الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثانى الوحدة الإسلامية
إن من أهم وسائل دفع الاستضعاف الوحدة الإسلامية، فالفرقة من أسباب الاستضعاف وطمع الأعداء وتسلطهم، وقد نهى اللَّه عز وجل عن التنازع والفرقة وحذر منه، وأخبرنا أنه سبب ذهاب القوة، قال تعالى:{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (1)، فأمر اللَّه تعالى بطاعته وطاعة رسوله، ونهى عن الفرقة والتنازع، وأخبر أن الفرقة والتنازع يؤدي إلى الفشل، وهو ضعف القلب من فزع يلحقه، ويؤدي كذلك إلى ذهاب الدولة (2).
وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (3)، وقد ورد في تفسير حبل اللَّه بأنه الجماعة (4)، قال القرطبي رحمه الله:"فإن اللَّه تعالى يأمر بالألفة، وينهى عن الفرقة، فإن الفرقة هلكة، والجماعة نجاة"(5).
ولم يزل وصف الإخوة على المؤمنين حتى حال تقاتلهم، "فقد بين اللَّه تعالى أنهم مع اقتتالهم وبغي بعضهم على بعض إخوة مؤمنون وأمر بالإصلاح بينهم بالعدل"(6)، قال
(1) سورة الأنفال، الآية 46.
(2)
انظر: أحكام القرآن للجصاص، 3/ 101.
(3)
سورة آل عمران، الآية 103.
(4)
انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 4/ 30، والدر المنثور، 2/ 285.
(5)
الجامع لأحكام القرآن، 4/ 159.
(6)
الفتاوى، 3/ 284.
تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (1)، والآية تضمنت النهي عن أن يبغي بعضهم على بعض وأن يقتل بعضهم بعضًا، كما تضمنت أمرًا للمؤمنين بالإصلاح بينهم، والإصلاح يكون بحملهم على حكم اللَّه وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم (2)، قال جل وعلا:{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} (3)، وقال اللَّه عز وجل:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (4)، هذه الأخوة التي أثبت اللَّه جل وعلا هي أخوة الدين لا النسب، وفي الآية دليل على أن النداء برابطة أخرى غير الإسلام كالعصبية المعروفة بالقومية لا يجوز ولا شك أنه ممنوع بإجماع المسلمين (5).
وقال عليه الصلاة والسلام: (إن اللَّه يَرْضَى لكم ثلاثًا، ويسخط لكم ثلاثًا، يَرْضَى لكم أن تَعْبُدُوهُ ولا تُشْرِكُوا به شَيْئًا، وأن تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّه جَمِيعًا ولا تَفَرَّقُوا، وأن تناصحوا من ولاه اللَّه أمركم، ويسخط لكم قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَة الْمَالِ)(6)، والحديث فيه أمر بلزوم جماعة المسلمين، وبالتمسك بعهده وإتباع القرآن الكريم (7).
(1) سورة الحجرات، الآية [9].
(2)
انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 26/ 130.
(3)
سورة الأنفال، الآية [1].
(4)
سورة الحجرات، الآية [10].
(5)
انظر: أضواء البيان، 3/ 42، و 7/ 412.
(6)
أخرجه مسلم، كتاب الأقضية، باب النهى عن كثرة المسائل من غير حاجة، رقم: 1715، 3/ 1340، وابن حبان في صحيحه، 8/ 182، رقم: 3388، واللفظ له.
(7)
انظر: الديباج على مسلم، 4/ 318.
لقد كانت المؤاخاة والموالاة مسلكًا من مسالك الرسول صلى الله عليه وسلم في بناء المجتمع الإسلامي الأول (1)، وكانت سببًا من أسباب قوته بالرغم من الأخطار التي كانت تحيط به من الداخل والخارج.
وقد أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بالوحدة فقال عليه الصلاة والسلام: (إن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك أصابعه)(2)، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:(تَرَى المُؤْمِنِينَ فِي ترَاحُمِهِم وَتَوَادِّهِم وَتَعَاطُفِهِم كَمَثَلِ الجَسَدِ إِذا اشْتكَى عُضْوًا تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالحُمَّى)(3)، ولفظ الحديث:"خبر ومعناه أمر، أي كما أن الرجل إذا تألم بعض جسده سرى ذلك الألم إلى جميع جسده فكذا المؤمنون ليكونوا كنفس واحدة إذا أصاب أحدهم مصيبة يغتم جميعهم ويقصدوا إزالتها، وفي هذا التشبيه تقريب للفهم وإظهار المعاني في الصور المرئية"(4)، والحديث:"صريح في تعظيم حقوق المسلمين بعضهم على بعض، وحثهم على التراحم والملاطفة والتعاضد في غير إثم ولا مكروه"(5).
يقول الشيخ ابن باز رحمه الله: "وما يقال بالنسبة للأفراد يقال بالنسبة للأمم المسلمة؛ إذ يجب على الأمة القوية في مالها أو رجالها أو سلاحها أو علومها، أن تمد الأمة المستضعفة،
(1) انظر: تطور مفهوم الدولة في المجتمع الإسلامي الأول، د. مخلص طه الصيادي، الشارقة: دار الثقافة والإعلام، ط 1، 2002 م، ص 81 - 87.
(2)
أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره، رقم: 467، أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، رقم: 2585
(3)
أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم، رقم: 5665، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المسلمين وتعاطفهم وتعاضدهم، رقم:2586.
(4)
فيض القدير، 5/ 515.
(5)
شرح النووي على صحيح مسلم، 16/ 139 - 140.
وأن تعينها على الحفاظ على نفسها ودينها، وتمنع عنها الذئاب من حولها المتسلطة عليها، وأن تؤتيها من مال اللَّه الذي آتاها، فهذا هو مقتضى الأخوة الإسلامية التي عقدها الرب سبحانه بين المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها" (1).
إن الوحدة الإسلامية لا يمكن أن تقوم إلا على أساس الدين، قال تعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (2)"أي: تمسكوا بدين اللَّه الذي أمركم به وعهده الذي عهده إليكم في كتابه إليكم من الألفة والاجتماع على كلمة الحق والتسليم لأمر اللَّه"(3)، وقال عز وجل:{وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (4)، فكل الاتفاقيات والمعاهدات والمشاريع والمصالح المشتركة لا يمكنها أن تجمع المسلمين كما يمكن أن تجمعهم العقيدة، ومتى ما غاب شعور الإخوة الإسلامية والجسد الواحد، غابت الألفة والمحبة والخير والقوة والتعاون والعدل، وحلت الفرقة والخلاف والنزاع والعصبية والضعف والظلم.
(1) مجلة البحوث الإسلامية، السعودية: الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء، د. ت، 21/ 496.
(2)
سورة آل عمران، الآية [103].
(3)
جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 4/ 30.
(4)
سورة الأنفال، الآيات [62 - 63].
إن من مقتضيات الوحدة بين المسلمين ألا يكون إقليم إسلامي حربًا على إقليم آخر أيًا كانت أساليب تلك الحرب، سواءً بالاقتصاد أو بالتحالف على المسلمين، وأن ينصر المسلمين بعضهم بعضًا، لا أن يكونوا أداة من أدوات الاستضعاف وجزءًا منه، إن من مقتضيات الوحدة الاتحاد في كافة المجالات ومن بينها الوحدة الاقتصادية والتي تقتضي أن يكون أهل الخبرة منا ينظمون اقتصادنا، ورءوس الأموال منا، وأن يكون النقد موحدًا، وأن نحقق الاكتفاء الذاتي، فلا جمارك بين المسلمين، ولا ربا (1)، ويجب على الدول الإسلامية بقادتها وعلمائها ومفكريها والهيئات الرسمية فيها والشعبية السعي لتحقيق الوحدة الإسلامية في كل مجال من المجالات، سواءً العسكرية أو الاقتصادية والتجارية أو الإعلامية، وصولًا إلى وحدة الدولة؛ لتعود للأمة الإسلامية هيبتها ومكانتها وسيادتها، ولا ينفرد بها الأعداء واحدة تلو الأخرى.
* * *
(1) انظر: الوحدة الإسلامية، ص 237 - 306.