الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني الأدلة على مشروعية الحيلة للمستضعف
لقد حث اللَّه عز وجل المستضعفين على الاحتيال للخلاص من الكفار والهجرة إلى المسلمين، وعذر من لم يكن لديه القدرة على ذلك، فقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} (1)، والآية نص في جواز الحيلة للمستضعفين.
قال ابن تيمية رحمه الله: "فَلَوْ احْتَالَ الْمُؤْمِنُ المُسْتَضْعَفُ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْ بَيْنِ الْكُفَّارِ لَكَانَ مَحْمُودًا فِي ذَلِكَ وَلَوْ احْتَالَ مُسْلِمٌ عَلَى هَزِيمَةِ الْكَافِرِ، كَمَا فَعَلَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، أَوْ عَلَى أَخْذِ مَالِهِ مِنْهُمْ، كَمَا فَعَلَ الْحَجَّاجُ بْنُ علاطة وَعَلَى قَتْلِ عَدُوٍّ للَّه وَلِرَسُولِهِ كَمَا فَعَلَ النَّفَرُ الَّذِينَ احْتَالُوا عَلَى ابْنِ أَبِي الْحَقِيقِ الْيَهُودِيِّ وَعَلَى قَتْلِ كَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ لَكَانَ مَحْمُودًا"(2).
* * *
المطلب الثالث ما يلحق بالحيلة المشروعة
ذكر العلماء أمثلة على الحيل المشروعة وما يلحق بها، ومن ذلك ما يلي:
الفرع الأول: المعاريض:
وهي في اللغة من التورية بالشيء عن الشيء، وأصله الستر، يقال: عرفته في معراض كلامه، وفي لحن كلامه، وفحوى كلامه، والتعريض خلاف التصريح (3).
(1) سورة النساء، الآيتان [97 - 98].
(2)
الفتاوى الكبرى، 3/ 190، وانظر: إعلام الموقعين، 3/ 240.
(3)
انظر: لسان العرب، والمصباح المنير، مادة: عرض.
والمعنى الاصطلاحي لا يخرج عن المعنى اللغوي، قال ابن القيم رحمه الله:"المعاريض وهي: أن يتكلم الرجل بكلام جائز يقصد به معنى صحيحًا ويوهم غيره أنه يقصد به معنى آخر"(1)، وعرفت بأنها:" إضمار أمر وراء ما دل الظاهر عليه إما بزيادة أو نقصان أو تقييد مطلق أو تخصيص عام مع أنه لا ينبه السامع على أنه نوى ذلك لأنه لو نبهه عليه لما حصل المقصود"(2).
وقد اعتبرها ابن تيمية وابن القيم -رحمهما اللَّه- نوعًا من الحيل في الخطاب (3)، وصرح ابن القيم أن معاريض الفعل هى الحيل، وذهب الحافظ ابن حجر إلى أن المعاريض بالفعل أولى بالجواز (4).
ودليل مشروعيتها ما ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه إنه قال: (ما في المعاريض ما يغني الرجل عن الكذب)(5)، وفي رواية: (إن في المعاريض ما يكف، أو يعف الرجل
(1) إعلام الموقعين، 3/ 234، وبقية كلامه:"فيكون سبب ذلك الوهم كون اللفظ مشتركًا بين حقيقتين لغويتين أو عرفيتين أو شرعيتين أو لغوية مع إحداهما أو عرفية مع إحداهما أو شرعية مع أحداهما فيعنى أحد معنييه ويوهم السامع له أنه إنا عنى الآخر، إما لكونه لم يعرف إلا ذلك، وإما لكون دلالة الحال تقتضيه، وإما لقرينة حالية، أو مقالية يضمها إلى اللفظ، أو يكون سبب التوهم كون اللفظ ظاهرًا في معنى، فيعنى به معنى يحتمله باطنًا، بأن ينوى مجاز اللفظ دون حقيقته، أو ينوي بالعام الخاص أو بالمطلق المقيد، أو يكون سبب التوهم كون المخاطب إنما يفهم من اللفظ غير حقيقته لعرف خاص به، أو غفلة منه أو جهل أو غير ذلك من الأسباب، مع كون المتكلم إنما قصد حقيقته"، وانظر: الفتاوى الكبرى، 3/ 205.
(2)
المحصول، 1/ 179.
(3)
انظر: الفتاوى الكبرى، 3/ 205، وإعلام الموقعين، 3/ 190.
(4)
انظر: فتح الباري، 3/ 470.
(5)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، باب المعاريض فيها مندوحة عن الكذب، رقم: 20630، 10/ 199.
عن الكذب) (1).
وقد بوب البخاري "باب المَعارِيضُ مَنْدُوحَةٌ عَنِ الكَذِبِ"(2)، أي: سعة وفسحة، من الندح وهو الأرض الواسعة، يقال: ندحت الشيء إذا وسعته، وإنك لفي ندحة ومندوحة من كذا أي سعة، يعني أن في التعريض بالقول من الاتساع ما يغني الرجل عن تعمد الكذب (3)، "وفي ذلك طريقان أحدهما أن يتكلم بكلمة ويريد بها غير ما وضعت له الكلمة من حيث الظاهر إلا أن ما أراده يكون من محتملات لفظه الطريق الثاني أن يقيد الكلام بلعل وعسى وذلك بمنزلة الاستثناء يخرج الكلام به من أن يكون عزيمة"(4).
كما دل على جواز المعاريض، ما رواه أَبو هريرة رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "لم يَكْذِبْ إبراهيم النَّبِيُّ عليه السلام قَطُّ إلا ثلاث كَذَبَاتٍ، ثِنْتَيْنِ فِي ذَاتِ اللَّهِ (5) قوله:{إِنِّي سَقِيمٌ} (6)، وقوله:{بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} (7)، وواحدة في شأن سارة، فإنه قَدِمَ أرض جَبَّارٍ ومعه سارة وكانت أَحْسَنَ الناس، فقال لها: إن هذا الجبار إن يعلم إنك امراتي يَغْلِبْنِى عليك، فإن سَألَكِ فَأَخْبِرِيهِ أَنَّكِ أُخْتِي، فَإِنَّكِ أُخْتِي في الإسلام، فإني لا أعلم في الأرض
(1) أخرجه ابن أبى شيبة في المصنف، 5/ 282، رقم:26095.
(2)
قال ابن حجر رحمه الله في تغليق التعليق، 5/ 118:"هذا طرف من حديث أسنده المؤلف في الجنائز من حديث ابن عيينة عن إسحاق".
(3)
انظر: النهاية في غريب الأثر، 5/ 34، وفيض القدير، 2/ 472.
(4)
الفتاوى الهندية، لجنة علماء برئاسة نظام الدين البلخي، دار الفكر: بيروت، ط 1، 1411 هـ، 6/ 436.
(5)
"خصهما بذلك؛ لأن قصة سارة وإن كانت أيضًا في ذات اللَّه، لكن تضمنت حظا لنفسه ونفعا له"، فتح الباري، 6/ 392.
(6)
سورة الصافات، الآية [89].
(7)
سورة الأنبياء، الآية [63].
مسلما غَيْرِي وَغَيْرَكِ، فلما دخل أرضه رَآهَا بعض أهل الجبار أتاهُ، فقال له: لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغي لها أن تكون إلا لك، فأرسل إليها فأتى بها، فقام إبراهيم عليه السلام إلى الصلاة، فلما دخلت عليه لم يَتَمَالَكْ أن بَسَطَ يَدَهُ إليها، فَقُبِضَتْ يَدُهُ قَبْضَةً شَدِيدَةً، فقال لها: ادْعِي اللَّه أن يُطْلِقَ يَدِي ولا أَضُرُّكِ، فَفَعَلَتْ، فَعَادَ، فَقُبِضَتْ أَشَدَّ مِنْ الْقَبْضَةِ الْأُولَى، فقال لها مثل ذلك، ففعلت، فعاد، فقبضت أشد من الْقَبْضَتَيْنِ الْأُولَيَبْنِ، فقال: ادْعِي اللَّه أن يطلق يُطْلِقَ فلك اللَّه أن لا أَضُرَّكِ، ففعلت، وأطلقت يده، ودعا الذي جاء بها، فقال له: إنك إنما أتَيْتَنِي بِشَيْطَانٍ، ولم تَأْتِني بإنسان، فَأَخْرِجْهَا من أرضي وَأَعْطِهَا هاجر، قال: فأقبلت تمشي فلما رآها إبراهيم عليه السلام انْصَرَفَ، فقال لها: مَهْيَمْ، قالت: خَيْرًا كَفَّ اللَّه يَدَ الْفَاجِرِ وَأَخْدَمَ خَادِمًا، قال أَبو هريرة: فتلك أُمُّكُمْ يَا بَنِي مَاءِ السَّمَاءِ) (1).
ومن فوائد الحديث: "مشروعية أخوة الإسلام، وإباحة المعاريض، والرخصة في الانقياد للظالم والغاصب، وقبول صلة الملك الظالم، وقبول هدية المشرك، وإجابة الدعاء بإخلاص النية، وكفاية الرب لمن أخلص في الدعاء بعمله الصالح"(2)، قال النووي رحمه الله:"وهذا كذب جائز بل واجب؛ لكونه في دفع الظالم فنبه النبي صلى الله عليه وسلم على أن هذه الكذبات ليست داخلة في مطلق الكذب المذموم"(3).
وحكمها للمستضعف أنها جائزة عند الحاجة، أما لغيره فالضابط أن كل ما وجب بيانه حرم التعريض فيه؛ لكونه كتمان للحق وتدليس كالإقرار والشهادة والعقود ووصفها والفتوى والقضاء ونحوه، وكل ما حرم بيانه فالتعريض فيه جائز، بل واجب بالنسبة
(1) أخرجه البخاري، كتاب الأنبياء، باب قوله تعالى:{وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [لنساء: 125]، رقم: 3179، ومسلم، كتاب الفضائل، باب من فضائل إبراهيم الخليل عليه السلام، رقم:2371.
(2)
فتح الباري، 6/ 394.
(3)
شرح النووي على صحيح مسلم، 15/ 124.
للمستضعف حتى وإن كان التعريض في اليمين (1)، قال ابن حجر رحمه الله:"ومحل الجواز فيما يخلص من الظلم، أو يحصل الحق، وأما استعمالها في عكس ذلك من إبطال الحق أو تحصيل الباطل فلا يجوز"(2)، وقال أيضًا:"ومشروعية المعاريض الموهمة إذا دعت الضرورة إليها، وشرط جوازها أن لا تبطل حقا لمسلم"(3).
ولذا حذر النبي صلى الله عليه وسلم من استعمال المعاريض ونحوها من غير حاجة أو ضرورة بل وعدها من الخيانة، فقال عليه الصلاة والسلام:(كَبُرَتْ خِيَانَةً أن تُحَدِّثَ أَخَاكَ حَدِيثًا هُوَ لَكَ بِهِ مُصَدِّقٌ وَأَنْتَ لَهُ بِهِ كَاذِبٌ)(4)؛ وسبب اعتباره خيانة "لأنه ائتمنك فيما تحدثه به، فإذا كذبته فقد خنت أمانته، وخنت أمانة الإيمان، فيما أوجب من نصيحة الإخوان"(5).
ومتى ما أمكن المستضعف التخلص من الظلم أو العذاب بالمعاريض فهو أولى من الكذب، فإن لم يقدر أو لم يعرف جاز له صريح الكذب (6)، قال ابن حجر رحمه الله:"اتفقوا -أي العلماء- على جواز الكذب عند الاضطرار، كما لو قصد ظالم قتل رجل وهو مختف عنده فله أن ينفي كونه عنده ويحلف على ذلك ولا يأثم واللَّه أعلم"(7).
(1) انظر: الفتاوى الكبرى، 3/ 206.
(2)
فتح الباري، 10/ 595.
(3)
المرجع السابق، 3/ 171، وانظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 14/ 124.
(4)
أخرجه أَبو داود، كتاب الأدب، باب في المعاريض، رقم: 4971، وأحمد في المسند، 4/ 183، رقم: 17672، قال في مجمع الزوائد، 1/ 142:"رواه أحمد عن شيخه عمر بن هرون، وقد وثقه قتيبة وغيره، وضعفه ابن معين وغيره، وبقية رجاله ثقات".
(5)
التيسير بشرح الجامع الصغير، 2/ 205.
(6)
انظر: الفروع، 6/ 486.
(7)
فتح الباري، 5/ 300.