الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فهذا باق لم ينسخ، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما:(إلا النصر والنصيحة والرفادة ويوصى له)(1)، ويدل على بقاء الحلف في الإسلام قول أنس رضي الله عنه لما قيل له إن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(لا حلف في الإسلام)، فرد قائلًا:(قد حالف النبي صلى الله عليه وسلم بين قريش والأنصار في داري)(2)، وفي رواية:(بين المهاجرين والأنصار في دارنا مرتين أو ثلاثا).
وبهذا يتضح لنا أن أصل الحِلْف المُعاقَدةُ والمعاهدة على التَّعاضُد والتَّساعُد فما كان منه في الجاهلية على القتال والغارات فذلك أبطله الشرع، وما كان منه في الجاهلية على نصر المظلوم وصلة الأرحام فهو الذي لم يزده الإسلام إلا شدة كحلْف المُطَيَّبين وبذلك يجتمع الحديثان (3).
* * *
المطلب الرابع التقاء مصالح المستضعفين مع الكفار
إن الإسلام عندما منع النداء بالروابط العصبية والأواصر النسبية، لم ينكر انتفاع المسلم -لاسيما المستضعف- من تلك الروابط النسبية والتي لا تمت إلى الإسلام بصلة، كما نفع اللَّه نبيه صلى الله عليه وسلم بعمه أبي طالب، فكان من آثار تلك العصبية النسبية حماية النبي صلى الله عليه وسلم، كما نفع اللَّه بتلك العصبية بعض الصحابة رضوان اللَّه عليهم، وهو ما جرى مع
(1) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 16/ 82، وفتح الباري، 4/ 473، والديباج على مسلم، 5/ 478.
(2)
أخرجه البخاري، رقم: 2172، ومسلم، 2529 وفي رواية عند أحمد في المسند، 3/ 281، رقم: 14018: "سمعت أنسا وقال له قائل: بلغك أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: (لا حلف في الإسلام)، قال: فغضب، ثم قال: بلى، بلى قد حالف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بين قريش والأنصار في داره".
(3)
انظر: كشف المشكل، عبد الرحمن ابن الجوزي، تحقيق: د. علي البواب، الرياض: دار الوطن، ط 1، 1418 هـ، 4/ 48، والنهاية في غريب الأثر، 1/ 1031.
شعيب عليه السلام، كما قال تعالى عن قومه:{قَالُوا يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} (1)، وكذلك كان شأن صالح عليه السلام:{قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} (2)، فقد دلت الآية على أنهم يخافون من أولياء صالح ولم يفكروا أن يفعلوا به سوءً إلا ليلًا وخفية، أما لوط عليه السلام فلم تكن له عصبة في قومه حتى قال:{قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} (3)، فيلزم الناظر في هذه المسألة أن يفرق بين الأمرين ويعلم أن النداء بروابط القوميات لا يجوز على كل حال، ولاسيما إذا طغى على رابطة الإسلام، كما أن منع النداء بروابط القوميات لا ينافي أنه ربما انتفع المسلم بنصرة قريبه الكافر بسبب العواطف النسبية والأواصر العصبية التي لا تمت إلى الإسلام بصلة، ولكن تلك القرابات النسبية لا يجوز أن تجعل هي الرابطة بين المجتمع؛ لأنها تشمل المسلم والكافر ومعلوم أن المسلم عدو الكافر (4).
وعليه فإن المستضعفين ينبغي لهم الاستفادة من التحالفات أو العادات أو القوانين والأنظمة المعمول بها في البلدان التي يعيشون فيها، ولا تخلو تلك المجتمعات من وجود أشخاص أو جماعات أو منظمات حقوقية تعنى بحقوق الإنسان وتطالب بها، وتنصف المظلومين، وتدافع عن الحرية الدينية، وقد قال صلى الله عليه وسلم:(. . . وإن اللَّه ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر)(5).
(1) سورة هود، الآية [91].
(2)
سورة النمل، الآية [49].
(3)
سورة هود، الآية [80].
(4)
انظر: أضواء البيان، 3/ 45 - 46.
(5)
أخرجه البخاري، كتاب، باب إن اللَّه يؤيد الدين بالرجل الفاجر، رقم: 2897، ومسلم، كتاب، باب، رقم:111.
وإن لم يكن بيد المستضعفين توقيع اتفاقيات أو تحالفات لعدم الاعتراف بهم أو لوقعهم تحت القهر والظلم والعدوان، فإن إخوانهم المسلمين ينبغي عليهم نصرتهم مباشرة، فإن لم يتسنى ذلك فمن خلال تضمين المعاهدات شروط الإفراج عن الأسرى أو منح المستضعفين بعض الحقوق، مما يخفف من الظلم الواقع عليهم، ويمنحهم الحق في ممارسة شعائرهم وعبادتهم للَّه عز وجل، بل ويتيح لهم الفرصة لنشر الإسلام والدعوة إليه (1).
وفي واقعنا المعاصر نجد أن تضارب مصالح الكفار فيما بينهم، أدى إلى وقوفهم مع المسلمين أحيانًا أو المطالبة بحقوقهم، لضرب مصلحة الفريق الآخر، وهذه الحالة لا تعني أن يطمئن المسلمون إلى هذه المواقف ويركنوا إليها، بل تعني الاستفادة منها مع الحذر، إذ سرعان ما ينقلب الموقف وتتبدل السياسة.
وكذلك الحال عندما يسود الفكر الديمقراطي في بلد ما، ويتاح المجال للمسلمين للدعوة إلى اللَّه، فلا مانع من الاستفادة من ذلك كله مع اليقظة والحذر من تقلب الأحوال والسياسات، وعدم تقديم التنازلات فيما يتصل بالثوابت والعقائد (2).
* * *
(1) ومن الأمثلة على ذلك ما أسهمت به مصر في عهد المماليك البحرية من خلال تضمين معاهداتهم مع ملوك قطلونية وأرغون نصًا بضمان حرية المسلمين في القيام بشعائرهم الدينية وعدم ظلمهم حيث كانوا وأين كانوا، كما تم الإفراج عن الأسرى بموجب أول معاهدة وقعت مع الفونسو الثالث (689 هـ - 1290 م)، وأسهم بنفس الدور ملوك أفريقية من الأسرة الحفصية، وكذلك سلاطين بني الأحمر لإنقاذ المسلمين "المدجنين" من مملكة قطلونية وأرغون وتأمين وصولهم إلى مملكة غرناطة. انظر: جُزر الأندلس المنسية (التاريخ الإسلامي لجزر البِليَار)، د. عصام سيسالم، بيروت: دار العلم للملايين، ط 1، 1984 م، ص 460.
(2)
انظر: المنهج الحركي للسيرة النبوية، منير الغضبان، الأردن: مكتبة المنار، ط 1، د. ت، ص 112.