المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الثالث عدم الأخذ بأسباب القوة - الاستضعاف وأحكامه في الفقه الإسلامي

[زياد بن عابد المشوخي]

فهرس الكتاب

- ‌تقريظ

- ‌المقدمة

- ‌الباب الأول تعريف الاستضعاف وأنواعه ومظاهره

- ‌الفصل الأول: تعريف الاستضعاف

- ‌المبحث الأول: تعريف الاستضعاف

- ‌المطلب الأول: تعريف الاستضعاف لغة

- ‌المطلب الثاني: تعريف الاستضعاف اصطلاحًا

- ‌المبحث الثاني: مفهوم الاستضعاف في القرآن الكريم

- ‌المبحث الثالث: مفهوم الاستضعاف في الأحاديث النبوية

- ‌المبحث الرابع: بيان الألفاظ ذات الصلة

- ‌المطلب الأول: تعريف الإكراه

- ‌الفرع الأول: تعريف الإكراه لغة:

- ‌الفرع الثاني: تعريف الإكراه اصطلاحًا:

- ‌الفرع الثالث: استخدام الفقهاء لكلمة الإكراه:

- ‌المطلب الثاني: تعريف الاضطرار

- ‌الفرع الأول: تعريف الاضطرار لغة:

- ‌الفرع الثاني: تعريف الاضطرار اصطلاحًا:

- ‌المطلب الثالث: الفرق بين الضرورة والحاجة

- ‌المطلب الرابع: تعريف الاضطهاد

- ‌المبحث الخامس: المقارنة بين الاستضعاف والألفاظ ذات الصلة

- ‌الفصل الثاني: أنواع الاستضعاف ومظاهره

- ‌المبحث الأول: أنواع الاستضعاف

- ‌المطلب الأول: تقسيم الاستضعاف باعتبار درجته

- ‌المطلب الثاني: تقسيم الاستضعاف باعتبار من يقع عليه

- ‌المطلب الثالث: تقسيم الاستضعاف باعتبار الاعتذار به

- ‌المبحث الثاني: العلاقة بين مرحلة الاستضعاف والمرحلة المكية

- ‌المبحث الثالث: مظاهر الاستضعاف

- ‌المبحث الرابع: استحكام الاستضعاف فى الأرض

- ‌الباب الثاني أسباب الاستضعاف ووسائل دفعه وضوابطها

- ‌الفصل الأول أسباب الاستضعاف

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول أسباب الاستضعاف الداخلية

- ‌المطلب الأول انشقاق المسلمين وتفرقهم

- ‌المطلب الثانى العصبية والعنصرية بين المسلمين

- ‌المطلب الثالث عدم الأخذ بأسباب القوة

- ‌المبحث الثاني أسباب الاستضعاف الخارجية

- ‌المطلب الأول الاحتلال والاستعمار وما خلفه من آثار

- ‌المطلب الثانى الغزو الفكري والثقافي

- ‌المطلب الثالث الحصار بمختلف أشكاله وصوره

- ‌الفصل الثاني وسائل دفع الاستضعاف

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول الأخد بأسباب القوة

- ‌المطلب الأول قوة العقيدة

- ‌المطلب الثانى القوة العسكرية

- ‌المطلب الثالث القوة الاقتصادية

- ‌المطلب الرايع القوة السياسية

- ‌المطلب الخامس القوة الإعلامية

- ‌المطلب السادس القوة المعنوية

- ‌المبحث الثانى الوحدة الإسلامية

- ‌المبحث الثالث الدخول في الجوار

- ‌المطلب الأول تعريف الجوار لغة واصطلاحًا

- ‌المطلب الثاني الأدلة على مشروعية الجوار

- ‌المبحث الرابع المعاهدات والتحالفات

- ‌المطلب الأول تعريف المعاهدة والحلف

- ‌الفرع الأول: تعريف المعاهدات لغة:

- ‌الفرع الثاني: تعريف المعاهدات اصطلاحًا:

- ‌المطلب الثانى الأدلة على مشروعية المعاهدات والتحالفات

- ‌المطلب الثالث الحلف في الإسلام

- ‌المطلب الرابع التقاء مصالح المستضعفين مع الكفار

- ‌المبحث الخامس الجهاد

- ‌المبحث السادس الهجرة

- ‌المطلب الأول تعريف الهجرة لغة واصطلاحًا

- ‌الفرع الأول: تعريف الهجرة في اللغة:

- ‌الفرع الثاني: تعرف الهجرة اصطلاحًا:

- ‌المطلب الثانى الأدلة على مشروعية الهجرة

- ‌المطلب الثالث أهمية الهجرة ومكانتها وبقائها

- ‌الفصل الثالث الأمور والضوابط التي ينبغي على المستضعفين الأخذ بها ومراعاتها

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول تفاوت قدرات المستضعفين

- ‌المبحث الثانى التفريق بين استضعاف العَالِم واستضعاف غيره

- ‌المبحث الثالث تقدير الضرورة والحاجة يكون بالرجوع إلى أهل العلم

- ‌المبحث الرابع عدم الركون للاستضعاف

- ‌المبحث الخامس الأخذ بضوابط العمل بالضرورة والحاجة

- ‌المبحث السادس العمل بشروط الإكراه المعتبر

- ‌المبحث السابع مراعاة الفرق بين فقه الاستضعاف وفقه التمكين

- ‌المبحث الثامن العمل بآيات الصبر والصفح والعفو

- ‌الباب الثالث أحكام الاستضعاف

- ‌الفصل الأول المسائل المتعلقة بالاستضعاف

- ‌المبحث الأول الاستعانة بالكفار في القتال حال الاستضعاف

- ‌المطلب الأول تعريف الاستعانة

- ‌المطلب الثاني حكم الاستعانة بالكفار

- ‌الفرع الأول: حكم الاستعانة بالكفار على الكفار:

- ‌الفرع الثانى: حكم الاستعانة بالكفار على البغاة من المسلمين:

- ‌المطلب الثالث حكم الاستعانة بأهل البدع

- ‌الفرع الأول: تعريف البدعة لغة واصطلاحًا:

- ‌الفرع الثاني: أقوال الفقهاء في حكم الاستعانة بأهل البدع:

- ‌المطلب الرابع حكم الاستعانة بالكفار في الجوانب الأخرى

- ‌المبحث الثاني دفع المال للكفار حال الاستضعاف

- ‌المطلب الأول تعريف الحدود

- ‌الفرع الأول: تعريف الحدود لغة:

- ‌الفرع الثاني: تعريف الحدود اصطلاحًا:

- ‌المطلب الثاني الحكمة من الحدود وأهميتها

- ‌المطلب الثالث التمهيد إقامة الحدود

- ‌المطلب الرابع استبدال الحدود

- ‌المطلب الخامس الفرق بين تعطيل الحدود وتعطيل التعازير

- ‌المطلب السادس الحدود عام الرمادة

- ‌المطلب السابع حالات جواز تعطيل الحدود

- ‌المبحث الرابع الاعتراف بالاحتلال حال الاستضعاف

- ‌المطلب الأول تعريف الاعتراف وأشكاله

- ‌الفرع الأول: الاعتراف في اللغة:

- ‌الفرع الثانى: الاعتراف اصطلاحًا:

- ‌المطلب الثاني آثار الاعتراف ونتائجه

- ‌المطلب الثالث حكم الاعتراف بالاحتلال (الاحتلال الصهيونى نموذجًا)

- ‌المطلب الرابع بدائل الاعتراف بالكيان الصهيونى

- ‌المطلب الخامس الاعتراف الواقعي فى الفقه الإسلامي

- ‌المبحث الخامس بيع الأراضي للاحتلال حال الاستضعاف

- ‌المبحث السادس تسليم المطلوبين المسلمين ونحوهم (الذميين) فى حال الاستضعاف

- ‌المطلب الأول تعريف تسليم المطلوبين

- ‌المطلب الثانى أقوال الفقهاء في مسألة رد المسلم

- ‌المطلب الثالث بيان الفرق بين التسليم والرد

- ‌المطلب الرابع تسليم المطلوبين للدولة الكافرة حال الاستضعاف

- ‌الفرع الأول: الأدلة من القرآن الكريم:

- ‌الفرع الثانى: الأدلة من السنة النبوية:

- ‌الفرع الثالث: الأدلة من عمل الصحابة رضي الله عنهم

- ‌الفرع الرابع: الأدلة من المعقول:

- ‌المبحث السابع التجنس بجنسية دولة غير إسلامية حال الاستضعاف

- ‌المطلب الأول تعريف الجنسية

- ‌المطلب الثانى الإقامة في دار الكفر

- ‌المطلب الثالث حصول المستضعف على جنسية الدولة الكافرة

- ‌المطلب الرابع التجنس الجماعي للمستضعفين

- ‌المبحث الثامن المشاركة فى الحكم حال الاستضعاف

- ‌المبحث التاسع نزع الحجاب حال الاستضعاف

- ‌المطلب الأول تعريف الحجاب والنقاب

- ‌المطلب الثاني الأدلة على وجوب الحجاب

- ‌المطلب الثالث نزع الحجاب حال الاستضعاف

- ‌الفرع الأول: شروط نزع الحجاب حال الاستضعاف:

- ‌الفرع الثانى: شروط نزع النقاب حال الاستضعاف:

- ‌الفصل الثالث ما يُرخص به حال الاستضعاف

- ‌المبحث الأول كتمان الإسلام وشعائره حال الاستضعاف

- ‌المطلب الأول تعريف الشعائر ومكانتها

- ‌الفرع الأول: الشعائر لغة:

- ‌الفرع الثانى: الشعائر اصطلاحًا:

- ‌الفرع الثالث: مكانة شعائر الإسلام وأهمية إظهارها:

- ‌المطلب الثاني كتمان الإسلام وإخفاء شعائره

- ‌المطلب الثالث المفاضلة بين إظهار الشعائر وإخفائها حال الاستضعاف

- ‌المطلب الرابع متى يجب كتمان الإسلام وشعائره

- ‌المطلب الخامس كتمان الجماعة للإسلام وإخفاء شعائره

- ‌المبحث الثانى استخدام المستضعف للحيلة ونحوها

- ‌المطلب الأول تعريف الحيلة وأنواعها

- ‌الفرع الأول: تعريف الحيلة في اللغة:

- ‌الفرع الثانى تعريف الحيلة اصطلاحًا:

- ‌الفرع الثالث: أنواع الحيلة:

- ‌المطلب الثاني الأدلة على مشروعية الحيلة للمستضعف

- ‌المطلب الثالث ما يلحق بالحيلة المشروعة

- ‌الفرع الأول: المعاريض:

- ‌الفرع الثانى: الكيد:

- ‌الفرع الثالث: التورية:

- ‌الفرع الرابع: النطق بكلمة الكفر:

- ‌المسألة الأولى: شروط النطق بكلمة الكفر:

- ‌المسألة الثانية: هل الأفضل النطق بكلمة الكفر أم الصبر

- ‌المسألة الثالثة: هل الأفضل في كل الأحوال عدم النطق بكلمة الكفر

- ‌المسألة الرابعة: النطق بكلمة الكفر لمجرد التهديد أو الخوف على المال:

- ‌المسألة الخامسة: هل الرخصة في القول أم القول والفعل

- ‌المسألة السادسة: هل يقاس على جواز النطق بكلمة الكفر ما دونها من الأفعال

- ‌المبحث الثالث استخدام المستضعف للتَقِيَّة

- ‌المطلب الأول تعريف التَقِيَّةُ

- ‌الفرع الأول: تعريف التَقِيَّةُ فى اللغة:

- ‌الفرع الثانى: تعريف التقية اصطلاحًا:

- ‌المطلب الثانى أدلة مشروعية التقية

- ‌المطلب الثالث متى تكون التَّقِيَّةِ وشروط جوازها

- ‌المبحث الرابع استخدام المستضعف للمدارة والمداهنة

- ‌المطلب الأول تعريف المداراة وحكمها

- ‌الفرع الأول: تعريف المدارة لغة واصطلاحًا:

- ‌الفرع الثانى: حكم المداراة للمستضعف:

- ‌المطلب الثانى حكم المداهنة للمستضعف

- ‌الخاتمة

- ‌فهرس المراجع

الفصل: ‌المطلب الثالث عدم الأخذ بأسباب القوة

فينصرون القائل ولو كان ظالما، فجاء الإسلام بالنهي عن ذلك، على الرغم من أن اسم المهاجرين والأنصار اسمان شريفان سماهم اللَّه بهما في كتابه فنهاهم عن ذلك وأرشدهم إلى أن يتداعوا بالمسلمين والمؤمنين وعباد اللَّه وهي الدعوى الجامعة بخلاف المفرقة كالفلانية والفلانية (1). "وكل ما خرج عن دعوة الإسلام والقرآن من نسب أو بلد أو جنس أو مذهب أو طريقة فهو من عزاء الجاهلية"(2).

لقد استبدل الإسلام التعصب الذي كان قائمًا عند أهل الجاهلية بالنصرة على الحق، والتعاون عليه، والحب في اللَّه، والبغض في اللَّه، وأي رابطة أو شعار أو دعوى تجمع الناس على الظلم والعدوان والإثم، فقد حاربها الإسلام، بل وأمر باستبدالها برابطة الاخوة الإسلامية.

* * *

‌المطلب الثالث عدم الأخذ بأسباب القوة

ومن يتأمل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم يجد أنه أخذ بأسباب القوة، ولجأ إلى الوسائل التي تحمي المسلمين وتقويهم، كأمره بالهجرة، ومن ثم بيعة العقبة الأولى، وبيعة العقبة الثانية، وبعد ذلك بناء الدولة الإسلامية بالمدينة، وعقد التحالفات والعهود التي من شأنها تحييد الأعداء من اليهود حتى تقوى الدولة الإسلامية وتستقر شؤونها.

(1) انظر: فتح الباري، 6/ 546 - 547، وتحفة الأحوذي، 9/ 154، ومدارج السالكين، محمد بن أبي بكر الزرعي ابن القيم الجوزية، تحقيق: محمد حامد الفقي، دار الكتاب العربي: بيروت، ط 2، 1393 هـ، 2/ 370.

(2)

الفتاوى، 28/ 328.

ص: 113

وليس المراد بالقوة الإعداد العسكري فحسب، بل إن من القوة إعداد من يحمل السلاح، بترسيخ الإيمان في قلوبهم؛ ليكونوا قادرين على مواجهة الأعداء، وتحمل الأعباء التي قد تواجههم، والقوة في كل أمر بحسبه، قال ابن تيمية رحمه الله:"والقوة في كل ولاية بحسبها، فالقوة في إمارة الحرب ترجع إلى شجاعة القلب وإلى الخبرة بالحروب والمخادعة فيها، فإن الحرب خدعة وإلى القدرة على أنواع القتال من رمي وطعن وضرب وركوب وكر وفر ونحو ذلك. . . والقوة في الحكم بين الناس ترجع إلى العلم بالعدل الذي دل عليه الكتاب والسنة، وإلى القدرة على تنفيذ الأحكام"(1).

وقد أمرنا اللَّه عز وجل بالإعداد وهو من الأخذ بأسباب القوة، قال تعالى:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} (2)، و"الإعداد اتخاذ الشيء لوقت الحاجة"(3)، والقوة "كل ما يتقوى به على حرب العدو من آلة الجهاد"(4)، وقد فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بالرمي، فقال عليه الصلاة والسلام وهو على المنبر:({وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي)(5). وفسر عليه الصلاة والسلام القوة بالرمي؛ لأنها أقوى أنواعها، وإن كانت تشمل الرمي وغيره (6)، قال القرطبي: "إنما فسر القوة بالرمي

(1) الفتاوى، 28/ 253.

(2)

سورة الأنفال، الآية [60].

(3)

معالم التنزيل، 2/ 258.

(4)

زاد المسير، 3/ 375.

(5)

أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب فضل الرمي والحث عليه وذم من علمه ثم نسيه، رقم: 1917، 3/ 1522.

(6)

انظر: تحفة الأحوذي، 5/ 278.

ص: 114

وإن كانت القوة تظهر بإعداد غيره من آلات الحرب؛ لكون الرمي أشد نكاية في العدو، وأسهل مؤنة؛ لأنه قد يرمي رأس الكتيبة فيصاب فينهزم من خلفه" (1).

والآية أمر جازم بإعداد كل ما في الاستطاعة من قوة، ولو بلغت القوة من التطور ما بلغت، فهو أمر جازم بمسايرة التطور في الأمور الدنيوية، وعدم الجمود على الحالات الأول إذا طرأ تطور جديد، ولكن كل ذلك مع التمسك بالدين، وقد أمر اللَّه المجاهدين بصلاة الخوف مما يدل على لزوم الجمع بين مكافحة العدو وبين القيام بما شرعه اللَّه جلَّ وعلا من دينه (2).

وقد قال صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القويّ خيرٌ وأحبّ إلى اللَّه منَ المؤمِن الضعيف، وفي كلٍّ خير، احرص على ما يَنفعك واستعن باللَّه ولا تعجز، وإن أصابك شيءٌ فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قُل: قدر اللَّه، وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان)(3). قال النووي رحمه الله: "والمراد بالقوة هنا عزيمة النفس والقريحة في أمور الآخرة، فيكون صاحب هذا الوصف أكثر إقداما على العدو في الجهاد، وأسرع خروجا إليه وذهابا في طلبه، وأشد عزيمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على الأذى في كل ذلك واحتمال المشاق في ذات اللَّه تعالى، وأرغب في الصلاة والصوم والأذكار وسائر العبادات، وأنشط طلبا لها، ومحافظة عليها ونحو ذلك، وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (وفي كل خير) فمعناه: في كل من القوي والضعيف خير؛ لاشتراكهما في الإيمان مع ما يأتي به الضعيف من العبادات"(4).

ولا شك أن من أهم أسباب القوة الجهاد في سبيل اللَّه والإعداد له، والآيات والأحاديث الواردة في فضل الجهاد والحث عليه والتحذير من تركه وعواقب ذلك كثيرة

(1) فتح الباري، 6/ 91.

(2)

انظر: أضواء البيان، 3/ 38.

(3)

أخرجه مسلم، كتاب القدر، باب في الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة، رقم: 2664، 4/ 2052.

(4)

شرح النووي على صحيح مسلم، 16/ 215.

ص: 115

جدا، قال تعالى:{وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (1)، قال ابن عباس رضي الله عنهما:(ليس التهلكة أن يُقتل الرجل في سبيل اللَّه، ولكن الإمساك عن النفقة في سبيل اللَّه)(2).

عن أسلم أبي عمران قال: "غزونا من المدينة نريد القسطنطينية، وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، والروم ملصقوا ظهورهم بحائط المدينة، فحمل رجل على العدو، فقال الناس: مه مه لا إله إلا اللَّه يلقي بيده إلى التهلكة، فقال أبو أيوب: إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، لما نصر اللَّه نبيه، وأظهر الإسلام، قلنا: هلم نقيم في أموالنا ونصلحها، فأنزل اللَّه عز وجل: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}، فالإلقاء بأيدينا إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا ونصلحها، وندع الجهاد. قال أبو عمران: فلم يزل أبو أيوب يجاهد في سبيل اللَّه حتى دفن بالقسطنطينية"(3). فترك الجهاد إلقاء بالنفس إلى التهلكة، كما أن تركه عند تعينه بأن دخل الحربيون دار الإسلام، أو أخذوا مسلما وأمكن تخليصه منهم، وترك الناس الجهاد من أصله، وترك أهل الإقليم تحصين ثغورهم بحيث يخاف عليها من استيلاء الكفار بسبب ترك ذلك التحصين يعد من الكبائر (4).

(1) سورة البقرة، الآية [195].

(2)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 3/ 584.

(3)

أخرجه أبو داود، كتاب الجهاد، باب قوله تعالى:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} ، رقم: 2512، 3/ 12، والترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة البقرة، رقم: 2972، 5/ 212، وقال:"حديث حسن صحيح غريب"، والحاكم، رقم: 2434، 2/ 94، وقال:"حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، وصحيح ابن حبان، محمد بن حبان التميمي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 2، 1414 هـ، رقم: 4711، 11/ 9.

(4)

انظر: الزواجر عن اقتراف الكبائر، أحمد بن حجر الهيثمى، لبنان: المطبعة العصرية، ط 2، 1420 هـ، 3/ 147.

ص: 116

وقد حذرنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من ترك الجهاد والانشغال عنه وبين لنا أن عاقبة ذلك وهو الذل، فقال:(إذا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّه عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حتى تَرْجِعُوا إلى دِينِكُمْ)(1).

والحديث فيه تحذير ووعيد شديد عن الاشتغال بالزرع في زمن يتعين فيه الجهاد، وإهمال القيام بوظائف العبادات، وترك الجهاد في سبيل اللَّه المتعين فعله، وعاقبة ذلك الذُل والهوان والضعف، ولا يرفع إلا بالرجوع إلى الدين، فجعل هذه الخصال من غير الدين ومرتكبها تارك للدين للمزيد من الزجر والتهويل والتقريع لفاعلها (2).

كما بين لنا النبي صلى الله عليه وسلم عاقبة ترك الجهاد، بقوله:(يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها)، فقال ثوبان: بأبي أنت وأمي يا رسول اللَّه ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: (لا بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن اللَّه من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن اللَّه في قلوبكم الوهن)، قالوا: وما الوهن يا رسول اللَّه؟ قال: (حب الدنيا وكراهية الموت)، وفي رواية:(وكراهية القتال)(3).

و"أصل الوهن والضعف عن الجهاد ومكافحة العدو هو حب الدنيا، وكراهية بذل النفوس للَّه، وبذل مهجها للقتل في سبيل اللَّه، ألا ترى إلى حال الصحابة رضي الله عنهم وقلتهم في

(1) أخرجه أبو داود، كتاب البيوع، باب في النهي عن العينة، رقم: 3462، 3/ 274، وأحمد، رقم: 5562، 2/ 84، وقال الزيلعي:"صحيح ورجاله ثقات"، نصب الراية لأحاديث الهداية، عبد اللَّه بن يوسف الحنفي الزيلعي، تحقيق: محمد البنوري، مصر: دار الحديث، ط 1، 1357 هـ، 4/ 16.

(2)

انظر: عون المعبود، 9/ 242، وفيض القدير، 1/ 397.

(3)

أخرجه أبو داود، كتاب الملاحم، باب في تداعي الأمم على الإسلام، رقم: 4297، وأحمد، 2/ 359، وابن أبي شيبة، 7/ 463، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، 7/ 563:"رواه أحمد والطبراني في الأوسط بنحوه وإسناد أحمد جيد".

ص: 117

صدر الإسلام وكيف فتح اللَّه بهم البلاد، ودان لدينهم العباد، لما بذلو للَّه أنفسهم في الجهاد، وحالنا اليوم كما ترى عدد أهل الإسلام كثير، ونكايتهم في الكفار نزر يسير، فهل هذا الزمان إلا زماننا بعينه، وتأمل حال ملوكنا إنما همتهم جمع المال من حرام وحلال وإعراضهم عن أمر الجهاد، فإنا للَّه وإنا إليه راجعون على مصاب الإسلام" (1).

والوهن أن يفعل الإنسان فعل الضعيف، ولهذا فقد نهى اللَّه عنه بقوله سبحانه:{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (2)، أي: لا تفعلوا أفعال الضعفاء وأنتم أقوياء، فالوهن انكسار الجسد بالخوف وغيره، وأما الضعف نقصان القوة (3)، قال القرطبي:"عزاهم وسلاهم بما نالهم يوم أحد من القتل والجراح، وحثهم على قتال عدوهم ونهاهم عن العجز والفشل فقال: {وَلَا تَهِنُوا} "أي: لا تضعفوا ولا تجبنوا يا أصحاب محمد عن جهاد أعدائكم لما أصابكم" (4)، "فإن وَهَن القلب مستدع لوَهَن البدن، وذلك يضعف عن مقاومة الأعداء" (5). وقد قال تعالى:{وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} (6).

(1) الجواهر الحسان في تفسير القرآن (تفسير الثعالبي)، عبد الرحمن بن محمد الثعالبي، بيروت: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، ط 1، د. ت، 1/ 318 - 319.

(2)

سورة آل عمران، الآية [139].

(3)

انظر: الفروق اللغوية، الحسن بن عبد اللَّه العسكري، بيروت: الدار العربية للكتاب، ط 1، 1983 م، 1/ 330 - 331.

(4)

الجامع لأحكام القرآن، 4/ 216 - 217.

(5)

تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، 1/ 199.

(6)

سورة النساء، الآية [104].

ص: 118

والوهن أدى إلى الهزيمة النفسية والضعف المعنوي، والعوامل التي أدت إلى هذا الضعف المعنوي لدى المسلمين متعددة من أهمها: ضعف الالتزام بمبادىء الدين وأحكامه، وانعدام الوحدة السياسية، وتخلي كثير من المسلمين عن الجهاد في سبيل اللَّه، والعصبية القبلية (1)، وهذا يظهر لنا تداخل أسباب الاستضعاف وارتباط بعضها ببعض.

إن المسلمين بحاجة للأخذ بأسباب القوة في شتى المجالات سواءً العسكرية منها أو التعليمية والصناعية والاقتصادية والسياسية وغيرها.

* * *

(1) انظر: الضعف المعنوي وأثره في سقوط الأمم - عصر ملوك الطوائف في الأندلس أنموذجا، د. حمد صالح السحيباني، الرياض: مجلة البيان، ط 1، 1423 هـ.

ص: 119