المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الثالث أهمية الهجرة ومكانتها وبقائها - الاستضعاف وأحكامه في الفقه الإسلامي

[زياد بن عابد المشوخي]

فهرس الكتاب

- ‌تقريظ

- ‌المقدمة

- ‌الباب الأول تعريف الاستضعاف وأنواعه ومظاهره

- ‌الفصل الأول: تعريف الاستضعاف

- ‌المبحث الأول: تعريف الاستضعاف

- ‌المطلب الأول: تعريف الاستضعاف لغة

- ‌المطلب الثاني: تعريف الاستضعاف اصطلاحًا

- ‌المبحث الثاني: مفهوم الاستضعاف في القرآن الكريم

- ‌المبحث الثالث: مفهوم الاستضعاف في الأحاديث النبوية

- ‌المبحث الرابع: بيان الألفاظ ذات الصلة

- ‌المطلب الأول: تعريف الإكراه

- ‌الفرع الأول: تعريف الإكراه لغة:

- ‌الفرع الثاني: تعريف الإكراه اصطلاحًا:

- ‌الفرع الثالث: استخدام الفقهاء لكلمة الإكراه:

- ‌المطلب الثاني: تعريف الاضطرار

- ‌الفرع الأول: تعريف الاضطرار لغة:

- ‌الفرع الثاني: تعريف الاضطرار اصطلاحًا:

- ‌المطلب الثالث: الفرق بين الضرورة والحاجة

- ‌المطلب الرابع: تعريف الاضطهاد

- ‌المبحث الخامس: المقارنة بين الاستضعاف والألفاظ ذات الصلة

- ‌الفصل الثاني: أنواع الاستضعاف ومظاهره

- ‌المبحث الأول: أنواع الاستضعاف

- ‌المطلب الأول: تقسيم الاستضعاف باعتبار درجته

- ‌المطلب الثاني: تقسيم الاستضعاف باعتبار من يقع عليه

- ‌المطلب الثالث: تقسيم الاستضعاف باعتبار الاعتذار به

- ‌المبحث الثاني: العلاقة بين مرحلة الاستضعاف والمرحلة المكية

- ‌المبحث الثالث: مظاهر الاستضعاف

- ‌المبحث الرابع: استحكام الاستضعاف فى الأرض

- ‌الباب الثاني أسباب الاستضعاف ووسائل دفعه وضوابطها

- ‌الفصل الأول أسباب الاستضعاف

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول أسباب الاستضعاف الداخلية

- ‌المطلب الأول انشقاق المسلمين وتفرقهم

- ‌المطلب الثانى العصبية والعنصرية بين المسلمين

- ‌المطلب الثالث عدم الأخذ بأسباب القوة

- ‌المبحث الثاني أسباب الاستضعاف الخارجية

- ‌المطلب الأول الاحتلال والاستعمار وما خلفه من آثار

- ‌المطلب الثانى الغزو الفكري والثقافي

- ‌المطلب الثالث الحصار بمختلف أشكاله وصوره

- ‌الفصل الثاني وسائل دفع الاستضعاف

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول الأخد بأسباب القوة

- ‌المطلب الأول قوة العقيدة

- ‌المطلب الثانى القوة العسكرية

- ‌المطلب الثالث القوة الاقتصادية

- ‌المطلب الرايع القوة السياسية

- ‌المطلب الخامس القوة الإعلامية

- ‌المطلب السادس القوة المعنوية

- ‌المبحث الثانى الوحدة الإسلامية

- ‌المبحث الثالث الدخول في الجوار

- ‌المطلب الأول تعريف الجوار لغة واصطلاحًا

- ‌المطلب الثاني الأدلة على مشروعية الجوار

- ‌المبحث الرابع المعاهدات والتحالفات

- ‌المطلب الأول تعريف المعاهدة والحلف

- ‌الفرع الأول: تعريف المعاهدات لغة:

- ‌الفرع الثاني: تعريف المعاهدات اصطلاحًا:

- ‌المطلب الثانى الأدلة على مشروعية المعاهدات والتحالفات

- ‌المطلب الثالث الحلف في الإسلام

- ‌المطلب الرابع التقاء مصالح المستضعفين مع الكفار

- ‌المبحث الخامس الجهاد

- ‌المبحث السادس الهجرة

- ‌المطلب الأول تعريف الهجرة لغة واصطلاحًا

- ‌الفرع الأول: تعريف الهجرة في اللغة:

- ‌الفرع الثاني: تعرف الهجرة اصطلاحًا:

- ‌المطلب الثانى الأدلة على مشروعية الهجرة

- ‌المطلب الثالث أهمية الهجرة ومكانتها وبقائها

- ‌الفصل الثالث الأمور والضوابط التي ينبغي على المستضعفين الأخذ بها ومراعاتها

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول تفاوت قدرات المستضعفين

- ‌المبحث الثانى التفريق بين استضعاف العَالِم واستضعاف غيره

- ‌المبحث الثالث تقدير الضرورة والحاجة يكون بالرجوع إلى أهل العلم

- ‌المبحث الرابع عدم الركون للاستضعاف

- ‌المبحث الخامس الأخذ بضوابط العمل بالضرورة والحاجة

- ‌المبحث السادس العمل بشروط الإكراه المعتبر

- ‌المبحث السابع مراعاة الفرق بين فقه الاستضعاف وفقه التمكين

- ‌المبحث الثامن العمل بآيات الصبر والصفح والعفو

- ‌الباب الثالث أحكام الاستضعاف

- ‌الفصل الأول المسائل المتعلقة بالاستضعاف

- ‌المبحث الأول الاستعانة بالكفار في القتال حال الاستضعاف

- ‌المطلب الأول تعريف الاستعانة

- ‌المطلب الثاني حكم الاستعانة بالكفار

- ‌الفرع الأول: حكم الاستعانة بالكفار على الكفار:

- ‌الفرع الثانى: حكم الاستعانة بالكفار على البغاة من المسلمين:

- ‌المطلب الثالث حكم الاستعانة بأهل البدع

- ‌الفرع الأول: تعريف البدعة لغة واصطلاحًا:

- ‌الفرع الثاني: أقوال الفقهاء في حكم الاستعانة بأهل البدع:

- ‌المطلب الرابع حكم الاستعانة بالكفار في الجوانب الأخرى

- ‌المبحث الثاني دفع المال للكفار حال الاستضعاف

- ‌المطلب الأول تعريف الحدود

- ‌الفرع الأول: تعريف الحدود لغة:

- ‌الفرع الثاني: تعريف الحدود اصطلاحًا:

- ‌المطلب الثاني الحكمة من الحدود وأهميتها

- ‌المطلب الثالث التمهيد إقامة الحدود

- ‌المطلب الرابع استبدال الحدود

- ‌المطلب الخامس الفرق بين تعطيل الحدود وتعطيل التعازير

- ‌المطلب السادس الحدود عام الرمادة

- ‌المطلب السابع حالات جواز تعطيل الحدود

- ‌المبحث الرابع الاعتراف بالاحتلال حال الاستضعاف

- ‌المطلب الأول تعريف الاعتراف وأشكاله

- ‌الفرع الأول: الاعتراف في اللغة:

- ‌الفرع الثانى: الاعتراف اصطلاحًا:

- ‌المطلب الثاني آثار الاعتراف ونتائجه

- ‌المطلب الثالث حكم الاعتراف بالاحتلال (الاحتلال الصهيونى نموذجًا)

- ‌المطلب الرابع بدائل الاعتراف بالكيان الصهيونى

- ‌المطلب الخامس الاعتراف الواقعي فى الفقه الإسلامي

- ‌المبحث الخامس بيع الأراضي للاحتلال حال الاستضعاف

- ‌المبحث السادس تسليم المطلوبين المسلمين ونحوهم (الذميين) فى حال الاستضعاف

- ‌المطلب الأول تعريف تسليم المطلوبين

- ‌المطلب الثانى أقوال الفقهاء في مسألة رد المسلم

- ‌المطلب الثالث بيان الفرق بين التسليم والرد

- ‌المطلب الرابع تسليم المطلوبين للدولة الكافرة حال الاستضعاف

- ‌الفرع الأول: الأدلة من القرآن الكريم:

- ‌الفرع الثانى: الأدلة من السنة النبوية:

- ‌الفرع الثالث: الأدلة من عمل الصحابة رضي الله عنهم

- ‌الفرع الرابع: الأدلة من المعقول:

- ‌المبحث السابع التجنس بجنسية دولة غير إسلامية حال الاستضعاف

- ‌المطلب الأول تعريف الجنسية

- ‌المطلب الثانى الإقامة في دار الكفر

- ‌المطلب الثالث حصول المستضعف على جنسية الدولة الكافرة

- ‌المطلب الرابع التجنس الجماعي للمستضعفين

- ‌المبحث الثامن المشاركة فى الحكم حال الاستضعاف

- ‌المبحث التاسع نزع الحجاب حال الاستضعاف

- ‌المطلب الأول تعريف الحجاب والنقاب

- ‌المطلب الثاني الأدلة على وجوب الحجاب

- ‌المطلب الثالث نزع الحجاب حال الاستضعاف

- ‌الفرع الأول: شروط نزع الحجاب حال الاستضعاف:

- ‌الفرع الثانى: شروط نزع النقاب حال الاستضعاف:

- ‌الفصل الثالث ما يُرخص به حال الاستضعاف

- ‌المبحث الأول كتمان الإسلام وشعائره حال الاستضعاف

- ‌المطلب الأول تعريف الشعائر ومكانتها

- ‌الفرع الأول: الشعائر لغة:

- ‌الفرع الثانى: الشعائر اصطلاحًا:

- ‌الفرع الثالث: مكانة شعائر الإسلام وأهمية إظهارها:

- ‌المطلب الثاني كتمان الإسلام وإخفاء شعائره

- ‌المطلب الثالث المفاضلة بين إظهار الشعائر وإخفائها حال الاستضعاف

- ‌المطلب الرابع متى يجب كتمان الإسلام وشعائره

- ‌المطلب الخامس كتمان الجماعة للإسلام وإخفاء شعائره

- ‌المبحث الثانى استخدام المستضعف للحيلة ونحوها

- ‌المطلب الأول تعريف الحيلة وأنواعها

- ‌الفرع الأول: تعريف الحيلة في اللغة:

- ‌الفرع الثانى تعريف الحيلة اصطلاحًا:

- ‌الفرع الثالث: أنواع الحيلة:

- ‌المطلب الثاني الأدلة على مشروعية الحيلة للمستضعف

- ‌المطلب الثالث ما يلحق بالحيلة المشروعة

- ‌الفرع الأول: المعاريض:

- ‌الفرع الثانى: الكيد:

- ‌الفرع الثالث: التورية:

- ‌الفرع الرابع: النطق بكلمة الكفر:

- ‌المسألة الأولى: شروط النطق بكلمة الكفر:

- ‌المسألة الثانية: هل الأفضل النطق بكلمة الكفر أم الصبر

- ‌المسألة الثالثة: هل الأفضل في كل الأحوال عدم النطق بكلمة الكفر

- ‌المسألة الرابعة: النطق بكلمة الكفر لمجرد التهديد أو الخوف على المال:

- ‌المسألة الخامسة: هل الرخصة في القول أم القول والفعل

- ‌المسألة السادسة: هل يقاس على جواز النطق بكلمة الكفر ما دونها من الأفعال

- ‌المبحث الثالث استخدام المستضعف للتَقِيَّة

- ‌المطلب الأول تعريف التَقِيَّةُ

- ‌الفرع الأول: تعريف التَقِيَّةُ فى اللغة:

- ‌الفرع الثانى: تعريف التقية اصطلاحًا:

- ‌المطلب الثانى أدلة مشروعية التقية

- ‌المطلب الثالث متى تكون التَّقِيَّةِ وشروط جوازها

- ‌المبحث الرابع استخدام المستضعف للمدارة والمداهنة

- ‌المطلب الأول تعريف المداراة وحكمها

- ‌الفرع الأول: تعريف المدارة لغة واصطلاحًا:

- ‌الفرع الثانى: حكم المداراة للمستضعف:

- ‌المطلب الثانى حكم المداهنة للمستضعف

- ‌الخاتمة

- ‌فهرس المراجع

الفصل: ‌المطلب الثالث أهمية الهجرة ومكانتها وبقائها

عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} (1)، وقال عز وجل:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2).

وقد تواترت الأخبار أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لما مات عمه أبو طالب لقي هو والمسلمون أذى من المشركين فقال لهم النبى صلى الله عليه وسلم حين ابتلوا وشطت بهم عشائرهم: " (تفرقوا)، وأشار قبل أرض الحبشة، وكانت أرضًا ترحل إليها قريش رحلة الشتاء، فكانت أولى الهجرة في الإسلام، وإنما أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أصحابه بالخروج إلى النجاشي لعدله"(3).

* * *

‌المطلب الثالث أهمية الهجرة ومكانتها وبقائها

للهجرة أهميتها في الإسلام وهي من أنواع الجهاد قال الشافعي رحمه الله: "كان المسلمون مستضعفين بمكة زمانًا لم يؤذن لهم فيه بالهجرة منها، ثم أذن اللَّه عز وجل لهم بالهجرة، وجعل لهم مخرجًا، أذن لهم بأحد الجهادين، بالهجرة قبل أن يؤذن لهم بأن يبتدئوا مشركًا بقتال"(4)، ولا خلاف في أن القتال كان محظورا قبل الهجرة إلى المدينة (5)، وأحوال المسلمين قبل الهجرة كانت كالمقدمة لها، لأن بالهجرة افتتح الإذن في قتال المشركين ويعقبه النصر والظفر والفتح (6).

(1) سورة آل عمران، الآية [195].

(2)

سورة البقرة، الآية [218].

(3)

المستدرك على الصحيحين، 2/ 678، رقم:4242.

(4)

الأم، 4/ 169.

(5)

انظر: أحكام القرآن للجصاص، 1/ 319، والجامع لأحكام القرآن، 2/ 347، وفتح الباري، 6/ 37.

(6)

انظر: فتح الباري، 1/ 10.

ص: 172

ولما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يذكر مناقب الصديق أبي بكر رضي الله عنه ذكر أمر الهجرة، فقال:(رحم اللَّه أبا بكر زوجني ابنته وحملني إلى دار الهجرة)(1).

وعندما استشار الفاروق عمر رضي الله عنه الصحابة رضي الله عنهم بوضع التاريخ اختار الهجرة وقال: (فإن مهاجر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فرق بين الحق والباطل)(2).

ولقد كانت الهجرة إلى المدينة فرضًا في أول الإسلام على من أسلم، بل من شروط صحة الإسلام قبل فتح مكة؛ وسبب ذلك عدة أمور منها:

(أ) قلة المسلمين بالمدينة وحاجتهم إلى الاجتماع ومن ثم إقامة الدولة.

(ب) حاجة المسلمين إلى تعلم أحكام الدين من النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة ثم نشرها.

(جـ) أن يسلم المسلم من أذى قومه من الكفار.

(د) نصرة النبي صلى الله عليه وسلم ودولة الإسلام الناشئة.

وبعد أن فتح اللَّه مكة ودخل الناس في دين اللَّه أفواجًا سقط فرض الهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وبقي الجهاد والنية (3).

(1) المستدرك على الصحيحين، 3/ 76، رقم: 4441، وقال:"صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه".

(2)

مصنف ابن أبي شيبة، 7/ 26، رقم: 33952، قال ابن الأثير:"والصحيح المشهور أن عمر بن الخطاب أمر بوضع التاريخ"، الكامل في التاريخ، 1/ 12، قال ابن كثير:"وروى محمد بن إسحاق عن الزهري وعن محمد بن صالح عن الشعبي أنهما قالا: أرخ بنو إسماعيل من نار إبراهيم، ثم أرخوا من بنيان إبراهيم وإسماعيل البيت، ثم أرخوا من موت كعب بن لؤي، ثم أرخوا من الفيل، ثم أرخ عمر بن الخطاب من الهجرة، وذلك سنة سبع عشرة أو ثمان عشرة"، البداية والنهاية، 3/ 207.

(3)

انظر: المبسوط، 10/ 7، الفواكه الدواني، 1/ 398، وحاشية العدوي على شرح كفاية الطالب الرباني، علي الصعيدي العدوي، تحقيق: يوسف محمد البقاعي، دار الفكر: بيروت، ط 1، 1412 هـ، 2/ 7، وفتح الباري، 6/ 37 - 38، وتحفة الأحوذي، 5/ 178.

ص: 173

وقد دلت الأدلة من القرآن الكريم والسنة النبوية وأقوال الصحابة الكرام رضي الله عنهم على انقطاع الهجرة من مكة وكذلك انقطاع الهجرة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن تلك الأدلة:

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (1)، "فإن ذلك عام في النصرة والميراث، فإن من كان مقيمًا بمكة على إيمانه لم يكن ذلك معتدًا له به ولا مثابًا عليه حتى يهاجر، ثم نسخ اللَّه ذلك بفتح مكة والميراث بالقرابة، سواء كان الوارث في دار الحرب أو في دار الإسلام، لسقوط اعتبار الهجرة بالسنة، إلا أن يكونوا أسراء مستضعفين فإن الولاية معهم قائمة والنصرة لهم واجبة بالبدن، بألا يبقى منا عين تطرف حتى نخرج إلى استنقاذهم إن كان عددنا يحتمل ذلك، أو نبذل جميع أموالنا في استخراجهم حتى لا يبقى لأحد درهم كذلك. قال مالك وجميع العلماء: فإنا للَّه وإنا إليه راجعون على ما حل بالخلق في تركهم إخوانهم في أسر العدو، وبأيديهم خزائن الأموال وفضول الأحوال والعدة والعدد والقوة والجلد"(2).

(1) سورة الأنفال، الآيات [72 - 75].

(2)

أَحْكَام الْقُرْآن لابن الْعَرَبِيّ، 2/ 440، وانظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 5/ 194، زاد المسير، 3/ 412، وأحكام القرآن للجصاص، 4/ 261.

ص: 174

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ({وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا}، {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا} فكان الأعرابي لا يرث المهاجر ولا يرثه المهاجر فنسختها، فقال: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ})(1)، لقد كان التوارث في الجاهلية ثم في ابتداء الإسلام بالحلف والنصرة وكان الرجل يقول للرجل: دمي دمك، ومالي مالك، تنصرني وأنصرك، وترثني وأرثك، فيتعاقدان الحلف بينهما على ذلك. فيتوارثان به دون القرابة، وذلك قول اللَّه عز وجل:{وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} ، نسخ ذلك وصار التوارث بالإسلام والهجرة، فإذا كان له ولد ولم يهاجر ورثه المهاجرون دونه، بقوله تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} ، فكانوا يتوارثون بالإسلام والهجرة مع وجود النسب، ثم نسخ بالرحم والقرابة، بقول اللَّه تعالى:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} (2).

ومن الأدلة ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول اللَّه عليه الصلاة والسلام: (لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا)(3). قال ابن حجر رحمه الله: "أي:

(1) سنن أبي داود، كتاب الفرائض، باب نسخ ميراث العقد بميراث الرحم، رقم: 2924، قال الألباني في صحيح سنن أبي داود، 6/ 424: حسن صحيح، والبيهقي في السنن الكبرى، 6/ 262، رقم:12307.

(2)

انظر: المبسوط، 27/ 133، وحاشية ابن عابدين، (رد المحتار على الدر المختار)، محمد أمين عمر ابن عابدين، دار الكتب العلمية: بيروت، ط 1، د. ت، 6/ 768، والاستذكار، يوسف بن عبد اللَّه بن عبد البر الأندلسي، تخريج: عبد المعطي أمين قلعجي، دار قتيبة: دمشق - بيروت، دار الوعي: حلب - القاهرة، ط 1، 1414 هـ، 5/ 366، والمغني، 6/ 205، والفروع، 5/ 35، والمحلى، 11/ 203، الأموال، 1/ 275.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب فضل الجهاد والسير، رقم: 2631، ومسلم، باب المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام والجهاد والخير، رقم:1353.

ص: 175

فتح مكة، أو المراد ما هو أعم من ذلك إشارة إلى أن حكم غير مكة في ذلك حكمها، فلا تجب الهجرة من بلد قد فتحه المسلمون" (1)، والمراد بالحديث ما يلي:

1 -

لا هجرة من مكة بعد فتحها؛ لأنها صارت دار إسلام، وهي بشرى من رسول اللَّه عليه الصلاة والسلام بأنها تبقى دار الإسلام.

2 -

لا هجرة فضلها كفضلها قبل الفتح وهو ما اختاره الإمام النووي رحمه الله.

3 -

لا هجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بنية عدم الرجوع إلى الوطن المهاجر منه إلا بإذنه عليه الصلاة والسلام.

وبهذا يمكن الجمع بين الأدلة الواردة بانقطاع الهجرة والأدلة الواردة ببقائها، فالذي انقطع الهجرة إلى المدينة حيث الرسول عليه الصلاة والسلام، والهجرة من مكة؛ لأنها صارت دار إسلام، والذي بقي الهجرة للفرار بالدين، وأما الجهاد ونية الخير في كل شيء فهو طريق لتحصيل الفضائل التي في معنى الهجرة (2)، ولهذا لما جاء مُجَاشِعٍ بأخيه مجالد بن مسعود (3) إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:(هذا مجالد يبايعك على الهجرة)، فقال:(لا هجرة بعد فتح مكة، ولكن أبايعه على الإسلام)(4)، وفي رواية:(مَضَتْ الهجرة لأهلها)، فقلت:

(1) فتح الباري، 6/ 190.

(2)

انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 9/ 123، و 13/ 8، فتح الباري، 7/ 229، و 4/ 47.

(3)

مجاشع بن مسعود السلمي صحابي جليل، قيل: بأنه غزا كابل ودخل بيت الأصنام وأخذ جوهرة من عين الصنم، وقال: لم آخذها إلا لتعلموا أنه لا يضر ولا ينفع، وكان يوم الجمل، مع عائشة رضي الله عنها أميرًا على بني سليم، فقتل فيه، قبل الوقعة ودفن بداره في "بني سدوس" بالبصرة. انظر: الإصابة، 5/ 767، والطبقات الكبرى، 7/ 30، والاعلام، 5/ 277.

(4)

أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب لا هجرة بعد الفتح، رقم: 2913

ص: 176

عَلَامَ تُبَايِعُنَا؟ قال: (على الإسلام والجهاد)، وفي رواية عند مسلم:(على الإسلام والجهاد والخير)(1).

قالت عائشة رضي الله عنها: (لا هجرة اليوم كان المؤمنون يَفِرُّ أحدهم بِدِينِهِ إلى اللَّه تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم مَخَافَةَ أن يُفْتَنَ عليه، فأما اليوم فقد أظهر اللَّه الإسلام والمؤمن يعبد ربه حيث شاء ولكن جهاد وَنِيَّةٌ)(2). "أشارت عائشة إلى بيان مشروعية الهجرة، وأن سببها خوف الفتنة، والحكم يدور مع علته، فمقتضاه أن من قدر على عبادة اللَّه في أي موضع اتفق لم تجب عليه الهجرة منه وإلا وجبت"(3).

بل إن النبي صلى الله عليه وسلم أعاد من قدم إليه بنية الهجرة بعد فتح مكة بعدما قويت شوكة المسلمين، وكانت المصلحة تقتضي ذلك، فعن عبد اللَّه بن عَمْرِو بن الْعَاصِ قال: أَقْبَلَ رَجُلٌ إلى نبي اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: أُبَايِعُكَ على الهجرة والجهاد، أَبْتَغِي الأجر من اللَّه، قال:(فهل من وَالِدَيْكَ أَحَدٌ حَيٌّ؟) قال: نعم، بل كِلَاهُمَا، قال:(فَتَبْتَغِي الأجر من اللَّه)، قال: نعم، قال:(فَارْجِعْ إلى وَالِدَيْكَ فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا)(4).

وعن أبي سعيد الْخُدْرِيُّ أن أَعْرَابِيًّا سأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن الهجرة فقال: (وَيْحَكَ إن شَأْنَ الهجرة لَشَدِيدٌ، فهل لك مِنْ إبلٍ؟) قال: نعم، قال:(فهل تُؤْتِي صَدَقَتَهَا)، قال: نعم،

(1) أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب البيعة في الحرب أن لا يفروا، رقم: 2802، صحيح مسلم، 3/ 1487، كتاب الإمارة، باب المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام والجهاد، رقم:1863.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب المناقب، باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، رقم:3687.

(3)

فتح الباري، 7/ 229.

(4)

أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب الجهاد بإذن الأبوين، رقم: 2802، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب بر الوالدين وأنهما أحق به، رقم:1863.

ص: 177

قال: (فَاعْمَلْ من وراء الْبِحَارِ، فإن اللَّه لن يَتِرَكَ من عملك شَيْئًا)(1)، فالرسول صلى الله عليه وسلم يحذره شدة الهجرة ومفارقة الأهل والوطن، ثم سأله عن الزكاة ولم يسأل عن غيرها من الأعمال؛ لأن حرص النفوس على المال أشد من حرصها على الأعمال البدنية، ثم قال له: اعمل من وراء البحار مبالغة في إعلامه بأن عمله لا يضيع في أي موضع كان (2).

كما دل على بقاء مشروعية الهجرة إلى غير مكة المكرمة أدلة منها:

ما رواه معاوية رضي الله عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تَنْقَطِعُ الهجرة حتى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ ولا تَنْقَطِع التَّوْبَةُ حتى تَطْلُعَ الشَّمْسُ من مَغْرِبِهَا)(3).

وعن عبد اللَّه بن السعدي قال وفدنا على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فدخل أصحابي فقضى حاجتهم وكنت آخرهم دخولا، فقال: حاجتك، فقلت: يا رسول اللَّه متى تنقطع الهجرة؟ قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: (لا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار)، وفي رواية عند أحمد:(لا تنقطع الهجرة ما دام العدو يقاتل)(4).

كما يمكن أن يستدل على بقاء مشروعية الهجرة الأحاديث الواردة في الحث على الهجرة إلى الشام، كقوله صلى الله عليه وسلم: (ستكون هجرة بعد هجرة، فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر

(1) أخرجه البخاري، كتاب المناقب، باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، رقم: 5813، ومسلم، كتاب الإمارة، باب المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام والجهاد، رقم:1865.

(2)

انظر: فتح الباري، 7/ 259، وعمدة القاري، 22/ 195.

(3)

أخرجه أبو داود، كتاب الجهاد، باب في الهجرة هل انقطعت، رقم: 2479، وأحمد، 4/ 99، رقم:16952.

(4)

أخرجه النسائي، كتاب البيعة، باب ذكر الاختلاف في انقطاع الهجرة، رقم: 7796، وأحمد، 1/ 192، رقم: 1671، وصحيح ابن حبان، 11/ 207، رقم: 4866، قال مجمع الزوائد، 5/ 251:"رواه النسائي باختصار رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح".

ص: 178

إبراهيم، ويبقى في الأرض شرار أهلها، تلفِظهم أرَضوهم، تقذَرهم نَفْسُ اللَّه (1)، وتحشرهم النار مع القردة والخنازير) (2).

وإن كان موضوع هذا المطلب هو الهجرة الظاهرة أو الحسية، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى أهمية الهجرة الباطنة أو المعنوية وهي واجبة على كل مسلم بترك ما تدعو إليه النفس الأمارة بالسوء والشيطان (3)، بقوله صلى الله عليه وسلم:(المُسْلِمُ من سَلِمَ المُسْلِمُونَ من لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالمُهَاجِرُ من هَجَرَ مَا نَهَى اللَّه عَنْهُ)(4)، و"قيل خص المهاجر بالذكر تطييبا لقلب من لم يهاجر من المسلمين لفوات ذلك بفتح مكة، فأعلمهم أن من هجر ما نهى اللَّه عنه كان هو المهاجر الكامل، ويحتمل أن يكون ذلك تنبيها للمهاجرين أن لا يتكلوا على الهجرة فيقصروا في العمل"(5)، كما أن الحديث يتضمن تنبيه من عجز عن الهجرة الحسية من المستضعفين بضرورة الهجرة المعنوية حتى يتسنى له الهجرة الحسية.

(1) قال القاري رحمه الله: "من التمثيلات المركبة التي لا تطلب لمفرداته ممثلًا ومُمثلًا به، مثل: شابت لمة الليل، وقامت الحرب على ساق، ثم اعلم أن قوله: تقذرهم بفتح الذال المعجمة من قذرت الشيء بالكسر، أي: كرهته، ونفس اللَّه بسكون الفاء، أي: ذاته"، مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، علي سلطان القاري، تحقيق: جمال عيتاني، دار الكتب العلمية: بيروت، ط 1، د. ت، 11/ 407.

(2)

أخرجه أحمد، 2/ 84، رقم: 5562، وأبو داود، باب في سكنى الشام، رقم: 2482، والحاكم في المستدرك، 4/ 556، رقم: 8558، وقال:"هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه فقد اتفقا جميعا على أحاديث موسى بن علي بن رباح اللخمي ولم يخرجاه".

(3)

انظر: فتح الباري، 1/ 54.

(4)

أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، رقم:10.

(5)

فتح الباري، 11/ 319.

ص: 179

ولا بد من التنبيه إلى أن الهجرة إلى الحبشة كانت فرارًا من العذاب، والعيش تحت ظل سلطان عادل وغير مسلم، أما الهجرة إلى المدينة فكانت لبناء الدولة، وإيذانًا بانتقال المسلمين من مرحلة الكف والدفاع إلى مرحلة الهجوم (1)، إذًا فالهجرة من أهم وسائل دفع الاستضعاف مؤقتًا، وهي مرحلة للانطلاق والعمل من جديد لرفع الاستضعاف كليًا، وأنها كانت فرضًا على من أسلم، وانتهى ذلك الفرض بفتح مكة، وبقي الوجوب أو الاستحباب أو الكراهة وفقًا لأحكام الهجرة.

وخلاصة ما سبق: أن الهجرة من أهم وسائل دفع الاستضعاف وكذا الدخول في الجوار، والمعاهدات، والتحالفات، والوحدة الإسلامية، والأخذ بأسباب القوة بكافة أنواعها، وكذلك الجهاد في سبيل اللَّه.

* * *

(1) انظر: تطور مفهوم الدولة في المجتمع الإسلامي الأول، ص 40 - 41.

ص: 180