الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع: استحكام الاستضعاف فى الأرض
تلك هي أبرز مظاهر الاستضعاف، وهي تختلف من زمان لآخر، ومن مكان لآخر، وقد يشتد الاستضعاف حتى لا يستطيع المسلمين إظهار الشعائر كلها في بعض الأماكن، وقد تقل شدته فيتمكن المسلمون من إظهار بعض الشعائر، وهنا تساؤل حول إمكانية استحكام الاستضعاف في الأرض كلها، وهل يمكن أن يقع هذا أم لا؟
والجواب: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن غربة الإسلام، بقوله:(بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء)(1).
وهذه الغربة تكون في بعض شرائعه، وقد يكون في بعض الأمكنة والأزمنة، كما كان في أول الأمر غريبا ثم ظهر، أو أنها تكون في آخر الدنيا، وهذا إنما يكون بعد الدجال ويأجوج ومأجوج عند قرب الساعة، وحينئذ يبعث اللَّه ريحا تقبض روح كل مؤمن ومؤمنة ثم تقوم القيامة، فأما بقاء الإسلام غريبا ذليلا في الأرض كلها قبل الساعة فلا يكون هذا، بل لا بد أن يبقي اللَّه من المؤمنين من هو ظاهر إلى قيام الساعة، فإذا مات كل مؤمن فقد جاءت الساعة (2).
ولا تقتضي غربة الإسلام جواز تركه، كما لا تقتضي أن يكون المتمسك به في شر، بل هو أسعد الناس، فطوبى من الطيب، فالمسلم المتبع للرسول صلى الله عليه وسلم اللَّه تعالى حسبه وكافيه، وهو وليه حيث كان، ومتى كان، فإنه لا بد أن يحصل للناس في الدنيا شر، واللَّه على عباده نعم، لكن الشر الذي يصيب المسلم أقل، وسرعان ما يعوض عنه عاجلًا من
(1) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا، رقم:145.
(2)
انظر: الفتاوى، 18/ 296 - 303.
الإيمان ولذته ما يحتمل به الأذى، والنعم التي تصل إليه أكثر، والذي يحصل للكفار من الهلاك أعظم بكثير، من غير عوض لا آجلًا ولا عاجلًا (1).
إذًا فالغربة المستحكمة المطبقة على الأرض كلها، بحيث يغدو الدين غريبًا في زمن من الأزمنة، في بقاع الأرض كلها، كا حدث قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، لا يكون في أمته صلى الله عليه وسلم إلا بعد عهد عيسى عليه السلام، وقبل الساعة (2)، وكذلك الاستضعاف الكلي لكل الأمة في الأرض كلها لا يمكن أن يقع، بل دلت الآيات والأحاديث على خلاف هذا.
ومن جملة هذه الأدلة قوله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} (3)، وقال عز وجل:{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (4)، "أى: عامة المؤمنين بعد إجلاء الكفار وهذا وعد منه تعالى بإظهار الدين وإعزاز أهله" (5).
عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: لما قدم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة وآوتهم الأنصار، رمتهم العرب عن قوس واحدة، كانوا لا يبيتون إلا بالسلاح ولا يصبحون إلا فيه، فقالوا: (ترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا اللَّه؟ فنزلت: {وَعَدَ
(1) انظر: الفتاوى، 18/ 291 - 296.
(2)
انظر: الغرباء الأولون، سلمان بن فهد العودة، المملكة العربية السعودية: دار ابن الجوزي، ط 1، 1412 هـ، ص 28.
(3)
سورة غافر، الآية [51].
(4)
سورة الأنبياء، الآية [105].
(5)
إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم (تفسير أبي السعود)، محمد بن محمد العمادي، دار إحياء التراث العربي: بيروت، ط 1، د. ت، 6/ 88.
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (1)) (2).
وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية: (يوسع لهم في البلاد حتى يملكوها ويظهر دينهم على سائر الأديان)(3)، "ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أنه وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات من هذه الأُمّة:{لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} أي: ليجعلنهم خلفاء الأرض، الذين لهم السيطرة فيها، ونفوذ الكلمة، والآيات تدلّ على أن طاعة اللَّه بالإيمان به، والعلم الصالح سبب للقوّة والاستخلاف في الأرض ونفوذ الكلمة" (4).
وعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: (إن اللَّه زَوَى (5) لي الأرض فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وإن أمتي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِىَ لي منها، وَأُعْطِيتُ الكنزين الأحمر والأبيض، وإني سَأَلْتُ رَبِّى لأمتي أَن لا يُهلِكَهَا بِسَنَةٍ بِعَامَّةٍ (6)، وأن لا يُسَلِّطَ عليهم عَدُوًّا
(1) سورة النور، الآية [55].
(2)
أخرجه الحاكم، وقال:(صحيح الإسناد ولم يخرجاه)، وقال الذهبي في التلخيص:"صحيح".
(3)
معالم التنزيل، 3/ 354.
(4)
أضواء البيان، 5/ 553.
(5)
زوى لي "أي: جمعها لي جمعًا أمكنه الإشراف على ما زوي له منها والنظر إليه والمعرفة به"، تفسير غريب ما في الصحيحين البخارى ومسلم، محمد بن أبي نصر فتوح الأزدي الحميدي، تحقيق: د. زبيدة محمد، القاهرة: مكتبة السنة، ط 1، 1415 هـ، 1/ 234.
(6)
قال النووي رحمه الله: "أى: لا أهلكهم بقحط يعمهم، بل إن وقع قحط فيكون في ناحية يسيرة بالنسبة إلى باقي بلاد الإسلام، فلله الحمد والشكر على جميع نعمه"، شرح النووي على صحيح مسلم، 18/ 14.
من سِوَى أَنْفُسِهِمْ فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ (1)، وإن رَبِّى قَالَ: يَا محمد إني إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فإنه لا يُرَدُّ وإني أَعْطَيْتُكَ لأُمَّتِكَ أن لا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ بِعَامَّةٍ، وأن لا أُسَلِّطَ عليهم عَدُوًّا من سِوَى أَنْفُسِهِمْ يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ، وَلَوِ اجْتَمَعَ عليهم من بِأَقْطَارِهَا -أَوْ قَالَ مَنْ بَيْنَ أَقْطَارِهَا- حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا وَيَسْبِى بَعْضُهُمْ بَعْضًا) (2)، وفي رواية:(سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بما هلك به الأمم قبلها فأعطانيها، وسألت ربي أن لا يظهر عليها عدوا من غيرها فأعطانيها، وسألت ربما أن لا يلبسها شيعا فمنعنيها)(3).
"وفي هذا الحديث دليل واضح على أن دين محمد صلى الله عليه وسلم لا يزال إلى أن تقوم الساعة، ولا يهلك أمة محمد صلى الله عليه وسلم عدو يستأصلها أبدًا، وأنها في أكثر أقطار الأرض والحمد للَّه كثيرا"(4)، قال ابن حجر رحمه الله:"المراد أن ذلك لا يقع لجميعهم، وإن وقع لأفراد منهم غير مقيد بزمان. . . فإن الغرق والجوع قد يقع لبعض دون بعض لكن الذي حصل منه الأمان أن يقع عاما"(5)، فدل هذا الحديث على أن "تسليط العدو الكافر قد يقع على بعض المؤمنين، لكنه لا يقع عمومًا فكذلك الخسف والقذف"(6).
(1) قوله: (فَيَسْتَبِيح بَيْضَتهمْ) أَيْ: جَمَاعَتهمْ وَأَصْلهمْ، وبيضة الدار معظمها ووسطها"، انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين البخاري ومسلم، 1/ 234.
(2)
أخرجه مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض، رقم:2890.
(3)
مسند الشاميين، سليمان بن أحمد الطبراني، بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 1، 1405 هـ، 3/ 71.
(4)
التمهيد، يوسف بن عبد اللَّه بن عبد البر النمري، تحقيق: مصطفى العلوي، ومحمد البكري، المغرب: وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية، ط 1، 1387 هـ، 19/ 197 - 198.
(5)
فتح الباري، 8/ 293
(6)
تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، محمد عبد الرحمن المباركفوري، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، د. ت، 8/ 349.
وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم ببقاء الطائفة المنصورة فقال عليه الصلاة والسلام: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر اللَّه وهم ظاهرون)(1)، "ولا يزال الأمر إلى قيام الساعة مهما قاموا بالإيمان والعمل الصالح، فلا بد أن يوجد ما وعدهم اللَّه، وإنما يسلط اللَّه عليهم الكفار والمنافقين ويديلهم في بعض الأحيان بسبب إخلال المسلمين بالإيمان والعمل الصالح"(2).
وقد أخبرنا المولى عز وجل بأنه لن يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلًا فقال تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} (3)، فمن دلالات هذه الآية أنه سبحانه لا يجعل لهم على المؤمنين سبيلًا يمحو به دولة المسلمين ويستأصلهم ويستبيح بيضتهم، وإن حصل لهم ظفر في بعض الأحيان على بعض المؤمنين فإن العاقبة للمتقين في الدنيا والآخرة (4)، كما قال تعالى:{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} (5)، "ولكن حكمة اللَّه عادلة فإنها اقتضت أن من تمسك بالدين نصره اللَّه النصر المبين وأن من ترك أمره ونهيه ونبذ شرعه وتجرأ على معاصيه أن يعاقبه ويسلط عليه الأعداء واللَّه عزيز حكيم"(6).
(1) أخرجه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:(لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين)، رقم: 6881، ومسلم، كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم:(لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين)، رقم:1920.
(2)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، 1/ 573.
(3)
سورة النساء، الآية [141].
(4)
انظر: تفسير القرآن العظيم، 1/ 568، وأَحْكَام الْقُرْآن لابن الْعَرَبِيّ، 1/ 640، وأضواء البيان، 1/ 319.
(5)
سورة غافر، الآية [51].
(6)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، 1/ 130.
إن التمكين في الأرض باطنا وظاهرا ليس مستلزما لولاية اللَّه تعالى، بل قد يكون ولي اللَّه متمكنا ذا سلطان، وقد يكون مستضعفا إلى أن ينصره اللَّه، وأما الغلبة فإن اللَّه تعالى قد يُديل الكافرين على المؤمنين تارة، كما يديل المؤمنين على الكافرين، كما وقع للصحابة رضوان اللَّه عليهم مع عدوهم لكن العاقبة للمتقين، وإذا كان في المسلمين ضعفٌ، وكان عدوهم مستظهرا عليهم، كان ذلك بسبب ذنوبهم وخطاياهم، إما لتفريطهم في أداء الواجبات باطنا وظاهرا، وإما لعدوانهم بتعدي الحدود باطنا وظاهرا (1).
ومن الأحاديث الدالة على التمكين للإسلام وأهله في الأرض، قوله عليه الصلاة والسلام:(لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر ولا وبر إلا أدخله اللَّه كلمة الإسلام، بعز عزيز، أو ذل ذليل، إما يعزهم اللَّه عز وجل فيجعلهم من أهلها، أو يذلهم فيدينون لها)(2).
وقد بشرنا الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام بالتمكين في الأرض فقال: (بَشِّرْ هذه الأُمَّةَ بِالسَّنَاءِ وَالرِّفْعَةِ والدين (3) وَالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ في الأَرْضِ فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ عَمَلَ الآخِرَةِ لِلدُّنْيَا لَمْ يَكُنْ لَهُ في الآخِرَةِ نَصِيبٌ) (4). ولعل فيما مضى من الأدلة ما يكفي للدلالة على استحالة وعدم إمكانية وقوع الاستضعاف الكلي للأمة الإسلامية كلها في الأرض.
(1) انظر: الفتاوى، 11/ 644 - 645.
(2)
أخرجه أحمد، 6/ 4، برقم: 23865، وأخرجه الحاكم في المستدرك، رقم: 8324، وقال:"حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، 4/ 476، والإيمان، محمد بن إسحاق بن منده، تحقيق د. علي الفقيهي، بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 2، 1406 هـ، 2/ 981، وقال:"إسناده حسن"، قال الهيثمي في مجمع الزوائد 6/ 14:"أخرجه أحمد والطبراني ورجال أحمد رجال الصحيح".
(3)
"بالسناء: بالفتح والمدّ ارتفاع المنزلة والقدر، والدين أي: التمكن فيه، والرفعة أي: العلو في الدارين"، التيسير بشرح الجامع الصغير، 1/ 433.
(4)
أخرجه أحمد، رقم: 21258، 5/ 134، والحاكم في المستدرك، رقم: 7862، 4/ 346، وقال:"صحيح الإسناد ولم يخرجاه".