الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والراجح واللَّه أعلم قول الحنفية لما فيه من مراعاة عموم الأدلة التي أوجبت علو الإسلام وأهله وعزتهم، وأما فعله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية فقد اقترنت به أمور إن اقترنت بمثله فيمكننا عندئذ القول: بجواز شرط رد المسلم.
* * *
المطلب الثالث بيان الفرق بين التسليم والرد
تطرق المطلب السابق لأقوال الفقهاء في مسألة الرد، وأما قياس البعض مسألة تسليم المطلوبين بصورتها المعاصرة على تلك المسألة فهو قياس غير صحيح، وذلك للفرق بين الرد والتسليم، ومن ذلك ما يلي:
1 -
الفرق بينهما من حيث الدلالة اللغوية، فالرَّدُّ مصدر رددت الشيء، وهو يدل على صرف الشيء ورَجْعُه، رَدَّهُ عن وجهه يَرُدُّه رَدًّا ومَرَدًّا وتَرْدادًا: صرفه، ويدل على عدم قبول الشيء، يقال ردَّ عليه الشيء إِذا لم يقبله، وكذلك إِذا خَطَّأَه. وتقول: رَدَّه إِلى منزله، ورَدَّ إِليه جوابًا أَي: رجع (1)، وأما التسليم فهو مصدر سَلَّم، وهو يدل على ترك الشيء ودفعه، والخِذْلانِ فيقال: أَسلَمَ الرجلَ وأَسْلَمَه أَي: خذله، وكذلك قبض الشيء وأخذه (2).
2 -
الرد صورته التخلية بين الطالب والمطلوب مع التعريض للمطلوب بسبل الخلاص، وأما التسليم فصورته أخذ المطلوب للطالب مقيدًا، وقد عبر الفقهاء عن هذا بقولهم: "ومعنى الرد له التخلية بينه وبينهم كما في رد الوديعة، لا إجباره على الرجوع، إذ لا يجوز إجبار المسلم على الإقامة بدار الحرب، فلو شرط في العقد أن يبعث به الإمام إليهم
(1) انظر: صحاح اللغة، إسماعيل بن حماد الجوهري، تحقيق: أحمد عطار، دار العلم للملايين: بيروت، ط 2، 1979 م، ولسان العرب، وتاج العروس، ومعجم مقاييس اللغة، مادة:(رد).
(2)
انظر: صحاح اللغة، ولسان العرب، والقاموس المحيط، مادة:(سَلَمَ).
لم يصح، إلا أن يراد بالبعث الرد بالمعنى السابق فظاهر أنه يصح" (1). قال الماوردي رحمه الله:"فصفة الرد أن يكون إذنًا منه بالعود، وتمكينًا لهم من الرد، ولا يتولاه الإمام جبرًا إن تمانع المردود، وكذلك أذن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لأبي جندل وأبي بصير في العود، فإن أقام المطلوب على تمانعه من العود، قيل للطالب: إنت ممكن من استرجاعه، فإذا قدرت عليه لم تمنع منه، وإن عجزت عنه لم تُعَنْ عليه"(2).
3 -
في الرد مخارج ليست في التسليم، أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله كما في الصحيح:(وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ لو كان معه رجال)(3)، فلما بلغت هذه الكلمة المسلمين الذين احتبسوا وردوا إلى مكة خرجوا لأبي بصير فاجتمع إليه منهم قرابة السبعين (4)، فأين هذا من التسليم الذي لا يكون معه أي سبيل للخلاص فهو كالأسر وزيادة. ومن المخارج أنه صلى الله عليه وسلم:"لم يُعْطِهِم أَن يَرُدَّ عليهم من خرج منهم مسلمًا إلى غير المدينة في بلاد الإسلام والشرك، وإن كان قادرًا عليه. . . ولم يذكُر أَحد أنه أعطاهم في مسلم غير أهل مكة شيئًا من هذا الشرط"(5). ومن المخارج أيضًا: "أن للمسلم الذي يجيء من دار الحرب في زمن الهدنة قتل من جاء في طلب رده -إذا شرط لهم ذلك-؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على أبي بصير قتله العامري ولا أمر فيه بقود ولا دية"(6).
(1) أسنى المطالب، 4/ 228.
(2)
الحاوي الكبير، 14/ 365.
(3)
"ويل أمه: كلمة تعجب، يصفه بالإقدام، والمسعر: الموقد، فالمعنى: أنه موقد حرب، يُقال: سعرت النار، وأسعرتها، فهي مسعرة ومسعورة، والمسعر الخشب الذي تسعر به النار، أي: تُوقد"، كشف المشكل، 4/ 62.
(4)
انظر: السيرة النبوية لابن هشام، 3/ 449، والمغازي للواقدي، ص 627.
(5)
الأم، 4/ 203.
(6)
عمدة القاري، 14/ 19.
4 -
الذي يُراعى عند الرد حال المطلوب، وأما الذي يُراعى عند التسليم حالة الطالب، وفي هذا يقول الماوردي رحمه الله:"وروعي حكم الوقت فيما يقتضيه حال المطلوب، فإن ظهرت المصلحة في حثه على العود لتألف قومه أشار به الإمام عليه بعد وعده بنصر اللَّه، وجزيل ثوابه؛ ليزداد ثباتًا على دينه وقوة في استنصاره، وإن ظهرت المصلحة في تثبيطه عن العود، أشار به -أي الإمام- سرًا وأمسك عن خطابه جهرًا، فإن ظهر من الطالب عُنْفٌ بالمطلوب واعده الإمامُ، فإن كان لفرط إشفاقٍ (1) تركه، وإن كان لشدة منعه"(2).
5 -
أن سبب طلب الرد هو الإسلام بخلاف سبب التسليم الذي يكون غالبًا لارتكاب جريمة ما، وقد يقول قائل: هذا دليل على أن التسليم من أجل ارتكاب جريمة أولى، إذ كيف يرد النبي صلى الله عليه وسلم الرجل لإسلامه ولا نرد الرجل لارتكابه جريمة قد تكون ممنوعة ومحرمة عليه شرعًا؟.
ولإيضاح الأمر أقول: إن من كان سبب رده الإسلام يكون له مخارج "فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان أذن لهم بالتلفظ بالكفر، وهو الذي كانت الكفار تطلبه فيتلفظون به حتى يأتي اللَّه بالفتح أو أمر من عنده"(3)، وهذا من المخارج، قال الشافعي رحمه الله: "فإذا صالح الإمام على مثل ما صالح عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أهل الحديبية صالح على أن لا يمنع الرِّجَالَ دُونَ النِّسَاءِ لِلرَّجَالِ من أهل دار الحرب إذا جاء أحد من رجال أهل دار الحرب إلى منزل الإمام نفسه وجاء من يطلبه من أوليائه خلى بينه وبينهم بأن لا يمنعه من الذهاب به، وأشار على من أسلم أن لا يأتي منزله وأن يذهب في الأرض، فإن أرض اللَّه عز وجل واسعة فيها مراغم كثيرة. . . إذا صالح
(1) في الكتاب: (إسفاقٍ) ولعل الصواب المثبت.
(2)
الحاوي الكبير، 14/ 365.
(3)
القبس في شرح موطأ مالك بن أنس، محمد بن عبد اللَّه ابن العربي، تحقيق: محمد عبد اللَّه ولد كريم، دار الغرب الإسلامي: بيروت، ط 1، 1992 م، 2/ 589.