الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول: أنواع الاستضعاف
وفيه ثلاثة مطالب
المطلب الأول: تقسيم الاستضعاف باعتبار درجته
وهو نوعان:
النوع الأول: الاستضعاف الجزئي:
وهو الذي لا يمكن معه تطبيق بعض الأحكام الشرعية، وقد يكون لدى المستضعفين قوة إلا أنها غير كافية.
ويمكن أن نمثل لهذا النوع بما وقع للمسلمين يوم الأحزاب من حصار شديد وصفه اللَّه عز وجل بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} (1) ، حتى هم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يصالح غطفان على شطر ثمار المدينة (2) ، ولم نصفه بأنه كلي بالرغم من عمومه؛ لإمكان ممارسة الشعائر.
(1) سورة الأحزاب، الآيات [9 - 11].
(2)
أخرجه البزار والطبراني بإسنادين كلاهما حسن، انظر: كشف الأستار في زوائد البزار، علي بن أبي بكر الهيثمي، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 2، 1984 م، 2/ 131 - 132، والمصنف لعبد الرزاق، 5/ 367 - 368، والمصنف في الأحاديث والآثار، تحقيق: كمال يوسف الحوت، عبد اللَّه بن محمد بن أبي شيبة، الرياض: مكتبة الرشد، ط 1، 1409 هـ، 7/ 378، والأموال، القاسم بن سلام، تحقيق: محمد عمارة، بيروت: دار الشروق، ط 1، 1409 هـ، ص 252 - 253، والسيرة النبوية لابن كثير، إسماعيل بن كثير، تحقيق: مصطفى عبد الواحد، ط 1، 1396 هـ، 3/ 310 - 311، وتاريخ الأمم والملوك، محمد بن جرير الطبري أبو جعفر، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1407 هـ، 2/ 94 - 95، والطبقات الكبرى، 2/ 73، قال في مجمع الزوائد، 6/ 133:"ورجال البزار والطبراني فيهما محمد بن عمرو وحديثه حسن وبقية رجاله ثقات"، ولفظه:(جاء الحارث بن عوف وعيينة بن حصن فقالا لرسول اللَّه عليه الصلاة والسلام عام الخندق: نكف عنك غطفان على أن تعطينا ثمار المدينة. .).
كما يمكن أن نمثل للاستضعاف الجزئي بحال المسلمين في أرض الحبشة، ويدل على هذا ما في الصحيحين عن أبي موسى رضي الله عنه في قصة خروجه من اليمن ولحاقه بجعفر رضي الله عنه بالحبشة ثم العودة إلى المدينة قال:(فوافقنا النبي صلى الله عليه وسلم حين افْتَتَحَ خيبر وكان أُنَاسٌ من الناس يقولون لنا -يعني لأهل السفينة-: سبقناكم بالهجرة، ودخلت أسماء بنت عُمَيْسِ (1) وهي ممن قَدِمَ معنا على حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم زَائِرَةً، وقد كانت هاجرت إلى النجاشي فيمن هاجر، فدخل عمر على حفصة وأسماء عندها، فقال عمر حين رأى أسماء من هذه؟ قالت: أسماء بنت عُمَيْسٍ، قال عمر: الْحَبَشِيَّةُ هذه الْبَحْرِيَّةُ هذه (2)، قالت أسماء: نعم، قال: سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. فَغَضِبَتْ وقالت: كلا واللَّه، كنتم مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يُطعم جائعكم، ويَعِظُ جاهلكم، وكنا في دار أو في أرض الْبُعَدَاءِ الْبُغَضَاءِ (3) بالحبشة؛ وذلك في اللَّه وفي رسوله صلى الله عليه وسلم وَايْمُ اللَّه لا أَطْعَمُ طعامًا ولا
(1) أسماء بنت عميس بن معد بن تيم الخثعمية، أسلمت قبل دخول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم دار الأرقم بمكة وبايعت، وهاجرت إلى الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب فولدت له هناك عبد اللَّه وعونًا ومحمدًا، فلما استشهد بمؤتة تزوجها أبو بكر الصديق رضي الله عنه فولدت له محمدًا. ثم توفي عنها فتزوجها علي بن أبي طالب فولدت له يحيى وعونًا وفي رواية ومحمدًا، فهي تدعى أم المحمدين. وكانت تخدم فاطمة إلى أن توفيت، وهي أخت ميمونة أم المؤمنين لأمها، وابن أختها عبد اللَّه بن عباس، كان عمر يسألها عن تعبير الرؤيا، توفيت سنة 38 هـ، وقيل: بعد الستين. انظر: الطبقات الكبرى، 8/ 280 - 285، وتهذيب التهذيب، أحمد بن حجر العسقلاني، بيروت: دار الفكر، ط 1، 1404 هـ، 12/ 427، والأعلام، 1/ 306.
(2)
قال ابن حجر رحمه الله: "ونسبها إلى الحبشة لِسُكْنَاهَا فيهم، وإلى البحر لِرُكُوبِهَا إياه".
(3)
قال النووي رحمه الله: "قال العلماء: الْبُعَدَاء في النسب، الْبُغَضَاء في الدين؛ لأنهم كفار إلا النجاشي، وكان يستخفي بإسلامه عن قومه، وَيَرْوِي لهم"، شرح النووي على صحيح مسلم، 16/ 65.
أشرب شرابًا حتى أَذْكُرَ ما قلت لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ونحن كُنَّا نُؤْذَى ونخاف، وسأذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم وأسأله واللَّه لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد عليه، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم قالت: يا نبي اللَّه إن عمر قال كذا وكذا، قال:(فما قلت له؟) قالت: قلت له كذا وكذا، قال:(ليس بأحق بي منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان)، قالت: فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب السفينة يَأْتُونِي أرسَالًا يسألوني عن هذا الحديث ما من الدنيا شيء هم به أفرح ولا أعظم في أنفسهم مما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم، قال أبو بردة قالت أسماء: فلقد رأيت أبا موسى وإنه ليستعيد هذا الحديث مني) (1).
وهذا الحديث يكشف لنا جانبًا من حال الصحابة رضوان اللَّه عليهم في الحبشة، فأسماء بنت عميس رضي الله عنها وصفت أهل الحبشة بالبعداء والبغضاء، وبينت لعمر رضي الله عنه أنهم كانوا يتعرضون للإيذاء والخوف، فهم هاجروا من مكة حيث الاستضعاف الكلي إلى الحبشة حيث الاستضعاف الجزئي.
وقد يبدو ما ذكرته أسماء رضي الله عنها معارضًا لما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: (لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل اللَّه لكم فرجا)(2)، وكذلك لحديث أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين قالت:(لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي أمنا على ديننا وعبدنا اللَّه لا نؤذى ولا نسمع شيئا نكرهه)، ثم ذكرت
(1) أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، رقم: 3990، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل جعفر بن أبي طالب وأسماء بنت عميس، رقم:2503.
(2)
قال ابن إسحاق: فلما رأى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية، بمكانه من اللَّه ومن عمه أبي طالب، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء، قال لهم:(لو خرجتم إلى أرض. . .)، السيرة النبوية لابن هشام، عبد الملك بن هشام الحميري المعافري، تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد، بيروت: دار الجيل، ط 1، 1411 هـ، ص 322 - 333.
خبر وفد قريش والحوار الذي دار معه في مجلس النجاشي ثم قالت: (فتناخرت (1) بطارقته حوله حين قال ما قال -جعفر- فقال: وإن نخرتم، واللَّه اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي والسيوم الآمنون، من سبكم غرم، ثم من سبكم غرم، فما أحب أن لي دبرا ذهبا وأني آذيت رجلا منكم والدبر بلسان الحبشة الجبل، ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لنا بها، فواللَّه ما أخذ اللَّه مني الرشوة حين رد علي ملكي فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس في فأطيعهم فيه، قالت: فخرجا من عنده مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا به (2)، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار، قالت: فواللَّه إنا على ذلك إذ نزل به يعني من ينازعه في ملكه، قالت: فواللَّه ما علمنا حزنا قط كان أشد من حزن حزناه عند ذلك تخوفا أن يظهر ذلك على النجاشي، فيأتي رجل لا يعرف من حقنا ما كان النجاشي يعرف منه، قالت: وسار النجاشي وبينهما عرض النيل، قالت: فقال أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من رجل يخرج حتى يحضر وقعة القوم ثم يأتينا بالخبر، قالت: فقال الزبير بن العوام أنا، قالت: وكان من أحدث القوم سنا، قالت: فنفخوا له قربة فجعلها في صدره ثم سبح عليها حتى خرج إلى ناحية النيل التي بها ملتقى القوم ثم انطلق حتى حضرهم، قالت: ودعونا اللَّه للنجاشي بالظهور على عدوه والتمكين له في بلاده واستوسق عليه أمر الحبشة (3) فكنا عنده في خير منزل حتى قدمنا على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو بمكة) (4).
(1) قال ابن منظور: "النَّخِير: صوت الأَنف، يقال: نَخَرَ الإِنسانُ والحمار والفرس بأَنفه، يَنْخِرُ ويَنْخُرُ نَخِيرًا: مدّ الصوت والنفسَ في خَياشِيمه"، لسان العرب، مادة: نخر.
(2)
أي: عبد اللَّه بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي وعمرو بن العاص بن وائل السهمي، اللذان بعثتهما قريش.
(3)
أي: "اجْتَمَعُوا على طاعَتِه واسْتَقَرّ المُلْكُ فيه"، النهاية في غريب الأثر، 5/ 401.
(4)
أخرجه أحمد، 1/ 201 - 202، رقم:1740.
وقيل إن الحبشة اجتمعت وقالت للنجاشي: (إنك فارقت ديننا، وخرجوا عليه، فأرسل إلى جعفر وأصحابه فهيأ لهم سفنا، وقال: اركبوا فيها، وكونوا كما أنتم، فإذا هزمت فامضوا حتى تلحقوا بحيث شئتم، وإن ظفرت فاثبتوا، ثم عمد إلى كتاب فكتب فيه هو يشهد أن لا إله إلا اللَّه وأن محمد عبده ورسوله، ويشهد أن عيسى ابن مريم عبده ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم ثم جعله في قبائه عند المنكب الأيمن، وخرج إلى الحبشة وصفوا له، فقال: يا معشر الحبشة ألست أحق الناس بكم؟ قالوا: بلى، قال: فكيف رأيتم سيرتي فيكم؟ قالوا: خير سيرة، قال: فما لكم؟ قالوا: فارقت ديننا، وزعمت أن عيسى عبد، قال: فما تقولون أنتم في عيسى، قالوا: نقول هو ابن اللَّه، فقال النجاشي ووضع يده على صدره على قبائه هو يشهد أن عيسى بن مريم لم يزد على هذا شيئا، وإنما يعني ما كتب فرضوا وانصرفوا)(1). ويبدو أن تلك الحرب كانت قصيرة جدًا (2).
ولقد ذكرت أم سلمة رضي الله عنها أن النجاشي رضي الله عنه كان يعرف حقهم، وأنه لما جاء وفد قريش وقالوا ما قالوا، وأجابهم جعفر رضي الله عنه، فقبِل كلام جعفر إلا أن البطارقة لم يرضوا واحتجوا ونخروا حوله، كما ذكرت ما جرى من محاولة للانقلاب عليه ومنازعته الملك، وهذه الأحداث كلها تؤدي إلى الخوف والأذى، وهو بلا شك دون الخوف والأذى الذي كانوا يلاقونه من قريش في مكة، بل إن النجاشي صرح بعدم قدرته على الهجرة للنبي
(1) انظر: الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول اللَّه، سليمان بن موسى الكلاعي الأندلسي، تحقيق: د. محمد كمال الدين، بيروت: دار عالم الكتب، ط 1، 1417 هـ، 1/ 249، والسيرة النبوية لابن هشام، 2/ 185، والبداية والنهاية، إسماعيل بن عمر بن كثير، بيروت: مكتبة المعارف، ط 1، د. ت، 3/ 77، وتاريخ الإسلام، محمد بن أحمد الذهبي، تحقيق: د. عمر تدمرى، لبنان: دار الكتاب العربي، ط 1، 1407 هـ، 2/ 135 - 136، وسير أعلام النبلاء، 1/ 440.
(2)
انظر: الهجرة إلى الحبشة - دراسة مقارنة للروايات، د. محمد الجميل، الرياض: جامعة الملك سعود، ط 1، 1419 هـ، ص 51.
-صلى الله عليه وسلم لعدم استقرار ملكه، حتى إن النجاشي قال للصحابة رضوان اللَّه عليهم:(أشهد أنه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأنه الذي بشر به عيسى بن مريم، ولولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أحمل نعليه)(1).
وخبر محاولة الحبشة الخروج على النجاشي لإسلامه يكشف عن إسلام بعض أهل الحبشة وهم الذين صفوا معه في الميدان، كما يكشف عن الجهد الدعوي الذي كان يقوم به الصحابة رضوان اللَّه عليهم، إذ لا يعقل أن يمكث عدد من صحابة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مدة تزيد على أربعة عشر عامًا دون أن يتركوا أثرًا أو يكون لهم صحب، وإن لم تتحدث كتب السير والتاريخ عن هذا الأمر (2)، وإن كان ابن إسحاق قد ذكر أن النجاشي بعث ابنه في ستين من الحبشة في سفينة فإذا كانوا في وسط من البحر غرقت بهم سفينتهم فهلكوا (3).
إذًا فأسماء بنت عميس رضي الله عنها قارنت حال المسلمين بالحبشة بحالهم في المدينة، وأما أم سلمة رضي الله عنها فقد قارنت حال المسلمين بمكة قبل الهجرة بحالهم في الحبشة، وبهذا يمكن الجمع بين الحديثين، واللَّه أعلم.
ويتضح مما تقدم أنه في حالة الاستضعاف الجزئي لا يطلب من المستضعفين ترك كل شعائر الإسلام، إنما قد يطلب منهم التنازل عن بعض مبادئه، أو لا يمكنهم تطبيق بعض تشريعاته.
(1) أخرجه أبو داود، كتاب الجنائز، باب في الصلاة على المسلم يموت في بلاد الشرك، رقم: 3205، 3/ 212، قال الألباني في ضعيف سنن أبي داود، 7/ 205: ضعيف الإسناد، وأخرجه الحاكم في المستدرك، رقم: 3208، 2/ 338، وأحمد، رقم: 4400، 1/ 461.
(2)
مع الهجرة إلى الحبشة، محمود شاكر، بيروت: المكتب الاصلامي، ط 1، 1407 هـ، ص 81.
(3)
انظر: تاريخ الأمم والملوك، 2/ 132، والمنتظم، عبد الرحمن بن علي بن الجوزي، بيروت: دار صادر، ط 1، 1358 هـ، 3/ 288.
النوع الثانى: الاستضعاف الكلي:
وهو الذي لا يمكن معه إظهار الإسلام وشعائره وتطبيقها، إما كلها أو معظمها.
ومن أمثلة الاستضعاف الكلي حال النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان اللَّه عليهم في مكة لاسيما في المرحلة السرية من الدعوة، ويصف تلك المرحلة عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه بقوله:(واللَّه ما استطعنا أن نصلي عند الكعبة ظاهرين حتى أسلم عمر)(1)، وعنه رضي الله عنه قال:(إن إسلام عمر كان فتحا، وإن هجرته كانت نصرا، وإن إمارته كانت رحمة، واللَّه ما استطعنا أن نصلي عند الكعبة ظاهرين حتى أسلم عمر)(2)، وفي رواية:(مَا زِلْنَا أَعِزَّةً مُنْذُ أَسْلَمَ عُمَرُ)(3)"أي: لما كان فيه من الجلد والقوة في أمر اللَّه"(4)، فقد كان صلى الله عليه وسلم يصلي مختفيا هو ومن أسلم معه في دار الأرقم (5)، حتى أسلم عمر رضي الله عنه فأصبح المسلمين يصلون جهارًا
(1) المستدرك على الصحيحين، باب من مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، رقم: 4487، 3/ 90، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وعلق الذهبي في التلخيص: صحيح.
(2)
المعجم الكبير، سليمان بن أحمد أبو القاسم الطبراني، تحقيق: حمدي بن عبد المجيد، الموصل: مكتبة العلوم والحكم، ط 2، 1404 هـ، 9/ 162.
(3)
أخرجه البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه، رقم:3481.
(4)
فتح الباري، 7/ 48.
(5)
الأرقم بن أبي الأرقم اسمه عبد مناف ابن أسد بن عبد اللَّه بن عمر المخزومي يكنى أبا عبد اللَّه، من السابقين الأولين، روى الحاكم في المستدرك أنه أسلم سابع سبعة، استخفى النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة في داره عند الصفا، فلما تكاملوا أربعين رجلا خرجوا وكان آخرهم إسلاما عمر، شهد بدرًا وأحدًا والمشاهد كلّها، كان من عقلاء قريش، أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر سيفًا، واستعمله على الصدقة، وأقطعه دارًا بالمدينة، توفي بالمدينة في خلافة معاوية رضي الله عنهما سنة خمس وخمسن وعمره خمس وثمانون سنة" انظر: الإصابة في تمييز الصحابة، 1/ 43 - 44، والطبقات الكبرى، 3/ 242 - 243، وسير أعلام النبلاء، 2/ 479.
عند الكعبة، وكان إسلام عمر بعد خروج من خرج من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة (1).
ومعلوم أن إسلام عمر رضي الله عنه كان بعد المُبْعَث بست أو بسبع سنين (2)، ومع ذلك فقد بقيت حالة الاستضعاف بشكله الكلي قائمة في مكة حتى الفتح، قال عز وجل:{هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (3)، أي: لولا وجود المسلمين بين أظهر الكفار ممن يكتم إيمانه ويخفيه منهم خشية على أنفسهم من قومهم، لكنا سَلَّطناكم عليهم فقتلتموهم، ولكن اللَّه أخر عقوبة الكفار؛ ليخلص المؤمنين من بين أظهرهم؛ ولعله يدخل كثير منهم في الإسلام، ولكي لا يصيبكم حرج أو إثم، ولو تميز المسلمين من الكفار لسلطناكم عليهم (4).
(1) السيرة النبوية لابن كثير، 2/ 32.
(2)
انظر: فتح الباري، 7/ 178، ولم يسلم عمر رضي الله عنه من الأذى بعد أن رد جوار خاله، وقد روى القصة الإمام أحمد في فضائل الصحابة، 1/ 288، ومسند البزار، أحمد بن عمرو البزار، تحقيق: محفوظ الرحمن زين اللَّه، بيروت: مؤسسة علوم القرآن، ط 1، 1409 هـ، 1/ 403:". . . فكنت لا أشاءُ أن أَرَى أحدًا من المسلمين يضرب إلا رأيته، فقلت: ما هذا بشيء، إن الناس يضربون وأنا لا أضرب! ولا يقال لي شيء! فلما جلس الناس في الحجر جئت إلى خالي فقلت: اسمع جوارك عليك رد، قال: لا تفعل، فال: فأبيت فما زلت أضرب وأضرب حتى أظهر اللَّه الإسلام"، قال في مجمع الزوائد، 9/ 64:"فيه أسامة بن زيد بن أسلم وهو ضعيف".
(3)
سورة الفتح، الآية [25].
(4)
انظر: تفسير القرآن العظيم، 7/ 344.
وإن وجود بعض الأوقات والمواقف التي كان فيها مظهر من مظاهر القوة لم يخرج المرحلة المكية عن كونها مرحلة استضعاف كلي.
ويمكن أن نمثل لهذا النوع بحال بني إسرائيل مع فرعون، قال تعالى:{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} (1)، فقد جعل فرعون بني إسرائيل فرقًا وأصنافًا في الخدمة والتسخير، واستعبدهم وجعلهم في الأعمال القذرة والصعبة، وجعل لا يولد لبني إسرائيل مولود إلا ذبح فلا يكبر صغير، واستبقى النساء للاستذلال والخدمة (2)، ولقد امتن اللَّه عز وجل على بني إسرائيل بالنجاة من فرعون، وذكرهم بحالهم قبل النجاة مع موسى عليه السلام، فقال تعالى:{وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} (3).
ولقد مر المسلمون بمراحل متعددة وفي أماكن مختلفة، كانت أحوالهم فيها استضعافًا جزئيًا وامتد ذلك الاستضعاف حتى أصبح كليًا، ومن ذلك أحوال المسلمين بالأندلس فمنذ نهاية القرن الخامس الهجري نشأت الممالك النصرانية، وتوسعت مع سقوط بعض المدن الإسلامية، وسيادة روح حرب "الاسترداد" لدى الصليبيين، ومع مرور الأيام زاد عدد الرعايا المسلمين تحت حكم النصارى، وأطلق عليهم اسم "المدجنون" (4) أي: الذين
(1) سورة القصص، الآية [4].
(2)
انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 19/ 517، والدر المنثور في التفسير بالمأثور، عبد الرحمن ابن الكمال جلال الدين السيوطي، بيروت: دار الفكر، ط 1، 1993 م، 6/ 390، ومعالم التنزيل، 6/ 185. وزاد المسير، 5/ 40.
(3)
سورة البقرة، الآية [49].
(4)
الدجن والدجنة بالضم الظلمة، وليلة مدجان مظلمة، والمداجنة كالمداهنة، انظر: لسان العرب، وتاج العروس، ومختار الصحاح، مادة: دجن.
آثروا التدجن والبقاء تحت سلطان النصارى إما لعدم قدرتهم على الهجرة، أو لاختيارهم البقاء لوجود نوع من التسامح النسبي والسماح لهم بممارسة الشعائر الإسلامية؛ لكونهم صفوة المجتمع في العلوم والفنون والمهن والتجارة والزراعة مما اضطر النصارى لتشجيعهم على البقاء للاستفادة فنهم، لم يدم هذا الأمر طويلًا فسرعان ما اشتعلت النزعة الصليبية ضد المسلمين (1)، لتأتي المرحلة الثانية في التعامل مع المسلمين، وذلك عندما قضي على الحكم الإسلامي في آخر معاقله بغرناطة سنة 897 هـ / 1492 م عندما استسلم أبو عبد اللَّه (2) ووافق على تسليم البلاد للنصارى، ولو أن المعاهدة التي وقعها معهم طبقت لأمكننا أن نصف حال المسلمين بالأندلس بأنه استضعاف جزئي -بناء على شروط المعاهدة التي تضمنت حفظ الكثير من حقوقهم وضمان بقاء شعائرهم ومساجدهم
(1) انظر: موقف الدولة العثمانية تجاه مأساة المسلمين في الأندلس، د. عبد اللطيف محمد الحميد، ط 1، د. ن، 1414 هـ، ص 23 - 24.
(2)
محمد (أبو عبد اللَّه) بن علي (أبى الحسن) من بني الأحمر، الأنصاري الخزرجي آخر ملوك الأندلس، ويسميه الأسبان " Boabdil" بو أبدل، ولد بغرناطة، وحضر بعض الوقائع ضد الأسبان فأسروه سنة 888 هـ، وعمي أبوه فضعف عن إدارة الملك، فخلع نفسه وقدم أخا له اسمه محمد يعرف بالزغل سنة 890 هـ فلما وجد الأسبان بالزغل قوة أفرجوا عن ابن أخيه (أبي عبد اللَّه) وتحالفوا معه فدخل غرناطة وبايعه أهلها وقاتل عمه مستعينًا بالأسبان، وانتهى أمر الزغل بعد حروبه مع الأسبان بأن صالحهم وخدمهم، ثم ركب البحر واستقر في تلمسان، ثم طلب الأسبان من أبي عبد اللَّه أن يقيموا لهم قوة في الحمراء (بغرناطة) فرفض، فنقضوا الصلح معه، وقاتلوه سنين، وحاصروا غرناطة فجاع أهلها وقد أنهكتهم الغارات، فاجتمع زعماؤها عنده وأشاروا بالصلح، فعقده من 67 مادة، ولم يلبث الأسبان أن نقضوا الصلح وأمروه بالرحيل فركب البحر واستوطن بمدينة فاس وتوفي سنة 940 هـ/ 1533 م، قال المقري: و"عقب هذا السلطان بفاس إلى الآن، وعهدي بهم يأخذون من أوقاف الفقراء والمساكين ويعدون من جملة الشحاذين"، انظر: الأعلام، 6/ 290.
ومحاكمهم وغيرها من الأمور (1) - إلا أن ما جرى من غدر وبطش وإجرام لاحقًا جعلهم يعيشون في حالة الاستضعاف الكلي، وسرعان ما صدر الأمر بإحراق مليون وخمسمائة ألف كتاب ديني، وتم أخذ الأطفال الذين تتراوح أعمارهم من 5 - 12 سنة لتربيتهم بالمعاهد والنصرانية والكنائس، ليكونوا أداة تجسس على أهلهم، وأخذ بعضهم للعمل والخدمة في الكنائس، حتى وصل الأمر بأن فرض على المسلمين أن يتنصروا بالتعذيب ومحاكم التفتيش أو الإغراء، وخلال المدة من 1499 - 1501 م تم تنصير أكثر من خمسين ألف مسلم بغرناطة، ومع هذا ثبت القوم وتمسكوا بدينهم إن لم يتمكنوا من ذلك في العلن ففي السر، وعرفوا في المجتمع المسيحي باسم "المورسِكيُّين"، و"المورسكي"(KI Morisco) تصغير لكلمة "المورو"(El Moro) يعني المسلم الصغير الحقير، وساهمت المرأة المسلمة بدور كبير في نقل تعاليم الإسلام للأطفال من السن الثالثة عشر خشية زلة اللسان، ومر هذا الشعب بمراحل مختلفة حتى تقرر القضاء عليه وإخراجه إخراجًا كاملًا من الأندلس في المدة من 1609 - 1614 م بعد انتهاء الحكم الإسلامي بنحو مائة وعشرين سنة (2).
(1) للاطلاع على بنود المعاهدة، انظر: التنصير القسري لمسلمي الأندلس في عهد الملكين الكاثوليكيين، د. محمد حتامله، عمان: الجامعة الأردنية، ط 1، 1405 هـ، ص 30 - 38، وموقف الدولة العثمانية تجاه مأساة المسلمين في الأندلس، ص 23 - 24.
(2)
انظر: المسلمون المنصرون (المورسِكيُّون الأندلسيون)، د. عبد اللَّه جمال الدين، القاهرة: دار الصحوة، ط 1، 1991 م، ص 3 - 11، وجهود العثمانيين لإنقاذ الأندلس واسترداده في مطلع العمر الحديث، د. نبيل رضوان، مكة المكرمة: مكتبة الطالب الجامعي، ط 1، 1408 هـ، ص 65 - 85، والتنصير القسري لمسلمي الأندلس، ص 60 - 112. ويمكن القول بأن هجرة المسلمين من الأندلس مرت بمراحل، المرحلة الأولى: الهجرات الاختيارية: والتي كانت سنة 633 هـ مع سقوط قرطبة، وتلتها سنة 646 هـ مع سقوط أشبيلية، ثم كانت سنة 898 هـ مع سقوط غرناطة، بعد ذلك قامت حركة تمرد على الظلم والغدر الصليبي في حي "البيازين" بغرناطة سنة 905 هـ، والذي كان يضم أكثر من عشرة آلاف مسلم قضي عليها بالقتل والبطش وفر من استطاع إلى الجبال بمنطقة البشرات جنوب غرناطة تمكنوا في تلك المدة من الاستقلال الجزئي حتى سنة 977 هـ، حيث قضي تمامًا على الوجود العلني للمسلمين وتم نفيهم نفيًا كاملًا من الأندلس، وتمت خلال تلك المدة ما يمكننا وصفه بعمليات مقاومة ضد الصليبيين، انظر: التنصير القسري لمسلمي الأندلس، ص 41 - 42، وص 75 - 86، والمسلمون المنصرون، 81 - 118.
كما يمكننا أن نمثل لهذا النوع من الاستضعاف بواقع المسلمين في روسيا "الاتحاد السوفيتي" سابقًا، فقد تبنت الحكومة الروسية سياسة تسامح نسبي مع المؤسسات الإسلامية وتجنبت مواجهتهم في البداية، حتى جاء عام 1924 م فألغيت المحاكم الشرعية، وفي عام 1928 م أغلقت جميع المدارس الإسلامية، وفي عام 1930 م صودرت آخر ممتلكات الأوقاف، وامتد الهجوم المباشر على المسلمين، ومن الأمثلة على ذلك ما جرى سنة 1921 - 1922 م حيث مات مليون مسلم قازاخي بسبب المجاعة بعد طردهم من مزارعهم ومراعيهم ومصادرة أموالهم، وفي المدة الممتدة من سنة 1926 إلى 1939 م مات مليون آخر بمجاعة أخرى، وهذا ما يعادل ثلث الشعب.
وعندما بدأت الحرب العالمية الثانية، اضطرت الحكومة أن تظهر التسامح مع المسلمين أثناء الحرب للاستفادة منهم في القتال، وكان لوسائل الإعلام دور كبير في التحريض على المسلمين ويكفي أن نعلم أنه منذ عام 1954 إلى 1964 م تم نشر 920 مؤلفًا ضد الإسلام بلغات مختلفة (1)، وهكذا أوضحت النماذج السابقة أن الاستضعاف الجزئي امتد حتى وصل إلى الاستضعاف الكلي.
* * *
(1) انظر: المسلمون المنسيون في الاتحاد السوفيتي، ألكسندر بينيغس، وثانتال لوميرييه كيلكجاي، ترجمة: عبد القادر ضللي، بيروت: دار الفكر المعاصر، ط 1، 1409 هـ، ص 155 - 160، المسلمون في الاتحاد السوفيتي عبر التاريخ، محمد علي البار، جدة: دار الشروق، ط 1، 1983 م، 1/ 323.