الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثامن العمل بآيات الصبر والصفح والعفو
لقد أمر اللَّه عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر والصفح والكف والإعراض عن المشركين، ومن ذلك قوله تعالى:{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} (1)، وقوله سبحانه:{اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (2)، وقوله عز وجل:{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (3)، وقوله تعالى:{قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (4)، ونزلت معظم هذه الآيات في العهد المكي، ولما نزلت الآيات في الأمر بالقتال والجهاد في سبيل اللَّه في العهد المدني كقوله تعالى:{فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (5)، وقوله سبحانه:{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (6)، وقوله عز وجل: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا
(1) سورة البقرة، الآية [109].
(2)
سورة الأنعام، الآية [106].
(3)
سورة الحجر، الآية [94].
(4)
سورة الجاثية، الآية [14].
(5)
سورة التوبة، الآية [5].
(6)
سورة التوبة، الآية [29].
فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (1)، قال بعض المفسرين أن تلك الآيات المدنية تُعد ناسخة للآيات المكية، إلا أن دعوى النسخ هذه لا دليل عليها، ولهذا ذهب العديد من المحققين إلى عدم صحة دعوى النسخ، وقيل: هو قول الجمهور (2)، لاسيما مع إمكانية الجمع، ونجد هذا الأمر ظاهرًا في كتب التفسير وغيرها عند الإشارة لآية السيف وآيات الإعراض والعهود، بل إنا نجد أن هنالك من قال بأن آية السيف منسوخة، بل واختلف المفسرون في تحديدها (3)، مع التنبيه إلى أن المتقدمين من أهل العلم توسعوا في إطلاق النسخ، فأطلقوه على التخصيص والاستثناء (4).
(1) سورة التوبة، الآية [36].
(2)
جاء في الإنجَاد في أبواب الجهاد، محمد بن عيسى بن أصبغ المعروف بابن المناصِف، تحقيق: قاسم عزيز الوزّاني، دار الغرب الإسلامي: بيروت، ط 1، 2003 م، ص 95:"وقال الجمهور: بل كان فرضُ القِتال على الكِفاية من أول الإسلام، وحَملوا ما وقع في ذلك من التشديد والتعميم على أحوال، وذلك إذا احتيجَ إلى الجميع لِقلةِ المسلمين كما كان ذلك في أولِ الإسلام أو لما عسى أن يَعرض أو يكون ذلك خاصًا بأهل النفير الذين يعيِّنهم الإمام في الاستنفار، وإذا لم يكن شيءٌ من ذلك فهو على أصلِ الكفاية ولا نسخ على هذا من شيء من الآيات، بل هو راجعٌ إلى الأحوال وما يجب في مُقاومةِ الكفار، وهذا الأرجح واللَّه أعلم؛ لأن النسخ لا يُصار إليه إلا بتوقيف أو اضطرار لا يمكن معه الجمع بين الأمرين".
(3)
قال ابن كثير رحمه الله: "ثم اختلف المفسرون في آية السيف هذه، فقال الضحاك والسدي: هي منسوخة بقوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4]، وقال قتادة: بالعكس" تفسير القرآن العظيم، 2/ 338.
(4)
انظر: التسهيل لعلوم التنزيل، 1/ 11، ومناهل العرفان في علوم القرآن، 2/ 132، وأحكام القرآن للجصاص، 2/ 72، وفتح الباري، 8/ 496، والجامع لأحكام القرآن، 2/ 65:"والمتقدمون يطلقون على التخصيص نسخا توسعا ومجازا".
قال ابن جرير رحمه الله: "فأما ما قاله قتادة ومن قال مثل قوله من أن هذه الآية منسوخة فقول لا دلالة عليه من كتاب ولا سنة ولا فطرة عقل، وقد دللنا في غير موضع من كتابنا هذا وغيره على أن الناسخ لا يكون إلا ما نفي حكم المنسوخ من كل وجه فأما ما كان بخلاف ذلك فغير كائن ناسخا"(1)، والسيوطي نقل في إتقانه عن العلامة ابن الحصار -رحمهما اللَّه- قوله:"إنما يرجع في النسخ إلى نقل صريح عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أو عن صحابي يقول: آية كذا نسخت كذا، قال: وقد يحكم به عند وجود التعارض المقطوع به، من علم التاريخ ليعرف المتقدم والمتأخر، قال: ولا يعتمد في النسخ قول عوام المفسرين، بل ولا اجتهاد المجتهدين من غير نقل صحيح، ولا معارضة بينة؛ لأن النسخ يتضمن رفع حكم، وإثبات حكم تقرر في عهده صلى الله عليه وسلم والمعتمد فيه النقل والتاريخ دون الرأي والاجتهاد، قال: والناس في هذا بين طرفي نقيض، فمن قائل: لا يقبل في النسخ أخبار الآحاد العدول، ومن متساهل يكتفي فيه بقول مفسر أو مجتهد، والصواب خلاف قولهما، انتهى"(2).
وقال في موضع آخر: "ما أُمر به لسبب ثم يزول السبب، كالأمر حين الضعف والقِلة بالصبر والصفح ثم نسخ بإيجاب القتال، وهذا في الحقيقة ليس نسخًا، بل هو من قسم المُنسأ كما قال تعالى:{أَوْ نُنْسِهَا} ، فالمُنسأ هو الأمر بالقتال إلى أن يقوى المسلمون، وفي حال الضعف يكون الحكم وجوب الصبر على الأذى، وبهذا يضعف ما لهج به كثيرون من أن الآية في ذلك منسوخة بآية السيف وليس كذلك، بل هي من المنسأ بمعنى: أن كل
(1) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 10/ 34.
(2)
الإتقان في علوم القرآن، جلال الدين السيوطي، تحقيق: سعيد المندوب، دار الفكر: لبنان، ط 1، 1416 هـ، 3/ 65 - 66.
أمر ورد يجب امتثاله في وقت ما لعله يقتضي ذلك الحكم ثم ينتقل بانتقال تلك العلة إلى حكم آخر، وليس بنسخ، إنما النسخ الإزالة للحكم حتى لا يجوز امتثاله" (1).
وكل دعاوى النسخ إن لم تستند لدليل فهي محل نظر، خاصة مع إمكان الجمع؛ لأن شرط النسخ التعارض مع تعذر الجمع، ومن المقرر عند أهل العلم أنه لا يصار إلى النسخ مع إمكان الجمع (2)، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:"فإن من الناس من يقول آيات المجادلة والمحاجة للكفار منسوخات بآية السيف لاعتقاده أن الأمر بالقتال المشروع ينافي المجادلة المشروعة، وهذا غلط فإن النسخ إنما يكون إذا كان الحكم الناسخ مناقضا للحكم المنسوخ"(3).
وقال في موضع آخر بعد أن أشار إلى الآيات الواردة في الأمر بالكف والعفو الصفح ثم آيات الأمر بالقتال والجهاد: "فكان ذلك -أي: التمكين- عاقبة الصبر والتقوى الذين أمر اللَّه بهما في أول الأمر، وكان إذ ذاك لا يؤخذ من أحد من اليهود الذين بالمدينة ولا غيرهم جزية، وصارت تلك الآيات في حق كل مؤمن مستضعف لا يمكنه نصر اللَّه ورسوله بيده ولا بلسانه فينتصر بما يقدر عليه من القلب ونحوه، وصارت آية الصغار على المعاهدين في حق كل مؤمن قوي يقدر على نصر اللَّه ورسوله بيده أو لسانه، وبهذه الآية ونحوها كان المسلمون يعملون في آخر عمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وعلى عهده خلفائه الراشدين، وكذلك هو إلى قيام الساعة، لا تزال طائفة من هذه الأمة قائمين على الحق ينصرون اللَّه ورسوله النصر التام، فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف، أو في
(1) المرجع السابق، 3/ 57.
(2)
انظر: المغني، 9/ 75، وفتح الباري، 2/ 62، وأضواء البيان، 8/ 93.
(3)
الجواب الصحيح، 1/ 218.
وقت هو فيه مستضعف، فليعمل بآية الصبر والصفح عمن يؤذي اللَّه ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين، وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين، وبآية قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون" (1).
وإن مرحلة الاستضعاف تقتضي مثل هذا العمل بآيات الصفح والعفو والمغفرة والإعراض عن الأعداء، وعدم الانجرار أو الدخول في صراع جانبي يستهلك الطاقة، ويضعف القوة، ويؤلب الأعداء، ويفرق الأنصار، إن الإخلاص والتضحية والشجاعة والإقدام لا تكفي لتبرير التصرفات المندفعة والمجردة عن الفقه الشرعي وفهم الواقع والتقدير الحقيقي للقدرات والإمكانات، وعلى المستضعفين الحذر من أن تكون تصرفاتهم مجردة عن فقه المآلات، وفقه الأولويات، ودون النظر في المصالح والمفاسد، وعليهم الحذر من أن يتم استدراجهم لأمور وتصرفات انفعالية نتيجة للضغوط المحيطة بهم وبأمتهم، وبالمقابل فإن على المستضعفين الأخذ بالأسباب والعمل والسعي الجاد للتمكين في الأرض، وألا يجعلوا من الواقع حجة وعذرًا للبقاء في حالة الاستثناء (2).
ولقد عمل النبي صلى الله عليه وسلم على ضبط سلوك أتباعه بما يحول دون حصول مواجهة مع كفار قريش في المرحلة المكية، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن عبد الرحمن بن عوف، وأصحابًا له أتوا
(1) الصارم المسلول على شاتم الرسول، أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية، تحقيق: محمد الحلواني، محمد شودري، دار ابن حزم: بيروت، ط 1، 1417 هـ، 2/ 413.
(2)
انظر: دلالة القرآن على سماحة الإسلام ويسره، د. عبد الرحمن الزنيدي، ضمن بحوث ندوة أثر القرآن الكريم في تحقيق الوسطية ودفع الغلو، وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد: السعودية، ط 2، 1425 هـ، 1/ 160 - 166، والغرباء الأولون، ص 259، والأعمال السياسية السلمية للنبي صلى الله عليه وسلم والأحكام المستنبطة منها، مصطفى العزاوي، دار الدرر: الأردن، ط 1، 1428 هـ، ص 43.
النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، فقالوا: يا رسول اللَّه، إنا كنا في عز، ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة، فقال:(إني أمرت بالعفو، فلا تقاتلوا، فلما حوّلنا اللَّه إلى المدينة، أمرنا بالقتال، فكفوا، فأنزل اللَّه عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} (1)) (2).
* * *
(1) سورة النساء، الآية [77].
(2)
أخرجه النسائي، كتاب الجهاد، باب وجوب الجهاد، رقم: 3086، والحاكم في المستدرك، 2/ 76، رقم: 2377، وقال:"صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي.