الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثامن المشاركة فى الحكم حال الاستضعاف
إن المسلم في حال الاستضعاف يحتاج إلى ما يبقيه ويقويه، وهو حينئذ قد يتعرض إلى أمور لا يقدر على تجاوزها إلا بشيء من التنازلات، التي لا تؤثر في حقيقة الإيمان، وتسهم في حمايته وحماية ما حققه من انجازات أو مكتسبات، لذا فقد يضطر المستضعف أو المستضعفين بعد تقديرهم للموقف، والموازنة بين المصالح والمفاسد إلى التعامل مع بعض الكفار أو الظلمة، لئلا يقضى على وجودهم، أو تخفيفًا لوطأة الظلم على أفراد الأمة (1)، وبعد ظهور الأنظمة الوضعية في العالم الإسلامي برزت مسألة المشاركة في الحكم رغم جوره أو مشاركة الأقلية المسلمة في الحكم ببلاد الكفر، وهذه المسألة إنما يتصور وقوعها في حالة الاستضعاف الجزئي.
وللعلماء في هذه المسألة آراء أوردها في الأقوال التالية:
القول الأول: منع المشاركة في الحكم مطلقًا.
واستدل أصحاب هذا الرأي بما يلي:
1 -
عموم الأدلة الواردة بتحريم الحكم بغير ما أنزل اللَّه ووصفت أصحاب هذا الفعل بالكفر والظلم والفسق، قال تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (2)، وقال عز وجل:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (3)، وقال سبحانه:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (4)، وقال عز وجل:{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (5).
(1) انظر: من مرتكزات الخطاب الدعوي في التبليغ والتطبيق، 145.
(2)
سورة المائدة، من الآية [44].
(3)
سورة المائدة، من الآية [45].
(4)
سورة المائدة، من الآية [47].
(5)
سورة المائدة، الآية [50].
2 -
النهي عن مجالسة الكفار وأصحاب المعاصي المستهزئين بالإسلام وأحكامه، قال تعالى:{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} (1)، "نهى اللَّه عن مجالسة الكفار الذين يكفرون بحجج اللَّه وآي كتابه ويستهزئون بها، حتى يخوضوا في حديث غيره"(2)، "أي إنكم إذا جلستم معهم وأقررتموهم على ذلك فقد ساويتموهم فيما هم فيه"(3)، وقال القرطبي:"وإنما كانت الرخصة قبل الفتح وكان الوقت وقت تقية"(4).
ونوقش: بأن المشارك لا يخوض معهم، بل الواقع أنه يمنعهم من الخوض، وسبب الرخصة قبل الفتح كان الضعف، وهو متحقق اليوم في ظل عدم وجود حكم إسلامي.
3 -
الأمر باعتزال أمر العامة في زمن الفتنة، فعن عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما قال: كنا نحن حول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جلوسًا إذ ذكر الفتنة أو ذكرت عنده، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:(إذا رأيت الناس قد مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ وَخَفَّتْ أَمَانَاتُهُمْ، وكانوا هكذا وشبك بين أنامله)، فقمت إليه، فقلت: كيف أفعل يا رسول اللَّه؟ جَعَلَنِي اللَّه فداك، قال:(الْزَمْ بَيْتَكَ، وَامْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَخُذْ بِمَا تَعْرِفُ، وَدَعْ مَا تُنْكِرُ، وَعَلَيْكَ بِأَمْرِ خَاصَّةِ نَفْسِكَ وَدَعْ عَنْكَ أَمْرَ الْعَامَّةِ)(5).
(1) سورة النساء، الآية [140].
(2)
جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 5/ 329.
(3)
تفسير القرآن العظيم، 2/ 145.
(4)
الجامع لأحكام القرآن، 7/ 15.
(5)
أخرجه أبو داود، كتاب الملاحم، باب الأمر والنهي، 4/ 124، رقم: 4343، ومسند أحمد بن حنبل، 2/ 212، رقم: 6987، والمستدرك على الصحيحين، 4/ 315، رقم: 7758، وقال:"صحيح الإسناد ولم يخرجاه".
ونوقش: بأن المراد بأمر العامة، "كافة الناس فليس المراد العوام فقط"(1)، "أي: اتركه، فإذا غلب على ظنك أن المنكر لا يزول بإنكارك وخفت محذورًا فأنت في سعة من تركه وأنكر بالقلب" (2)، ومن يشارك في الحكم يغلب على ظنه أنه سيزيل النكر ويأمر بالمعروف.
4 -
النهي عن إتيان أبواب السلطان، قال عليه الصلاة والسلام:(من سكن البادية جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى أبواب السلطان افتتن)(3)، وسبب وقوعه في الفتنة؛ "لأنه إن وافقه في مرامه فقد خاطر بدينه، وإن خالفه فقد خاطر بروحه؛ ولأنه يرى سعة الدنيا، فيحتقر نعمة اللَّه عليه، وربما استخدمه، فلا يسلم من الإثم في الدنيا، والعقوبة في العقبى"(4).
ونوقش: بأن الحديث "محمول على من أتاه لطلب الدنيا، لاسيما إن كان ظالمًا جائرًا، أو على من اعتاد ذلك ولزمه، فإنه يُخاف. عليه الافتتان والعُجب"(5)، والمسلم المُشارك في الحكم إنما يأتيه لأجل الآخرة.
5 -
أن مشاركة المسلم في مثل هذا النوع من الحكم يمنح الحاكم الكافر أو الظالم القوة ويكسبه الشرعية، ويعينه على التدليس على عوام الناس، كما ستؤدي هذه المشاركة إلى إطالة أمد هذا الحكم الكافر أو الجائر، ولربما مرر من خلالهم بعض القوانين الجائرة.
(1) فيض القدير، 1/ 353.
(2)
التيسير بشرح الجامع الصغير، 1/ 98.
(3)
أخرجه أبو داود، 3/ 111، رقم: 2859، والنسائي، 7/ 195، رقم: 4309، الترمذي، 4/ 523، رقم: 2256، وقال:"حسن صحيح غريب من حديث بن عباس"، وأحمد بن حنبل، 2/ 371، رقم: 8823، وقال في مجمع الزوائد، 5/ 246 عن رواية أبو هريرة:"رواه أحمد والبزار وأحد إسنادي أحمد رجاله رجال الصحيح، خلا الحسن بن الحكم النخعي وهو ثقة".
(4)
فيض القدير، 6/ 153.
(5)
الآداب الشرعية، 3/ 458.
6 -
أن مشاركة المسلم تتضمن الموافقة المسبقة والمعلنة على الشكل والمضمون للنظام القائم إلى حين تغييره، وكذلك الموافقة على الاحتكام لغير شرع اللَّه إلى حين تحكيمه، بل وطرح الأحكام الشرعية الثابتة والقطعية للتصويت وإبداء الرأي.
7 -
أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن حاله في أي مرحلة من مراحله كحال المشارك في الحكم، ففي المرحلة المكية السلطان لقريش ولا مشاركة له عليه الصلاة والسلام في الحكم، وفي المرحلة المدنية السلطان كله له (1).
القول الثاني: جواز المشاركة في السلطة التنظيمية (التشريعية) دون التنفيذية:
منع المشاركة في السلطة التنفيذية وجوازها في السلطة التنظيمية (التشريعية)، واستدل أصحاب هذا الرأي على منع المشاركة في السلطة التنفيذية بأدلة الفريق الأول، وبجواز المشاركة في السلطة التنظيمية بأدلة الفريق الثالث.
والفرق عندهم بين السلطتين هو أن السلطة التنفيذية تنفيذ لأوامر ومطالب السلطة الكافرة أو الظالمة فلا مجال للتغيير أو المخالفة، أما السلطة التنظيمية فهي وضع للأنظمة والقوانين دون تنفيذ، كما أن المشاركة في السلطة التنظيمية تتيح الفرصة لاختيار السلطة التنفيذية (2).
(1) وللمزيد انظر: الإسلاميون وسراب الديمقراطية، عبد الغني الرحال، مؤسسة المؤتمن، ط 1، 1413 هـ، ص 79 وما بعدها، ومدارك النظر في السياسة بين التطبيقات الشرعية والانفعالات الحماسية، عبد المالك رمضاني، مكتبة الفرقان: عجمان، ط 4، 1422 هـ، ص 198 وما بعدها، وحكم المشاركة في الوزارة والمجالس النيابية، د. عمر الأشقر، دار النفائس: الأردن، ط 1، 1408 هـ، ص 29 وما بعدها.
(2)
إن التشريع لا يكون إلا للَّه عز وجل؛ لذا منع البعض تسمية السلطة بالتشريعية، إلا أن سن الأنظمة والقوانين واستنباطها من الشريعة في حقيقته تطبيق لتلك الشريعة وليس ابتداء للتشريع، انظر: النظام السياسي في الإسلام، مجموعة من المؤلفين، مدار الوطن للنشر: الرياض، ط 2، 1427 هـ، 98 - 99.
ونوقش: بأن المشاركة في السلطة التنظيمية كأقلية لا يؤدي إلى اختيار السلطة التنفيذية، كما لا يؤدي إلى سن القوانين والأنظمة العادلة، فتصبح المشاركة حينئذ كالمشاركة في السلطة التنفيذية، حيث سيتم تمرير القوانين والأنظمة المخالفة للشريعة الإسلامية دون جدوى من رفض الأقلية في السلطة التنظيمية لهذه القوانين والأنظمة.
وأجيب: بأن المشاركة في السلطة التنظيمية هو بيان للحق، وإنكار للباطل، وإبراء للذمة، وإقامة للحجة، وإن لم يؤد للتغيير، ويسدل لهذا بما ورد في قصة أصحاب السبت، قال تعالى:{وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (1)، أما في حال المشاركة في السلطة التنفيذية فلا يسع المشارك إلا التنفيذ.
القول الثالث: جواز المشاركة بشروط:
جواز المشاركة في الحكم بشروط (2)، واستدل أصحاب هذا الرأي بما يلي:
1 -
مشاركة نبي اللَّه يوسف عليه السلام، قال تعالى:{قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} (3)، و"في هذه الآية ما يبيح للرجل الفاضل أن يعمل للرجل الفاجر، بشرط أن يعلم أنه يفوض إليه في فصل ما لا يعارض فيه، فيصلح منه ما شاء، وأما إن كان عمله
(1) سورة الأعراف، الآية [164].
(2)
انظر: حكم المشاركة في الوزارة والمجالس النيابية، ص 29 وما بعدها، وتبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين، ص 96 وما بعدها، وفقه الأقليات المسلمة، ص 610 وما بعدها، فقه الموازنات بين النظرية والتطبيق، ناجي إبراهيم السويد، دار الكتب العلمية: بيروت، ط 1، 1423 هـ، ص 34 وما بعدها، والشباب المسلم في مواجهة التحديات، عبد اللَّه ناصح علوان، دار السلام: القاهرة، ط 2، 1427 هـ، ص 242 - 244.
(3)
سورة يوسف، الآية [55].
بحسب اختيار الفاجر وشهواته وفجوره فلا يجوز له ذلك" (1)، كما أن فيها "دليل على جواز طلب الولاية إذا كان الطالب ممن يقدر على إقامة العدل وإجراء أحكام الشريعة، وإن كان من يد الجائر أو الكافر، وعن مجاهد: أنه أسلم الملك على يده" (2)، وإنما سأل يوسف عليه السلام الولاية للمصلحة الدينية (3)، و"شفقة على خلق اللَّه لا منفعة نفسه" (4).
ونوقش: بأن فعل يوسف عليه السلام من شرع من قبلنا، وهو ليس بشرع لنا إذا جاء في شرعنا ما ينقضه.
وأجيب: بأن الشرائع كلها اتفقت على أن الحاكمية للَّه، وقد قال يوسف عليه السلام:{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (5)، وتسلمه لذلك المنصب لا يُعد مخالفة لهذا الأصل، ومن ادعى أن الجواز خاص بيوسف عليه السلام فعليه أن يأتي بالدليل؛ لأن الأصل في سير الأنبياء أن نقتدي بها، بل أمر اللَّه نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقتدي بيوسف وإخوانه من الأنبياء فقال -سبحانه- بعد أن ذكر في سورة الأنعام عددًا من الأنبياء عليهم السلام ومن بينهم يوسف عليه السلام:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ. .} (6).
(1) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي، تحقيق: عبد السلام عبد الشافي، دار الكتب العلمية: بيروت، ط 1، 1413 هـ، 3/ 256.
(2)
تفسير أبي السعود، 4/ 286.
(3)
انظر: الفتاوى، 15/ 114.
(4)
مغني المحتاج، 4/ 374.
(5)
سورة يوسف، من الآية [40].
(6)
سورة الأنعام، من الآية [90].
2 -
عموم الأدلة الواردة في الحث على التعاون على البر والتقوى، ومنها قوله تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1)، وفي المشاركة في الحكم تعاون على البر ومنع للإثم، وقوله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (2)، وما يستطيعه المستضعف في تلك الحال هو المشاركة ومحاولة تغيير ما يمكن تغيره.
3 -
عموم الأدلة الواردة بالحث على نصرة الدين، ومنها قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ. .} (3)، والمشاركة في الحكم هي النصرة الممكنة للمستضعف.
4 -
عموم الأدلة الواردة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنها قوله تعالى:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (4)، وقوله سبحانه:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} (5)، وإن مشاركة المستضعف في الانتخابات والدخول في الحكم من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
5 -
أن مشاركة المستضعف من باب دفع أعلى المفسدتين، فمن المقرر عند أهل العلم أنه إذا تعارض مفسدتان، رُوعي أعظمهما ضررًا بارتكاب أخفهما، ودل على هذا قاعدة:
(1) سورة المائدة، من الآية [2].
(2)
سورة التغابن، من الآية [16].
(3)
سورة محمد، من الآية [7].
(4)
سورة آل عمران، الآية [104].
(5)
سورة آل عمران، الآية [110].
"يُختار أهون الشرين"، وقاعدة:"الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف"(1)، ولا شك أن
(1) انظر: درر الحكام، 1/ 37، وشرح القواعد الفقهية، 1/ 199، قال ابن تيمية رحمه الله: "وهذا ثابت في سائر الأمور فإن الطبيب مثلًا يحتاج إلى تقوية القوة ودفع المرض والفساد أداة تزيدهما معًا، فإنه يرجح عند وفور القوة تركه إضعافًا للمرض، وعند ضعف القوة فعله؛ لأن منفعة إبقاء القوة والمرض أولى من إذهابهما جميعًا، فإن ذهاب القوة مستلزمة للهلاك، ولهذا استقر في عقول الناس أنه عند الجدب يكون نزول المطر لهم رحمة، وإن كان يتقوى بما ينبته أقوام على ظلمهم، لكن عدمه أشد ضررًا عليهم، ويرجحون وجود السلطان مع ظلمه على عدم السلطان. . . إذا كان المتولي للسلطان العام أو بعض فروعة كالإمارة والولاية والقضاء ونحو ذلك، إذا كان لا يمكنه أداء واجباته وترك محرماته، ولكن يتعمد ذلك ما لا يفعله غيره قصدًا وقدرة جازت له الولاية، وربما وجبت؛ وذلك لأن الولاية إذا كانت من الواجبات التي يجب تحصيل مصالحها من جهاد العدو وقسم الفيء وإقامة الحدود وأمن السبيل كان فعلها واجبا، فإذا كان ذلك مستلزما لتولية بعض من لا يستحق، وأخذ بعض ما لا يحل، وإعطاء بعض من لا ينبغي ولا يمكنه ترك ذلك، صار هذا من باب ما لا يتم الواجب أو المستحب إلا به، فيكون واجبًا أو مستحبًا إذا كانت مفسدته دون مصلحة ذلك الواجب أو المستحب، بل لو كانت الولاية غير واجبة وهي مشتملة على ظلم، ومن تولاها أقام الظلم حتى تولاها شخص قصده بذلك تخفيف الظلم فيها ودفع أكثره باحتمال أيسره، كان ذلك حسنًا مع هذه النية، وكان فعله لما يفعله من السيئة بنية دفع ما هو أشد منها جيدًا، وهذا باب يختلف باختلاف النيات والمقاصد. . . ومن هذا الباب تولي يوسف الصديق على خزائن الأرض لملك مصر، بل ومسألته أن يجعله على خزائن الأرض وكان هو وقومه كفارًا. . . ومعلوم أنه مع كفرهم لابد أن يكون لهم عادة وسنة في قبض الأموال وصرفها على حاشية الملك وأهل بيته وجنده ورعيته، ولا تكون تلك جارية على سنة الأنبياء وعدلهم، ولم يكن يوسف يمكنه أن يفعل كل ما يريد، وهو ما يراه من دين اللَّه، فإن القوم لم يستجيبوا له، لكن فعل الممكن من العدل والإحسان، ونال بالسلطان من إكرام المؤمنين من أهل بيته ما لم يكن يمكن أن يناله بدون ذلك، وهذا كله داخل في قوله:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} . . . فينبغي للعالم أن يتدبر أنواع هذه المسائل، وقد يكون الواجب في بعضها كما بينته فيما تقدم العفو عند الأمر والنهي في بعض الأشياء لا التحليل والإسقاط، مثل أن يكون في أمره بطاعة فعلًا لمعصية أكبر منها، فيترك الأمر بها؛ دفعًا لوقوع تلك المعصية، مثل أن ترفع مذنبًا إلى ذي سلطان ظالم، فيعتدى عليه في العقوبة ما يكون أعظم ضررًا من ذنبه، ومثل أن يكون في نهيه عن بعض المنكرات تركًا =
الأنظمة والقوانين والدساتير التي تضعها الدول الكافرة أو الدول الظالمة قد لا توافق
= لمعروف هو أعظم منفعة من ترك المنكرات، فيسكت عن النهي؛ خوفًا أن يستلزم ترك ما أمر اللَّه به ورسوله مما هو عنده أعظم من مجرد ترك ذلك النكر، فالعالم تارة يأمر، وتارة ينهى، وتارة يبيح، وتارة يسكت عن الأمر أو النهي أو الإباحة كالأمر بالصلاح الخالص أو الراجح أو النهي عن الفساد الخالص أو الراجح، وعند التعارض يرجح الراجح كما تقدم بحسب الإمكان، فأما إذا كان المأمور والمنهي لا يتقيد بالممكن إما لجهله وإما لظلمه ولا يمكن إزالة جهله وظلمه فربما كان الأصلح الكف والإمساك عن أمره ونهيه، كما قيل إن من المسائل مسائل جوابها السكوت، كما سكت الشارع في أول الأمر عن الأمر بأشياء والنهي عن أشياء حتى علا الإسلام وظهر، فالعالم في البيان والبلاغ كذلك، قد يؤخر البيان والبلاغ لأشياء إلى وقت التمكن، كما أخر اللَّه سبحانه إنزال آيات وبيان أحكام إلى وقت تمكن رسول اللَّه تسليما إلى بيانها يبين حقيقة الحال في هذا أن اللَّه يقول:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، والحجة على العباد إنما تقوم بشيئين، بشرط التمكن من العلم بما أنزل اللَّه، والقدرة على العمل به، فأما العاجز عن العلم كالمجنون، أو العاجز عن العمل فلا أمر عليه ولا نهي، وإذا انقطع العلم ببعض الدين، أو حصل العجز عن بعضه، كان ذلك في حق العاجز عن العلم، أو العمل بقوله كمن انقطع عن العلم بجميع الدين، أو عجز عن جميعه، كالمجنون مثلا، وهذه أوقات الفترات فإذا حصل من يقوم بالدين من العلماء أو الأمراء أو مجموعهما كان بيانه لما جاء به الرسول شيئًا فشيئًا، بمنزلة بيان الرسول لما بُعث به شيئًا فشيئًا، ومعلوم أن الرسول لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، ولم تأت الشريعة جملة، كما يقال: إذا أردت أن تُطاع فأمر بما يُستطاع، فكذلك المجدد لدينه والمحيي لسنته لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، كما أن الداخل في الإسلام لا يمكن حين دخوله أن يُلقن جميع شرائعه ويؤمر بها كلها، وكذلك التائب من الذنوب والمتعلم والمسترشد لا يمكن في أول الأمر أن يُؤمر بجميع الدين، وُيذكر له جميع العلم، فإنه لا يُطيق ذلك، وإذا لم يطقه لم يكن واجبًا عليه في هذه الحال، وإذا لم يكن واجبًا لم يكن للعالم والأمير أن يوجبه جميعه ابتداء، بل يعفو عن الأمر والنهي بما لا يمكن علمه وعمله إلى وقت الإمكان، كما عفى الرسول عما عفى عنه إلى وقت بيانه، ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرمات وترك الأمر بالواجبات؛ لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل، وقد فرضنا انتفاء هذا الشرط فتدبر هذا الأصل فإنه نافع، ومن هنا يتبين سقوط كثير من هذه الأشياء، وإن كانت واجبة أو محرمة في الأصل؛ لعدم إمكان البلاغ الذي تقوم به حجة اللَّه في الوجوب أو التحريم فإن العجز مسقط للأمر والنهي وإن كان واجبًا في الأصل واللَّه أعلم"، انظر: الفتاوى، 20/ 55 - 61.
الشريعة الإسلامية في معظمها، بل قد تعارضها أو تحاربها، إلا أن مشاركة المسلم حال الاستضعاف يترتب عليها تخفيف الشر والظلم، وأما ترك المشاركة فينتج عنها المزيد من الظلم والضرر والعديد من المفاسد، وليس من الحكمة ترك الأمر لأهل الباطل، دون أن يجدوا معارضًا، بل لو رشح كافران وكان أحدهما أقرب للمسلمين أو أخف ضررًا، والآخر شديد العداوة لوجب انتخاب الأول لدفع شر الآخر.
يتبين من خلال النظر في أقوال كل فريق وأدلته استدلالهم بأدلة عامة، كما أن هذه المسألة لا يمكن الجزم فيها برأي محدد، إذ يتغير الحكم فيها بحسب الزمان والمكان، وتقدير المصالح والمفاسد، إلا أن العلماء القائلين بجواز المشاركة في الحكم وضعوا شروطًا لذلك منها:
1 -
ألا يترتب على المشاركة إقرار الكفر، أو المعاونة على الظلم، فينبغي أن يفوض إليه فعل لا يعارضه فيه، فيتمكن من الإصلاح والتغيير، وأما إذا كان عمله بحسب اختيار الفاجر وشهواته وفجوره فلا يجوز ذلك (1).
2 -
ألا يكون هنالك سبيل للإصلاح وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإزالة الفساد أو تخفيف الظلم ورفعه دون التعرض إلى الأذى والضرر إلا بتلك المشاركة (2).
(1) انظر: الجامع لأحكام القرآن، 9/ 215، وفيه:"للرجل الفاضل أن يعمل للرجل الفاجر والسلطان الكافر بشرط أن يعلم أنه يفوض إليه في فعل لا يعارضه فيه فيصلح منه ما شاء وأما إذا كان عمله بحسب اختيار الفاجر وشهواته وفجوره فلا يجوز ذلك"، وانظر: آيات للسائلين، د. ناصر العمر، مؤسسة الرسالة: بيروت، ط 1، 1429 هـ، ص 253.
(2)
انظر: تفسير البيضاوي، 3/ 295، والبحر المحيط، 5/ 318، قال الزمخشري رحمه الله:"وقد كان السلف يتولون القضاء من جهة البغاة ويرونه، وإذا علم النبي أو العالم أنه لا سبيل إلى الحكم بأمر اللَّه ودفع الظلم إلا بتمكين الملك الكافر أو الفاسق فله أن يستظهر به، وقيل: كان الملك يصدر عن رأيه ولا يعترض عليه في كل ما رأى فكان فى حكم التابع له والمطيع"، الكشاف، 2/ 455.
3 -
أن يكون المشارك قادرًا على إقامة العدل، وإجراء أحكام الشريعة (1)، "وما زال قضاة الإسلام يتولون القضاء من جهة من ليس بصالح، ولولا ذلك لبطلت أحكام الشرع، فهم مثابون على ذلك إذا عدلوا"(2).
والراجح -واللَّه أعلم- أن المشاركة وإن كان يترتب عليها بعض المفاسد، إلا أن عدم المشاركة كذلك، وتبقى مسألة ترجيح المفاسد والمصالح عائدة للعلماء والمجتهدين مع الاستفادة من رأي المتخصصين في كل زمان ومكان بحسبه، فمن ترجح عنده المشاركة لتحصيل هذه المصالح ينبغي أن يلتزم بالشروط التي وضعها العلماء لجواز تلك المشاركة، ومن ترجح عنده عدم المشاركة لا ينبغي له أن يُعادي من رأى المشاركة، ولربما كان الأصلح للمستضعفين وجود فريق مشارك في الحكم، وفريق آخر غير مشارك، فيحمي الأول الثاني، ويقوم الثاني بما يعجز عنه الأول.
وأما التفريق بين المشاركة في السلطة التنفيذية والمشاركة في السلطة التشريعية، ومنع المشاركة في الأولى، وجوازه في الثانية؛ لكون السلطة التنفيذية هي مجرد تنفيذ للأنظمة والقوانين دون أي دور في التنظيم أو التقنين أو تعديلها، بينما المشارك في السلطة التشريعية يتسنى له سن الأنظمة وتعديلها، ولا صلة له في التنفيذ، فالذي يظهر لي أنه لا فرق بينهما من حيث التطبيق العملي، بمعنى أن المشاركة في إحدى السلطتين (التنفيذية أو التشريعية) إن كان يترتب عليها القدرة على التغيير وتحققت المصلحة فتجوز، وإلا فلا يجوز ذلك سواء في التنفيذية أو التنظيمية، بل قد تكون الخطورة والضرر عند عدم القدرة على التغيير في المشاركة بالسلطة التشريعية، واللَّه أعلم.
* * *
(1) انظر: تفسير أبي السعود، 4/ 286.
(2)
البحر المحيط، 5/ 318.