الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني الأدلة على مشروعية الجوار
وقد دل القرآن الكريم على مشروعية الجوار، وإن لم يرد بذات اللفظ فتارة بلفظ "الإيواء"(1)، تقول العرب أوى فلان إلى منزله يأوي أويا، وأويت فلانا إذا أنزلته بك، من ذلك قوله تعالى:{وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (2)، وقوله سبحانه:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (3)، وقوله عز وجل:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (4).
وتارة بلفظ "الهجرة" ومن ذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (5).
(1) انظر: لسان العرب، مادة: أوا.
(2)
سورة الأنفال، الآية [26].
(3)
سورة الأنفال، الآية [72]. تقول العرب: أَويت فلانًا إذا أنزلته بك، والمأوى مكان كل شيء يأوي إليه ليلا أو نهارا، انظر: تهذيب اللغة، مقاييس اللغة، مادة: أوى.
(4)
سووة الأنفال، الآية [74].
(5)
سورة الحشر، الآية [9].
كما تستخدم لفظة "الملجأ" للدلالة على الجوار، يقال: التجأ إليه أي: اعتصم به، وألجأت أمري إلى اللَّه أسندت، والتلجئة الإكراه وألجأه إلى الشيء اضطره إليه وألجأه عصمه (1)، كقوله تعالى:{اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ} (2)، وقوله سبحانه:{وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (3).
وقد دلت السنة النبوية على جواز دخول المسلم في جوار الكفار، بل وعلى جواز طلب الجوار منهم، فعن جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنه قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على الناس في الموقف، فقال:(ألا رجل يحملني إلى قومه، فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي)(4)، كما دخل النبي صلى الله عليه وسلم في جوار المُطعم بن عَدِي عندما رجع من الطائف (5)، حتى
(1) انظر: لسان العرب، ومختار الصحاح، مادة: لجأ، والمصباح المنير، 2/ 550، وحق اللجوء بين الشريعة الإسلامية والقانون الدولي، أ. د. أحمد أبو الوفا، المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، ط 1، 2009 م، ص 26 - 29.
(2)
سورة الشورى، الآية [47].
(3)
سورة التوبة، الآية [118].
(4)
أخرجه: أبو داود، كتاب السنة، باب في القرآن، رقم: 4734، وابن ماجه، رقم: 201، والترمذي، كتاب فضائل القرآن، باب ما جاء كيف كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، رقم: 2925، وأحمد في المسند، 3/ 390، رقم: 15229، وقال الهيثمي:"رجاله ثقات"، مجمع الزوائد، 6/ 35، وانظر: السيرة النبوية لابن هشام، 2/ 270.
(5)
انظر: فتح الباري، 7/ 324، والتمهيد 9/ 150، وقيل: إنما قال ذلك مكافأة له لقيامه في شأن نقض الصحيفة التي كتبتها قريش على بني هاشم وبني المطلب، انظر: الجامع لأحكام القرآن، 8/ 13، وكانت وفاة المطعم بن عدي في صفر سنة ثنتين من الهجرة قبل بدر بنحو سبعة أشهر، انظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب، 1/ 233.
قال صلى الله عليه وسلم يوم بدر في أسرى المشركين وفاء له: (لَوْ كَانَ المُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلَاءِ النَّتْنَى لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ)(1).
لقد استفاد من نظام الجوار الذي كان معروفًا لدى العرب، جماعة ممن أسلم من الصحابة رضي الله عنهم وامتنعوا بعشائرهم من أذى المشركين، وبقي قوم مستضعفون في أيدي المشركين يعذبونهم بأنواع العذاب (2)، فأجار بن الدغنة (3) وهو سيد القارة، أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وأنفذت قريش جواره، ورضي أبو بكر، وأقره الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك (4).
(1) صحيح البخاري، باب ما من النبي صلى الله عليه وسلم على الأسارى، رقم:2970.
(2)
انظر: سيرة النبي المختار، محمد بن عمر الحضرمي الشافعي، تحقيق: محمد غسان نصوح، بيروت: دار الحاوي، ط 1، 1998 م، 1/ 183.
(3)
بفتح الدال المهملة وكسر الغين المعجمة وفتح النون المخففة على مثال الكلمة، ويقال: بضم الدال والغين وتشديد النون، ويقال: بفتح الدال وسكون الغين، ويقال: ابن الدثنة أيضا وتسكن الثاء أيضا، والدغنة اسم أمه، ومعناه لغة: الغيم الممطر، والدثنة: الكثيرة اللحم المسترخية، واسمه ربيعة بن رفيع بن أهبان بن ثعلبة، وهو سيد القارة وهي قبيلة موصوفة بجودة الرمي؛ شهد حنينا وقتل دريد بن الصمة، وقدم على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في بني تميم، انظر: الوافي بالوفيات، صلاح الدين خليل الصفدي، تحقيق: أحمد الأرناؤوط وتركي مصطفى، بيروت: دار إحياء التراث، ط 1، 1420 هـ، 14/ 61، وعمدة القاري، محمود بن أحمد العيني، بيروت: دار إحياء التراث العربي، ط 1، د. ت، 12/ 123 - 124.
(4)
انظر: فتح الباري، 4/ 476. جاء في شرح صحيح البخاري، علي بن خلف بن عبد الملك بن بطال، ضبط وتعليق: ياسر إبراهيم، مكتبة الرشد: الرياض، ط 1، 1420 هـ، 11/ 446: "الجوار كان معروفًا بين العرب، وكان وجوه العرب يجيرون من لجأ إليهم واستجار بهم، وقد أجار أبو طالب النبي عليه السلام ولا يكون الجوار إلا من الظلم والعداء، ففي هذا من الفقه أنه إذا خشي المؤمن على نفسه من ظالم أنه مباح له وجائز أن يستجير بمن يمنعه ويحميه من الظلم، وإن كان مجيره كافرًا، إن أراد الأخذ بالرخصة، وإن أراد الأخذ بالشدة على نفسه فله ذلك كما رد أبو بكر الصديق على ابن الدغنة جواره، ورضي بجوار اللَّه وجوار رسوله عليه السلام وأبو بكر يومئذ من المستضعفين، فآثر الصبر على ما يناله من أذى المشركين محتسبا على اللَّه وواثقا به، فوفى اللَّه له ما وثق به فيه، ولم ينله مكروه حتى أذن اللَّه لنبيه في الهجرة".
كما أقر النبي صلى الله عليه وسلم دخول نُعيم رضي الله عنه بجوار قومه في مكة، حيث كان إسلامه قبل عمر رضي الله عنه وكان يكتم إسلامه، ولكنه لم يهاجر إلا قبيل فتح مكة؛ لكونه لما أراد أن يهاجر تعلق به قومه وقالوا له: أقم ودن بأي دين شئت؛ لأنه كان يُنفق على أرامل بني عدي وأيتامهم، حتى كانت سنة ست فقدم مهاجرًا إلى المدينة ومعه أربعون من أهله، فاعتنقه النبي صلى الله عليه وسلم وقال له:(يا نعيم إن قومك كانوا خيرًا لك من قومي)، قال: بل قومك خير يا رسول اللَّه، قال:(إن قومي أخرجوني، وإن قومك أقروك)، فقال نعيم: يا رسول اللَّه إن قومك أخرجوك إلى الهجرة، وإن قومي حبسوني عنها (1).
* * *
(1) واسمه: نعيم بن عبد اللَّه بن أسيد بن عدي بن كعب القرشي المعروف بالنحام، والنحمة بفتح النون وإسكان المهملة الصوت، وقيل: السعلة، وقيل: النحنحة، وكانت هجرته عام خيبر، وقيل: بل هاجر في أيام الحديبية، وقيل: إنه أقام بمكة حتى كان قبل الفتح، واستشهد رضي الله عنه في فتوح الشام زمن أبي بكر أو عمر، قيل: بأجنادين، وقيل: باليرموك، انظر: فتح الباري، 5/ 166، والإصابة في تمييز الصحابة، 6/ 458 - 459، والطبقات الكبرى، 4/ 138، المستدرك، 3/ 290، والاستيعاب، 4/ 1508.