الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: (لئن أعطل الحدود بالشبهات أحب إلي من أن أقيمها بالشبهات)(1).
وحديث درء الشبهات وإن كان ضعيفًا إلا أن العلماء تلقته بالقبول وبالتالي يجوز التخصيص به (2)، وهذه النصوص وغيرها تبين أن على الأئمة أن يدفعوا الحدود بكل عذر ممكن، وشبهة معتبرة يمكن أن يدفع بها الحد، كما وقع منه عليه الصلاة والسلام لماعز وغيره من تلقين الأعذار (3).
وخلاصة هذا المطلب أن عمر رضي الله عنه لم يعطل الحدود، وأن درء الحدود بالشبهات ليس كتعطيلها سواءً لعدم القدرة على تطبيقها لوجود الاستضعاف أو لغيره من الأسباب.
* * *
المطلب السابع حالات جواز تعطيل الحدود
لقد جاءت النصوص في التحذير من تعطيل الحدود، ومنها قوله تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (4)، وقوله تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (5)، وقوله تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (6).
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، 5/ 511، رقم:28493.
(2)
انظر: كشف الأسرار، 1/ 451، قال القرافي رحمه الله:"وحديث ادرءوا الحدود بالشبهات الذي يستدل به الفقهاء على هذه الأحكام وإن لم يصح إلا أن معتمدنا فيها ما قاله بعض الفضلاء من أنه حيث أجمعنا على إقامة الحد كان سالمًا عن الشبهة، وما قصر عن محل الإجماع لا يلحق به عملًا بالأصل حتى يدل بدليل على إقامة الحد في صور الشبهات"، الفروق، 4/ 316.
(3)
انظر: تحفة الأحوذي، 4/ 573.
(4)
سورة المائدة، من الآية [44].
(5)
سورة المائدة، من الآية [45].
(6)
سورة المائدة، من الآية [47].
كما أن الفقهاء "أجمعوا على أنه إذا بلغ الإمام لم تجز الشفاعة فيه؛ لأن ذلك إسقاط حق وجب للَّه تعالى"(1).
ولأهمية إقامة الحدود فإن الفقهاء اتفقوا على مشروعية إقامتها حتى في حال غلبة أهل البغي، وأن أحكامهم لا تنقض، إلا ما كان خلافا للكتاب أو السنة أو الإجماع، كما ينقض من أحكام أهل العدل والسنة (2)، قال ابن تيمية رحمه الله:"ومن النهي عن المنكر إقامة الحدود على من خرج من شريعة اللَّه، ويجب على أولي الأمر وهم علماء كل طائفة وأمراؤها ومشايخها أن يقوموا على عامتهم ويأمروهم بالمعروف وينهوهم عن المنكر"(3).
وبالرغم من أهمية إقامة الحدود، والنتائج السلبية والمخاطر المترتبة على تعطيلها أو تأجيلها، إلا أن العلماء ذكروا بعض الحالات التي يجوز معها تأجيل الحد، بل نقل ابن العربي رحمه الله وغيره اتفاق الأمة على جواز تأخير القصاص إذا أدت إقامته إلى إثارة الفتنة أو تشتيت الكلمة.
واستدلوا لهذا الحكم بأدلة منها: فعل النبي عليه الصلاة والسلام إذ لم يحد عبد اللَّه بن أبي وقد كان رأس أصحاب الإفك، ومع هذا ترك حده لمصلحة هي أعظم من إقامته (4).
كما استدلوا بالخلاف الذي وقع بين الصحابة رضوان اللَّه عليهم في زمن خلافة علي رضي الله عنه، فقال رحمه الله: "لما بُويع له -أي: لعلي رضي الله عنه طلب أهل الشام في شرط البيعة
(1) المغني، 9/ 120.
(2)
انظر: المبسوط، 10/ 130، والكافي، 1/ 222، والأم، 4/ 220، والمغني، 9/ 12.
(3)
الفتاوى، 3/ 422.
(4)
انظر: طرح التثريب، 8/ 63، وفتح القدير للشوكاني، 4/ 13، وزاد المعاد، 3/ 229، والجامع لأحكام القرآن، 12/ 202، وفيه:"قال علماؤنا وإنما لم يحد عبد اللَّه بن أُبي؛ لأن اللَّه تعالى قد أعد له في الآخرة عذابًا عظيمًا. . . ويحتمل أن يُقال: إنما ترك حد بن أبي استئلافًا لقومه واحترامًا لابنه وإطفاءً لثائرة الفتنة المتوقعة من ذلك".
التمكن من قتلة عثمان وأخذ القود منهم، فقال لهم علي رضي الله عنه:(ادخلوا في البيعة، واطلبوا الحق تصلوا إليه، فقالوا: لا تستحق بيعة وقتلة عثمان معك، تراهم صباحا ومساء)، فكان علي في ذلك أشد رأيًا وأصوب قولًا؛ لأن عليًا لو تعاطى القود منهم لتعصبت لهم قبائل، وصارت حربًا ثالثة، فانتظر بهم أن يستوثق الأمر، وتنعقد البيعة العامة، ويقع الطلب من الأولياء في مجلس الحكم، فيجري القضاء بالحق، ولا خلاف بين الأمة أنه يجوز للإمام تأخير القصاص، إذا أدى ذلك إلى إثارة الفتنة أو تشتيت الكلمة" (1).
قال ابن حجر رحمه الله: "إن أحدًا لم ينقل أن عائشة ومن معها نازعوا عليًا في الخلافة، ولا دعوا إلى أحد منهم ليولوه الخلافة، وإنما أنكرت هي ومن معها على علي منعه من قتل قتلة عثمان، وترك الاقتصاص منهم، وكان علي ينتظر من أولياء عثمان أن يتحاكموا إليه، فإذا ثبت على أحد بعينه أنه ممن قتل عثمان اقتص منه، فاختلفوا بحسب ذلك، وخشي من نسب إليهم القتل أن يصطلحوا على قتلهم، فأنشبوا الحرب بينهم إلى أن كان ما كان"(2).
ففي حالة عدم استقرار الحكم لا يمكن إقامة الحدود، قال ابن تيمية رحمه الله واصفًا حالة الحكم في زمن علي رضي الله عنه:"ولم يكن ممكنا من أن يعمل كل ما يُريده من إقامة الحدود ونحو ذلك؛ لكون الناس مختلفين عليه، وعسكره وأمراء عسكره غير مطيعين له في كل ما كان يأمرهم به، فإن التفرق والاختلاف يقوم فيه من أسباب الشر والفساد وتعطيل الأحكام ما يعلمه من يكون من أهل العلم العارفين بما جاء من النصوص في فضل الجماعة والإسلام"(3)، فلم يكن تأجيل القصاص من قتلة عثمان رضي الله عنه إلا من باب درء المفاسد بالرغم من مصلحة تنفيذ القصاص (4).
(1) أَحْكَام الْقُرْآن لابن الْعَرَبِيّ، 4/ 150، وانظر: الجامع لأحكام القرآن، 16/ 318.
(2)
فتح الباري، 13/ 56.
(3)
الفتاوى، 27/ 477.
(4)
انظر: البداية والنهاية، 7/ 238.
ويذكر ابن قدامة رحمه الله حالات أخرى لجواز تأخير إقامة الحد، وهي:"إنْ كَانَ بِالمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ إلَى الْمَحْدُودِ، أَوْ قُوَّةٌ بِهِ، أَوْ شُغْلٌ عَنْهُ، أُخِّرَ"(1)، فعند الحاجة إلى هذا الشخص الذي وقع عليه الحد يعطل الحد، لمصلحة الجماعة، وكذلك إن كان به قوة تحول بين الدولة وبين تطبيق الحد عليه، أو انشغال المسلمين عنه بأمر أهم كهجوم عدو أو وقوع كارثة.
ومما وقع فيه الخلط هنا: "أن معظم العاملين في الحقل الإسلامي -وبخاصة المتحمسين منهم- أعطوا عناية كبرى لقضية. . . "تطبيق الشريعة الإسلامية" يعنون الجانب القانوني من الشريعة ولا سيما في العقوبات أي الحدود والقصاص والتعازير. وهذا الجانب جزء من الإسلام ولا ريب، ولا يجوز إغفاله أو الإعراض عنه، ولكن المبالغة في المطالبة به، والحديث عنه واعتباره رأس الأمر وعموده وذروة سنامه، كان له آثار سيئة على التفكير الإسلامي والعمل الإسلامي، وآثار أخرى على أفكار الناس العاديين، واستغل ذلك خصوم الإسلام وشريعته ودعوته. وطالما قلت: إن القوانين وحدها لا تصنع المجتمعات، ولا تبني الأمم، إنما تصنع المجتمعات والأمم: التربية والثقافة ثم تأتي القوانين سياجًا وحماية. . فالواجب إذن أن تعطى هذه القضية حجمها الحقيقي من الفكر والعمل، وأن تعطى مساحات مناسبة للاشتغال والإعداد والمطالبة بـ"تربية إسلامية متكاملة معاصرة""(2).
وإن كان هذا رأي بعض المعاصرين فإن ابن تيمية رحمه الله تطرق لهذه المسألة بقوله: "والسنة أن يكون للمسلمين إمام واحد والباقون نوابه فإذا فرض أن الأمة خرجت عن ذلك لمعصية من بعضها وعجز من الباقين أو غير ذلك فكان لها عدة أئمة؛ لكان يجب على
(1) المغني، 9/ 248.
(2)
في فقه الأولويات، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة: مصر، ط 3، 1419 هـ، ص 194 - 195، وانظر: التدرج في تطبيق الشريعة الإسلامية، محمد الشريف، الكويت، ط 1، 1996 م، ص 42 وما بعدها.
كل إمام أن يقيم الحدود ويستوفي الحقوق، ولهذا قال العلماء إن أهل البغي ينفذ من أحكامهم ما ينفذ من أحكام أهل العدل، وكذلك لو شاركوا الإمارة، وصاروا أحزابا، لوجب على كل حزب فعل ذلك في أهل طاعتهم، فهذا عند تفرق الأمراء وتعددهم، وكذلك لو لم يتفرقوا لكن طاعتهم للأمير الكبير ليست طاعة تامة، فإن ذلك أيضا إذا اسقط عنه إلزامهم بذلك، لم يسقط عنهم القيام بذلك، بل عليهم أن يقيموا ذلك، وكذلك لو فرض عجز بعض الأمراء عن إقامة الحدود والحقوق أو إضاعته لذلك لكان ذلك الفرض على القادر عليه، وقول من قال لا يقيم الحدود إلا السلطان ونوابه إذا كانوا قادرين فاعلين بالعدل كما يقول الفقهاء الأمر إلى الحاكم إنما هو العادل القادر، فإذا كان مضيعا لأموال اليتامى أو عاجزا عنها لم يجب تسليمها إليه مع إمكان حفظها بدونه، وكذلك الأمير إذا كان مضيعا للحدود أو عاجزا عنها لم يجب تفويضها إليه مع إمكان إقامتها بدونه، والأصل أن هذه الواجبات تقام على أحسن الوجوه، فمتى أمكن إقامتها من أمير لم يحتج إلى اثنين، ومتى لم يقم إلا بعدد ومن غير سلطان أقيمت إذا لم يكن في إقامتها فساد يزيد على إضاعتها، فإنها من باب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فإن كان في ذلك من فساد ولاة الأمر أو الرعية ما يزيد على إضاعتها لم يدفع فساد بأفسد منه واللَّه اعلم" (1).
إذًا فالحدود من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبالتالي إن ترتب على هذا الأمر بالمعروف منكر، أو ترتب على النهي عن المنكر منكر أعظم منه، فلا ينبغي الإقدام عليه.
وخلاصة هذه المسألة: جواز تعطيل الحدود في حالة الاستضعاف، بشرط اتصال الاستضعاف بإقامة الحدود، بمعنى أن تكون إقامة الحدود سببًا من أسباب وقوع
(1) الفتاوى، 34/ 175 - 176.
الاستضعاف، ويشهد لصحة هذا أن النجاشي رحمه الله لم يقم الحدود في الحبشة، بل لم يكن بإمكانه القيام بذلك لعدم وجود القوة الكافية للمسلمين، وعدم تمكنه من الملك، ولم يقدح هذا في إيمانه، إلا أنه ينبغي التأكيد على ما يلي:
1 -
أن على الحاكم إقامة الحد متى ما كانت الفرصة مناسبة ليخرج من حالة الاستثناء ويعود إلى الأصل.
2 -
إن أمكن إقامة بعض الحدود دون بعض، وجب إقامة المقدور عليه منها؛ لقوله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ. .} (1)، وقوله عليه الصلاة والسلام: (
…
دَعُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ إِنَّمَا هَلَكَ من كان قَبْلكُمْ بِسُؤَالِهمْ وَاخْتِلَافِهِمْ على أَنْبِيَائِهِمْ فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عن شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (2)، وكما هو معلوم فإن المقدور لا يسقط بالمعذور (3).
3 -
إن أمكن إقامة بعض الحدود بطريقة لا تتسبب بالضرر على الدولة الإسلامية أو تأليب الأعداء عليها، فينبغي إقامة الحد، كأن تتم إقامته بحضور عدد محصور، ودون
(1) سورة التغابن، من الآية [16].
(2)
أخرجه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول اللَّه عليه الصلاة والسلام، رقم: 6858، ومسلم، كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر، رقم:1337.
قال الحافظ في فتح الباري، 13/ 261:"الحكمة في تقييد الحديث بالاستطاعة في جانب الأمر دون النهي؛ أن العجز يكثر تصوره في الأمر بخلاف النهي، فإن تصور العجز فيه محصور في الاضطرار".
(3)
انظر: قواعد الأحكام في مصالح الأنام، 1/ 187، وفتح الباري، 13/ 261، ومن صيغها: الميسور لا يسقط بالمعسور، والميسور لا يسقط بالمعجوز عنه، انظر: إعانة الطالبين، 1/ 2، والمنثور، 1/ 230، و 1/ 422، وغير المستطاع لا يسقط به المستطاع، حاشية السندي، نور الدين بن عبد الهادي السندي، تحقيق: عبد الفتاح أبو غدة، مكتب المطبوعات الإسلامية: حلب، ط 2، 1406 هـ، 1/ 172.
الإعلان عنه في وسائل الإعلام، بل يُكتفى بإخبار الخصوم ونحوهم ممن يرى الحاكم المصلحة في حضوره أو إخباره.
فإن قيل: إن اللَّه عز وجل أمر بالإعلان عند إقامة الحد، فقال تعالى:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (1)، كما أن في الإعلان والشهود من الفوائد والحكم ما لا تتحقق بإقامته سرًا وبحضور العدد القليل من الناس، "والنص وإن ورد في حد الزنا لكن النص الوارد فيه يكون واردًا في سائر الحدود دلالة؛ لأن المقصود من الحدود كلها واحد وهو زجر العامة، وذلك لا يحصل إلا وأن تكون الإقامة على رأس العامة؛ لأن الحضور ينزجرون بأنفسهم بالمعاينة، وَالْغُيَّبَ يَنْزَجِرُون بإخبار الحضور فيحصل الزجر للكل، وكذا فيه منع الجلاد من المجاوزة عن الحد الذي جعل له؛ لأنه لو جاوز لمنعه الناس عن المجاوزة، وفيه أيضا دفع التهمة والميل فلا يتهمه الناس أن يقيم الحد عليه بلا جرم سبق منه"(2).
والجواب على هذا من عدة أوجه:
أولًا: لا ننكر تحقق هذه المصالح من شهود الناس لتنفيذ الحكم وإعلانه، إلا أن هذه المصالح التي تتحقق بالإعلان عن إقامة الحد لا يُمكن مقابلتها بالمفاسد التي تقع على الدولة الإسلامية في حال الاستضعاف، ومن المقرر أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
ثانيًا: أن المقصود بالطائفة يتحقق بالواحد فصاعدًا على الصحيح، وإن كان الأفضل والأولى في الأحوال العادية حضور وشهود العدد الكبير، وقد تنوعت أقوال المفسرين
(1) سورة النور، الآية [2].
(2)
بدائع الصنائع، 7/ 60 - 61.
والفقهاء في عدد الطائفة من الواحد فصاعدًا، أو أربعة قياسًا على شهود الزنا (1)، قال ابن جرير رحمه الله بعد أن أورد الاقوال في عدد الطائفة:"وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: أقل ما ينبغي حضور ذلك من عدد المسلمين الواحد فصاعدا؛ وذلك أن اللَّه عم بقوله: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ} (2)، والطائفة قد تقع عند العرب على الواحد فصاعدا"(3)، قال ابن حزم رحمه الله:"فلما اختلفوا كما ذكرنا وجب أن ننظر في ذلك فوجدنا جميع الأقوال لا يُحتج بها، إلا قول مجاهد وابن عباس وهو أن الطائفة واحد فصاعدا، فوجدناه قولًا يوجبه البرهان من القرآن والإجماع واللغة، فأما القرآن فإن اللَّه تعالى يقول: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى} (4) فبين تعالى نصًا جليًا أنه أراد بالطائفتين هنا الاثنين فصاعدًا بقوله في أول الآية: {اقْتَتَلُوا}، وبقوله تعالى: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى}، وبقوله تعالى في آخر الآية: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} (5)، وبرهان آخر وهو أن اللَّه تعالى قال: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (6) "(7)، وبالتالي فإن حضور العدد القليل يفي بالغرض، ويقي الدولة الإسلامية من تبعات الاعلان عن هذا الأمر وعواقبه في حال ضعفها.
(1) انظر: أحكام القرآن للجصاص، 5/ 106، ومفاتيح الغيب، 23/ 130، والدر المنثور، 6/ 126، وتفسير القرآن العظيم، 3/ 263، والجامع لأحكام القرآن، 12/ 166، ومواهب الجليل، 6/ 295، والمجموع، 4/ 363، والمغني، 9/ 46.
(2)
سورة النور، من الآية [2].
(3)
جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 18/ 70.
(4)
سورة الحجرات، من الآية [9].
(5)
سورة الحجرات، من الآية [10].
(6)
سورة النور، من الآية [2].
(7)
المحلى، 11/ 264.
4 -
التدرج في تطبيق الحدود الشرعية إنما يكون في بداية التطبيق، وهو لا يعني التراجع بل المراد منه استكمال الأسباب والظروف لبدء التطبيق (1).
5 -
إنما يأثم الحكام في حال القدرة على إقامة الحدود، أما في حال الاستضعاف والخشية على الدولة الإسلامية فلا يأثم الحكام، وليس هذا من إقرار الحكم بغير ما أنزل اللَّه أو ترك العمل بأحكام الشريعة الإسلامية، بل هو من باب التأجيل لحين التمكن من العمل؛ فإن العجز مسقط للأمر والنهي وإن كان واجبًا في الأصل واللَّه أعلم (2)، إلا أنه يجب التنبيه على خطورة وأضرار تساهل الحكام في التعاطي مع هذه المسألة العظيمة وإعمالهم للقوانين الوضعية وتعطيلهم للشريعة، وتذرعهم لمثل هذا التعطيل بأبسط الضغوط أو لمجرد الانتقادات من الجمعيات التي تدعي المطالبة بحقوق الإنسان، وهذا الأمر لن يزيد ملكهم إلا ضعفًا، ولن يزيدهم إلا وهنًا، ولن يحفظ لهم ولا للبلاد والعباد الأمن والأمان.
* * *
(1) انظر: قضايا في الاقتصاد والتمويل الإسلامي، د. سامي السويلم، دار كنوز اشبيليا: الرياض، ط 1، 1430 هـ.
(2)
انظر: الفتاوى، 20/ 59 - 62.