الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السادس العمل بشروط الإكراه المعتبر
تقدم ذكر الشروط التي وضعها الفقهاء لاعتبار الضرورة والأخذ بها، وللمستضعف حالات، فتارة يكون واقعًا تحت تأثير الضرورة، وتارة تحت تأثير الحاجة الماسة أو الشديدة، أما الإكراه فيُعد سببًا من أسباب الضرورة، ومن المواضع التي تعمل فيها قاعدة الضرورة (1)، وقد اشترط الفقهاء شروطًا خاصة لاعتبار الإكراه، وينبغي على المستضعف في حال تعرضه للإكراه ألا يقدم على ما أُكره عليه مباشرة، إذ أن الإكراه منه المعتبر، ومنه ما لا اعتبار له، ويمكن تقسيم هذه الشروط بحسب متعلقها إلى أربعة أقسام:
أولا: الشروط المتعلقة بالمكره (بالكسر):
1.
أن يكون المكره قادرا على إنفاذ ما هدد به؛ لأن الضرورة لا تتحقق إلا عند القدرة على الايقاع.
ثانيًا: الشروط المتعلقة بالمستضعف، أى: المكرَه (بالفتح):
1.
أن يغلب على ظن المستضعف أنه إذا امتنع سينفذ المكرِه وعيده.
2.
أن يكون المستضعف عاجزًا عن دفع الإكراه إما بالمقاومة أو الفرار ونحوه.
3.
ألا يظهر من المستضعف ما يدل على اختياره، ولهذا أكد الفقهاء على أهمية أن يتأول المكرَه.
ثالثًا: الشروط المتعلقة بالمكرَه به:
1.
أن يقع الإكراه بما يسبب الهلاك للمستضعف، أو يدخل عليه ضررًا كبيرًا (2)، بنفسه أو ماله أو عرضه أو إخوانه المؤمنين أو دينه، كالقتل، والضرب الشديد، والحبس والقيد الطويلين، وأخذ المال الكثير، والإخراج من الديار.
(1) انظر: نظرية الضرورة حدودها وضوابطها، ص 85، ورفع الحرج في الشريعة الإسلامية، 442 - 443.
(2)
قال المرداوي رحمه الله: "أما الضرب اليسير، إن كان في ذوي المروءات، فهو كالضرب الكثير في حق غيره، أما السب والشتم فلا يكون إكراهًا". الإنصاف، 8/ 441.
2.
أن يكون الإكراه بشيء حال فوري، ويستثنى ما إذا ذكر زمنًا قريبًا جدًا (1).
رابعًا: الشروط المتعلقة بالإكراه نفسه:
1.
أن يكون الإكراه على أمر غير مشروع.
2.
أن يكون الإتيان به منجيا من الضرر، أي يحصل من إتيان المستضعف للمكره عليه الخلاص من الشر المتوعد به (2).
3.
أن يكون محلّ الفعل المكره عليه متعيّنًا.
ولا فرق بين الإكراه على القول والفعل عند الجمهور، ويستثنى من الفعل ما هو محرم على التأبيد كقتل النفس بغير حق بالإجماع (3)، قال ابن تيمية رحمه الله:"إذا كَانَ المُكْرَهُ على الْقِتَالِ في الْفِتْنَةِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُقَاتِلَ، بَلْ عَلَيْهِ إفْسَادُ سِلاحِهِ، وَأَنْ يَصْبِرَ حَتَّى يُقْتَلَ مَظْلُومًا، فَكَيْفَ بِالمُكْرَهِ عَلَى قِتَالِ المُسْلِمِينَ مَعَ الطَّائِفَةِ الْخَارِجَةِ عَنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ: كَمَانِعِي الزَّكَاةِ، وَالمُرْتَدِّينَ، وَنَحْوِهِمْ، فَلا رَيْبَ أَنَّ هَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ إذَا أُكْرِهَ عَلَى الْحُضُورِ أَنْ لا يُقَاتِلَ وَإِنْ قَتَلَهُ المُسْلِمُونَ، كَمَا لَوْ أَكْرَهَهُ الْكُفَّارُ على حُضُورِ صَفِّهِمْ لِيُقَاتِلَ المُسْلِمِينَ، وَكَمَا لَوْ أَكْرَهَ رَجُلٌ رَجُلًا عَلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ مَعْصُومٍ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ قَتْلُهُ بِاتِّفَاقِ المُسْلِمِينَ، وَإِنْ أَكْرَهَهُ بِالْقَتْلِ فَإِنَّهُ لَيْسَ حِفْظُ نَفْسِهِ بِقَتْلِ ذَلِكَ المَعْصُومِ"(4).
(1) وذهب جماهير الشّافعيّة إلى أنّ الإكراه لا يتحقّق مع التّأجيل، ولو إلى الغد.
(2)
انظر: أسنى المطالب، 1/ 573.
(3)
وهذه الشروط مبسوطة في كتب الفقه، وللمزيد انظر: المبسوط، 24/ 39 - 89، وتبيين الحقائق، 5/ 181، ولسان الحكام، 1/ 311، والمهذب في فقه الإمام الشافعي، إبراهيم بن علي بن يوسف. الشيرازي، دار الفكر: بيروت، ط 1، د. ت، 2/ 78، وفتح الباري، 12/ 311، والإنصاف، 8/ 439 - 440.
(4)
الفتاوى، 28/ 539.
ولا يمكن وضع حد منضبط للإكراه؛ لكونه يختلف باختلاف النظر في حال المستضعف وقدرته وصبره ومكانته، وبحسب حال المستكبر الذي وقع منه الإكراه، وكذلك الأمر المكره عليه، فليس الإكراه على الكفر كالإكراه على المعصية، وليس الإكراه على مجرد القول كالإكراه على القول والفعل أو مجرد الفعل وهكذا (1).
وربما يحسن بعد ذكر هذه الشروط والضوابط التأكيد على الأمور التالية:
1 -
أن الضرورة لا تخالف النص أو الإجماع، بل هي حكم بخلاف الدليل لدليل شرعي خاص أو عام، وهي مخالفة مستندة إلى أدلة شرعية أخرى (2)؛ كما أن المستضعف أو المستضعفين تختلف أحوالهم، فقد يقع في حالة من الاضطرار لا يتأتى معها مثل هذا التأمل والنظر، لاسيما مع ضيق الوقت للنجاة أو اتخاذ القرار، فليس له حينئذ إلا الرجوع لما ذكر سابقًا، وهو أن المستضعف فقيه نفسه، وذلك وفقًا للشروط المذكورة.
قال ابن القيم رحمه الله: "كلام الأئمة وفتاويهم في الاشتراط والوجوب، إنما هو في حال القدرة والسعة، لا في حال الضرورة والعجز؛ فالإفتاء بها لا ينافي نص الشارع، ولا قول الأئمة، وغاية المفتي بها أنه يقيد مطلق كلام الشارع بقواعد شريعته وأصولها، ومطلق كلام الأئمة بقواعدهم وأصولهم، فالمفتي بها موافق لأصول الشرع وقواعده، ولقواعد الأئمة"(3).
2 -
أهمية مراعاة الضوابط المذكورة، وضرورة التقيد بها قدر المستطاع، ومن المهم أن يكون الحرص عظيمًا على الالتزام بالأصل، والعودة إلى حكمه، وعدم الركون للاستثناء،
(1) انظر: الفتاوى الكبرى، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، دار الكتب العلمية: بيروت، ط 1، د. ت، 5/ 489.
(2)
انظر: الحاجة وأثرها في الأحكام، 1/ 347 - 348.
(3)
إعلام الموقعين، 3/ 31 - 32.
أو التوسع في مثل هذه المسائل بما لا تقتضيه الضرورات والحاجات الحقيقية، والرجوع لأهل العلم ما أمكن ذلك.
3 -
لا يمكن قصر حالات الضرورة على الجوع والإكراه، بل كل حالة تطرأ على المستضعف بحيث لو لم تراع لضاعت مصالحه الضرورية أو غلب على ظنه ضياعها فإن المحظورات تباح له (1).
ومما يؤيد هذا أدلة القاعدة التي لم تقتصر على تلك المعاني، بل بينت أن حالة الضرورة تتجاوز حالة الغذاء، وكذلك حالة الإكراه، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في شأن إباحة الدفاع عن النفس أو المال أو العرض:(مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ)(2)، وفي رواية أخرى:(من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله أو دون دمه أو دون دينه فهو شهيد)(3).
ويشهد لهذا قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (4)، وقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (5)، ولا شك أن المضار لا تقتصر على الغذاء أو الإكراه (6).
* * *
(1) انظر: رفع الحرج في الشريعة الإسلامية، ص 444 - 445.
(2)
أخرجه البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب من قاتل دون ماله، رقم: 2348، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من قصد أخذ مال غيره بغير حق كان القاصد مهدر الدم في حقه، رقم:141.
(3)
أخرجه أبو داود، كتاب السنة، باب في قتال اللصوص، رقم:4772.
(4)
سورة البقرة، الآية [195].
(5)
سورة النساء، الآية [29].
(6)
إعلام الموقعين، 3/ 31 - 32.