الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسلمين وصدعهم، فظهرت فرق الخوارج وفرق الشيعة والباطنية بأنواعها، فأدى ذلك إلى تبديد طاقة المسلمين المادية والعسكرية والفكرية بتوجيهها إلى داخلهم في صراعات دامية وطويلة، كما ظهرت فرق أخرى استمرت مدارسها حتى اليوم كالمرجئة والمعتزلة وغيرها (1). وإن كان هذا العامل دينيًا (عقديًا) في الأصل إلا أنه سرعان ما تحول إلى عامل سياسي وغلف بالغلاف العقدي لتذكية ناره واستمرارها.
* * *
المطلب الثانى العصبية والعنصرية بين المسلمين
لم تقتصر الفرقة بين المسلمين على تلك الفرق، بل إن الفرقة امتدت لجوانب كثيرة في حياة المسلمين اليوم، فهنالك الفرقة بسبب الانتماء للبلد بحسب التقسيم الحدودي بين الدول الإسلامية، وهنالك الفرقة داخل البلد الواحد بسبب الانتماء لمناطق معينة في الشمال أو الجنوب أو الشرق أو الغرب، أو حتى بحسب المدن أو القرى، وهنالك الفرقة داخل القبيلة الواحدة وهكذا.
وأصبح حال معظم المسلمين اليوم -إلا من رحم اللَّه- أشبه بحال أهل الجاهلية الذين كانوا يعاملون الناس بحسب ما لديهم من جاه أو أموال لا تقوى أو علم، وأشار القرآن الكريم في كثير من آياته إلى أولئك الذين اختصوا أنفسهم بامتيازات، وترفعوا على الناس، بل حتى على دعوات الرسل عليهم السلام، وفي السيرة النبوية الكثير من المواقف والأحداث التي تظهر هذا الواقع الطبقي الجاهلي (2).
(1) انظر: حاضر العالم الإسلامي وقضاياه المعاصرة، د. جميل عبد اللَّه المصري، مكتبة العبيكان: الرياض، ط 1، 1427 هـ، ص 43، وسر انحلال الأمة العربية ووهن المسلمين، ص 37 - 39.
(2)
انظر: العصبية القبلية من المنظور الإسلامي، د. خالد الجريسي، مؤسسة الجريسي: الرياض، ط 1، 1427 هـ، ص 37 - 38، والإسلام والعروبة مناقشة لآراء التيار الأصولي، مجدي رياض، مركز الحضارة العربية للإعلام والنشر: القاهرة، ط 1، 1989 م، ص 96 - 97.
ولأن العصبية الجاهلية كانت من أهم أسباب الفرقة والتقاتل بين الناس، فقد ركز الرسول صلى الله عليه وسلم على إزالتها بل "وحاربها بكل قوة، ودون هوادة، وحذر منها، وسد منافذها؛ لأنه لا بقاء للدين العالمي، ولا بقاء للأمة الواحدة مع هذه العصبيات، ومصادر الشريعة الإسلامية زاخرة بإنكارها، وتشنيعها، وما أكثر النصوص في ذلك"(1)، ومن ذلك قوله عز وجل:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (2)، "يريد بذلك تعالى ذكره وتمسكوا بدين اللَّه الذي أمركم به، وعهده الذي عهده إليكم في كتابه إليكم من الألفة والاجتماع على كلمة الحق، والتسليم لأمر اللَّه"(3).
وعندما سئل عليه الصلاة والسلام: أمن العصبية أن يحب الرجل قومه؟ قال: (لا، ولكن من العصبية أن يعين الرجل قومه على الظلم)(4)، والمراد بالعصبية "هي المحاماة والمدافعة، والعصبي هو الذي يغضب لعصبته أي: أقاربه ويحامي عنهم"(5).
(1) ردة ولا أبا بكر لها، لأبي الحسن الندوي، المختار الإسلامي: القاهرة، ط 1 ، د. ت، ص 12.
(2)
سورة آل عمران، الآية [103].
(3)
جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 4/ 30.
(4)
أخرجه أبو داود، 4/ 331، باب في العصبية، رقم: 5119، وابن ماجه، 2/ 1302، باب العصبية، رقم: 3949، قال الألباني في ضعيف سنن ابن ماجه، 8/ 449: ضعيف، والإمام أحمد، 4/ 107، رقم:17030.
(5)
شرح سنن ابن ماجه، محمد بن يزيد القزوينى، بيروت: دار الجيل، ط 1، د. ت، 1/ 189، وانظر: عون المعبود، 14/ 17.
وقال عليه السلام: (من نصر قومه على غير الحق فهو كالبعير الذي ردي فهو ينزع بذنبه)(1). والمراد أن من نصر قومه على باطل أو مشكوك فقد وقع في الإثم وهلك، فحاله كالبعير الذي سقط في البئر، ويخرج ويرفع بذنبه من ورائه ولا يقدر على الخلاص (2).
وعن جابر رضي الله عنه قال: (غَزَوْنَا مع النبي صلى الله عليه وسلم وقد ثَابَ مَعَهُ نَاسٌ من المهاجرين حتى كَثُرُوا، وكان من المهاجرين رجل لَعَّابٌ، فكَسَعَ (3) أنصاريا، فَغَضِبَ الأنصاري غضبا شديدا حتى تَدَاعَوْا، وقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال:(ما بَالُ دَعْوَى أَهْلِ الجاهِلِيَّةِ)، ثم قال:(ما شَأْنُهُمْ؟) فَأُخْبِرَ بِكَسْعَةِ المهاجري الأنصاري، قال فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(دعوهما فإنها خَبِيثَةٌ)، وقال عبد اللَّه ابن أبي بن سلول: أَقَدْ تَدَاعَوْا عَلَيْنَا، لئن رجعنا إلى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، فقال عمر: ألا نقتل يا رسول اللَّه هذا الْخَبِيثَ لعبد اللَّه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(لا يتحدث الناس أنه كان يَقْتُلُ أصحابه)) (4).
فأمرهم عليه الصلاة والسلام بترك دعوى الجاهلية؛ لأنها خبيثة منتنة، ودعوى الجاهلية في الأصل الاستغاثة عند إرادة الحرب كانوا يقولون: يا آل فلان فيجتمعون
(1) أخرجه أبو داود، 4/ 331، باب في العصبية، رقم: 5117، قال الألباني في صحيح سنن أبي داود، 11/ 117: صحيح موقوفًا مرفوعًا، وأخرجه أحمد في المسند، 1/ 393، رقم:3726.
(2)
انظر: عون المعبود، 14/ 18.
(3)
قال ابن حجر رحمه الله: "قوله غزونا هذه الغزوة هي غزوة المريسيع، قوله: ثاب معه بمثلثة وموحدة، أي: اجتمع، قوله: رجل لعاب، أي: بطال، وقيل: كان يلعب بالحراب كما تصنع الحبشة، وهذا الرجل هو جهجاه بن قيس الغفاري، وكان أجير عمر بن الخطاب، والأنصاري هو سنان بن وبرة حليف بني سالم الخزرجي، فكَسع بفتح الكاف والمهملتين، أي: ضربه على دبره"، فتح الباري، 6/ 547.
(4)
صحيح البخاري، باب ما ينهى من دعوى الجاهلية، 3330، ومسلم، باب نصر الأخ ظالما أو مظلوما، رقم:2584.