الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بحسب مفاسدها في نفسها، وقوة الداعي إليها وتقاضي الطباع لها" (1).
هذه بعض الحكم من إقامة الحدود، ولهذا فإن إقامتها فرض على السلطان، قال الشافعي رحمه الله:"فإن الحد فرض على السلطان أن يقوم به، وإن تركه كان عاصيًا للَّه بتركه. والأدب أمر لم يبح له إلا بالرأي، وحلال له تركه، ألا ترى أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد ظهر على قوم أنهم قد غلوا في سبيل اللَّه فلم يعاقبهم؛ ولو كانت العقوبة تلزم لزوم الحد ما تركهم"(2).
* * *
المطلب الثالث التمهيد إقامة الحدود
إن مطالبة البعض بالتمهيد وتهيئة المجتمع لإقامة الحدود لكي تعطي ثمارها والنتائج المرجوة منها، وذلك بإصلاح الحكومات، وبتعيين الصالحين، وإصلاح المجتمع، وإعادة النظر في المناهج التعليمية، والاستفادة من وسائل الإعلام، وتنشئة الأفراد تنشئة صالحة بالتربية الإسلامية (3)، مطلب واقعي ومنطقي، إلا أنه ينبغي التأكيد على ما يلي:
(1) إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي، دار المعرفة: بيروت، ط 2، 1395 هـ، 1/ 369 - 370.
(2)
الأم، 6/ 176، وانظر: الجامع لأحكام القرآن، 2/ 245، وفيه:"لا خلاف أن القصاص في القتل لا يقيمه إلا أولو الأمر فرض عليهم النهوض بالقصاص وإقامة الحدود وغير ذلك".
(3)
انظر: كيفية تنفيذ الشريعة الإسلامية وطريقة تطبيقها، بحوث مؤتمر الفقه لعام 1396 هـ، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية: الرياض، ط 1، 1396 هـ، ص 175 - 176 ، أثر إقامة الحدود في استقرار المجتمع، د. محمد حسين الذهبي، دار الهجرة: دمشق، ط 2، 1408 هـ، ص 78، والضرورة المرحلية في تطبيق القانون الجنائي الإسلامي، فتحي بن الطيب الخماسي، دار قتيبه، ط 1، 2001 م، ص 168 - 171، حيث ذهب إلى أن التعطيل لا يقره الشرع الإسلامي إلا عند قيام ضرورة إلى ذلك، وأهم هذه الضرورات في عصرنا الجاهلية، وأن الحل الوحيد للخروج من هذا الواقع التعطيل على حد تعبيره.
1 -
أن ليس كل من يُطالب بهذا المطلب ينطلق من منطلق شرعي، بل إن البعض قد يُطالب بذلك لجهله بالأحكام الشرعية والحدود والعقوبات في الشريعة الإسلامية ومزاياها وآثارها الإيجابية، وهنا يبرز دور علماء الأمة والدعاة وطلبة العلم والمفكرين في البيان والتوضيح والتواصل مع هؤلاء.
2 -
أن هذا المطلب قد يتناسب مع تلك المجتمعات التي تم تغييب الأحكام الشرعية عنها منذ سنين، إلا أنه لا ينطبق على المجتمعات التي تحكم بالشريعة الإسلامية.
3 -
أن المجتمعات الإسلامية بعامة مُهيأة لقبول الأحكام الشرعية، وهذا هو الأصل والعمل بالقوانين الوضعية هو الأمر الطارىء والدخيل، بل إن تطبيق الأحكام الشرعية هو ما تُطالب به الشعوب، وبالتالي فإن مدة التمهيد هذه -إن كان المجتمع بحاجة لها- لا ينبغي أن تطول، ولا أن تؤدي إلى إسقاط حقوق الأفراد وضياعها تحت ستار التمهيد.
4 -
أن عهد التدرج في التشريع قد انتهى، قال تعالى:{الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1)، فإن "الشريعة جاءت كاملة لا تحتمل الزيادة ولا النقصان"(2)، "ولا معنى للإكمال إلا وفاء النصوص بما يحتاج إليه أهل الشرع إما بالنص على كل فرد فرد، أو باندراج ما يحتاج إليه تحت العمومات الشاملة"(3)، فإن كان عهد التدرج في التشريع قد انتهى إلا أن التدرج
(1) سورة المائدة، من الآية [3].
(2)
الاعتصام، 1/ 48.
(3)
إرشاد الفحول إلى تحقيق علم الأصول، محمد بن علي بن محمد الشوكاني، تحقيق: محمد البدري، دار الفكر: بيروت، ط 1، 1412 هـ، 1/ 344.
باق في تطبيق هذا التشريع وهو من باب تقديم الأهم على المهم، والبدء بالأيسر فالأيسر وهو ما يشهد له الأدلة الشرعية ومنها: ما رواه ابْنِ عَبَّاسٍ أَنّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ، فَقَالَ:(إِنَّكَ تَقْدُمُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَلْيَكُنْ أَوَّلُ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَةَ اللَّهِ، فَإِذَا عَرَفُوا اللَّه عز وجل فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ اللَّه عز وجل قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ، فَإِذَا فَعَلُوا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّه عز وجل فَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ تُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِذَا أَطَاعُوا بِهَا فَخُذْ مِنْهُمْ، وَتَوَقَّ كِرَامَ أَمْوَالِهمْ)(1).
ومنها: ما روته عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: (بَايَعْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَرَأَ عَلَيْنَا: {أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا}، وَنَهَانَا عَنِ النِّيَاحَةِ، فَقَبَضَتِ امْرَأَةٌ مِنَّا يَدَهَا، فَقَالَتْ: فُلانَةُ أَسْعَدَتْنِي (2)، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَجْزِيَهَا، فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا، فَذَهَبَتْ ثُمَّ رَجَعَتْ) (3).
ووجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل منها تأخير المبايعة وارتكابها هذا المحرم وهو دفع الأجرة على النياحة لتأليف قلبها، وقلب المرأة الأخرى، وهذا هو التدرج في التطبيق.
5 -
إن على الدولة الإسلامية في حال الاستضعاف التدرج في تطبيق الأحكام بعد تهيئة المجتمع وتحصين الجبهة الداخلية أولًا، مما يعينها على الصمود ومواجهة الضغوط الخارجية.
(1) أخرجه البخاري، كِتَاب الْجُمُعَةِ، باب الْعَمَلِ فِي الصَّلَاةِ، رقم: 1314، ومسلم، كِتَاب الإِيمَانِ، بَاب الدُّعَاءِ إِلَى الشَّهَادَتَيْنِ، رقم:30.
(2)
قال ابن حجر رحمه الله: "والإسعاد قيام المرأة مع الأخرى في النياحة تراسلها، وهو خاص بهذا المعنى، ولا يستعمل إلا في البكاء والمساعدة عليه، ويقال: إن أصل المساعدة وضع الرجل يده على ساعد الرجل صاحبه عند التعاون على ذلك"، فتح الباري، 8/ 637.
(3)
أخرجه البخاري، كِتَاب الْأَحْكَامِ، بَاب بَيْعَةِ النِّسَاءِ، رقم:6704.
فإن قيل: هل لهذا التفريق بين المجتمعات التي يُحكم فيها بالإسلام وتطبق فيها الحدود والأحكام الشرعية كلها أو بعضها، وتلك التي لا علاقة لها بالإسلام ولا معرفة لها به، أو التي غُيب عنها الحكم بالأحكام الشرعية حتى غدت كأنها مجتمعات جديدة الدخول في الإسلام، هل لهذا التفريق أصل شرعي أو دليل؟
والجواب على هذا بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أن وفد ثَقِيفٍ لما قَدِمُوا عليه أنزلهم المسجد؛ ليكون أرَقَّ لقلوبهم، فَاشْتَرَطُوا عليه أن لا يُحْشَرُوا، ولا يُعْشَرُوا، ولا يُجَبَّوْا، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:(لكم أن لا تُحْشَرُوا، ولا تُعْشَرُوا، ولا خير في دين ليس فيه ركوع)(1).
وقد أنزلهم النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد ليكون أكثر إلانة لقلوبهم بسبب رؤيتهم المسلمين وخشوعهم واجتماعهم وعبادتهم للخالق عز وجل، ولكنهم شرطوا ألا يحشروا أي: ألا يندبون إلى الغزو والجهاد، كما شرطوا ألا يُعشَرُوا أي: لا يؤخذ عشر أموالهم، فوافقهم النبي على ذلك، وشرطوا ألا يجبوا -بالجيم وشد الموحدة- أي: أن يركعوا، وأرادوا أن لا يصلوا فلم يجبهم على ذلك. وإنما سمح لهم بترك الجهاد وترك الصدقة؛ لأنهما لم يكونا واجبين في العاجل، بل بحضور العدو أو بحول الحول، بخلاف الصلاة فهي واجبة في كل يوم وليلة فلم يجز أن يشترطوا تركها (2).
(1) أخرجه أبو داود، كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب ما جاء في خبر الطائف، رقم: 3026، والبيهقي في السنن الكبرى، 2/ 444، باب المشرك يدخل المسجد غير المسجد الحرام، رقم: 4131، ومصنف ابن أبي شيبة، 2/ 416، من قال ليس على المسلمين عشور، رقم: 10579، والمنتقى لابن الجارود، عبد اللَّه بن علي بن الجارود النيسابوري، تحقيق: عبد اللَّه البارودي، مؤسسة الكتاب الثقافية: بيروت، ط 1، 1408 هـ، 1/ 101، رقم: 373، جاء في نصب الراية، 4/ 270:"قيل إن الحسن البصري لم يسمع من عثمان بن أبي العاص انتهى، ورواه أبو داود في مراسيله عن الحسن".
(2)
انظر: عون المعبود، 8/ 185 - 186.