الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولذا فإن الفقهاء قالوا بوجوب إظهار الشعائر والمبادرة بذلك على الفور واعتبره الأصل، فقالوا:"الأصل المبادرة بإظهار الشعائر في البلد بمجرد فتحها، ولا موجب للتأخير بعد زوال المانع"(1).
ويترتب على كتمان الإيمان وإخفاء شعائره المشابهة في الهدى الظاهر للكفار وهو ذريعة إلى الموافقة في القصد والعمل، كما أن المشاركة في الهدى الظاهر تورث تناسبًا وتشابهًا يقود إلى الموافقة في الأخلاق والأعمال وهذا أمر محسوس فإن اللابس لثياب الجند مثلًا يجد في نفسه نوع تخلق بأخلاقهم، والمخالفة في الهدي الظاهر توجب المفارقة والمخالفة في الباطن (2).
* * *
المطلب الثاني كتمان الإسلام وإخفاء شعائره
إن الأصل في الفرد المسلم أن يظهر دينه وشعائره، خاصة إن كان في بلاد الإسلام، أما في حال تحقق الاستضعاف واتصاله بإظهار الشعائر، وعدم القدرة على إظهارها، فإنه يجوز كتمان الإيمان وإخفاء الشعائر، ولهذا فإن الفقهاء قالوا:"إذا أخذ الكفار بلد المسلمين واستولوا عليه وصار تحت حكمهم ولم يمنعوا المسلمين من إقامة الشعائر الإسلامية وجبت عليهم الجمعة"(3)، فإن منعوهم من ذلك لم تجب عليهم.
وقد دل على جواز كتمان الإيمان وإخفاء شعائره في حال الاستضعاف ما يلي:
1 -
عموم الأدلة الواردة في رفع الحرج، ومنها قوله تعالى:{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (4)،
(1) حاشية الدسوقي، 1/ 504.
(2)
انظر: اقتضاء الصراط، 1/ 11، وإعلام الموقعين، 3/ 140.
(3)
منح الجليل، 1/ 426.
(4)
سورة المائدة، الآية [6].
وقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا. .} (1)، وقال عز وجل:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (2)، وقال سبحانه:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ. .} (3)، وقال سبحانه وتعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (4)، وقوله صلى الله عليه وسلم:(. . . فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)(5).
2 -
قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} (6).
ووجه الدلالة هو: أن اللَّه عز وجل أذن للمكره بأن ينطق بالكفر مع اطمئنان القلب بالإيمان، فترك الشعائر أولى بالجواز في حال الإكراه؛ لأن "جنس ترك المأمور به أعظم من جنس فعل المنهي عته، وأن مثوبة بني آدم على أداء الواجبات أعظم من مثوبتهم على ترك المحرمات، وأن عقوبتهم على ترك الواجبات أعظم من عقوبتهم على فعل المحرمات"(7).
3 -
أن "من كان بِمَكَّةَ من المُسْتَضْعَفِينَ لم يَكُونُوا يُصَلُّونَ إِلَّا سِرًّا"(8)، ولم يكن بإمكانهم إظهار شيء من الشعائر وإلا عرف المشركون حالهم فوقعوا في العذاب أو
(1) سورة البقرة، الآية [286].
(2)
سورة الحج، الآية [78].
(3)
سورة البقرة، الآية [185].
(4)
سورة التغابن، الآية [16].
(5)
أخرجه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، رقم: 6858، واللفظ له، ومسلم، كتاب الفضائل، باب توقيره صلى الله عليه وسلم وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه، رقم:1337.
(6)
سورة النحل، الآية 106.
(7)
الفتاوى، 20/ 85.
(8)
فتح الباري، 2/ 50.
الضرر، بل إن هذا ما كان عليه حال النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر، فقد "ذكر بعض أهل العلم أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكة وخرج معه علي ابن أبي طالب مستخفيًا من أبيه أبي طالب ومن جميع أعمامه وسائر قومه، فيصليان الصلوات فيها، فإذا أمسيا رجعا، فمكثا كذلك ما شاء اللَّه أن يمكثا، ثم إن أبا طالب عثر عليهما يوما وهما يصليان، فقال لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: يا ابن أخي، ما هذا الدين الذي أراك تدين به؟ قال: (أي عم هذا دين اللَّه ودين ملائكته ودين رسله ودين أبينا إبراهيم)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم: "بعثني اللَّه به رسولًا إلى العباد، وأنت أي عم أحق من بَذلتُ له النصيحة ودعونه إلى الهدى، وأحق من أجابني إليه، وأعانني عليه)، أو كما قال، فقال أَبو طالب: أي ابن أخي إني لا أستطيع أن أفارق دين آبائي وما كانوا عليه، ولكن واللَّه لا يخلص إليك بشيء تكرهه ما بقيت" (1).
4 -
أن النجاشي رحمه الله كتم إيانه وأخفاه عن قومه في أول الأمر -كما سبق بيانه- وقَبِل منه الصحابة رضي الله عنهم ذلك الأمر وأخفوه، ولم ينقل أنهم أمروه بإظهار إسلامه أو أن يقيم الشعائر.
5 -
مشروعية العمل بالتَّقِيَّةُ، "وقد يجوز إخفاء الإيمان وترك إظهاره تقية بعد أن يكون مطمئن القلب بالإيمان"(2)، وسيأتي بيان ذلك.
6 -
أن كتمان الإيمان وإخفاء شعائره حال الاستضعاف يكون من باب الأفعال المشتملة على المصالح والمفاسد مع رجحان مصالحها على مفاسدها، قال العز بن عبد السلام رحمه الله: "ترك الصلاة، وصوم رمضان، وتأخير الزكاة، وحقوق الناس الواجبات من غير عذر شرعي
(1) السيرة النبوية لابن هشام، 2/ 86.
(2)
أحكام القرآن للجصاص، 4/ 156.