الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول تفاوت قدرات المستضعفين
ينبغي أن ندرك بأن قدرات المستضعفين تختلف من إنسان لآخر، ومن جماعة إلى أخرى، قال الشاطبي رحمه الله:"إن الرخصة إضافية لا أصلية، بمعنى أن كل أحد في الأخذ بها فقيه نفسه، ما لم يحد فيها حد شرعي فيوقف عنده"(1)، وبين سبب ذلك وهو اختلاف القوة والضعف، بحسب الأحوال، وقوة العزيمة وضعفها، وبحسب الأزمان، وبحسب الأعمال، وبحسب الطبائع كالصبر والجبن والشجاعة، فلا يمكن وضع ضابط يطرد في جميع الناس، بل كل مخاطب فقيه نفسه، "والشجاعة ليست هي قوة البدن، وقد يكون الرجل قوي البدن ضعيف القلب، وإنما هي قوة القلب وثباته"(2)، كما أن المشاق تختلف بالنسب والإضافات؛ وذلك يقضى بأن الحكم المبني عليها يختلف بالنسب والإضافات (3)، وقال في موضع آخر:
(1) الموافقات، 1/ 314.
(2)
الفتاوى، 28/ 158.
(3)
المرجع السابق، 1/ 314 - 316، وبقية عبارة الشاطبي: ". . . وبيان ذلك من أوجه:
أحدها: أن سبب الرخصة المشقة والمشاق تختلف بالقوة والضعف، وبحسب الأحوال وبحسب قوة العزائم وضعفها، وبحسب الأزمان، وبحسب الأعمال. . . وكذلك في الصبر على الجوع والعطش، ويختلف أيضا باختلاف الجبن والشجاعة وغير ذلك من الأمور التي لا يقدر على ضبطها، وكذلك المريض بالنسبة إلى الصوم والصلاة والجهاد وغيرها، وإذا كان كذلك فليس للمشقة المعتبرة في التخفيفات ضابط مخصوص ولا حد محدود يطرد في جميع الناس، ولذلك أقام الشرع في جملة منها السبب مقام العلة فاعتبر السفر؛ لأنه أقرب مظان وجود المشقة وترك كل مكلف على ما يجد، أي إن كان قصر أو فطر ففي السفر وترك كثيرا منها موكولا إلى الاجتهاد كالمرض، وكثير من الناس يقوى في مرضه على ما لا يقوى عليه الآخر، فتكون الرخصة مشروعة بالنسبة إلى أحد الرجلين دون الآخر، وهذا لا مرية فيه، فإذا ليست أسباب الرخص بداخلة تحت قانون أصلي ولا ضابطا مأخوذ باليد بل هو إضافي بالنسبة إلى كل مخاطب في نفسه، فمن كان من المضطرين معتادا للصبر على الجوع ولا تختل حاله بسببه كما كانت العرب وكما ذكر عن الأولياء فليست إباحة الميتة له على وزان من كان بخلاف ذلك هذا وجه.
"المنافع والمضار عامتها أن تكون إضافية لا حقيقية، ومعنى كونها إضافية أنها منافع أو مضار في حال دون حال، وبالنسبة إلى شخص دون شخص، أو وقت دون وقت، منها أنه لا يستمر إطلاق القول بأن الأصل في المنافع الأذن، وفي المضار المنع، كما قرره الفخر الرازي (1)؛ إذ لا يكاد يوجد انتفاع حقيقي، ولا ضرر حقيقي، وإنما عامتها أن تكون إضافية"(2).
= والثاني: أنه قد يكون للعامل المكلف حامل على العمل حتى يخف عليه ما يثقل على غيره من الناس، وحسبك من ذلك أخبار المحبين الذين صابروا الشدائد وحملوا أعباء المشقات من تلقاء أنفسهم من إتلاف مهجهم إلى ما دون ذلك، وطالت عليهم الآماد وهم على أول أعمالهم حرصا عليها واغتناما لها، طمعا في رضى المحبوبين واعترفوا بأن تلك الشدائد والمشاق سهلة عليهم، بل لذة لهم ونعيم، وذلك بالنسبة إلى غيرهم عذاب شديد وألم أليم، فهذا من أوضح الأدلة على المشاق تختلف بالنسب والإضافات وذلك يقضى بأن الحكم المبني عليها يختلف بالنسب والإضافات.
والثالث: ما يدل على هذا من الشرع، كالذي جاء في وصال الصيام وقطع الأزمان في العبادات، فإن الشارع أمر بالرفق رحمة بالعباد، ثم فعله من بعد النبي صلى الله عليه وسلم علمًا بأن سبب النهي وهو الحرج والمشقة مفقود في حقهم، ولذلك أخبروا عن أنفسهم أنهم مع وصالهم الصيام لا يصدهم ذلك عن حوائجهم ولا يقطعهم عن سلوك طريقهم فلا حرج في حقهم وإنما الحرج في حق من يلحقه الحرج حتى يصده عن ضروراته وحاجاته، وهذا معنى كون سبب الرخصة إضافيًا، ويلزم منه أن تكون الرخصة كذلك لكن هذا الوجه استدلال بجنس المشقة على نوع من أنواعها وهو غير منتهض إلا أن يجعله منضما إلى ما قبله فالاستدلال بالمجموع صحيح"، وقد ورد عن أئمة الفقه ما يؤيد هذا الرأي في أمر المشقة، وإسناد تقديرها إلى المكلف.
(1)
محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري القرشي، الإمام المفسر، أصله من طبرستان، ومولده في الري سنة 544 هـ، وإليها نسبته، وكان يحسن الفارسية، توفي رحمه الله سنة 606 هـ. انظر: طبقات الشافعية، 4/ 90، وفيات الأعيان، 1/ 486، والاعلام، 6/ 313.
(2)
الموافقات، 2/ 39 - 40.
ومن الأمثلة على تفاوت قدرات المستضعفين وتقديراتهم مسألة الهجرة؛ لكون "المستضعف قد يكون قادرًا على ذلك الشيء مع ضرب من المشقة، وتمييز الضعف الذي يحصل عنده الرخصة عن الحد الذي لا يحصل عنده الرخصة شاق ومشتبه، فربما ظن الإنسان بنفسه أنه عاجز عن المهاجرة ولا يكون كذلك، ولاسيما في الهجرة عن الوطن؛ فإنها شاقة على النفس؛ وبسبب شدة النفرة قد يظن الإنسان كونه عاجزًا مع أنه لا يكون كذلك، فلهذا المعنى كانت الحاجة إلى العفو شديدة في هذا المقام"(1).
فالهجرة مثال من أمثلة كثيرة تختلف فيها معايير الضرورة باختلاف الأشخاص، وقدراتهم البدنية، والمالية، ومكانتهم السياسية، والاجتماعية، فلا يمكن أن توزن كافة الضرورات بمقياس واحد، إن سماحة الشريعة الإسلامية لم تغفل مراعاة الحالات الخاصة، والطارئة، عندما يكون التشريع عامًا ومطردًا، وهذه هي واقعية التشريع الإسلامي التي لا تتجاهل اختلاف القدرات والطبائع والأحوال لدى المكلفين (2).
وقد نقلت لنا كتب السيرة ما جرى للصحابة رضوان اللَّه عليهم، وهم لم يكونوا على درجة واحدة من التحمل والصبر على الأذى، ولهذا لما وثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين، وحبسوهم وعذبوهم بالضرب والجوع والعطش، ليفتنوهم عن دينهم، فمنهم من يفتن من شدة البلاء الذي يصيبه، ومنهم من يصلب لهم ويعصمه اللَّه منهم (3).
(1) مفاتيح الغيب، 11/ 12.
(2)
انظر: فقه الضرورة وتطبيقاته المعاصرة، د. عبد الوهاب أبو سليمان، المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب: جدة، ط 2، 2003 م، ص 61 - 62.
(3)
انظر: السيرة النبوية لابن هشام، 2/ 159، والسيرة الحلبية، 1/ 478.
كما أن الفقهاء عند عرضهم لمسائل الإكراه صرحوا بمراعاة هذا الأمر، وأن الحكم يختلف بحسب حال المُكره، وبحسب الشيء الذي يُكره عليه، فهي من النوع الذي يتعلق بفقه الحال، قال السرخسي رحمه الله في معرض حديثه عن الإكراه بالضرب:". . ولكنا نقول نصب المقدار بالرأي لا يكون، ولا نص في التقدير هنا، وأحوال الناس تختلف باختلاف تحمل أبدانهم للضرب وخلافه، فلا طريق سوى رجوع المكره إلى غالب رأيه، فإن وقع في غالب رأيه أنه لا تتلف به نفسه ولا عضو من أعضائه لا يصير ملجأ، وإن خاف على نفسه التلف منه يصير ملجأ، وإن كان التهديد بعشرة أسواط وهكذا"(1)، جاء في شرح مجلة الأحكام:"إذا هُدِّدَ بالحبس والقيد وكان الرجل ذَا مُرُوءَةٍ ويشق عليه ذلك، بحيث يقع في قلبه أنه لو لم يفعله يموت بسبب الحبس والقيد، أو يذهب عضو منه فهو إكراه معتبرٌ شرعًا، كما أنه لو تَوَعَّدَهُ بالحبس في مكان مُظلم بحيث ذَهَاب الْبَصَرِ لِطُولِ مُقَامِهِ فيه فهو إكراه مُعْتَبَرٌ شرعًا. . . قال بعض المشايخ: أما الحبس الذي أَحْدَثُوهُ في زماننا فإنه من الإكراه المُلْجِىءِ"(2).
إن مراعاة حال المستضعف وقدرته هو ثمرة تحقيق المناط الخاص، وذلك لأن "التكليف الشرعي يدور مع القدرة والإمكان وجودًا وعدمًا وقدرًا. وإذا كان الميسور لا يسقط بالمعسور، فإن المعسور لا يلحق بالميسور. وتمييز ما هو مقدور مما ليس بمقدور، وما هو معسور مما هو ميسور يحتاج إلى دراية بالواقع وأهله"(3).
(1) المبسوط، 24/ 49.
(2)
درر الحكام، 2/ 589، وانظر: لسان الحكام، إبراهيم بن أبي اليمن محمد الحنفي، البابي الحلبي: القاهرة، ط 2، 1393 هـ، 1/ 311.
(3)
الاجتهاد بين النص والمصلحة والواقع، أحمد الريسوني، دار الفكر: دمشق، ط 1، 2000 م، ص 64.
ونخلص من هذا المطلب إلى أن المستضعف فقيه نفسه وفقًا للشروط التالية:
1 -
أن يكون ذلك في مسائل استضعاف الأفراد.
2 -
أن يكون ذلك في المسائل التي لا نص فيها ولا إجماع.
3 -
أن يكون ذلك في حال الضرورة (1)، قال ابن القيم رحمه الله:"ما تبيحه الضرورة يجوز الاجتهاد فيه حال الاشتباه، وما لا تبيحه الضرورة فلا"(2)، ويلحق بها الحاجة الشديدة، والحاجة القريبة من الضرورة، قال العز بن عبد السلام رحمه الله:"ولا شك أن هذه المصالح التي خولفت القواعد لأجلها منها ما هو ضروري لا بد منه، ومنها ما تمس إليه الحاجة المتأكدة"(3)، وبالتالي فهي خاضعة للضوابط التي وضعها العلماء للأخذ بأحكام الضرورة والحاجة.
4 -
أن يدرك المستضعف أنه مؤتمن على هذا الأمر، فلا يحل له الإقدام عليه لمجرد التوهم، بل لا بد من اليقين أو غلبة الظن (4).
5 -
عدم القدرة للرجوع إلى أهل العلم، إما لضيق الوقت أو عدم وجودهم.
(1) وهذا ما يفهم من الأمثلة التي ساقها الشاطبي رحمه الله، قال ابن القيم رحمه الله:"الفتوى بالرأي لا تجوز إلا عند الضرورة، تبيحه كما تبيح الميتة عند الاضطرار، وهذا إنما هو في مسألة لا نص فيها ولا إجماع"، إعلام الموقعين، 4/ 157.
(2)
بدائع الفوائد، محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي، تحقيق: هشام عطا، عادل العدوي، أشرف أحمد، مكتبة نزار مصطفى الباز: مكة المكرمة، ط 1، 1416 هـ، 4/ 831.
(3)
قواعد الأحكام في مصالح الأنام، 2/ 130، وانظر: الغرر البهية في شرح البهجة الوردية، زكريا بن محمد الأنصاري، المطبعة الميمنية: القاهرة، ط 1 ، د. ت، 2/ 44.
(4)
انظر: الاستذكار، 3/ 338.
6 -
ألا يخالف الفعل أصلًا من أصول الشريعة الإسلامية ومبادئها العامة (1).
(1) قال الشاطبي رحمه الله: "إنما عنى الفقهاء بتقرير الحدود والأحكام الجزئيات التي هي مظان التنازع والمشاحة والأخذ بالحظوظ الخاصة، والعمل بمقتضى الطوارىء العارضة، وكأنهم واقفون للناس في اجتهادهم على خط الفصل بين ما أحل اللَّه وما حرم، حتى لا يتجاوزوا ما أحل اللَّه إلى ما حرم، فهم يحققون للناس مناط هذه الأحكام بحسب الوقائع الخاصة، حين صار التشاح ربما أدى إلى مقاربة الحد الفاصل، فهم يزعونهم عن مقاربته ويمنعونهم عن مداخلة الحمى، وإذا زل أحدهم يبين له الطريق الموصل إلى الخروج عن ذلك في كل جزئية آخذين بحجزهم تارة بالشدة، وتارة باللين، فهذا النمط هو كان مجال اجتهاد الفقهاء، وإياه تحروا. وأما سوى ذلك مما هو من أصول مكارم الأخلاق فعلًا وتركًا، فلم يفصلوا القول فيه؛ لأنه غير محتاج إلى التفصيل، بل الإنسان في أكثر الأمر يستقل بإدراك العمل فيه، فوكلوه إلى اختيار المكلف واجتهاده؛ إذ كيف ما فعل فهو جار على موافقة أمر الشارع ونهيه، وقد تشبه فيه أمور، ولكن بحسب قربها من الحد الفاصل، فتكلم الفقهاء عليها من تلك الجهة فهو من القسم الأول، فعلى هذا كل من كان بعده من ذلك الحد أكثر كان إغراقه في مقتضى الأصول الكلية أكثر. . . فالحاصل من هذه الجملة أن النظر في الكليات يشارك الجمهور فيه العلماء على الجملة، وأما النظر في الجزئيات فيختص بالعلماء، واستقراء ما تقدم من الشريعة يبينه"، الموافقات، 4/ 236 - 238.