الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع عدم الركون للاستضعاف
إن وقوع الإنسان في الاستضعاف لا يعني الركون إلى تلك الحالة، والتوسع في الأخذ بالرخصة بدعوى المشقة، وتعاطي المحظور بدعوى الضرورة والحاجة، ولهذا لم يقبل اللَّه عز وجل اعتذار القادرين على الهجرة بأنهم كانوا مستضعفين، بل وصفهم بأنهم ظالموا أنفسهم، فقال سبحانه:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (1)، إن الأمة المستضعفة مهما بلغ ضعفها، فلا ينبغي لها أن يستولي عليها اليأس أو الكسل عن طلب حقها، ولقد استنقذ اللَّه أمة بني إسرائيل الضعيفة، من أسر فرعون وملئه، ومكنهم في الأرض، بل وملكهم بلادهم، وما دامت الأمة ذليلة مقهورة لا تأخذ حقها ولا تتكلم به، لا يقوم لها أمر دينها ولا دنياها ولا يكون لها إمامة فيه (2).
إن حالة الاستضعاف ومسائلها تُعد استثناء، وإن التساهل في التعاطي مع الاستثناء حتى يغدو كأنه أصل لا تبيحه الشريعة الإسلامية، ولهذا فقد ختمت النصوص القرآنية التي تناولت الضرورة بنفي الإثم والمغفرة والرحمة والعفو، وهي كقوله تعالى:{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (3)، وقوله سبحانه:{فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (4)، وقوله عز وجل: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ
(1) سورة النساء، الآية [97].
(2)
انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، 1/ 618.
(3)
سورة البقرة، من الآية [173].
(4)
سورة المائدة، من الآية [3].
رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1)، وقوله تعالى:{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2)، وقوله تعالى في شأن هجرة المستضعفين:{فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} (3)، "ذكر بكلمة الإطماع ولفظ العفو؛ إيذانا بأن ترك الهجرة أمر خطير، حتى إن المضطر من حقه أن لا يأمن ويترصد الفرصة، ويعلق بها قلبه"(4).
كما جاءت القواعد الفقهية المقيدة للعمل بقاعدة الضرورة والتي هي حالة من حالات الاستضعاف، ومن تلك القواعد:"ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها"(5)، و"ما أبيح بشرط الضرورة فهو عدم عند عدمها"(6)، و"الضرورة إذا رفعت حرام ما وراءها"(7).
إذًا حالة الاستضعاف تُعد من حالات الضرورة والحاجة، ومما مضى يستنبط ما يلي:
1 -
أن إزالة تلك الضرورة مصلحة مؤقتة، وليست دائمة.
2 -
أن وجود هذا الاعتقاد لدى المستضعف يدفعه للسعي للخروج من حالة الاستثناء، والعودة إلى الأصل (8).
(1) سورة الأنعام، من الآية [145].
(2)
سورة النحل، من الآية [115].
(3)
سورة النساء، الآية [99].
(4)
تفسير البيضاوي، 2/ 243.
(5)
الأشباه والنظائر، عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، دار الكتب العلمية: بيروت، ط 1، د. ت، 1/ 84.
(6)
بدائع الفوائد، 4/ 832.
(7)
المرجع السابق، 4/ 906.
(8)
قال الكاساني في بدائع الصنائع، 1/ 216:"لأن مواضع الضرورة مُسْتَثْنَاةٌ من قواعد الشرع"، وانظر: كشف الأسرار، 3/ 50، وفتح القدير، كمال الدين بن عبد الواحد ابن الهمام، دار الفكر: بيروت، ط 1، د. ت، 10/ 504.
3 -
أن رفع الحرج عن المستضعف حال الضرورة لا يعني الإباحة بمعنى التخيير بين الترك أو الفعل.
ومتى ما وجد المستضعف أو المستضعفون فرصة للخلاص من حالة الاستضعاف أو وسيلة لذلك، وجب عليهم الأخذ بها، متى ما تحققت الشروط، وانتفت الموانع، كما ينبغي عليهم السعي الحثيث للبحث عن البدائل، ولقد خرج عبد اللَّه بن سهيل بن عمرو رضي الله عنه إلى بدر يكتم إيمانه، بعدما حبسه أبوه حتى ظن أنه رجع عن دينه، فلما التقى الجمعان، هرب إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقاتل مع المسلمين، وعد بدريًا رضي الله عنه (1)، وقد أقره الرسول صلى الله عليه وسلم على فعله، وكان يتربص الفرصه للانحياز للمسلمين ولم يركن رضي الله عنه إلى حكم الاستضعاف.
* * *
(1) وهو أخو أبي جندل، وقد شهد بدرًا وهو ابن سبع وعشرين سنة فغاظ ذلك أباه سهيل بن عمرو غيظًا شديدًا، وشهد المشاهد كلها، واستشهد يوم اليمامة، وله ثمان وثلاثون سنة، انظر: جوامع السيرة، 1/ 67، والروض الأنف، 4/ 52، والطبقات الكبرى، 3/ 406، وسير أعلام النبلاء، 1/ 193.