الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد أشكلت هذه الشروط على بعض التابعين فسأل جابر رضي الله عنه عن شأن ثقيف إذ بايعت، قال: اشترطت على النبي صلى الله عليه وسلم أن لا صدقة عليها، ولا جهاد، وأنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يقول:(سَيَتَصَدَّقُونَ وَيُجَاهِدُونَ إِذَا أَسْلَمُوا)(1)، وفي هذا الحديث دليل على جواز مبايعة الكافر وقبول الإسلام منه، وإن شرط شرطًا باطلًا (2)، وقد قبل الرسول عليه الصلاة والسلام هذا التدرج في حال قوة الإسلام، فالحاجة إلى التدرج في حال الاستضعاف أولى، وإن كان هذا الاشتراط مقبولًا ممن دخل في الإسلام حديثًا، ويُرجى منه صلاح حاله وتعرفه على شرائعه، فإنه مع هذا لم يقبل منهم ترك الصلاة، ومثل هذا الاشتراط لا يصح من المسلمين، ولهذا قاتل الصحابة رضي الله عنهم المرتدين على ترك الزكاة، ودل على الحديث على جواز التفريق بين المجتمعات التي دخلها الإسلام حديثًا وتلك التي تطبق الأحكام الشرعية.
* * *
المطلب الرابع استبدال الحدود
عند وقوع الاستضعاف قد يُطالب البعض استبدال الحدود بوسائل أخرى من العقوبات وذلك بحسب الزمان والمكان، ولربما استدل هؤلاء لرأيهم بالمصلحة أو غيرها، وقد رد الجويني رحمه الله على ذلك بقوله:"لسنا نرى أولًا إقامة السياط مقام الأحجار، فإن الحدود لا تتغير كيفياتها ولا تبدل آلاتها"(3).
(1) أخرجه أبو داود، كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب ما جاء في خبر الطائف، رقم: 3025، قال في عون المعبود، 8/ 185:"سكت عنه المنذري".
(2)
نيل الأوطار، محمد بن علي الشوكاني، دار الحديث: مصر، ط 1، د. ت، 8/ 13.
(3)
غِياث الأُمم، ص 240.
قال ابن القيم رحمه الله: "الأحكام نوعان:
نوع: لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة ولا اجتهاد الأئمة، كوجوب الواجبات وتحريم المحرمات والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم ونحو ذلك، فهذا لا يتطرق إليه تغيير، ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه.
والنوع الثاني: ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زمانًا ومكانًا وحالًا كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها، فإن الشارع ينوع فيها بحسب المصلحة، فشرع التعزير بالقتل لمدمن الخمر في المرة الرابعة، وعزم على التعزير بتحريق البيوت على المتخلف عن حضور الجماعة، لولا ما منعه من تعدي العقوبة إلى غير من يستحقها من النساء والذرية، وعزر بحرمان النصيب المستحق من السلب، وأخبر عن تعزير مانع الزكاة بأخذ شطر ماله" (1).
وقال ابن تيمية رحمه الله: "وللشريعة أسرار في سد الفساد وحسم مادة الشر؛ لعلم الشارع بما جُبلت عليه النفوس، وبما يخفي على الناس من خفى هداها الذي لا يزال يسري فيها حتى يقودها إلى الهلكة، فمن تحذلق على الشارع واعتقد في بعض المحرمات أنه إنما حرم لعلة كذا وتلك العلة مقصودة فيه فاستباحه بهذا التأويل، فهو ظلوم لنفسه جهول بأمر ربه، وهو إن نجا من الكفر لم ينج غالبا من بدعة أو فسق أو قلة فقه في الدين وعدم بصيرة، أما شواهد هذه القاعدة فأكثر من أن تحصر. . . إن اللَّه سبحانه أوجب إقامة الحدود سدا للتذرع إلى المعاصي، إذا لم يكن عليها زاجر، وإن كانت العقوبات من جنس الشر، ولهذا لم تشرع الحدود إلا في معصية تتقاضاها الطباع، كالزنا والشرب والسرقة والقذف، دون أكل الميتة والرمي بالكفر ونحو ذلك، فإنه اكتفى فيه بالتعزير، ثم إنه أوجب على السلطان إقامة الحدود إذا رُفعت إليه الجريمة وإن تاب العاصي عند ذلك وإن
(1) إغاثة اللهفان، 1/ 330 - 331.
غلب على ظنه أنه لا يعود إليها؛ لئلا يُفضي ترك الحد بهذا السبب إلى تعطيل الحدود مع العلم بأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له" (1).
ولهذا فإن مثل هذا الاستبدال في الحدود أو المطالبة به مع اعتقاد عدم صلاحية أحكام اللَّه عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم لكل زمان قد يخرج صاحبه من الملة، وإن تأجيل إقامة الحد أقل ضررًا من التحاكم إلى الطاغوت، "فكل من خرج عن سنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وشريعته فقد أقسم اللَّه بنفسه المقدسة أنه لا يؤمن حتى يرضى بحكم رسول اللَّه في جميع ما يشجر بينهم من أمور الدين والدنيا، وحتى لا يبقى في قلوبهم حرج من حكمه، ودلائل القرآن على هذا الأصل كثيرة، وبذلك جاءت سنة رسول اللَّه وسنة خلفائه الراشدين"(2)، قال تعالى:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (3)، "وهذا نص في تكفير من لم يرض بحكم الرسول عليه الصلاة والسلام. . قوله تعالى:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (4)، وهذا يدل على أن مخالفته معصية عظيمة وفي هذه الآيات دلائل على أن من رد شيئا من أوامر اللَّه أو أوامر الرسول عليه الصلاة والسلام فهو خارج عن الإسلام سواء رده من جهة الشك أو من جهة التمرد وذلك يوجب صحة ما ذهبت الصحابة إليه من الحكم بارتداد مانعي الزكاة وقتلهم وسبي ذراريهم" (5).
(1) الفتاوى الكبرى، 3/ 258 - 263.
(2)
الفتاوى، 28/ 471.
(3)
سورة النساء، الآية [65].
(4)
سورة النور، من الآية [63].
(5)
مفاتيح الغيب، 10/ 124.
وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (1)، وقال تعالى:{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (2)، "فعلى جميع الخلق أن يحكموا رسول اللَّه خاتم النبيين وأفضل المرسلين وأكرم الخلق على اللَّه، ليس لأحد أن يخرج عن حكمه في شيء سواء كان من العلماء أو الملوك أو الشيوخ أو غيرهم"(3).
فإن قيل: إن الحدود تدرأ بالشبهات (4) وذلك في حال القوة، فالقول باستبدالها في حال الضعف أيسر من درئها.
والجواب عن هذا بأنه قياس فاسد؛ لأن درء الحدود بالشبهات مما جاءت به الشريعة، فهو جزء من تطبيق الشريعة وأحكامها، أما تعطيل الحدود فقد منعت منه الشريعة، كما أن الدرء ليس كاستبدال الحدود بأحكام جديدة بعد اكتمال الدين، كما أنه ليس كإضعاف الغرم الذي قال به الفقهاء، قال الإمام أحمد رحمه الله:"وكل من درأنا عنه الحد والقود، أضعفنا عليه الغرم"(5).
ودرء الحدود بالشبهات مما خُولف فيه الدليل بالتأويل، أما استبدال الحد فهو مخالفة للدليل بلا تأويل سائغ شرعًا (6).
(1) سورة الأحزاب، من الآية [36].
(2)
سورة النور، الآية [51].
(3)
الفتاوى، 35/ 363.
(4)
والشبهة هي: "ما يشبه الثابت وليس بثابت"، البحر الرائق، 5/ 12، أو "الشُّبْهَةُ التَّعَارُضُ بَيْنَ أَدِلَّةِ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ"، قواعد الأحكام في مصالح الأنام، 2/ 162، والمراد بدرء العقوبات أو الحدود: دفعها وعدم تطبيقها على الجاني لوجود اللبس لدى الجاني أو الشك في الفعل في كونه جريمة أصلًا، أو في كونه حدًا كاملًا، أو حتى في وقوعه.
(5)
إعلام الموقعين، 3/ 11.
(6)
انظر: الفروق، 1/ 303.
كما أن درء الحدود بالشبهات على فرض صحته، لا يثبت به مثل هذا الأمر العظيم الذي يفضي إلى التحاكم لغير حكم اللَّه عز وجل (1)، وليس هذا مجال العمل به.
وليست كل الشبهات تدرأ الحد، بل "الشبهة إذا كانت محتملة فهي التي توجب ذلك، أما لو لم تكن محتملة فليست شبهة، بل هي دلسة وقع بها التذرع إلى إسقاط ما شرعه اللَّه من الحدود"(2).
قال ابن القيم رحمه الله: "الحدود جعلها اللَّه تعالى زواجر للنفوس وعقوبة ونكالًا وتطهيرًا، فشرعها من أعظم مصالح العباد في المعاش والمعاد، بل لا تتم سياسة ملك من ملوك الأرض إلا بزواجر وعقوبات لأرباب الجرائم، ومعلوم ما في التحيل لإسقاطها من منافاة هذا الغرض وإبطاله، وتسليط النفوس الشريرة على تلك الجنايات، إذا علمت أن لها طريقًا إلى إبطال عقوباتها فيها، وأنها تسقط تلك العقوبات بأدنى الحيل، فإنه لا فرق عندها البتة بين أن تعلم أنه لا عقوبة عليها فيها وبين أن تعلم أن لها عقوبة وأن لها إسقاطها بأدنى الحيل"(3).
وإن استبدال الحدود والعقوبات الشرعية بأي عقوبات وضعية لن يحقق المراد، ولن يفي بالغرض، وإنما سيؤدي إلى نتائج عكسية، قال ابن تيمية رحمه الله: "وقد أجمع المسلمون على أن تعطيل الحد بمال يؤخذ أو غيره لا يجوز، وأجمعوا على أن المال المأخوذ من الزاني والسارق والشارب والمحارب وقاطع الطريق ونحو ذلك لتعطيل الحد مال سحت خبيث كثير مما يوجد من فساد أمور الناس، إنما هو لتعطيل الحد بمال أو جاه، وهذا من
(1) انظر: نيل الأوطار، 7/ 273.
(2)
السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار، محمد بن علي الشوكاني، تحقيق: محمود إبراهيم زايد، دار الكتب العلمية: بيروت، ط 1، 1405 هـ، 4/ 336.
(3)
إعلام الموقعين، 3/ 184 - 185.