الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس الأخذ بضوابط العمل بالضرورة والحاجة
إن فقه الاستضعاف ليس هو فقه الضرورة والحاجة، وذلك لأن المستضعف قد يكون واقعًا تحت الضرورة والحاجة، كحالة الاستضعاف الكلي، وقد لا يكون واقعًا تحت الضرورة في كل شؤونه كحالة الاستضعاف الجزئي.
كما أن فقه الاستضعاف ليس هو فقه الأقليات، فهو أوسع من فقه الأقليات إذ يشمل فقه الأقليات حالة استضعافها، ويشمل غيرها، أما في حالة قوة الأقليات فلا يشملها فقه الاستضعاف.
ولا يخلو عصر من العصور من وجود ذوي الأهواء من المفتين المتساهلين أو الموجَّهين ممن يقدمون مصالحهم الشخصية ويحفظونها ابتغاء متاع الدنيا، أو يسير في ركب الحكام طمعًا بما لديهم من مناصب أو أموال، لذا فقد استنبط الفقهاء ضوابط وشروط من النصوص الشرعية لمن أراد الترخص بسبب الضرورة أو الحاجة، تكون عونًا لطالب الحق، ومنعًا للعابثين، وقطعًا للطريق عمن جعل من الضرورة أو المصلحة سترًا يتستر به بلا قيد أو حد (1)، ومن هذه الشروط:
1 -
تحقق وقوع الضرر (الاضطرار) بالمستضعف:
لأن الرخصة إنما تكون عند تحقق الضرورة، وتحقق وجود الاستضعاف يكون بتحقق وقوع الضرورة والحاجة والإكراه، وفقًا للشروط التي ذكرها الفقهاء، قال ابن قدامة رحمه الله:"الضرورة أمر معتبر بوجود حقيقته لا يكتفى فيه المظنة، بل متى وجدت الضرورة أباحت سواء وجدت المظنة أو لم توجد، ومتى انتفت لم يبح الأكل لوجود مظنتها"(2).
(1) انظر: فقه الضرورة وتطبيقاته المعاصرة، ص 64، ونظرية الضرورة، ص 206.
(2)
المغني، 9/ 331.
أما فيما يتعلق بالجماعة فإنه يكتفى بالحاجة، وقد نبه على هذا إمام الحرمين رحمه الله عند حديثه عن الكسب الحرام حالة إطباق الحرام، ولم يجد الناس لطلب الحلال سبيلًا، فقال:"فلهم أن يأخذوا منه قدر الحاجة، ولا تشترط الضرورة التي نرعاها في إحلال الميتة في حقوق آحاد الناس، بل الحاجة في حق الناس كافة تنزل منزلة الضرورة في حق الواحد المضطر لو صابر ضرورته، ولم يتعاط الميتة لهلك، لو صابر الناس حاجاتهم، وتعدوها إلى الضرورة لهلك الناس قاطبة، ففي تعدي الكافة الحاجة من خوف الهلاك ما في تعدي الضرورة في حق الآحاد" إذ "لا يراعى فيما يعم الكافة الضرورة بل يكتفى بحاجة ظاهرة"(1).
2 -
أن تكون جارية على أصول الشرع وقواعده ومقاصده:
فلا بد أن يشهد للضرورة أصل شرعي بالاعتبار، وهذا ما دلت عليه القاعدة الفقهية:"إنما تعتبر الضرورة فيما لا يكون فيه نص بخلافه"(2). "فعلى كل ناظر ألا يتبع رأيه المحض، حتى يربطه بأصول الشريعة، ومن أعمل الرأي المجرد، أحل وحرم على خلاف الشريعة فلا حجة إذًا في قوله"(3).
(1) غياث الأمم، ص 221 - 222.
(2)
العناية شرح الهداية، محمد بن محمد البابرتي، دار الفكر: بيروت، ط 1، د. ت، 3/ 104.
(3)
البرهان في أصول الفقه، عبد الملك بن عبد اللَّه الجويني، تحقيق: د. عبد العظيم الديب، دار الوفاء: المنصورة، ط 4، 1418 هـ، 2/ 505، وانظر: والفروق، 2/ 184، جاء في المدخل لابن بدران، 1/ 295:"ولا يجوز للمجتهد التمسك بمجرد هذين القسمين المذكورين، وهما: التحسيني، والحاجي، بل لا بد له من شاهد من جنسها يشهد له باعتبار أحكامهما؛ لئلا يكون ذلك وضعا للشرع بالرأي؛ ولأن اعتبارهما بدون شاهد، يؤدي إلى الاستغناء عن بعث الرسل، ويجر الناس إلى دين البراهمة القائلين: لا حاجة لنا إلى الرسل؛ لأن العقل كاف لنا في التأديب ومعرفة الأحكام، إذا ما حسنه العقل أتيناه، وما قبحه اجتنبناه، وما لم يقض فيه بحسن ولا قبح فعلنا منه الضروري، وتركنا الباقي احتياطا، والتمسك بهذين القسمين من المصالح من غير شاهد لهما بالاعتبار يؤدي إلى مثل ذلك ونحوه فيكون باطلا".
قال الغزالي رحمه الله: "الواقع في الرتبتين الأخيرتين -أي: الحاجي والتحسيني- لا يجوز الحكم بمجرده، إن لم يعتضد بشهادة أصل، إلا أنه يجري مجرى وضع الضرورات، فلا يبعد في أن يؤدي إليه اجتهاد مجتهد، وإن لم يشهد الشرع بالرأي، فهو كالاستحسان، فإن اعتضد بأصل، فذاك قياس وسيأتي، أما الواقع في رتبة الضرورات فلا يبعد في أن يؤدي إليه اجتهاد، وإن لم يشهد له أصل معين، ومثاله إن الكفار إذا تترسوا بجماعة من أسارى المسلمين"(1).
ولذلك نجد من الفقهاء من يُعبر عن هذه الضرورة بالضرورة الشرعية (2)، وألحق الفقهاء بالضرورة الحاجة الماسة والشديدة (3)، كما يلحق بالضرورة الحاجة العامة، قال العز بن عبد السلام رحمه الله:"إذا عم الحرام بحيث لا يوجد حلال فلا يجب على الناس الصبر إلى تحقق الضرورة لما يؤدي إليه من الضرر العام"(4).
قال ابن القيم رحمه الله: "الشريعة مبناها وأساسها على الحِكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ورحمة كلها، ومصالح كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى
(1) المستصفى، 1/ 175، وقال ابن قدامة رحمه الله:"فهذان الضربان -أي: الحاجي والتحسيني- لا نعلم خلافا في أنه لا يجوز التمسك بهما من غير أصل، فإنه لو جاز ذلك كان وضعا للشرع بالرأي، ولما احتجنا إلى بعثة الرسل ولكان العامي يساوي العالم في ذلك فإن كل أحد يعرف مصلحة نفسه"، روضة الناظر، عبد اللَّه بن أحمد بن قدامة المقدسي، تحقيق: د. عبد العزيز السعيد، جامعة الإمام محمد ابن سعود: الرياض، ط 2، 1399 هـ، 1/ 170.
(2)
انظر: المدخل، لابن الحاج، محمد بن محمد العبدري الفاسي المالكي، دار الفكر: بيروت، ط 1، 1401 هـ، 4/ 134.
(3)
انظر: قواعد الأحكام في مصالح الأنام، 2/ 130.
(4)
المرجع السابق، 2/ 37.
الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث؛ فلسيت من الشريعة" (1).
3 -
أن يكون ارتكاب المستضعف للمحظور أقل ضررًا من الأخذ بالعزيمة:
ويعرف ذلك بالأخذ بقاعدة المصالح والمفاسد، وبالنظر لأخفهما وأغلظهما (2)، ويسبق هذا ألا يكون هنالك من سبيل لدرء المفسدة إلا الوقوع في المحظور، ومن القواعد التي قررها أهل العلم:"درء المفاسد أولى من جلب المصالح، فإذا تعارض مفسدة ومصلحة، قدم دفع المفسدة غالبًا؛ لأن اعتناء الشارع بالمنهيات أشد من اعتنائه بالمأمورات"(3)، ومن صيغ هذه القاعدة:"المحرم إذا عارضه الواجب قدم على الواجب؛ لأن رعاية درء المفاسد أولى من رعاية حصول المصالح"(4)، والسبب في هذا لأن المصالح لم تشرع في الحقيقة إلا لدفع الضرر أيضًا (5).
وأما إن اجتمعت المفاسد على المستضعف "فإن أمكن درؤها درأنا، وإن تعذر درء الجميع درأنا الأفسد فالأفسد"(6)، ومثلها قاعدة:"درء المفسدة العليا أولى من درء غيرها"(7)، ومثلها قاعدة:"تقديم المصلحة الراجحة على المفسدة الخفيفة"(8)، وأيضًا
(1) إعلام الموقعين، 3/ 3.
(2)
انظر: المنثور، 2/ 321.
(3)
الأشباه والنظائر، 1/ 87، وانظر: شرح القواعد الفقهية، أحمد بن محمد الزرقا، دار القلم: دمشق، ط 2، 1409 هـ، 1/ 206، ودرر الحكام، 1/ 37.
(4)
الفروق، 4/ 370.
(5)
شرح القواعد الفقهية، 1/ 165.
(6)
قواعد الأحكام في مصالح الأنام، 1/ 79.
(7)
المدخل لابن بدران، 1/ 298.
(8)
فتح الباري، 1/ 172.
قاعدة: "تقديم المصلحة الراجحة على المفسدة المرجوحة أو البعيدة"(1).
فمن المقرر عند أهل العلم: أن "الضرورات لا تبيح كل المحظورات، بل يجب أن تكون المحظورات دون الضرورات، أما إذا كانت الممنوعات أو المحظورات أكثر من الضرورات فلا يجوز إجراؤها ولا تصبح مباحة"(2)، ومن هنا جاءت القواعد الفقهية المقيدة لقاعدة الضرورة، ومنها: الضرر لا يزول بضرر آخر، ومن باب أولى ألا يزال بأكثر منه، إذ يشترط بأن يزال الضرر بلا إضرار بالغير إن أمكن، وإلا فبأخف منه (3).
فـ "الضروريات تبيح المحظورات بشرط عدم نقصانها عنها"(4)؛ لكون الضرورة في حقيقتها هي تعارض مصلحتين ومفسدتين على أمر واحد، فنرجح المصلحة الأكبر، وندفع المفسدة الأشد، فإن كانت مصلحة الالتزام بالحكم الأصلي أولى من مصلحة إزالة الضرورة، فلا يعتد بتلك الضرورة، ولا اعتبار لها، كمن أكره على قتل غيره (5).
ومما يدخل في هذا أيضًا تقديم مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد (6)، فإن المفسدة الواقعة على الفرد هي الأدنى، والمفسدة الواقعة على الجماعة هي الأعلى.
(1) أضواء البيان، 7/ 497، ومثل لها بقوله:"أن تخليص أسارى المسلمين من أيدي العدو بالفداء مصلحة راجحة، قدمت على المفسدة المرجوحة، التي هي انتفاع العدو بالمال المدفوع لهم فداء للأسارى".
(2)
درر الحكام، 1/ 34.
(3)
انظر: المدخل لابن بدران، 1/ 298، والأشباه والنظائر، 1/ 86، ودرر الحكام، 1/ 35، وشرح القواعد الفقهية، 1/ 195.
(4)
الأشباه والنظائر، 1/ 84.
(5)
انظر: نظرية الضرورة، ص 204 - 205.
(6)
انظر: سبل السلام شرح بلوغ المرام من أدلة الأحكام، محمد بن إسماعيل الصنعاني، تحقيق: محمد الخولي، دار إحياء التراث العربي: بيروت، ط 4، 1379 هـ، 3/ 22، والموافقات، 2/ 367.
وكذلك إذا تعارضت مصلحة دينية مع مصلحة دنيوية "فالأول مقدم؛ لأن ثمرة الدينية هي السعادة الأبدية التي لا يعادلها شيء"(1)، ومما يستدل به على هذه القاعدة قصة وفد بني عامر بن صعصعة وكان فيهم عامر بن الطفيل والذي خَيَّرَ النبي عليه الصلاة والسلام بين ثَلاثِ خِصَالٍ فَقال:(يكون لك أهْلُ السَّهْلِ ولِي أهْلُ المَدَر أوْ أكُونُ خَلِيفَتَكَ أوْ أغْزُوكَ بأهْلِ غَطَفَانَ بألْف وألْفٍ)(2)، فرد عليه النبي عليه الصلاة والسلام بقوله:(ليس ذلك لك، ولا لقومك، ولكن لك أعنة الخيل)، قال: أنا الآن في أعنة خيل نجد، اجعل لي الوبر، ولك المدر، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:(لا)، فلما قفا من عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال عامر: أما واللَّه لأملأنها عليك خيلًا ورجالًا، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:(يمنعك اللَّه)(3)، وهذا ما جرى له فقد طعن في بيت امرأة، ونزل به الطاعون فهلك.
إن الرسول عليه الصلاة والسلام رفض عرض عامر ولم يفرط في حق الأمة في تحديد من يحكمها بالرغم من التهديد الشديد، وبهذا ندرك أن القواعد الاعتقادية والتشريعية لا يجوز للمسلمين التنازل عنها أو التحاور حولها بل تصان بكل وسيلة، سواء أكانت بالمال، وإن لزم الأمر بالنفس، والرسول عليه الصلاة والسلام لم يوافق على هذه المصلحة والتي
(1) التمهيد في تخريج الفروع على الأصول، عبد الرحيم الأسنوي، تحقيق: د. محمد هيتو، مؤسسة الرسالة: بيروت، ط 1، 1400 هـ، 1/ 515.
(2)
أخرجه البخاري، كتاب المُغَازِي، باب غزوة الرجيع، رقم: 3864، وبقية الحديث:(فَطُعِنَ عامِرٌ في بَيْتِ أُمِّ فُلانٍ، فَقال: غُدَّةٌ كغدةِ البَكْرِ في بَيْتِ امْرَأةٍ مِنْ آلِ فُلانٍ ائْتُونِي بِفَرَسِي فَمَاتَ علَى ظَهْرِ فرَسِهِ).
(3)
رواه الطبراني في المعجم الكبير، 10/ 312، رقم: 10760، ومصنف عبد الرزاق، 11/ 51، رقم: 19884، وقال في مجمع الزوائد، 7/ 42:"وفي إسنادهما عبد العزيز بن عمران وهو ضعيف".
تبدو دنيوية؛ لكونها منفعة مؤقتة ومشكوك في نتائجها، وعارضت مصلحة دائمة ومرتبطة بأصول الإسلام، وهو أن يكون الحكم للَّه تعالى ووفق شريعته (1).
4 -
مراعاة مراتب الضروريات:
فهي تتفاوت بحسب تفاوت المصلحة المطلوب العناية بها، وبحسب المفسدة المترتبة عن الإخلال بها، وتظهر ثمرة هذا عند تعارض ضروريين، كتعارض ضروري الدين مع ضروري النفس فيقدم الأول، "والمصالح والمفاسد الأخروية مقدمة في الاعتبار على المصالح والمفاسد الدنيوية باتفاق؛ إذ لا يصح اعتبار مصلحة دنيوية تخل بمصالح الآخرة، فمعلوم أن ما يخل بمصالح الآخرة غير موافق لمقصود الشارع فكان باطلًا"(2). ومن أجل هذا شرع الجهاد، بل تركه سيؤدي في النهاية إلى ضياع النفس وبقية الضرورات، بينما القيام به وإن أدى إلى ضياع بعض الأنفس، إلا أن ما حفظها من الأنفس أكثر مما لو ترك القيام به، قال تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (3)، قال الشاطبي رحمه الله:"وجدنا الدين أعظم الأشياء، ولذلك يُهمل في جانبه النفس والمال وغيرهما، ثم النفس ولذلك يُهمل في جانبها اعتبار قوام النسل والعقل والمال"(4)، وقال أيضًا: "الضروريات إذا تؤملت وجدت على مراتب في التأكيد وعدمه،
(1) انظر: رؤية معاصرة لمواقف من السيرة، د. محمد بن عبد اللَّه الشباني، دار عالم الكتب: الرياض، ط 1، 1412 هـ، ص 33 - 37.
(2)
الموافقات، 2/ 387، وتقديم الضرورة الدينية على الدنيوية قول الرازي والآمدي، وحكى ابن الحاجب تقديم الدنيوية،؛ لأن حقوق الآدميين مبنية على المشاحة، انظر: البحر المحيط في أصول الفقه، محمد بن بهادر الزركشي، دار الكتب العلمية: بيروت، ط 1، 1421 هـ، 4/ 481.
(3)
سورة البقرة، الآية [216].
(4)
الموافقات، 2/ 299.
فليست مرتبة النفس كمرتبة الدين، وليس تستصغر حرمة النفس في جنب حرمة الدين، فيبيح الكفر الدم، والمحافظة على الدين مبيح لتعريض النفس للقتل والإتلاف في الأمر بمجاهدة الكفار والمارقين عن الدين، ومرتبة العقل والمال ليست كمرتبة النفس، ألا ترى أن قتل النفس مبيح للقصاص، فالقتل بخلاف العقل والمال، وكذلك سائر ما بقى وإذا نظرت في مرتبة النفس تباينت المراتب فليس قطع العضو كالذبح، ولا الخدش كقطع العضو، وهذا كله محل بيانه الأصول" (1).
إن الإخلال بالدين إخلال بأول الضروريات، كما أن أركان الدين الخمسة متفاوتة في الترتيب فيما بينها، فليس الإخلال بالشهادتين كالإخلال بالصلاة، ولا الإخلال بالصلاة كالإخلال بالزكاة، ولا الإخلال بالزكاة كالإخلال برمضان وكذلك سائرها (2).
قال ابن رجب رحمه الله: "إذا اجتمع للمضطر محرمان كل منهما لا يباح بدون الضرورة، وجب تقديم أخفهما مفسدة، وأقلهما ضررا؛ لأن الزيادة لا ضرورة إليها فلا يباح"(3)، ومن القواعد الدالة على هذا المعنى:"الضرورة متى أمكن دفعها بأيسر الأمرين لا يصار إلى أعلاهما"(4)، وقاعدة:"اتباع خير الخيرين مطلوب واجتناب شر الشرين فيه مرغوب"(5).
ومن الأمثلة على مراعاة مراتب الضروريات، لو أُكره المستضعف على شرب الخمر، فيجوز له شربها؛ لأن حفظ النفوس والأطراف أولى من حفظ العقول في زمن قليل؛ ولأن فوات النفوس والأطراف دائم، وزوال العقول يرتفع عن قريب بالصحو (6).
(1) الاعتصام، 2/ 38.
(2)
المرجع السابق، 2/ 57 - 58.
(3)
القواعد، ص 247.
(4)
التقرير والتحبير، 1/ 137،
(5)
المنثور، 3/ 395.
(6)
قواعد الأحكام في مصالح الأنام، 1/ 176.
5 -
مراعاة الترتيب بين الضروريات والحاجيات والتكميلات:
فإذا تعارضت هذه الأقسام رجحت بحسب قوة المصلحة، فترجح المقاصد الخمسة الضرورية التي هي: حفظ الدين، والنفس، والنسل، والمال، على ما سواها من المقاصد الحاجية، ونرجح الحاجية على التحسينية، والسبب قوة المصلحة الضرورية، ولذا لم تخل شريعة من مراعاتها (1).
فإن كان الأخذ بالحاجية سيؤدي لنقض الضرورة لم يجز الأخذ به، لكونها مُكَمِّلة للضرورية؛ ولأن إبطال الأصل إبطال للتكملة؛ لأن التكملة مع ما كملته كالصفة مع الموصوف، وكالكلي مع الجزئي، وعلى فرض أنه يمكن تحصيل المصلحة التكميلية مع فوات المصلحة الأصلية، فإن تحصيل الأصلية أولى، لأن مفسدة فقد الأصل أعظم (2)، وهذا ما دلت عليه القاعدة:"المُكَمِّلِ إذا عاد على الأصل بالنقض سقط اعتبارها"(3)، و"كل تكمِلة أدت الى انخرام الأصل المُكَمِّلَ غير معتبرة"(4)، "يقدم ما اشتدت الضرورة إليه على ما مست الحاجة إليه"(5).
قال القرافي رحمه الله (6): "المعاصي منها صغائر، ومنها كبائر، ويعرف ذلك بكونها واقعة في الضروريات أو الحاجيات أو التكميليات، فإن ما كانت في الضروريات أعظم الكبائر،
(1) انظر: التقرير والتحبير، 3/ 307، والاعتصام، 2/ 38.
(2)
انظر: أنوار البروق في أنواع الفروق، أحمد بن إدريس القرافي، دار عالم الكتب: بيروت، ط 1، د. ت، 8/ 240.
(3)
الموافقات، 1/ 182.
(4)
المرجع السابق، 4/ 255.
(5)
قواعد الأحكام في مصالح الأنام، 2/ 61.
(6)
أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن القرافي شهاب الدين، من علماء المالكية مصري المولد والمنشأ والوفاة، من مآثره: الإحكام في تمييز الفتاوى من الأحكام، وبرع في عمل التماثيل المتحركة في الآلات الفلكية وغيرها، توفي سنة 684 هـ، انظر ترجمته: الأعلام، 1/ 94 - 95.
وما كانت في التحسينات فأدنى رتبة بلا إشكال، وما وقعت في الحاجيات فمتوسطة بين الرتبتين، ثم إن كل رتبة من هذه الرتب لها مكمل، ولا يمكن أن يكون في رتبة المكمل، فإن المكمل مع المكمل في نسبة الوسيلة مع المقصد، ولا تبلغ الوسيلة رتبة المقصد، وأيضا الضروريات إذا تؤملت وجدت على مراتب في التأكيد وعدمه" (1). وربما يحسن التنبيه إلى أن هذا التقسيم للمقاصد لا يعني أن الشريعة لا تعتني بالتحسيني أو الحاجي، لكنه عند التزاحم يقدم الضروري، ثم الحاجي، ثم التحسيني، إذ أن اختلال التحسيني، يؤدي إلى اختلال الحاجي، واختلال الحاجي يؤدي إلى اختلال الضروري (2).
6 -
الاقتصار على قدر حاجة المستضعف:
فلا يتجاوز الحد الذي يرفع الضرورة، قال الشاطبي رحمه الله:"الأمور الضرورية أو غيرها من الحاجية أو التكميلية إذا اكتنفتها من خارج أمور لا تُرضى شرعًا فإن الإقدام على جلب المصالح صحيح على شرط التحفظ بحسب الاستطاعة من غير حرج"(3)، وقد جاءت القواعد الفقهية الموضحة لهذا الشرط، منها:"ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها"(4)، ما أبيح للضرورة يختص بمحلها (5)، و"الثابت بالضرورة لا يعدو موضع الضرورة؛ لأن علة ثبوتها الضرورة والحكم لا يزيد على قدر العلة"(6)، و"الثابت بالضرورة يتقدر بقدر
(1) الفروق، 4/ 355 - 356.
(2)
انظر: الموافقات، 2/ 16 - 17.
(3)
المرجع السابق، 4/ 210.
(4)
الأشباه والنظائر، 1/ 84.
(5)
انظر: بدائع الصنائع، 1/ 245، وفتح القدير، 1/ 87، والمجموع شرح المهذب للشيرازي، يحيى بن شرف النووي، مطبعة المنيرية: القاهرة، ط 1، د. ت، 2/ 280.
(6)
بدائع الصنائع، 5/ 125.
الضرورة، ويتجدد بتجددها" (1)، ويزول بزوالها، و"الثابت بالضرورة يثبت بأدنى ما يندفع به الضرورة" (2)، و"الأمر إذا ضاق اتسع، وإذا اتسع ضاق" (3)، والمراد: "أن ما تدعو إليه الضرورة من المحظورات، إنما يرخص منه القدر الذي تندفع به الضرورة فحسب، فإذا اضطر الإنسان لمحظور فليس له أن يتوسع في المحظور، بل يقتصر منه على قدر ما تندفع به الضرورة فقط" (4)، ومن باب أولى أن يقتصر الأمر على المستضعف المضطر ولا يتعدى إلى غيره (5)، ومما يلحق بهذه القواعد قاعدة: "الأمور الضرورية لا يقاس عليها ما ليس في محلها من تلك الضرورة" (6).
7 -
انتهاء الرخصة عند انتهاء حاجة المستضعف لها:
ومن القواعد الفقهية الدالة على هذا الشرط: "ما أبيح بشرط الضرورة فهو عدم عند عدمها"(7)، و"الضرورة إذا رفعت حرام ما وراءها"(8)، و"ما جاز لعذر بطل
(1) المبسوط، 2/ 128، وانظر: بدائع الصنائع، 3/ 104، وتبيين الحقائق شَرْح كَنْز الدَّقَائِق، عثمان بن علي الزيلعي، دار الكتاب الإسلامي: القاهرة، ط 1، د. ت، 5/ 93.
(2)
فتح القدير، 8/ 496.
(3)
قواعد الفقه، محمد عميم الإحسان البركتي، الصدف ببلشرز: كراتشي، ط 1، 1407 هـ، 1/ 62، ومما جاء في شرحها، أي:"إذا دعت الضرورة والمشقة إلى اتساع الأمر، فإنه يتسع إلى غاية اندفاع الضرورة والمشقة، فإذا اندفعت وزالت الضرورة الداعية عاد الأمر إلى ما كان عليه قبل نزوله"، شرح القواعد الفقهية، 1/ 163.
(4)
شرح القواعد الفقهية، 1/ 187.
(5)
انظر: المدخل، لابن الحاج، 4/ 214.
(6)
فتح القدير، 4/ 489.
(7)
بدائع الفوائد، 4/ 832.
(8)
المرجع السابق، 4/ 906.
بزواله" (1)، و"ما أحل إلا لضرورة أو حاجة، يُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا، وَيُزَالُ بِزَوَالِهَا" (2).
8 -
أن لا يكون الاستضعاف مبطلًا لحق الغير:
وهي من القواعد المقررة لدى الفقهاء، ومن صيغها: الاضطرار لا يبطل حق الغير (3)، والإباحة للاضطرار لا تُنَافِي الضَّمَانَ (4)، و"الضرورة إلى مال الغير لا تُسقط الضمان"(5)، و"يُباح أخذ مال الغير عند الضرورة بشرط الضمان"(6).
وهذا الضمان لحق الغير لا يقتصر على المال.
* * *
(1) انظر: الأشباه والنظائر، 1/ 85، ودرر الحكام، 1/ 35، شرح القواعد الفقهية، 1/ 189، والمجموع شرح المهذب، 2/ 365.
(2)
قواعد الأحكام في مصالح الأنام، 2/ 166.
(3)
انظر: درر الحكام، 1/ 38، وقواعد الفقه، 1/ 60.
(4)
انظر: حاشية ابن عابدين، 6/ 338، تاج العروس، السيد محمد مرتضى الزبيدي، دار ليبيا: بنغازي، ط 1، د. ت، 5/ 250، والكافي، 1/ 188، ومطالب أولى النهى مطالب أولى النهى، مصطفى السيوطي الرحيبانى، المكتب الإسلامي: دمشق، ط 1، 1961 م، 6/ 320.
(5)
الاستذكار، 7/ 213.
(6)
الْجَوْهَرَة النَّيِّرَة شرح مختصر القدوري، محمد بن علي الحدادي، المطبعة الخيرية: القاهرة، ط 1، 1322 هـ، 1/ 177.