الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (1)، وحذرنا اللَّه عز وجل من طاعة الكفار، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} (2)، وقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} (3).
* * *
المطلب الثالث الحصار بمختلف أشكاله وصوره
لقد كانت الصورة القديمة للحصار هي اجتماع الجيوش حول المدينة أو القلعة حتى ينفذ طعامها ومؤونتها وتستسلم أو يمل المحاصرين وينسحبوا، أما اليوم فإن الحصار أخذ أشكالًا أخرى متعددة مع بقاء هذه الصورة التقليدية، فأصبحنا نسمع ونرى الحصار الاقتصادي والتجاري، والحصار التقني والصناعي، بل حتى الطبي والعلمي كصورة من صور الحصار.
وفي زمن النبي صلى الله عليه وسلم وقع الحصار على المسلمين مرتين: المرة الأولى سنة سبع من البعثة في شعب أبي طالب بعدما رأت قريش ازدياد أعداد المسلمين فأجمعوا على أن يتعاقدوا على بني هاشم وبني عبد المطلب وبني عبد مناف أن لا يبايعوهم ولا يناكحوهم ولا يكلموهم ولا يجالسوهم حتى يسلموا إليهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وكتبوا بذلك صحيفة (4) وعلقوها في سقف
(1) سورة البقرة، الآية [217].
(2)
سورة آل عمران، الآية [100].
(3)
سورة آل عمران، الآية [149].
(4)
قال ابن القيم: "يقال كتبها منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم، ويقال النضر بن الحارث، والصحيح أنه بغيض بن عامر بن هاشم، فدعا عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فشلت يده"، زاد المعاد، 3/ 30.
الكعبة وانحاز بنو هاشم وبنو المطلب كلهم: كافرهم ومؤمنهم، فصاروا في شعب أبي طالب محصورين، حاشا أبا لهب وولده، فإنهم صاروا مع قريش على قومهم، وآذوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صلى الله عليه وسلم أذى شديدًا وضربوهم في كل طريق وحصروهم في شعبهم وقطعوا عنهم المادة من الأسواق فلم يدعوا أحدا من الناس يدخل عليهم طعاما ولا شيئا مما يرفق بهم حتى بلغهم الجهد وسمع أصوات صبيانهم بالبكاء من وراء الشعب فبقوا كذلك ثلاث سنين (1).
"إن أعداء اللَّه في كل زمان ومكان يلجؤون إلى استخدام سلاح محاربة الدعاة في أرزاقهم، ليستكينوا ويرجعوا عما يدعون إليه. وهو أسلوب يتفق عليه المشركون والمنافقون. ولو كان المسلمون الأوائل موظفين أو مستخدمين في دولة تخالفهم فيما يدعون إليه، للجأت تلك الدولة إلى فصلهم من أعمالهم كوسيلة من وسائل الحرب التي تتخذها ضدهم. ولكن الوسيلة المتاحة في ذلك الوقت في هذا الميدان كانت المقاطعة"(2).
وأما الحصار الثاني الذي وقع على المسلمين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فهو يوم الأحزاب (الخندق) في العام الخامس من الهجرة، وهي الغزوة التي ابتلى اللَّه تعالى فيها المؤمنين وثبت الإيمان في قلوبهم وأظهر ما كان يبطنه أهل النفاق واليهود (3)، وقد كانت من أحرج
(1) انظر: تاريخ الأمم والملوك، 1/ 552 - 553، والكامل في التاريخ، ابن الأثير، بيروت: دار الفكر، ط 1، 1978 م، 1/ 604 - 606، والبداية والنهاية، 3/ 85 - 97، وجوامع السيرة، علي بن أحمد ابن حزم الأندلسي الظاهري، تحقيق: إحسان عباس، مصر: دار المعارف، ط 1، 1900 م، 1/ 64 - 65، والمبتدأ والمبعث والمغازي (سيرة ابن إسحاق)، محمد بن إسحاق بن يسار، تحقيق: محمد حميد اللَّه، ط 1، 1396 هـ، 2/ 140، وزاد المعاد، 3/ 29 - 30.
(2)
السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص 221.
(3)
انظر: زاد المعاد، 3/ 269 - 271، والسيرة الحلبية، 2/ 628.
المواقف التي واجهها المسلمون، وقد وصفها اللَّه عز وجل بقوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} (1)، وعن عائشة رضي الله عنها:{إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} (2) قالت: (كان ذاك يوم الخندق)(3)، وأثنى سبحانه وتعالى على المؤمنين ليقينهم وثباتهم وتسليمهم لأمره عز وجل، ورزقهم بذلك النصر والظفر على الأعداء فقال سبحانه:{وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} (4).
ووقوع الحصار ليس عذرًا لبقاء الاستضعاف والاستكانة للأعداء والخضوع لهم ولشروطهم التي يريدون فرضها، ولقد رفض الرعيل الأول تبعات الحصار بالرغم من شدة الحصار وتكالب الأحزاب وذلك عندما أراد عليه الصلاة والسلام أن يكسر شوكة المشركين بأن يصالح غطفان على شطر ثمار المدينة واستشار السعدين سعد بن معاذ وسعد ابن عبادة رضي الله عنهما في ذلك فقالا له: (يا رسول اللَّه: أوحى من السماء فالتسليم لأمر اللَّه، أو
(1) سورة الأحزاب، الآيات [9 - 12].
(2)
سورة الأحزاب، من الآية [10].
(3)
أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الخندق وهي الأحزاب، رقم: 3877، ومسلم، كتاب التفسير، رقم:3020.
(4)
سورة الأحزاب، الآية [22].
عن رأيك أو هواك؟ فرأينا تبع هواك ورأيك، فإن كنت إنما تريد الإبقاء علينا، فواللَّه لقد رأيتنا وإياهم على سواء ما ينالون منا ثمرة إلا شراء أو قرى) (1).
وعندما أخبر رسولنا صلى الله عليه وسلم عن الطائفة المنصورة ذكر من صفاتهم وقوع الحصار عليهم، فعن أبي أمامة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء حتى يأتيهم أمر اللَّه وهم كذلك)، قالوا يا رسول اللَّه: وأين هم؟ قال: (ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس)(2)، قال الطبري رحمه الله:"يعني النبي صلى الله عليه وسلم باللأواء الشدة، إما في المعيشة من جدب وقحط، أو حصار، وإما في الأبدان من الأمراض والعلل، أو الجراح، يقال من ذلك: أصابت القوم لأواء"(3).
ولهذا فقد وصف اللَّه عز وجل ما كان عليه أتباع الأنبياء عليهم السلام من إيمان راسخ وإرادة وعزيمة ومدحهم؛ لكي نتأسى بهم، فقال تعالى:{وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} (4) أي: "فما عجزوا لما نالهم من ألم الجراح الذي نالهم في سبيل اللَّه، ولا لقتل من قُتل منهم، عن حرب أعداء اللَّه، ولا نكلوا عن جهادهم، {وَمَا ضَعُفُوا} يقول: وما ضعفت قواهم
(1) سبق تخريجه ص 61.
(2)
أخرجه أحمد، 5/ 269، رقم: 22374، قال الألباني في السلسلة الصحيحة، 4/ 456: فالصواب أن يقال: "وفيه من لم يوثق، إلا من ابن حبان، فإنه وثق أحدهم".
(3)
تهذيب الآثار مسند علي، محمد بن جرير الطبري، تحقيق: محمود شاكر، القاهرة: مطبعة المدني، ط 1، د. ت، 2/ 835.
(4)
سورة آل عمران، الآية [146].
لقتل نبيهم، {وَمَا اسْتَكَانُوا} يعني: وما ذلوا فيتخشَّعوا لعدوّهم بالدخول في دينهم ومداهنتهم فيه خيفة منهم، ولكن مضوا قُدُمًا على بصائرهم ومنهاج نبيِّهم، صبرًا على أمر اللَّه وأمر نبيهم، وطاعة للَّه واتباعًا لتنزيله ووحيه" (1).
وإن للحصار أشكالًا متعددة كما مضت الإشارة لذلك، ومن صور الحصار المعاصرة تغييب الاقتصاد الإسلامي عن واقع حياة المسلمين، ولقد نجم عن إغفال تطبيق نظام الاقتصاد الإسلامي تغلغل المؤسسات الربوية في العالم الإسلامي وسيطرتها الكاملة على السيولة النقدية، والتخلف الاقتصادي والصناعي بالرغم من وفرة الثروات والموارد وتنوعها، كما بقيت الدول الإسلامية ضمن دائرة التبعية الاقتصادية الشرقية أو الغربية، ناهيك عن تفاقم مشكلات الفقر والبطالة، والانغماس في الاستهلاك، وزيادة مديونية العالم الإسلامي، وفوضى التخطيط وعدم إفساح المجال للاقتصاد الإسلامي، فحالت كل هذه الأوضاع دون قيام التنمية الشاملة أو استثمار الموارد، بل أصبحت الدول الإسلامية مرتعًا للنظم الاقتصادية الأجنبية وتبعًا لها، مع استمرار استنزاف خيرات العالم الإسلامي بصور شتى وبمسميات تتنوع بما يتناسب مع كل عصر (2).
إن واقع اقتصاد العالم الإسلامي اليوم في أكثر البلاد الإسلامية أليم، فالدخل القومي يضع الفرد المسلم في المستوى الأدنى، والخيرات تؤخذ من العالم الإسلامي لتعاد وتباع بأضعاف سعر الشراء، وأما الإنتاج والصناعة فهي محدودة لا ترقى إلى الصناعات الثقيلة، وأكثر الدول الإسلامية تستورد أكثر مما تصدر، أما الابتعاد عن النظام الاقتصادي الإسلامي فقد زاد من تفاقم المشكلات الاقتصادية (3)، وهذا الانهيار الاقتصادي
(1) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 7/ 269.
(2)
انظر: حاضر العالم الإسلامي الواقع والتحديات، ص 256 - 257.
(3)
انظر: حاضر العالم الإسلامي، د. علي جريشة، القاهرة: مكتبة وهبة، ط 4، 1991 م، ص 79 - 80.
والاجتماعي عاد على الأمة بأفدح الخسارة على عقيدتها وشريعتها، وأفقدها احترام العدو والصديق. أما كلمة الجهاد فتصبح والحالة هذه لغوًا، فأي جهاد يرتقب من اعزل فارغ اليد؟ فكيف إذا ضم إلى ذلك فراغ القلب والعقل؟ إن الأمة التي تنحدر إلى هذا الدرك تتعرض يقينًا للاغتصاب والمهانة (1).
ومجمل القول فيما سبق أن أبرز أسباب الاستضعاف هي: انشقاق المسلمين إلى فرق، والعصبية والعنصرية بين المسلمين، وعدم الأخذ بأسباب القوة، والاحتلال والاستعمار وما خلفه من آثار، والحصار بمختلف أشكاله وصوره، والغزو الفكري والثقافي، ونلحظ التداخل والترابط بين هذه الأسباب، أما وسائل دفع الاستضعاف فهي ما سيتناولها الفصل التالي.
* * *
(1) انظر: الغزو الثقافي يمتد في فراغنا، ص 49.