الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} (1)، وقال عز وجل:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2).
وقد تواترت الأخبار أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لما مات عمه أبو طالب لقي هو والمسلمون أذى من المشركين فقال لهم النبى صلى الله عليه وسلم حين ابتلوا وشطت بهم عشائرهم: " (تفرقوا)، وأشار قبل أرض الحبشة، وكانت أرضًا ترحل إليها قريش رحلة الشتاء، فكانت أولى الهجرة في الإسلام، وإنما أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أصحابه بالخروج إلى النجاشي لعدله"(3).
* * *
المطلب الثالث أهمية الهجرة ومكانتها وبقائها
للهجرة أهميتها في الإسلام وهي من أنواع الجهاد قال الشافعي رحمه الله: "كان المسلمون مستضعفين بمكة زمانًا لم يؤذن لهم فيه بالهجرة منها، ثم أذن اللَّه عز وجل لهم بالهجرة، وجعل لهم مخرجًا، أذن لهم بأحد الجهادين، بالهجرة قبل أن يؤذن لهم بأن يبتدئوا مشركًا بقتال"(4)، ولا خلاف في أن القتال كان محظورا قبل الهجرة إلى المدينة (5)، وأحوال المسلمين قبل الهجرة كانت كالمقدمة لها، لأن بالهجرة افتتح الإذن في قتال المشركين ويعقبه النصر والظفر والفتح (6).
(1) سورة آل عمران، الآية [195].
(2)
سورة البقرة، الآية [218].
(3)
المستدرك على الصحيحين، 2/ 678، رقم:4242.
(4)
الأم، 4/ 169.
(5)
انظر: أحكام القرآن للجصاص، 1/ 319، والجامع لأحكام القرآن، 2/ 347، وفتح الباري، 6/ 37.
(6)
انظر: فتح الباري، 1/ 10.
ولما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يذكر مناقب الصديق أبي بكر رضي الله عنه ذكر أمر الهجرة، فقال:(رحم اللَّه أبا بكر زوجني ابنته وحملني إلى دار الهجرة)(1).
وعندما استشار الفاروق عمر رضي الله عنه الصحابة رضي الله عنهم بوضع التاريخ اختار الهجرة وقال: (فإن مهاجر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فرق بين الحق والباطل)(2).
ولقد كانت الهجرة إلى المدينة فرضًا في أول الإسلام على من أسلم، بل من شروط صحة الإسلام قبل فتح مكة؛ وسبب ذلك عدة أمور منها:
(أ) قلة المسلمين بالمدينة وحاجتهم إلى الاجتماع ومن ثم إقامة الدولة.
(ب) حاجة المسلمين إلى تعلم أحكام الدين من النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة ثم نشرها.
(جـ) أن يسلم المسلم من أذى قومه من الكفار.
(د) نصرة النبي صلى الله عليه وسلم ودولة الإسلام الناشئة.
وبعد أن فتح اللَّه مكة ودخل الناس في دين اللَّه أفواجًا سقط فرض الهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وبقي الجهاد والنية (3).
(1) المستدرك على الصحيحين، 3/ 76، رقم: 4441، وقال:"صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه".
(2)
مصنف ابن أبي شيبة، 7/ 26، رقم: 33952، قال ابن الأثير:"والصحيح المشهور أن عمر بن الخطاب أمر بوضع التاريخ"، الكامل في التاريخ، 1/ 12، قال ابن كثير:"وروى محمد بن إسحاق عن الزهري وعن محمد بن صالح عن الشعبي أنهما قالا: أرخ بنو إسماعيل من نار إبراهيم، ثم أرخوا من بنيان إبراهيم وإسماعيل البيت، ثم أرخوا من موت كعب بن لؤي، ثم أرخوا من الفيل، ثم أرخ عمر بن الخطاب من الهجرة، وذلك سنة سبع عشرة أو ثمان عشرة"، البداية والنهاية، 3/ 207.
(3)
انظر: المبسوط، 10/ 7، الفواكه الدواني، 1/ 398، وحاشية العدوي على شرح كفاية الطالب الرباني، علي الصعيدي العدوي، تحقيق: يوسف محمد البقاعي، دار الفكر: بيروت، ط 1، 1412 هـ، 2/ 7، وفتح الباري، 6/ 37 - 38، وتحفة الأحوذي، 5/ 178.
وقد دلت الأدلة من القرآن الكريم والسنة النبوية وأقوال الصحابة الكرام رضي الله عنهم على انقطاع الهجرة من مكة وكذلك انقطاع الهجرة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن تلك الأدلة:
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (1)، "فإن ذلك عام في النصرة والميراث، فإن من كان مقيمًا بمكة على إيمانه لم يكن ذلك معتدًا له به ولا مثابًا عليه حتى يهاجر، ثم نسخ اللَّه ذلك بفتح مكة والميراث بالقرابة، سواء كان الوارث في دار الحرب أو في دار الإسلام، لسقوط اعتبار الهجرة بالسنة، إلا أن يكونوا أسراء مستضعفين فإن الولاية معهم قائمة والنصرة لهم واجبة بالبدن، بألا يبقى منا عين تطرف حتى نخرج إلى استنقاذهم إن كان عددنا يحتمل ذلك، أو نبذل جميع أموالنا في استخراجهم حتى لا يبقى لأحد درهم كذلك. قال مالك وجميع العلماء: فإنا للَّه وإنا إليه راجعون على ما حل بالخلق في تركهم إخوانهم في أسر العدو، وبأيديهم خزائن الأموال وفضول الأحوال والعدة والعدد والقوة والجلد"(2).
(1) سورة الأنفال، الآيات [72 - 75].
(2)
أَحْكَام الْقُرْآن لابن الْعَرَبِيّ، 2/ 440، وانظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 5/ 194، زاد المسير، 3/ 412، وأحكام القرآن للجصاص، 4/ 261.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ({وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا}، {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا} فكان الأعرابي لا يرث المهاجر ولا يرثه المهاجر فنسختها، فقال: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ})(1)، لقد كان التوارث في الجاهلية ثم في ابتداء الإسلام بالحلف والنصرة وكان الرجل يقول للرجل: دمي دمك، ومالي مالك، تنصرني وأنصرك، وترثني وأرثك، فيتعاقدان الحلف بينهما على ذلك. فيتوارثان به دون القرابة، وذلك قول اللَّه عز وجل:{وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} ، نسخ ذلك وصار التوارث بالإسلام والهجرة، فإذا كان له ولد ولم يهاجر ورثه المهاجرون دونه، بقوله تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} ، فكانوا يتوارثون بالإسلام والهجرة مع وجود النسب، ثم نسخ بالرحم والقرابة، بقول اللَّه تعالى:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} (2).
ومن الأدلة ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول اللَّه عليه الصلاة والسلام: (لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا)(3). قال ابن حجر رحمه الله: "أي:
(1) سنن أبي داود، كتاب الفرائض، باب نسخ ميراث العقد بميراث الرحم، رقم: 2924، قال الألباني في صحيح سنن أبي داود، 6/ 424: حسن صحيح، والبيهقي في السنن الكبرى، 6/ 262، رقم:12307.
(2)
انظر: المبسوط، 27/ 133، وحاشية ابن عابدين، (رد المحتار على الدر المختار)، محمد أمين عمر ابن عابدين، دار الكتب العلمية: بيروت، ط 1، د. ت، 6/ 768، والاستذكار، يوسف بن عبد اللَّه بن عبد البر الأندلسي، تخريج: عبد المعطي أمين قلعجي، دار قتيبة: دمشق - بيروت، دار الوعي: حلب - القاهرة، ط 1، 1414 هـ، 5/ 366، والمغني، 6/ 205، والفروع، 5/ 35، والمحلى، 11/ 203، الأموال، 1/ 275.
(3)
أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب فضل الجهاد والسير، رقم: 2631، ومسلم، باب المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام والجهاد والخير، رقم:1353.
فتح مكة، أو المراد ما هو أعم من ذلك إشارة إلى أن حكم غير مكة في ذلك حكمها، فلا تجب الهجرة من بلد قد فتحه المسلمون" (1)، والمراد بالحديث ما يلي:
1 -
لا هجرة من مكة بعد فتحها؛ لأنها صارت دار إسلام، وهي بشرى من رسول اللَّه عليه الصلاة والسلام بأنها تبقى دار الإسلام.
2 -
لا هجرة فضلها كفضلها قبل الفتح وهو ما اختاره الإمام النووي رحمه الله.
3 -
لا هجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بنية عدم الرجوع إلى الوطن المهاجر منه إلا بإذنه عليه الصلاة والسلام.
وبهذا يمكن الجمع بين الأدلة الواردة بانقطاع الهجرة والأدلة الواردة ببقائها، فالذي انقطع الهجرة إلى المدينة حيث الرسول عليه الصلاة والسلام، والهجرة من مكة؛ لأنها صارت دار إسلام، والذي بقي الهجرة للفرار بالدين، وأما الجهاد ونية الخير في كل شيء فهو طريق لتحصيل الفضائل التي في معنى الهجرة (2)، ولهذا لما جاء مُجَاشِعٍ بأخيه مجالد بن مسعود (3) إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:(هذا مجالد يبايعك على الهجرة)، فقال:(لا هجرة بعد فتح مكة، ولكن أبايعه على الإسلام)(4)، وفي رواية:(مَضَتْ الهجرة لأهلها)، فقلت:
(1) فتح الباري، 6/ 190.
(2)
انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 9/ 123، و 13/ 8، فتح الباري، 7/ 229، و 4/ 47.
(3)
مجاشع بن مسعود السلمي صحابي جليل، قيل: بأنه غزا كابل ودخل بيت الأصنام وأخذ جوهرة من عين الصنم، وقال: لم آخذها إلا لتعلموا أنه لا يضر ولا ينفع، وكان يوم الجمل، مع عائشة رضي الله عنها أميرًا على بني سليم، فقتل فيه، قبل الوقعة ودفن بداره في "بني سدوس" بالبصرة. انظر: الإصابة، 5/ 767، والطبقات الكبرى، 7/ 30، والاعلام، 5/ 277.
(4)
أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب لا هجرة بعد الفتح، رقم: 2913
عَلَامَ تُبَايِعُنَا؟ قال: (على الإسلام والجهاد)، وفي رواية عند مسلم:(على الإسلام والجهاد والخير)(1).
قالت عائشة رضي الله عنها: (لا هجرة اليوم كان المؤمنون يَفِرُّ أحدهم بِدِينِهِ إلى اللَّه تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم مَخَافَةَ أن يُفْتَنَ عليه، فأما اليوم فقد أظهر اللَّه الإسلام والمؤمن يعبد ربه حيث شاء ولكن جهاد وَنِيَّةٌ)(2). "أشارت عائشة إلى بيان مشروعية الهجرة، وأن سببها خوف الفتنة، والحكم يدور مع علته، فمقتضاه أن من قدر على عبادة اللَّه في أي موضع اتفق لم تجب عليه الهجرة منه وإلا وجبت"(3).
بل إن النبي صلى الله عليه وسلم أعاد من قدم إليه بنية الهجرة بعد فتح مكة بعدما قويت شوكة المسلمين، وكانت المصلحة تقتضي ذلك، فعن عبد اللَّه بن عَمْرِو بن الْعَاصِ قال: أَقْبَلَ رَجُلٌ إلى نبي اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: أُبَايِعُكَ على الهجرة والجهاد، أَبْتَغِي الأجر من اللَّه، قال:(فهل من وَالِدَيْكَ أَحَدٌ حَيٌّ؟) قال: نعم، بل كِلَاهُمَا، قال:(فَتَبْتَغِي الأجر من اللَّه)، قال: نعم، قال:(فَارْجِعْ إلى وَالِدَيْكَ فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا)(4).
وعن أبي سعيد الْخُدْرِيُّ أن أَعْرَابِيًّا سأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن الهجرة فقال: (وَيْحَكَ إن شَأْنَ الهجرة لَشَدِيدٌ، فهل لك مِنْ إبلٍ؟) قال: نعم، قال:(فهل تُؤْتِي صَدَقَتَهَا)، قال: نعم،
(1) أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب البيعة في الحرب أن لا يفروا، رقم: 2802، صحيح مسلم، 3/ 1487، كتاب الإمارة، باب المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام والجهاد، رقم:1863.
(2)
أخرجه البخاري، كتاب المناقب، باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، رقم:3687.
(3)
فتح الباري، 7/ 229.
(4)
أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب الجهاد بإذن الأبوين، رقم: 2802، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب بر الوالدين وأنهما أحق به، رقم:1863.
قال: (فَاعْمَلْ من وراء الْبِحَارِ، فإن اللَّه لن يَتِرَكَ من عملك شَيْئًا)(1)، فالرسول صلى الله عليه وسلم يحذره شدة الهجرة ومفارقة الأهل والوطن، ثم سأله عن الزكاة ولم يسأل عن غيرها من الأعمال؛ لأن حرص النفوس على المال أشد من حرصها على الأعمال البدنية، ثم قال له: اعمل من وراء البحار مبالغة في إعلامه بأن عمله لا يضيع في أي موضع كان (2).
كما دل على بقاء مشروعية الهجرة إلى غير مكة المكرمة أدلة منها:
ما رواه معاوية رضي الله عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تَنْقَطِعُ الهجرة حتى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ ولا تَنْقَطِع التَّوْبَةُ حتى تَطْلُعَ الشَّمْسُ من مَغْرِبِهَا)(3).
وعن عبد اللَّه بن السعدي قال وفدنا على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فدخل أصحابي فقضى حاجتهم وكنت آخرهم دخولا، فقال: حاجتك، فقلت: يا رسول اللَّه متى تنقطع الهجرة؟ قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: (لا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار)، وفي رواية عند أحمد:(لا تنقطع الهجرة ما دام العدو يقاتل)(4).
كما يمكن أن يستدل على بقاء مشروعية الهجرة الأحاديث الواردة في الحث على الهجرة إلى الشام، كقوله صلى الله عليه وسلم: (ستكون هجرة بعد هجرة، فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر
(1) أخرجه البخاري، كتاب المناقب، باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، رقم: 5813، ومسلم، كتاب الإمارة، باب المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام والجهاد، رقم:1865.
(2)
انظر: فتح الباري، 7/ 259، وعمدة القاري، 22/ 195.
(3)
أخرجه أبو داود، كتاب الجهاد، باب في الهجرة هل انقطعت، رقم: 2479، وأحمد، 4/ 99، رقم:16952.
(4)
أخرجه النسائي، كتاب البيعة، باب ذكر الاختلاف في انقطاع الهجرة، رقم: 7796، وأحمد، 1/ 192، رقم: 1671، وصحيح ابن حبان، 11/ 207، رقم: 4866، قال مجمع الزوائد، 5/ 251:"رواه النسائي باختصار رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح".
إبراهيم، ويبقى في الأرض شرار أهلها، تلفِظهم أرَضوهم، تقذَرهم نَفْسُ اللَّه (1)، وتحشرهم النار مع القردة والخنازير) (2).
وإن كان موضوع هذا المطلب هو الهجرة الظاهرة أو الحسية، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى أهمية الهجرة الباطنة أو المعنوية وهي واجبة على كل مسلم بترك ما تدعو إليه النفس الأمارة بالسوء والشيطان (3)، بقوله صلى الله عليه وسلم:(المُسْلِمُ من سَلِمَ المُسْلِمُونَ من لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالمُهَاجِرُ من هَجَرَ مَا نَهَى اللَّه عَنْهُ)(4)، و"قيل خص المهاجر بالذكر تطييبا لقلب من لم يهاجر من المسلمين لفوات ذلك بفتح مكة، فأعلمهم أن من هجر ما نهى اللَّه عنه كان هو المهاجر الكامل، ويحتمل أن يكون ذلك تنبيها للمهاجرين أن لا يتكلوا على الهجرة فيقصروا في العمل"(5)، كما أن الحديث يتضمن تنبيه من عجز عن الهجرة الحسية من المستضعفين بضرورة الهجرة المعنوية حتى يتسنى له الهجرة الحسية.
(1) قال القاري رحمه الله: "من التمثيلات المركبة التي لا تطلب لمفرداته ممثلًا ومُمثلًا به، مثل: شابت لمة الليل، وقامت الحرب على ساق، ثم اعلم أن قوله: تقذرهم بفتح الذال المعجمة من قذرت الشيء بالكسر، أي: كرهته، ونفس اللَّه بسكون الفاء، أي: ذاته"، مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، علي سلطان القاري، تحقيق: جمال عيتاني، دار الكتب العلمية: بيروت، ط 1، د. ت، 11/ 407.
(2)
أخرجه أحمد، 2/ 84، رقم: 5562، وأبو داود، باب في سكنى الشام، رقم: 2482، والحاكم في المستدرك، 4/ 556، رقم: 8558، وقال:"هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه فقد اتفقا جميعا على أحاديث موسى بن علي بن رباح اللخمي ولم يخرجاه".
(3)
انظر: فتح الباري، 1/ 54.
(4)
أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، رقم:10.
(5)
فتح الباري، 11/ 319.
ولا بد من التنبيه إلى أن الهجرة إلى الحبشة كانت فرارًا من العذاب، والعيش تحت ظل سلطان عادل وغير مسلم، أما الهجرة إلى المدينة فكانت لبناء الدولة، وإيذانًا بانتقال المسلمين من مرحلة الكف والدفاع إلى مرحلة الهجوم (1)، إذًا فالهجرة من أهم وسائل دفع الاستضعاف مؤقتًا، وهي مرحلة للانطلاق والعمل من جديد لرفع الاستضعاف كليًا، وأنها كانت فرضًا على من أسلم، وانتهى ذلك الفرض بفتح مكة، وبقي الوجوب أو الاستحباب أو الكراهة وفقًا لأحكام الهجرة.
وخلاصة ما سبق: أن الهجرة من أهم وسائل دفع الاستضعاف وكذا الدخول في الجوار، والمعاهدات، والتحالفات، والوحدة الإسلامية، والأخذ بأسباب القوة بكافة أنواعها، وكذلك الجهاد في سبيل اللَّه.
* * *
(1) انظر: تطور مفهوم الدولة في المجتمع الإسلامي الأول، ص 40 - 41.