأخوذ باليد بل هو إضافي بالنسبة إلى كل مخاطب في نفسه، فمن كان من المضطرين معتادا للصبر على الجوع ولا تختل حاله بسببه كما كانت العرب وكما ذكر عن الأولياء فليست إباحة الميتة له على وزان من كان بخلاف ذلك هذا وجه.

ص: 185

"المنافع والمضار عامتها أن تكون إضافية لا حقيقية، ومعنى كونها إضافية أنها منافع أو مضار في حال دون حال، وبالنسبة إلى شخص دون شخص، أو وقت دون وقت، منها أنه لا يستمر إطلاق القول بأن الأصل في المنافع الأذن، وفي المضار المنع، كما قرره الفخر الرازي (1)؛ إذ لا يكاد يوجد انتفاع حقيقي، ولا ضرر حقيقي، وإنما عامتها أن تكون إضافية"(2).

= والثاني: أنه قد يكون للعامل المكلف حامل على العمل حتى يخف عليه ما يثقل على غيره من الناس، وحسبك من ذلك أخبار المحبين الذين صابروا الشدائد وحملوا أعباء المشقات من تلقاء أنفسهم من إتلاف مهجهم إلى ما دون ذلك، وطالت عليهم الآماد وهم على أول أعمالهم حرصا عليها واغتناما لها، طمعا في رضى المحبوبين واعترفوا بأن تلك الشدائد والمشاق سهلة عليهم، بل لذة لهم ونعيم، وذلك بالنسبة إلى غيرهم عذاب شديد وألم أليم، فهذا من أوضح الأدلة على المشاق تختلف بالنسب والإضافات وذلك يقضى بأن الحكم المبني عليها يختلف بالنسب والإضافات.

والثالث: ما يدل على هذا من الشرع، كالذي جاء في وصال الصيام وقطع الأزمان في العبادات، فإن الشارع أمر بالرفق رحمة بالعباد، ثم فعله من بعد النبي صلى الله عليه وسلم علمًا بأن سبب النهي وهو الحرج والمشقة مفقود في حقهم، ولذلك أخبروا عن أنفسهم أنهم مع وصالهم الصيام لا يصدهم ذلك عن حوائجهم ولا يقطعهم عن سلوك طريقهم فلا حرج في حقهم وإنما الحرج في حق من يلحقه الحرج حتى يصده عن ضروراته وحاجاته، وهذا معنى كون سبب الرخصة إضافيًا، ويلزم منه أن تكون الرخصة كذلك لكن هذا الوجه استدلال بجنس المشقة على نوع من أنواعها وهو غير منتهض إلا أن يجعله منضما إلى ما قبله فالاستدلال بالمجموع صحيح"، وقد ورد عن أئمة الفقه ما يؤيد هذا الرأي في أمر المشقة، وإسناد تقديرها إلى المكلف.

(1)

محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري القرشي، الإمام المفسر، أصله من طبرستان، ومولده في الري سنة 544 هـ، وإليها نسبته، وكان يحسن الفارسية، توفي رحمه الله سنة 606 هـ. انظر: طبقات الشافعية، 4/ 90، وفيات الأعيان، 1/ 486، والاعلام، 6/ 313.

(2)

الموافقات، 2/ 39 - 40.

ص: 186

ومن الأمثلة على تفاوت قدرات المستضعفين وتقديراتهم مسألة الهجرة؛ لكون "المستضعف قد يكون قادرًا على ذلك الشيء مع ضرب من المشقة، وتمييز الضعف الذي يحصل عنده الرخصة عن الحد الذي لا يحصل عنده الرخصة شاق ومشتبه، فربما ظن الإنسان بنفسه أنه عاجز عن المهاجرة ولا يكون كذلك، ولاسيما في الهجرة عن الوطن؛ فإنها شاقة على النفس؛ وبسبب شدة النفرة قد يظن الإنسان كونه عاجزًا مع أنه لا يكون كذلك، فلهذا المعنى كانت الحاجة إلى العفو شديدة في هذا المقام"(1).

فالهجرة مثال من أمثلة كثيرة تختلف فيها معايير الضرورة باختلاف الأشخاص، وقدراتهم البدنية، والمالية، ومكانتهم السياسية، والاجتماعية، فلا يمكن أن توزن كافة الضرورات بمقياس واحد، إن سماحة الشريعة الإسلامية لم تغفل مراعاة الحالات الخاصة، والطارئة، عندما يكون التشريع عامًا ومطردًا، وهذه هي واقعية التشريع الإسلامي التي لا تتجاهل اختلاف القدرات والطبائع والأحوال لدى المكلفين (2).

وقد نقلت لنا كتب السيرة ما جرى للصحابة رضوان اللَّه عليهم، وهم لم يكونوا على درجة واحدة من التحمل والصبر على الأذى، ولهذا لما وثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين، وحبسوهم وعذبوهم بالضرب والجوع والعطش، ليفتنوهم عن دينهم، فمنهم من يفتن من شدة البلاء الذي يصيبه، ومنهم من يصلب لهم ويعصمه اللَّه منهم (3).

(1) مفاتيح الغيب، 11/ 12.

(2)

انظر: فقه الضرورة وتطبيقاته المعاصرة، د. عبد الوهاب أبو سليمان، المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب: جدة، ط 2، 2003 م، ص 61 - 62.

(3)

انظر: السيرة النبوية لابن هشام، 2/ 159، والسيرة الحلبية، 1/ 478.

ص: 187

كما أن الفقهاء عند عرضهم لمسائل الإكراه صرحوا بمراعاة هذا الأمر، وأن الحكم يختلف بحسب حال المُكره، وبحسب الشيء الذي يُكره عليه، فهي من النوع الذي يتعلق بفقه الحال، قال السرخسي رحمه الله في معرض حديثه عن الإكراه بالضرب:". . ولكنا نقول نصب المقدار بالرأي لا يكون، ولا نص في التقدير هنا، وأحوال الناس تختلف باختلاف تحمل أبدانهم للضرب وخلافه، فلا طريق سوى رجوع المكره إلى غالب رأيه، فإن وقع في غالب رأيه أنه لا تتلف به نفسه ولا عضو من أعضائه لا يصير ملجأ، وإن خاف على نفسه التلف منه يصير ملجأ، وإن كان التهديد بعشرة أسواط وهكذا"(1)، جاء في شرح مجلة الأحكام:"إذا هُدِّدَ بالحبس والقيد وكان الرجل ذَا مُرُوءَةٍ ويشق عليه ذلك، بحيث يقع في قلبه أنه لو لم يفعله يموت بسبب الحبس والقيد، أو يذهب عضو منه فهو إكراه معتبرٌ شرعًا، كما أنه لو تَوَعَّدَهُ بالحبس في مكان مُظلم بحيث ذَهَاب الْبَصَرِ لِطُولِ مُقَامِهِ فيه فهو إكراه مُعْتَبَرٌ شرعًا. . . قال بعض المشايخ: أما الحبس الذي أَحْدَثُوهُ في زماننا فإنه من الإكراه المُلْجِىءِ"(2).

إن مراعاة حال المستضعف وقدرته هو ثمرة تحقيق المناط الخاص، وذلك لأن "التكليف الشرعي يدور مع القدرة والإمكان وجودًا وعدمًا وقدرًا. وإذا كان الميسور لا يسقط بالمعسور، فإن المعسور لا يلحق بالميسور. وتمييز ما هو مقدور مما ليس بمقدور، وما هو معسور مما هو ميسور يحتاج إلى دراية بالواقع وأهله"(3).

(1) المبسوط، 24/ 49.

(2)

درر الحكام، 2/ 589، وانظر: لسان الحكام، إبراهيم بن أبي اليمن محمد الحنفي، البابي الحلبي: القاهرة، ط 2، 1393 هـ، 1/ 311.

(3)

الاجتهاد بين النص والمصلحة والواقع، أحمد الريسوني، دار الفكر: دمشق، ط 1، 2000 م، ص 64.

ص: 188

ونخلص من هذا المطلب إلى أن المستضعف فقيه نفسه وفقًا للشروط التالية:

1 -

أن يكون ذلك في مسائل استضعاف الأفراد.

2 -

أن يكون ذلك في المسائل التي لا نص فيها ولا إجماع.

3 -

أن يكون ذلك في حال الضرورة (1)، قال ابن القيم رحمه الله:"ما تبيحه الضرورة يجوز الاجتهاد فيه حال الاشتباه، وما لا تبيحه الضرورة فلا"(2)، ويلحق بها الحاجة الشديدة، والحاجة القريبة من الضرورة، قال العز بن عبد السلام رحمه الله:"ولا شك أن هذه المصالح التي خولفت القواعد لأجلها منها ما هو ضروري لا بد منه، ومنها ما تمس إليه الحاجة المتأكدة"(3)، وبالتالي فهي خاضعة للضوابط التي وضعها العلماء للأخذ بأحكام الضرورة والحاجة.

4 -

أن يدرك المستضعف أنه مؤتمن على هذا الأمر، فلا يحل له الإقدام عليه لمجرد التوهم، بل لا بد من اليقين أو غلبة الظن (4).

5 -

عدم القدرة للرجوع إلى أهل العلم، إما لضيق الوقت أو عدم وجودهم.

(1) وهذا ما يفهم من الأمثلة التي ساقها الشاطبي رحمه الله، قال ابن القيم رحمه الله:"الفتوى بالرأي لا تجوز إلا عند الضرورة، تبيحه كما تبيح الميتة عند الاضطرار، وهذا إنما هو في مسألة لا نص فيها ولا إجماع"، إعلام الموقعين، 4/ 157.

(2)

بدائع الفوائد، محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي، تحقيق: هشام عطا، عادل العدوي، أشرف أحمد، مكتبة نزار مصطفى الباز: مكة المكرمة، ط 1، 1416 هـ، 4/ 831.

(3)

قواعد الأحكام في مصالح الأنام، 2/ 130، وانظر: الغرر البهية في شرح البهجة الوردية، زكريا بن محمد الأنصاري، المطبعة الميمنية: القاهرة، ط 1 ، د. ت، 2/ 44.

(4)

انظر: الاستذكار، 3/ 338.

ص: 189

6 -

ألا يخالف الفعل أصلًا من أصول الشريعة الإسلامية ومبادئها العامة (1).

(1) قال الشاطبي رحمه الله: "إنما عنى الفقهاء بتقرير الحدود والأحكام الجزئيات التي هي مظان التنازع والمشاحة والأخذ بالحظوظ الخاصة، والعمل بمقتضى الطوارىء العارضة، وكأنهم واقفون للناس في اجتهادهم على خط الفصل بين ما أحل اللَّه وما حرم، حتى لا يتجاوزوا ما أحل اللَّه إلى ما حرم، فهم يحققون للناس مناط هذه الأحكام بحسب الوقائع الخاصة، حين صار التشاح ربما أدى إلى مقاربة الحد الفاصل، فهم يزعونهم عن مقاربته ويمنعونهم عن مداخلة الحمى، وإذا زل أحدهم يبين له الطريق الموصل إلى الخروج عن ذلك في كل جزئية آخذين بحجزهم تارة بالشدة، وتارة باللين، فهذا النمط هو كان مجال اجتهاد الفقهاء، وإياه تحروا. وأما سوى ذلك مما هو من أصول مكارم الأخلاق فعلًا وتركًا، فلم يفصلوا القول فيه؛ لأنه غير محتاج إلى التفصيل، بل الإنسان في أكثر الأمر يستقل بإدراك العمل فيه، فوكلوه إلى اختيار المكلف واجتهاده؛ إذ كيف ما فعل فهو جار على موافقة أمر الشارع ونهيه، وقد تشبه فيه أمور، ولكن بحسب قربها من الحد الفاصل، فتكلم الفقهاء عليها من تلك الجهة فهو من القسم الأول، فعلى هذا كل من كان بعده من ذلك الحد أكثر كان إغراقه في مقتضى الأصول الكلية أكثر. . . فالحاصل من هذه الجملة أن النظر في الكليات يشارك الجمهور فيه العلماء على الجملة، وأما النظر في الجزئيات فيختص بالعلماء، واستقراء ما تقدم من الشريعة يبينه"، الموافقات، 4/ 236 - 238.

ص: 190