الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثانى التفريق بين استضعاف العَالِم واستضعاف غيره
إن للعلماء منزلتهم ومكانتهم العظيمة والعالية في الإسلام فهم ورثة الأنبياء، والآيات والأحاديث الواردة في فضل العلم وأهله لا تكاد تحصى، ومن أجل هذه المنزلة والمكانة، ولكونهم محل اقتداء للناس، فإن أقوالهم وأفعالهم لها آثارها ولا يمكن أن تكون كأقوال وأفعال غيرهم، وإن تساهل بعض المنتسبين للعلم، وتهربهم من المسؤولية، واحتجاجهم بالضرورة أو الإكراه أو المصلحة وغيرها من الأعذار، أدى إلى المزيد من الضعف في الأمة (1).
قال ابن تيمية رحمه الله: "فالمرصدون للعلم عليهم للأمة حفظ علم الدين وتبليغه، فإذا لم يبلغوهم علم الدين أو ضيعوا حفظه كان ذلك من أعظم الظلم للمسلمين. . . وكذلك كذبهم في العلم من أعظم الظلم، وكذلك إظهارهم للمعاصي والبدع التي تمنع الثقة بأقوالهم وتصرف القلوب عن إتباعهم وتقتضى متابعة الناس لهم فيها هي من أعظم الظلم، ويستحقون من الذم والعقوبة عليها ما لا يستحقه من أظهر الكذب والمعاصي والبدع من غيرهم؛ لأن أظهار غير العالم وإن كان فيه نوع ضرر فليس هو مثل العالم في الضرر الذي يمنع ظهور الحق ويوجب ظهور الباطل. . . فترك أهل العلم لتبليغ الدين كترك أهل القتال للجهاد، وترك أهل القتال للقتال الواجب عليهم كترك أهل العلم للتبليغ الواجب عليهم، كلاهما ذنب عظيم. . . وما يظهرونه من البدع والمعاصي التي تمنع
(1) انظر: الإسلام بين العلماء والحكام، عبد العزيز البدري، المكتبة العلمية: المدينة المنورة، ط 1، د. ت، ص 64 - 65، ومناهج العلماء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فاروق عبد المجيد السامرائي، مكتبة دار الوفاء: جدة، ط 1، د. ت، ص 60 - 61.
قبول قولهم وتدعو النفوس إلى موافقتهم وتمنعهم وغيرهم من إظهار الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر أشد ضررًا للأمة وضررًا عليهم من إظهار غيرهم لذلك" (1).
ولذا وجب التنبيه على ذلك الأمر، ولا يعني هذا أنهم معصومون من الخطأ والزلل أو أنهم لا يباح لهم الترخص عند الاضطرار، أو أنهم لا يقع عليهم الاستضعاف، إنما المراد التفريق بين حالة العالم المستضعف وبين غيره من عوام الناس، خاصة عندما يتعلق استضعافه بالأمور التي تتعدى إلى غيره، وذلك لتأثيره الكبير، ويقاس على العالم في هذا الأمر تحديدًا كل من كان قدوةً أو متبوعًا كالأمير والقائد ونحوه، "إذ بهم تزل الأقدام، فالعالم يُقتدى به، والإمام تعتقد العامة وجوب طاعته، حتى في غير طاعة، والمتعبد يعظم الاعتقاد فيه"(2)، ولهذا فقد رجح الكثير من أهل العلم أن المراد بأولي الأمر في قوله تعالى:{وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (3)، الأمراء والعلماء (4)، وإن كان الأمراء إنما يُطاعون إذا أمروا
(1) الفتاوى، 28/ 187 - 188.
(2)
فيض القدير، 1/ 52.
(3)
سورة النساء، الآية [59].
(4)
انظر: تفسير القرآن العظيم، 2/ 345، وجامع البيان عن تأويل آي القرآن، 10/ 341، وإعلام الموقعين، 2/ 240، وقال ابن كثير في تفسيره، 4/ 138:"فإن الناس عالة على العلماء، وعلى العُبَّاد، وعلى أرباب الأموال، فإذا فسدت أحوال هؤلاء فسدت أحوال الناس". قال الشاطبي في الموافقات، 1/ 140:"زلة العالم في علمه أو عمله إذا لم تتعد لغيره في حكم زلة غير العالم فلم يزد فيها على غيره، فإن تعدت إلى غيره اختلف حكمها، وما ذلك إلا لكونها جزئية إذا اختصت به ولم تتعد إلى غيره، فإن تعدت صارت كلية بسبب الاقتداء والاتباع على ذلك الفعل أو على مقتضى القول، فصارت عند الاتباع عظيمة جدا، ولم تكن كذلك على فرض اختصاصها به، ويجري مجراه كل من علم عملا فاقتدى به فيه".
بمقتضى العلم، فطاعتهم تبع لطاعة العلماء، وهي تبع لطاعتهم للَّه عز وجل ورسوله عليه الصلاة والسلام.
كما رجح بعض المفسرين أن المراد بقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (1)، بأنهم العلماء على وجه الخصوص (2).
ولا شك أن وقوع العالم في الاستضعاف إن كان ظاهرًا للناس، كأن يقع في الأسر أو السجن أو نحوه، فإن فتنة الناس فيما يصدر عنه أقل من فتنتهم بما يصدر عنه إن لم يكن استضعافه ظاهرًا لهم، وذلك لأن "دلالة الأحوال يختلف بها دلالة الأقوال في قبول دعوى ما يُوافقها، ورد ما يُخالفها، ويترتب عليها الأحكام بمجردها، ويتخرج عليه مسائل منها. . . لو تلفظ الأسير بكلمة الكفر، ثم ادعى أنه كان كُرهًا، فالقول قوله؛ لأن الأسر دليل الإكراه والتقية"(3)، فإن عُرف أن العالم مُستضعف فينبغي التعاطي بحذر مع ما يصدر عنه، وعدم قبوله على إطلاقه، خاصة إن خالف أقواله واجتهاداته وأفعاله السابقة لاستضعافه.
(1) سورة آل عمران، الآية [104].
(2)
انظر: تفسير أبو السعود، 2/ 67، ومفاتيح الغيب، 8/ 146، وقال:"هذه الآية مشتملة على الأمر بثلاثة أشياء الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومعلوم أن الدعوة إلى الخير مشروطة بالعلم بالخير وبالمعروف وبالمنكر فإن الجاهل ربما عاد إلى الباطل وأمر بالمنكر ونهى عن المعروف وربما عرف الحكم في مذهبه وجهله في مذهب صاحبه فنهاه عن غير منكر وقد يغلظ في موضع اللين ويلين في موضع الغلظة وينكر على من لا يزيده إنكاره إلا تماديًا فثبت أن هذا التكليف متوجه على العلماء ولا شك أنهم بعض الأمة".
(3)
القواعد لابن رجب، عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي، مكتبة نزار الباز: مكة المكرمة، ط 2، 1999 م، 1/ 370.
ومن المقرر أنه "لا يُتبع أحد من العلماء إلا من حيث هو متوجه نحو الشريعة قائم بحُجتها حاكم بأحكامها جملة وتفصيلًا، وأنه من وجد متوجها غير تلك الوجهة في جزئية من الجزئيات، أو فرع من الفروع، لم يكن حاكما، ولا استقام أن يكون مقتدى به فيما حاد فيه عن صوب الشريعة البتة"(1)، فطاعة العلماء ومكانتهم ليست لذاتهم بل لما قام فيهم من العلم والفهم عن اللَّه عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم (2).
وحال العالم ليس كغيره، لاسيما إن تعلق الأمر بإعزاز دين اللَّه، وذلك لأن "كل أمر فيه إعزاز الدين فالإقدام عليه حتى يقتل أفضل من الأخذ بالرخصة، قال أحمد بن حنبل، وقد قيل له: إن عرضت على السيف تجيب، قال: لا، وقال: إذا أجاب العالم تقية، والجاهل يجهل، فمتى يتبين الحق؟!. والذي نقل إلينا خلفًا عن سلف أن الصحابة وتابعيهم بذلوا أنفسهم في ذات اللَّه، وأنهم لا تأخذهم في اللَّه لومة لائم، ولا سطوة جبار ظالم"(3).
إلا أن العالم المستضعف إن خَشي أن يعود إنكاره بالضرر على المسلمين فلا يُنكر، أما إن خشي على نفسه فله الإنكار بل يُندب إليه؛ لأن المخاطرة بالنفوس في إعزاز الدين مأمور بها، وعندما سُئل صلى الله عليه وسلم أَيُّ الجهاد أفضل؟ قال:(كلمة حق عند سلطان جَائِرٍ)(4)،
(1) الاعتصام، إبراهيم بن موسى اللخمي الغرناطي الشاطبي، المكتبة التجارية الكبرى: مصر، ط 1، د. ت، 2/ 343، وانظر: الموافقات، 1/ 93.
(2)
انظر: قواعد في التعامل مع العُلماء، د. عبد الرحمن بن معلا اللويحق، وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف: الرياض، ط 2، 1427 هـ، ص 63.
(3)
البحر المحيط، 2/ 443.
(4)
أخرجه النسائي، باب فضل من تكلم بالحق عند إمام جائر، رقم:4209. مسند أحمد بن حنبل، 4/ 315، رقم: 18850، قال في تحفة الأحوذي، 6/ 330: "قال المنذري في الترغيب إسناده صحيح".
إلا أنه لا يجب عليه الإنكار، قال العز ابن عبد السلام:"التقرير على المعاصي كلها مفسدة؛ لكن يجوز التقرير عليها عند العجز عن إنكارها باليد واللسان، ومن قدر على إنكارها مع الخوف على نفسه كان إنكاره مندوبًا إليه ومحثوثًا عليه؛ لأن المخاطرة بالنفوس في إعزاز الدين مأمور بها. . . كلمة حق عند سلطان جائر جعلها أفضل الجهاد؛ لأن قائلها قد جاد بنفسه كل الجود، بخلاف من يلاقي قرنه من القتال، فإنه يجوز أن يقهره ويقتله، فلا يكون بذله نفسه مع تجويز سلامتها كبذل المنكر مع يأسه من السلامة"(1).
قال ابن القيم رحمه الله: "فمن سئل عن علم فكتمه ألجمة اللَّه يوم القيامة بلجام من نار، هذا إذا أمن المفتي غائلة الفتوى، فإن لم يأمن غائلتها وخاف من ترتب شر أكثر من الإمساك عنها أمسك عنها، ترجيحًا لدفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما"(2).
قال الطحاوي: "ولذلك يحسن أن يستخار في النهي عن المنكر في شخص متمرد يُخشى بنهيه حصول ضرر عظيم عام أو خاص وإن جاء في الحديث أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر لكن إن خشي ضررا عاما للمسلمين فلا ينكر وإن خشي على نفسه فله الإنكار ولكن يسقط الوجوب"(3).
لذا فإن أهل العلم قالوا: إن وجوب إنكار المنكر يكون بشرط أن لا يترتب عليه ضرر عام بالمسلمين، وألا يلحق المنكر بلاء لا قبل له به من قتل ونحوه، فإن أطاق هذا البلاء ولم يلحق الضرر بغيره فله الأخذ بالعزيمة (4)، لقوله عليه الصلاة والسلام عندما سئل أي
(1) قواعد الأحكام في مصالح الأنام، 1/ 94 - 95.
(2)
إعلام الموقعين، 4/ 157 - 158.
(3)
حاشية الطحاوي على مراقي الفلاح، أحمد بن محمد الطحاوي، المطبعة الكبرى الأميرية ببولاق: مصر، ط 3، 1318 هـ، 1/ 263.
(4)
انظر: فتح البارى، 13/ 53، وحاشية الطحاوي على مراقي الفلاح، 1/ 263.
الجهاد أفضل؟ قال: (كلمة حق عند سلطان جائر)(1)، وإنما كان هذا من أفضل الجهاد "ليأسه من حياته، وأما النهي عن المنكر بين ظهور المسلمين، وإظهار شعائر الإسلام، فإن ذلك شاق على المتأخرين؛ لعدم المعين، وكثرة المنكر فيهم"(2).
ويشهد لعدم الوجوب في حال الخشية من الضرر حديث حذيفة رضي الله عنه مرفوعًا: (قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: (لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه)، قالوا: وكيف يذل نفسه؟ قال: (يتعرض من البلاء لما لا يطيقه)(3)، ومع القول بعدم وجوب الإنكار في تلك الحال إلا أنه لا بد من الإنكار بالقلب (4)، لحديث أم سلمة رضي الله عنها مرفوعًا، قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: (يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برىء، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع)، قالوا: يا رسول اللَّه، ألا نقاتلهم، قال:(لا ما صلوا)، أي: من كره بقلبه وأنكر بقلبه) (5).
إن الفرق بين استضعاف العالم وغيره، هو من جهة الاقتداء، ولولاه لما كان هنالك فرق بين استضعافه أو استضعاف غيره، قال الشاطبي رحمه الله: "تستعظم شرعًا زلة العالم وتصير صغيرته كبيرة، من حيث كانت أقواله وأفعاله جارية في العادة على مجرى الاقتداء؛ فإذا زل حُملت زلته عنه قولًا كانت أو فعلًا؛ لأنه موضوع منارًا يُهتدى به، فإن عُلم كون زلته زلة صغُرت في أعين الناس، وجسر عليها الناس تأسيًا به، وتوهموا فيها رخصة علم
(1) سبق تخريجه، ص 194.
(2)
عون المعبود، 11/ 333.
(3)
أخرجه ابن ماجه، رقم: 4016، والترمذي، رقم: 2254، وقال:"حسن غريب"، قال في مجمع الزوائد، 7/ 274:"ورجاله رجال الصحيح".
(4)
انظر: فتح الباري، 13/ 53.
(5)
أخرجه مسلم، رقم:1854.
بها، ولم يعلموها هم تحسينًا للظن به، وإن جهل كونها زلة فأحرى أن تحمل عنه محمل المشروع، وذلك كله راجع عليه" (1).
وقد ذكر بعض العلماء أن هناك حالات لا يؤخذ بالرخص فيها، ومنها: أن يكون المكره على الكفر من يقتدي به العوام ويتبعونه في تصرفاته وأقواله، إذ قد يؤدي تصرفه ذلك إلى فتنتهم في عقيدتهم، لاسيما من ذوي الجهالة ممن لا يُمَيِّزُ حَالَ عُذْرِهِ من غَيْرِهِ، فالحكم أنه يحرم عليه الأخذ بحكم الرخصة دفعًا للفساد، والمآل الذي يؤول إليه أمر العوام (2).
* * *
(1) الموافقات، 3/ 317، وانظر: إعلام الموقعين، 2/ 192.
(2)
انظر: فتح الباري، 4/ 280، والأحكام السلطانية، محمد بن علي الماوردي، دار الكتب العلمية: بيروت، ط 1، د. ت، 2/ 1، وعوراض الأهلية عند الأصوليين، ص 495.