الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: العلاقة بين مرحلة الاستضعاف والمرحلة المكية
إن تقسيم مراحل الدعوة الإسلامية إلى مرحلة سرية ومرحلة جهرية، ومن ثم مرحلة مكية ومرحلة مدنية، أو مرحلة التبين، ومرحلة التكوين، ومرحلة التمكين، أو مرحلتي الكتمان والإعلان، أو مرحلة الاستضعاف ومرحلة الاستخلاف وغيرها من التقسيمات كمرحلة النبوة، ثم إنذار عشيرته الأقربين، ثم إنذار قومه، ثم إنذار قوم ما أتاهم من نذير من قبله وهم العرب قاطبة، ثم إنذار جميع من بلغته دعوته من الجن والإنس إلى آخر الدهر (1)، إنما هو وصف لواقع الدعوة وأحوال المسلمين وبيان لمقتضيات تلك المدة والمرحلة ويترتب على ذلك من أحكام وفوائد منها: تمييز الناسخ من المنسوخ، ومعرفة تاريخ التشريع وتدرجه الحكيم بوجه عام، وذلك يترتب عليه الإيمان بسمو السياسة الإسلامية في تربية الشعوب والأفراد، وكذلك معرفة أساليب الدعوة إلى اللَّه ومراعاة مقتضى الحال (2)، قال القرطبي رحمه الله:"وينبغي له -أي صاحب القرآن- أن يعرف المكي من المدني؛ ليفرق بذلك بين ما خاطب اللَّه به عباده في أول الإسلام، وما ندبهم إليه في آخر الإسلام، وما افترض اللَّه في أول الإسلام، وما زاد عليه من الفرائض في آخره، فالمدني هو الناسخ للمكي في أكثر القرآن، ولا يمكن أن ينسخ المكي المدني؛ لأن المنسوخ هو المتقدم في النزول قبل الناسخ له"(3).
(1) انظر: من مرتكزات الخطاب الدعوي في التبليغ والتطبيق، عبد اللَّه الزبير عبد الرحمن، الدوحة: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ط 1، 1997 م، ص 143 - 144، وزاد المعاد، 1/ 86.
(2)
انظر: مناهل العرفان في علوم القرآن، محمد عبد العظيم الزرقاني، بيروت: دار الفكر، ط 1، 1416 هـ، 1/ 137، والغلو في الدين في حياة المسلمين المعاصرة، د. عبد الرحمن اللويحق، بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 3، 1416 هـ، ص 516 - 517.
(3)
الجامع لأحكام القرآن، 1/ 21.
ولعله يحسن التنبيه إلى أنه لا يلزم من وجود هذا التقسيم في العهد الأول للدولة الإسلامية وجوده في العصر الحديث أو في كل عصر، بمعنى أنه يجب التقيد بتلك المراحل بمداها الزمني الذي مرت به حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله عنهم؛ لأن المدى الزمني لتلك المراحل كان تقديرًا ربانيًا ولا نص فيه يدعونا إلى الاقتداء به، ولا نحجر واسعًا، وليس المهم حساب الزمن، إنما المهم الحصيلة العملية للمستضعفين وقدرتهم على مواجهة المجتمع القائم من خلال الأشخاص أو المؤسسات (1)، كما أننا لسنا متعبدين بالمضي وفقًا لذلك المدى الزمني، وإلا لأدى هذا إلى جمود وقصور في التعامل مع الواقع، الأمر الذي يخالف طبيعة الإسلام ومرونته ويضيق مساحة الاجتهاد والعمل والتعاطي مع الأحداث والمستجدات والنوازل.
كما أن العلم بالمكي والمدني لا يعني أن نأخذ أحكام العهد المكي ونسقطها كاملة على مرحلة الاستضعاف، وذلك لأن استنباط الأحكام الشرعية يكون من الأدلة وليس بمقارنة العهدين المكي والمدني ثم القياس على النظير من جميع الوجوه، وكلا العهدين المكي والمدني عهد تشريع، "وإذا رأيت في المدنيات أصلًا كليًا فتأمله تجده جزئيًا بالنسبة إلى ما هو أعم منه أو تكميلًا لأصل كلي. . . ليفرع عن ذلك كل ما جاء مفصلًا في المدني، فالأصل وارد في المكي"(2)، ولو جعلت المرحلية أصلًا من أصول الأحكام لأدى ذلك إلى تضييع فرائض الدين والقول بعدم وجوبها، فالصلاة مثلًا لم تفرض إلا في أواخر العهد
(1) انظر: عثرات وسقطات في كتاب المنهج الحركي للسيرة النبوية، زهير سالم، دار عمار: الاردن، ط 1، 1408 هـ، ص 20، والسيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، د. مهدي رزق اللَّه، مركز الملك فيصل: الرياض، ط 1، 1412 هـ، ص 154 - 155.
(2)
الموافقات، 3/ 46 - 49.
المكي، كما يؤدي هذا الأمر إلى ارتكاب الكبائر واستحلالها تحت عذر المرحلية، فالخمر مثلًا إنما حرمت في المدينة (1).
والحديث عن المراحل لا يعني الركون لها، أو التعامل معها على أنها أصل، وبالتالي تُخفى الشعائر والعبادات، بل إن الأصل في الإسلام هو الإظهار والإعلان كما سيأتي بيانه، ولذا شرع الآذان والعبادات الجماعية كصلاة الجماعة، والحج، وصوم رمضان، والزكاة، والأعياد وغيرها، ولا يمكن التعاطي مع العهد المكي على أنه الأصل لوحده أو مع العهد المدني على أنه الأصل لوحده، فكلاهما أصل ومكمل للآخر، قال شيخ الإسلام ابن تيمية مفسرًا لقوله تعالى:{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (2) أي: "بالحجة والبيان، وباليد واللسان هذا إلى يوم القيامة، لكن الجهاد المكي بالعلم والبيان، والجهاد المدني مع المكي باليد والحديد، قال تعالى: {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} (3) وسورة الفرقان مكية، وإنما جاهدهم باللسان والبيان، ولكن يكف عن الباطل وإنما قد بين في المكية: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} (4) "(5).
قال الشاطبي رحمه الله: "المدني من السور ينبغي أن يكون منزلا في الفهم على المكي، وكذلك المكي بعضه مع بعض، والمدني بعضه مع بعض على حسب ترتيبه في التنزيل، وإلا لم يصح، والدليل على ذلك أن معنى الخطاب المدني في الغالب مبني على المكي، كما أن
(1) انظر: الغلو في الدين في حياة المسلمين المعاصرة، ص 517 - 518.
(2)
سورة التوبة، الآية [33].
(3)
سورة الفرقان، الآية [52].
(4)
سورة محمد، الآية [31].
(5)
الفتاوى، شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، مجمع الملك فهد: المدينة المنورة، ط 1، 1416 هـ، 28/ 38.
المتأخر من كل واحد منهما مبني على متقدمة، دل على ذلك الاستقراء، وذلك إنما يكون بيان مجمل، أو تخصيص عموم، أو تقييد مطلق، أو تفصيل ما لم يفصل، أو تكميل ما لم يظهر تكميله" (1). لقد كانت المرحلة المكية تأسيسًا ومنطلقًا لما بعدها، وكان لتلك المرحلة أهميتها في الإسلام، حتى أنه كان يؤرخ للصحابة رضي الله عنهم بتلك المرحلة (2).
إن "كل مرحلة لها وسائل مكافئة لمقتضياتها وحاجاتها الواقعية، وكل مرحلة تسلم إلى المرحلة التي تليها. . فهو -أي الإسلام- لا يقابل الواقع بنظريات مجردة. كما أنه لا يقابل مراحل هذا الواقع بوسائل متجمدة"(3).
مما مضى يمكن القول بأن المرحلة المكية كانت تمثل حالة الاستضعاف الكلي، ولا يلزم حالة وقوع استضعاف كلي في أي زمن من الأزمان في مكان ما تطبيق كل ما كان قائمًا من أحكام في المرحلة المكية، إذ لكل زمان ظروفه، كما أن لكل مكان طبيعته الخاصة به، كما أن فقه الاستضعاف لا يعني بأي حال من الأحوال العودة للمرحلة المكية بكل أحكامها وآثارها.
* * *
(1) الموافقات، 3/ 406.
(2)
ومن الأمثلة على ذلك: "وأسلم حاطب بن عمرو قبل دخول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم دار الأرقم"، الاستيعاب في معرفة الأصحاب، 1/ 92. وفي خبر إسلام حمزة رضي الله عنه:"أسلم في السنة الثانية من البعث، وقيل: بل كان إسلام حمزة بعد دخول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم دار الأرقم، في السنة السادسة من مبعثه"، المرجع السابق، 1/ 109. وفي خبر إسلام عمر رضي الله عنه:"أسلم عمر بعد دخول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم دار الأرقم، بعد أربعين رجلًا أو نيف وأربعين من رجال ونساء"، تهذيب الأسماء واللغات، محيى الدين بن شرف النووي، بيروت: دار الفكر، ط 1، 1996 م، 1/ 489.
(3)
معالم في الطريق، سيد قطب، الكويت: الاتحاد الإسلامي العالمي للمنظمات الطلابية، ط 1، 1978 م، ص 57.