الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني حكم الاستعانة بالكفار
اتفق الفقهاء على جواز الاستعانة بالكفار في القتال وذلك في أعمال الخدمة والرمي والحفر ونحوها مما لا يخرجون فيه عن الصغار، ونقل ابن حزم رحمه الله الإجماع على ذلك (1)، واختلف الفقهاء في حكم الاستعانة بهم في مباشرة القتال مع المسلمين ضد الكفار، وضد البغاة، على النحو التالي:
الفرع الأول: حكم الاستعانة بالكفار على الكفار:
القول الأول: عدم جواز الاستعانة بالكفار في القتال، وجواز الاستعانة مقتصر على الأعمال والصنائع والخدمة كحفر أو هدم أو رمي بمنجنيق، وهو قول المالكية والظاهرية؛ وذلك لأن معنى الجهاد أن يقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللَّه، والمشرك لا يقاتل لأجل هذا الغرض (2).
واستدلوا بعموم النصوص الواردة في كتاب اللَّه عز وجل في التحذير من موالاة الكافرين، والركون إليهم، واتخاذهم بطانة، ومن تلك النصوص قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَاعَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} (3)، "تضمنت المنع من التأييد والانتصار بالمشركين ونحو ذلك"(4)، "وفي هذه الآية دلالة على أنه لا يجوز
(1)"صح الإجماع على جواز الاستعانة به -أي: المشرك- فيه كخدمة الدابة أو الاستئجار أو قضاء الحاجة ونحو ذلك مما لا يخرجون فيه عن الصغار، والمشرك اسم يقع على الذمي والحربي"، المحلى، 11/ 113.
(2)
انظر: المدونة الكبرى، مالك بن أنس الأصبحي، دار الكتب العلمية: بيروت، ط 1، د. ت، 3/ 40، والمنتقى شرح الموطأ، سليمان بن خلف الباجي، دار الكتاب الإسلامي: القاهرة، ط 2، د. ت، 3/ 180، وحاشية الدسوقي، 2/ 178، ومنح الجليل، 3/ 151، والمحلى، 11/ 113.
(3)
سورة آل عمران، الآية [118].
(4)
الجامع لأحكام القرآن، 6/ 224.
الاستعانة بأهل الذمة في أمور المسلمين من العمالات والكتبة، ولهذا قال أحمد: لا يستعين الإمام بأهل الذمة على قتال أهل الحرب" (1).
ومن الأدلة قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} (2)، "واقتضت الآية النهي عن الاستنصار بالكفار والاستعانة بهم والركون إليهم والثقة بهم، وهو يدل على أن الكافر لا يستحق الولاية على المسلم بوجه ولدًا كان أو غيره، ويدل على أنه لا تجوز الاستعانة بأهل الذمة في الأمور التي يتعلق بها التصرف والولاية"(3).
واستدل أصحاب هذا القول بأدلة من السنة النبوية منها:
ما روته عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قِبَلَ بدر فلما كان بِحَرَّةِ الْوَبَرَةِ أَدْرَكَهُ رَجُلٌ قد كان يُذْكَرُ مِنْهُ جُرْأَةٌ وَنَجْدَةٌ فَفَرِحَ أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين رَأَوْهُ فلما أَدْرَكَهُ قال لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: جِئْتُ لِأَتَّبِعَكَ وَأُصِيبَ مَعَكَ، قال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:(تُؤْمِنُ باللَّه ورسوله)، قال: لا، قال:(فَارْجعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ)(4)،
(1) زاد المسير، 1/ 447.
(2)
سورة النساء، الآية [144].
(3)
أحكام القرآن للجصاص، 3/ 280.
(4)
قال ابن حزم رحمه الله في شرحه للمراد بالمشرك: "والمشرك اسم يقع على الذمي والحربي"، المحلى، 11/ 113، وقال الخرشي في شرح مختصر خليل، 3/ 115:"والمراد بالمشرك الكافر، أي: مطلق الكافر لا من أشرك مع اللَّه غيره خاصة"، وخالف في ذلك الطحاوي رحمه الله فقال:"المشركين الذين قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الآثار الأول: إنه لا يستعين بهم أولئك عبدة الأوثان، وهؤلاء أهل الكتاب الذين ذكرنا مباينة ما هم عليه وما عبدة الأوثان عليه"، شرح مشكل الآثار، أحمد بن محمد الطحاوي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة: لبنان، ط 1، 1408 هـ، 6/ 416، والأول أظهر وهو ما تدل عليه عموم النصوص في القرآن الكريم والسنة المطهرة.
قالت ثم مَضَى حتى إذا كنا بالشجرة أَدْرَكَهُ الرجل، فقال له كما قال أول مرة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم كما قال أول مرة، قال:(فارجع فلن أستعين بمشرك)، قال ثم رجع فَأَدْرَكَهُ بِالْبَيْدَاءِ فقال له كما قال أول مرة، (تؤمن باللَّه ورسوله؟) قال: نعم، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:(فَانْطَلِقْ)(1).
عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه (2) قال: خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى أحُدٍ حتى إذا خَلَّفَ ثنَّيةَ الوَداع نظر خلفه فإذا كتيبة حسناء، قال:(من هؤلاء؟) قالوا: بنو قينقاع وهو رهط عبد اللَّه بن سلام، قال:(وأسلموا!) قالوا: لا، بل هم على دينهم، قال:(قل لهم فليرجعوا، فإنا لا نستعين بالمشركين)(3).
القول الثاني: جواز الاستعانة بالكفار في القتال بشروط، وهو قول الحنفية والشافعية والحنابلة، وحمل أصحاب هذا القول الآيات التي استدل جمها أصحاب القول الأول بأن المراد بها عدم جواز الاستعانة بالكفار إذ كانوا متى غلبوا لهم الغلبة والظهور وكان حكم الكفر هو الغالب، أما إذا كانوا متى غلبوا كان حكم الإسلام هو الجاري عليهم دون حكم الكفر فتجوز الاستعانة (4).
(1) أخرجه مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب كراهة الاستعانة في الغزو بكافر، رقم:1817.
(2)
أبو حميد الساعدي الخزرجي الأنصاري الصحابي المشهور اسمه عبد الرحمن بن سعد، ويقال: عبد الرحمن ابن عمرو بن سعد، وقيل: المنذر بن سعد بن المنذر، ويقال إنه عم سهل بن سعد، شهد أحدا وما بعده، روى عنه من الصحابة جابر بن عبد اللَّه، توفي في آخر خلافة معاوية أو أول خلافة يزيد بن معاوية، انظر: الإصابة في تمييز الصحابة، 7/ 94، والاستيعاب في معرفة الأصحاب، 4/ 1633.
(3)
أخرجه الحاكم في المستدرك، 2/ 133، رقم: 2564، وابن أبي شيبة في المصنف، 6/ 487، وفي آخر:"فإنا لا نستعين بالكفار على المشركين"، وقال ابن حجر رحمه الله:"هذا إسناد حسن"، المطالب العالية، 17/ 356.
(4)
انظر: أحكام القرآن للجصاص، 3/ 276.
كما استدلوا بالنصوص الواردة في السنة النبوية والتي دلت على جواز الاستعانة، ومنها:
قوله صلى الله عليه وسلم: (سَتُصَالِحُونَ الرُّومَ صُلحًا آمِنًا وَتَغزُونَ أَنتُم وَهُم عَدُوًّا من وَرَائِكُم)(1)، وبما ما روي:(أن سعد بن مالك بن أبي وقاص رضي الله عنه غزا بقوم من اليهود فَرَضَخ (2) لهم) (3).
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (شهدنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خيبر، فقال لرجل ممن يَدَّعِي الإسلام: (هذا من أهل النار)، فلما حضر القتال، قاتل الرجل قتالا شديدا، فأصابته جراحة، فقيل يا رسول اللَّه: الذي قلت إنه من أهل النار، فإنه قد قاتل اليوم قتالا شديدا، وقد مات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(إلى النار)، قال: فكاد بعض الناس أن يَرْتَابَ، فبينما هم على ذلك، إذ قيل: إنه لم يمت ولكن به جراحا شديدا، فلما كان من الليل لم يصبر على الجراح فقتل نفسه، فَأُخْبِرَ النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال:(اللَّه أكبر أشهد أني عبد اللَّه ورسوله)، ثم أمر بلالا فنادى بالناس:(إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، وَإِنَّ اللَّه لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ (4)) (5).
(1) أخرجه أبو داود، كتاب الجهاد، باب في صلح العدو، رقم: 2767، قال الألباني في صحيح سنن أبي داود، 2/ 176: صحيح، وابن ماجه، كتاب الفتن، باب الملاحم، رقم:4089.
(2)
"الرضخ: العطية القليلة"، النهاية في غريب الأثر، 2/ 228، ولسان العرب، مادة: رضخ.
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة، 6/ 488، وسنن البيهقي الكبرى، 9/ 37، قال ابن حزم رحمه الله وهو يوافق المالكية في عدم جواز الاستعانة -:"عن جابر قال: سألت الشعبي عن المسلمين يغزون بأهل الكتاب؟ فقال الشعبي: أدركت الأئمة الفقيه منهم وغير الفقيه يغزون بأهل الذمة فيقسمون لهم، ويضعون عنهم من جزيتهم؛ فذلك لهم نفل حسن- والشعبي ولد في أول أيام علي وأدرك من بعده من الصحابة رضي الله عنهم. . . لا نعلم لسعد مخالفا في ذلك من الصحابة وكان سلمان بن ربيعة يستعين بالمشركين على المشركين"، 5/ 399 - 400.
(4)
"أي: المنافق أو الفاسق ممن يعمل رياء أو يخلط به معصية"، مرقاة المفاتيح، 11/ 31.
(5)
أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب إن اللَّه يؤيد الدين بالرجل الفاجر، رقم:2897.
كما استدلوا بما وقع في غزوة حنين عندما قال عليه السلام لصفوان بن أمية (1): (يا صفوان هل عندك من سلاح؟) قال: عارية أم غصبا؟ قال: (لا، بل عارية)، فأعاره ما بين الثلاثين إلى الأربعين درعا، وغزا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حُنَيْنًا فلما هُزِمَ المشركون جُمِعَتْ دُرُوعُ صَفْوَانَ فَفَقَدَ منها أَدْرَاعًا، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لصفوان:(إنا قد فَقَدْنَا من أَدْرَاعِكَ أَدْرَاعًا فهل نَغْرَمُ، فهل نغرم لك؟) قال: لا يا رسول اللَّه؛ لأن في قلبي اليوم ما لم يكن يومئذ (2).
(1) صفوان بن أمية بن خلف بن وهب الجمحي، قُتل أبوه يوم بدر كافرا، وحكى الزبير أنه كان إليه أمر الأزلام في الجاهلية، هرب يوم فتح مكة وأسلمت امرأته وهي ناجية بنت الوليد بن المغيرة، فأحضر له ابن عمه عمير بن وهب أمانا من النبي صلى الله عليه وسلم فحفر وحضر وقعة حنين قبل أن يسلم ثم أسلم، وكان استعار النبي صلى الله عليه وسلم منه سلاحه لما خرج إلي حنين، وهو القائل يوم حنين: لأن يَرُبني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن، وأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم من الغنائم فأكثر، فقال: أشهد ما طابت بهذا إلا نفس نبي فأسلم، أقام بمكة حتى مات بها قبل عثمان، وقيل: عاش إلى زمن علي، ويقال: إنه شهد اليرموك. انظر: الإصابة في تمييز الصحابة، 3/ 432 - 433.
(2)
أخرجه أبو داود، كتاب البيوع، باب بَاب فِي تَضْمِينِ الْعَوَرِ، رقم: 3563، وقال:"وكان أعاره قبل أن يسلم ثم أسلم"، وروى القصة الحاكم في المستدرك، 2/ 54، رقم: 2301، وقال:"حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، قال ابن حجر رحمه الله عن شهود:"صفوان بن أمية حنينا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو مشرك بأنها مشهورة في المغازي"، انظر: فتح الباري، 6/ 179، وجاء في عمدة القاري، 13/ 183، قوله:"وأما حديث صفوان بن أمية فهو مضطرب سندًا ومتنًا وجميع وجوهه لا يخلو عن نظر، ولهذا قال صاحب التمهيد الاضطراب فيه كثير"، وفي التمهيد، 12/ 40 - 41:"هذا اختلف فيه على عبد العزيز بن رفيع اختلافا يطول ذكره فبعضهم يذكر فيه الضمان وبعضهم لا يذكره. . . والاضطراب فيه كثير، ولا يجب عندي بحديث صفوان هذا حجة في تضمين العارية"، ويشهد أن للقصة أصلًا ما أخرجه مسلم، كتاب الفضائل، باب ما سئل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، رقم: 2313، (عن بن شهاب قال غزا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم غزوة الفتح فتح مكة ثم خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بمن معه من المسلمين فاقتتلوا بحنين فنصر اللَّه دينه والمسلمين وأعطى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يومئذ صفوان بن أمية مائة من النعم ثم مائة ثم مائة قال بن شهاب حدثني سعيد بن المسيب أن صفوان قال: واللَّه لقد أعطاني رسول اللَّه ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إلي فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي).
وأجابوا عن استدلال أصحاب القول الأول بحديث: (لن أستعين بمشرك)، بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قال ذلك لعلمه أن الرجلين يُسلمان إذا أبى ذلك عليهما، أو لأنه يخاف الغدر منهما لضعف كان بالمسلمين يوم بدر (1) كما قال اللَّه تعالى:{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} (2).
وقال الامام الشافعي رحمه الله: "فليس واحد من الحديثين مخالفًا للآخر، وإن كان رده؛ لأنه لم ير أن يستعين بمشرك فقد نسخه ما بعده من استعانته بمشركين، فلا بأس أن يستعان بالمشركين على قتال المشركين إذا خرجوا طوعًا"(3)، ويفهم من هذا اشتراط كونهم تابعين للمسلمين وتحت قيادتهم.
واشترط الحنفية الشافعية والحنابلة للجواز شروطًا وهي:
1 -
أن تدعوا الحاجة لذلك (4).
2 -
أن يعرف الإمام حسن رأيهم في المسلمين (5).
3 -
أن يأمن الإمام خيانتهم (6).
(1) انظر: المبسوط، 10/ 23.
(2)
سورة آل عمران، الآية [123].
(3)
الأم، 4/ 261.
(4)
جاء في حاشية قليوبي، 4/ 218 قوله:"وسواء احتيج إليهم أو لا".
(5)
قال ابن القيم رحمه الله: "الاستعانة بالمشرك المأمون في الجهاد جائزة عند الحاجة؛ لأن عينه الخزاعي كان كافرا إذ ذاك، وفيه من المصلحة أنه أقرب إلى اختلاطه بالعدو وأخذه أخبارهم"، زاد المعاد، 3/ 301.
(6)
قال ابن قدامة رحمه الله: "لأننا إذا منعنا الاستعانة بمن لا يؤمن من المسلمين مثل: المخذل والمرجف فالكافر أولى"، المغني، 9/ 207.
4 -
أن يخالفوا معتقد العدو كاليهود مع النصارى، وقيل: لا يشترط ذلك وهو المعتمد عند الشافعية.
5 -
أن يكون حكم الإسلام هو الغالب، بأن يقاتلوا تحت راية المسلمين، وأن يخرجوا وفقًا لشروط المسلمين (1).
وقالوا إن للإمام أن ينظر في مصلحة المسلمين فإن رأى المصلحة في تميزهم ليعلم نكايتهم أفردهم في جانب الجيش، وإن خشي أن تقوى شوكتهم خلطهم بالجيش وفرقهم بين المسلمين، ومتى ما خاف الإمام خيانتهم فلا ينبغي له أن يستعين بهم، أو أن يمكنهم من الاختلاط بالمسلمين (2). ويحسن التنبيه إلى أن الصحيح من مذهب الحنابلة أنه يحرم الاستعانة بالكفار إلا عند الضرورة، وكذلك إن كان الكفار أكثر عددا أو يُخاف منهم (3).
(1) قال السرخسي رحمه الله: "إنما يستعين بهم إذا كانوا يقاتلون تحت راية المسلمين، فأما إذا انفردوا براية أنفسهم فلا يستعان بهم"، المبسوط، 10/ 24، قال الألوسي رحمه الله:"بعض المحققين ذكر أن الاستعانة المنهي عنها إنما هي استعانة الذليل بالعزيز، وأما إذا كانت من باب استعانة العزيز بالذليل فقد أذن لنا بها"، روح المعاني، 3/ 120.
(2)
انظر: المبسوط، 10/ 23 - 24، والبحر الرائق، 5/ 97، جاء في بدائع الصنائع، 7/ 101:"ولا ينبغي للمسلمين أن يستعينوا بالكفار على قتال الكفار؛ لأنه لا يؤمن غدرهم، إذ العداوة الدينية تحملهم عليه إلا إذا اضطروا إليهم"، وروضة الطالبين وعمدة المفتين، يحيى بن شرف النووي، المكتب الإسلامي: بيروت، ط 2، 1405 هـ، 10/ 239، أسنى المطالب، 4/ 189، ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، محمد بن شهاب الدين الرملي، دار الفكر: بيروت، ط 1، د. ت، 8/ 62.
(3)
انظر: الإنصاف، 4/ 143، وكشاف القناع عن متن الإقناع، منصور بن يونس البهوتي، دار الكتب العلمية: بيروت، ط 1، د. ت، 3/ 63.
ومما يستنبط من أقوال الفقهاء في المسألة ومما مضى من الأدلة ما يلي:
1 -
اتفاق الفقهاء على أن الأصل عدم جواز الاستعانة بالكفار، ومن أجاز منهم ذلك فقد قصره على الحاجة أو الضرورة وحدد له شروطًا وجعله في أضيق النطاق، قال ابن حزم رحمه الله:"فإن علم المسلم واحدا كان أو جماعة أن من استنصر به من أهل الحرب أو الذمة يؤذون مسلمًا أو ذميًا فيما لا يحل، فحرام عليه أن يستعين بهما وإن هلك، لكن يصبر لأمر اللَّه تعالى، وإن تلفت نفسه وأهله وماله، أو يقاتل حتى يموت شهيدًا كريمًا، فالموت لا بد منه ولا يتعدى أحدٌ أجله، برهان هذا أنه لا يحل لأحد أن يدفع ظلما عن نفسه بظلم يوصله إلى غيره، هذا ما لا خلاف فيه"(1).
2 -
التفريق بين مشاركة أهل الذمة وآحاد المشركين في القتال وبين مشاركة الدول الكافرة؛ لكون أهل الذمة من مواطني الدولة الإسلامية، ولذا شرط الفقهاء للجواز غلبة حكم الإسلام، وهذا قد يتأتى في الآحاد وأهل الذمة، إلا أنه يصعب تحققه في حال الاستعانة بالدول الكافرة حتى وإن كانت معاهدة لاطلاعهم على أسرار المسلمين ومعرفة مواطن ضعفهم وقوتهم، كما أن اشتراكهم مع المسلمين سيحول الجهاد إلى حرب شرسة خالية من المعاني السامية للجهاد وأهدافه وآدابه وضوابطه (2)، وقد تنسب جرائمهم للمسلمين فيفقد الجهاد الهدف المراد منه وهو الدعوة للإسلام.
3 -
أن أدلة المانعين صحيحة وصريحة، وأما أدلة المجيزين فليست صريحة بل إن حديث المصالحة مع الروم قد يحمل على أنه تحالف عسكري، وهو خبر، بل قد تضمن الإخبار بغدرهم بعد التحالف، ونصه: "ستصالحون الروم صلحا آمنا فتغزون أنتم وهم عدوا من ورائكم فتنصرون وتغنمون وتسلمون ثم ترجعون حتى تنزلوا بمرج ذي تلول
(1) المحلى، 11/ 113.
(2)
انظر: التعامل مع غير المسلمين، ص 359.
فيرفع رجل من أهل النصرانية الصليب فيقول: غلب الصليب فيغضب رجل من المسلمين فيدقه فعند ذلك تغدر الروم وتجمع للملحمة" (1).
4 -
أنه لا ينبغي القول بالنسخ طالما أمكن الجمع بين النصوص، فالنصوص المانعة تحمل على حالات، فحديث عائشة رضي الله عنها حمله العلماء على:
(أ) خشية الغدر وعدم الحاجة إلى الاستعانة بالكافر (2).
(ب) أنه عليه الصلاة والسلام تفرس في الذي قال له: لا أستعين بمشرك، الرغبة في الإسلام فرده، وأجيب بـ "أنها نكرة في سياق النفي فيحتاج مدعى التخصيص"(3).
(جـ) أن النهي كان في وقت خاص وهو بدر (4).
أما حديث أبو حميد الساعدي رضي الله عنه يمكن حمله على:
(أ) قوة جيش الكفار وكثرته.
(ب) الخشية من الخيانة (5).
والذي أرجحه في هذه المسألة هو عدم جواز الاستعانة بالكفار في القتال ضد الكفار إلا في حال الضرورة والحاجة، وذلك وفقًا لما تقتضيه مصلحة المسلمين، ويقدره الإمام والعلماء، فالمسألة لا تخرج عن كونها من مسائل الضرورة والحاجة فينبغي أن يطبق عليها ضوابط العمل والأخذ بالضرورة والحاجة، وكذلك الضوابط الخاصة التي وضعها الفقهاء للجواز، واللَّه أعلم.
(1) سبق تخريجه ص 237، وقول النصراني (غلب الصليب) أي: انتصرنا ببركة الصليب، (فيغضب رجل من المسلمين) حيث نسبت الغلبة للصليب (فيدقه) أي: يكسر الصليب، انظر: مرقاة المفاتيح، 10/ 63.
(2)
انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 12/ 199: المبسوط، 10/ 23.
(3)
فتح الباري، 6/ 180.
(4)
انظر: منح الجليل، 3/ 151.
(5)
انظر: التعامل مع غير المسلمين، ص 307.