الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والمصلحة في ذلك تتنوع فتارة تكون المصلحة الشرعية القتال وتارة تكون المصلحة المهادنة وتارة تكون المصلحة الإمساك والاستعداد بلا مهادنة"(1).
ولقد نفذ النبي صلى الله عليه وسلم مبدأ التعاون الدولي من خلال صحيفة المدينة، فعقد حلفًا أساسه التعاون على البر وحماية الفضيلة ومنع الأذى، فنقض اليهود كعادتهم ذلك الحلف (2).
* * *
المطلب الثالث الحلف في الإسلام
كان للأحلاف شأنها ومكانتها وأهميتها في حياة الجاهليين، وهي كانت إما التزامًا من طرف واحد بحماية من لجأ إليه ممن ترك عشيرته، أو لا عشيرة له، دون التزام من قبل الضعيف بالنصرة أو العقل، وقد يكون الالتزام من الطرفين بأن ينصر كل منهما الآخر ويرثه ويعقل عنه (3).
وقد وردت أدلة بجواز الحلف، كما وردت أدلة بنفيه في الإسلام، وظاهر هذه الأدلة التعارض، ومن أدلة الجواز، عموم الأدلة الواردة في الأمر بالوفاء بالعهد والوعد، ومن ذلك قوله تعالى:{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} (4).
(1) الفتاوى، 15/ 174.
(2)
انظر: العلاقات الدولية في الإسلام، د. محمد أبو زهرة، القاهرة: دار الفكر العربي، ط 1، د. ت، ص 24.
(3)
انظر: الموسوعة الفقهية الكويتية، 18/ 88.
(4)
سورة النحل، الآية [91].
قيل بأنها في التزام الحلف الذي كان في الجاهلية وجاء الإسلام بالوفاء به (1).
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (لَقَدْ شَهِدْتُ فِي دَارِ عَبْدِ اللَّه بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهِ حُمْرَ النَّعَمِ وَلَوِ أُدْعَى بِهِ فِي الإِسْلَامِ لأَجَبْتُ)(2)، وقوله صلى الله عليه وسلم:(شَهِدْتُ حِلْفَ المُطَيَّبِينَ مَعَ عُمُومَتِي وَأَنَا غُلَامٌ فَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي حُمْرَ النَّعَمِ وَأَنِّي أَنْكُثُهُ)(3). وهذا الحلف يُعد "مأثرة لقريش من مآثرها الكرام، وآثارها العظام، نالتهم فيه بركة حضور رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فهو وإن كان فعلا جاهليا دعتهم السياسة إليه فقد صار لحضور رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم له، وما قاله بعد النبوة فيه وأكده من أمره حكما شرعيا وفعلا نبويا"(4).
(1) انظر: الجامع لأحكام القرآن، 10/ 169.
(2)
سنن البيهقي الكبرى، 6/ 367. وكان سبب الحلف أن قريشًا كانت تتظالم بالحرم فقام عبد اللَّه بن جدعان والزبير بن عبد المطلب فدعوهم إلى التحالف على التناصر والأخذ للمظلوم من الظالم فأجابهما بنو هاشم وبعض القبائل من قريش وجعلوا طيبًا في جفنة وغمسوا أيديهم فيه فسموا المطيبين، وأما تسميته بحلف الفضول تشبيها له بحلف كان بمكة أيام جرهم على التناصف والأخذ للضعيف من القوي وللغريب من القاطن قام به رجال من جرهم يقال لهم الفضل بن الحارث والفضل بن وداعة والفضل بن فضالة، فقيل حلف الفضول جمعا لأسماء هؤلاء، وكان حلف الفضول أكرم حلف سمع به في العرب. انظر: معرفة السنن والآثار، أحمد بن الحسين البيهقي، تحقيق: سيد كسروي حسن، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، د. ت، 5/ 175، والتيسير بشرح الجامع الصغير، 2/ 78، والروض الأنف في تفسير السيرة النبوية لابن هشام، عبد الرحمن بن عبد اللَّه الخثعمي السهيلي، بيروت: دار المعرفة، ط 1، 1398 هـ، 1/ 242.
(3)
مسند أحمد، 1/ 190، رقم: 1655، والحاكم في المستدرك، 2/ 239، رقم: 2870، وقال:"صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، وصحيح ابن حبان، 10/ 216، رقم:4373.
(4)
الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول اللَّه، 1/ 74.
أما الأدلة على نفي الحلف في الإسلام فمنها قوله عليه الصلاة والسلام في خطبته: (أوفوا بحلف الجاهلية، فإِنَّهُ لا يَزِيدُهُ -يعني: الإِسلامَ- إِلا شِدَّة-، ولا تُحْدِثُوا حِلفا في الإِسلام)(1)، والمراد بحلف الجَاهليَّة: العُهُود التِي وقعت فِيهَا على الخير كصلة الأرحام ونصرة المظلوم (2)، والوفاء بها مقيد بما لا يُخالِفُ الشَّرع، لقوله تَعَالَى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (3).
والمراد بنفي الحلف في الإسلام هو نفيه على الوجه الذي كانوا يتحالفون عليه في الجاهلية، لكونه يتضمن النصرة على الحق والباطل، والشريعة إنما أوجبت معونة المظلوم على الظالم، وأن لا يلتفت إلى قرابة ولا غيرها، أو أن المراد نفي التوارث بالحلف دون ذوي الأرحام، أما حكم الحلف في العقل والنصرة فباق ثابت (4).
أو يكون المراد أن الإسلام قد استغنى عن الحلف بما أوجب اللَّه تعالى على المسلمين بعضهم من نصرة وعون (5)، فالإِسلام أَقوَى من الحلف، فمن استَمسَكَ بِالعَاصِمِ القَوِيِّ استَغنَى به عن العَاصِمِ الضَّعِيف (6)، فالتوارث بالهجرة نسخ، وبقي المؤاخاة في الإسلام، والمحالفة على طاعة اللَّه تعالى، والتناصر في الدين، والتعاون على البر والتقوى وإقامة الحق
(1) أخرجه الترمذي، كتاب السير، باب ما جاء في الحِلفِ، رقم: 1585، وقال:"حديث حسن صحيح"، وقال في صحيح سنن الترمذي، محمد ناصر الدين الألباني، الرياض: مكتبة المعارف، ط 1، 1420 هـ، 2/ 203:"حسن".
(2)
انظر: عون المعبود، 8/ 100.
(3)
سورة المائدة، من الآية [2].
(4)
أحكام القرآن للجصاص، 3/ 147، 3/ 197، وعون المعبود، 8/ 102.
(5)
نواسخ القرآن، عبد الرحمن بن علي، ابن الجوزي، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1405 هـ، 1/ 128.
(6)
انظر: تحفة الأحوذي، 5/ 174.