الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وخلاصة هذه المسألة: جواز استعانة المستضعفين بأهل البدع والأهواء عند الضرورة، وينبغي أن يشترط عليهم ألا يدعوا لبدعتهم أو يظهرونها، وإن أمكن اقتصار الاستعانة على السلاح والاستشارة والتدريب ونحوه فهو الأولى، ولا بأس به على أن يتم تعليم المسلمين الذين سيتم تدريبهم حقيقة ذلك المذهب وكيفية الرد على الشبهات وتحصينهم علميًا وفكريًا.
* * *
المطلب الرابع حكم الاستعانة بالكفار في الجوانب الأخرى
قد يضطر المستضعفون إلى الاستعانة بجمعيات وهيئات ومؤسسات حقوقية ذات أهداف إنسانية، إما للمطالبة بالحق وبيانه، أو لكشف حقيقة وإزالة الغموض عنها، أو لملاحقة الجاني والمجرم ومعاقبته والتضييق عليه وغيرها من الأهداف، فهل يجوز للمستضعفين التعاون مع هذه الجهات والاستفادة منها ومن اختصاصاتها.
يمكن القول بأن مثل هذا النوع من التعاون لا دليل على تحريمه إن لم يكونوا محاربين للمسلمين، والأصل في هذا قوله تعالى:{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (1)، فالكفار في الآية إما مسالم لم يقاتل المسلمين ولم يخرجهم من ديارهم فلم ينه اللَّه المسلمين عن برهم والإقساط إليهم، ورخص في صلتهم، أو غير مسالم ويقاتل المسلمين ويخرجهم من ديارهم ويظاهر على ذلك، وفرق بين الإذن بالبر والقسط وبين النهي عن الموالاة والمودة (2).
(1) سورة الممتحنة، الآية [8 - 9].
(2)
انظر: أضواء البيان، 8/ 90 - 91، ومفاتيح الغيب، 7/ 67.
قال ابن جرير رحمه الله: "وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عُني بذلك: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} من جميع أصناف الملل والأديان أن تبروهم وتصلوهم وتقسطوا إليهم، إن اللَّه عز وجل عم بقوله الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم جميع من كان ذلك صفته، فلم يخصص به بعضًا دون بعض، ولا معنى لقول من قال: ذلك منسوخ؛ لأن بر المؤمن من أهل الحرب ممن بينه وبينه قرابة نسب، أو ممن لا قرابة بينه وبينه ولا نسب غير محرم ولا منهي عنه إذا لم يكن في ذلك دلالة له أو لأهل الحرب على عورة لأهل الإسلام أو تقوية لهم بكراع أو سلاح"(1).
وفي نهاية هذا المطلب أشير إلى بعض الأمور والمسائل وهي:
1 -
هذه الاستعانة لا تعدو أن تكون من الحلف أو الدخول في الجوار الذي سبق بيان جوازه وشروط ذلك في الفصل الثاني.
2 -
ينبغي عند الاستعانة بتلك الجهات أن يغلب على الظن تحقيق المصالح ودرء المفاسد من خلال هذه الاستعانة، أما إن كانت ستؤدي إلى ضياع الحقوق فيحرم ذلك.
3 -
ينبغي ألا يترتب على هذه الاستعانة إذلال وصغار للمسلمين أو مداهنة أو تنازل عن العقيدة لمجاراة أو مجاملة هذه الأطراف أو الجهات، قال تعالى:{الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} (2)، والآية تنهى عن الاعتزاز بالكفار (3)، وإنما يكون الاعتزاز بالكفار في حال ذل المسلمين لهم، أما مجرد المطالبة والتعاون على ما فيه مصلحة الإنسانية، كقضايا حقوق الأسرى، وحقوق
(1) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 28/ 66.
(2)
سورة النساء، الآية [139].
(3)
انظر: أحكام القرآن للجصاص، 3/ 277.
الإنسان، وحقوق اللاجئين، وحقوق الأطفال ورفع الظلم ونحوها من المصالح المشتركة
فهو أمر مطلوب شرعًا وعقلًا، ومما يدل على ذلك عموم قوله تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1).
4 -
من مقتضيات هذا التعاون البر والقسط، فلا مانع من مدحهم بما فيهم من خصال حسنة كما مدح النبي صلى الله عليه وسلم النجاشي على عدله قبل إسلامه، مع الحذر من أن يمتد هذا الثناء إلى الثناء على عقائدهم، بل وينبغي الوفاء معهم كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع المطعم بن عدي الذي مات على الشرك.
قال ابن حجر رحمه الله: "وكان الأصل في موالاة خزاعة للنبي صلى الله عليه وسلم أن بني هاشم في الجاهلية كانوا تحالفوا مع خزاعة، فاستمروا على ذلك في الإسلام، وفيه جواز استنصاح بعض المعاهدين وأهل الذمة، إذا دلت القرائن على نصحهم، وشهدت التجربة بإيثارهم أهل الإسلام على غيرهم، ولو كانوا من أهل دينهم، ويستفاد منه جواز استنصاح بعض ملوك العدو استظهارا على غيرهم، ولا يُعد ذلك من موالاة الكفار ولا موادة أعداء اللَّه، بل من قبيل استخدامهم، وتقليل شوكة جمعهم، وإنكاء بعضهم ببعض، ولا يلزم من ذلك جواز الاستعانة بالمشركين على الإطلاق"(2).
* * *
(1) سورة المائدة، من الآية [2].
(2)
فتح الباري، 5/ 337 - 338.