الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السابع مراعاة الفرق بين فقه الاستضعاف وفقه التمكين
إن الناظر في الأدلة الشرعية من القرآن الكريم، أو السنة النبوية المطهرة والسيرة، يجد الفرق جليًا بين ما شُرع في حال القوة، وما شُرع في حال الضعف، وإن مراعاة الفرق بين فقه الاستضعاف وفقه التمكين تقتضي النظر في الأحوال التي اقترنت بالأدلة الشرعية، سواءً ما تعلق بالزمان أو المكان، أو المخاطب به، أو المناسبة، وليس كُل أحد يُدرك هذا الأمر، ولهذا كان بيان الصحابة رضوان اللَّه عليهم مما يعتمد عليه لمعرفتهم باللسان العربي وكذلك لـ"مباشرتهم للوقائع والنوازل، وتنزيل الوحي بالكتاب والسنة، فهم أقعد في فهم القرائن الحالية، وأعرف بأسباب التنزل، ويدركون ما لا يدركه غيرهم بسبب ذلك"(1)، ومن الأمور المعينة على إدراك هذا الفرق بين فقه الاستضعاف وفقه التمكين معرفة أسباب النزول، وأسباب ورود الحديث، ولأهميتها جعلها العلماء شرطًا من شروط المجتهد (2)، وهو علم لا يستغني عنه المجتهد أو الفقيه، قال الشاطبي رحمه الله: "معرفة أسباب التنزيل لازمة لمن أراد علم القرآن، والدليل على ذلك أمران: أحدهما: أن علم المعاني والبيان الذي يُعرف به إعجاز نظم القرآن، فضلًا عن معرفة مقاصد كلام العرب؛ إنما مداره على معرفة مقتضيات الأحوال حال الخطاب، من جهة نفس الخطاب، أو المُخَاطِب، أو المُخَاطب، أو الجميع، إذ الكلام الواحد يختلف فهمه بحسب حالين، وبحسب مخاطبين، وبحسب غير ذلك. . . ولا يدل على معناها المراد إلا الأمور الخارجة
(1) الموافقات، 3/ 338.
(2)
انظر: أصول السرخسي، محمد بن أحمد السرخسي، دار المعرفة: بيروت، ط 1، د. ت، 2/ 108، والمحصول، محمد بن عمر الرازي، تحقيق: طه جابر العلواني، جامعة الإمام محمد بن سعود: الرياض، ط 1، 1450 هـ، 6/ 35، وقواطع الأدلة في الأصول، منصور بن محمد السمعاني، تحقيق: محمد حسن، دار الكتب العلمية: بيروت، ط 1، 1418 هـ، 2/ 306، والمدخل لابن بدران، 1/ 371.
وعمدتها مقتضيات الأحوال، وليس كل حال يُنقل، ولا كل قرينة تقترن بنفس الكلام المنقول، وإذا فات نقل بعض القرائن الدالة فات فهم الكلام جملة، أو فهم شيء منه، ومعرفة الأسباب رافعة لكل مشكل في هذا النمط، فهي من المهمات في فهم الكتاب، ومعنى معرفة السبب هو معنى معرفة مقتضى الحال، وينشأ عن هذا الوجه الوجه الثاني: وهو أن الجهل بأسباب التنزيل موقع في الشبه، والإشكالات، ومورد للنصوص الظاهرة مورد الإجمال، حتى يقع الاختلاف وذلك مظنة وقوع النزاع" (1).
وبهذا يتبين لنا أهمية الإلمام بأسباب النزول وأسباب الورود، وأنها ليست تاريخًا للنزول فحسب، بل إنها جزء من النظر والاستنباط الفقهي، كما أنها تعين على معرفة الحكمة من التشريع والوقوف على المعنى، وأن الشريعة قامت على رعاية مصالح الإنسان لا على الاستبداد والتحكم (2)، قال الغزالي رحمه الله:"إنه لو لم يكن للسبب مدخل لما نقله الراوي؛ إذ لا فائدة فيه، قلنا: فائدته معرفة أسباب التنزيل، والسير والقصص واتساع علم الشريعة، وأيضا امتناع إخراج السبب بحكم التخصيص بالاجتهاد"(3)، قال ابن تيمية رحمه الله:"ومعرفة سبب النزول يعين على فهم الآية فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب. . . وقولهم نزلت هذه الآية في كذا، يُراد به تارة أنه سبب النزول، ويُراد به تارة أن ذلك داخل في الآية وإن لم يكن السبب كما تقول عُني بهذه الآية كذا"(4).
(1) الموافقات، 3/ 347.
(2)
انظر: شرح التلويح على التوضيح، 1/ 115، والبرهان في علوم القرآن، محمد بن بهادر الزركشي، تحقيق: محمد أبو الفضل، دار المعرفة: بيروت، ط 1، 1391 هـ، 1/ 22، ومناهل العرفان في علوم القرآن، 1/ 78.
(3)
المستصفى، 1/ 236.
(4)
الفتاوى، 13/ 339.
إن الناظر في الأدلة الشرعية مجردة عن أسبابها، سواءً سبب النزول -فيما يتعلق بالآيات- أو سبب الورود -فيما يتعلق بالحديث، قلما يهتدي للمراد من الأدلة، ولربما فهمت على عكس المراد بها، وقد تقدم الحديث عن المرحلة المكية وصلتها بالاستضعاف، والمراد هنا التأكيد على أهمية دراسة أحوال النص لئلا ننزل أحكام التمكين على حالة الاستضعاف، أو أحكام الاستضعاف على حالة التمكين، ومن الأمثلة على هذا الفرق يمكننا المقارنة بين حادثة مقتل سمية رضي الله عنها (1) في مكة (2)، وبين حادثة المرأة المسلمة التي كُشفت عورتها في سوق بني قينقاع (3)، ورد فعل النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين في كلا الحادثتين.
* * *
(1) سُمَيَّةُ بنت خباط بمعجمة مضمومة وموحدة ثقيلة مولاة أبي حذيفة بن المغيرة بن عبد اللَّه بن عمرو بن مخزوم، والدة عمار بن ياسر، وكان ياسر حليفا لأبي حذيفة فزوجه سمية فولدت عمارا فأعتقه، كانت سابعة سبعة في الإسلام، عذبها أبو جهل وطعنها في قبلها فماتت فكانت أول شهيدة في الإسلام، ولما قتل أبو جهل يوم بدر قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمار: قتل اللَّه قاتل أمك. انظر: الإصابة في تمييز الصحابة، 7/ 712، والاستيعاب في معرفة الأصحاب، 4/ 1864، والطبقات الكبرى، 3/ 233.
(2)
"عن مجاهد قال: أول شهيد استشهد في الإسلام أم عمار طعنها أبو جهل بحربة في قُبلها"، أخرجه ابن أبي شيبة، 7/ 250، وذكره الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري، 7/ 91.
(3)
انظر: السيرة النبوية لابن هشام، 3/ 314.