الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثانى حكم المداهنة للمستضعف
ومعنى المداهنة في اللغة المصانعة واللين، وقيل: إظهار خلاف ما يضمر، والإدهان الغش، ودهن الرجل إذا نافق (1)، وكما سبق بيانه فإنها اصطلاحًا خصت بالمصانعة بالتنازل عن الأمور الدينية لحفظ الأمور الدنيوية، فهي:"بذل الدين لحفظ الدنيا"(2).
ودل على حرمة المداهنة، قوله تعالى:{فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} (3)، وقد رجح ابن جرير أن المراد بالمداهنة: الملاينة في الدين (4).
وقد ذهب البعض إلى عدم حرمتها مطلقًا، وأنها تجري عليها الأحكام الخمسة، فقد تجب لدفع مفسدة لا تندفع إلا بها، وتندب إذا كان يتوصل بها إلى مندوب، وتكره إن كانت لمجرد الضعف والجبن لا لضرورة تقتضيها، وكل من يشكر ظالمًا على ظلمه أو مبتدعًا على بدعته فهي مداهنة حرام؛ لكونها وسيلة لزيادة الظلم وأهله (5)، "فيجوز أن يفعل مع الفاسق من الوداد ظاهرًا ما يعتقد خلافه، وإنما يحرم من المداهنة ما كان على باطل، وأما لأجل التقيه والتودد لدفع الضرر بكلام صدق بأن يشكره بما فيه من خير، فإن ما من أحد وإن كثير فجوره وفحشه إلا وفيه خير"(6).
(1) انظر: لسان العرب، ومقاييس اللغة، ومختار الصحاح، مادة: دهن.
(2)
الفواكه الدواني، 2/ 299.
(3)
سورة القلم، الآيتان [8 - 9].
(4)
انظر: شرح مشكل الآثار، 8/ 419، وجامع البيان عن تأويل آي القرآن، 29/ 21 - 22، وقال:"وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال معنى ذلك ود هؤلاء المشركون يا محمد لو تلين لهم في دينك بإجابتك إياهم إلى الركون إلى آلهتهم فيلينون لك في عبادتك إلهك".
(5)
الفواكه الدواني، 2/ 295، والفروق، 4/ 399 - 400.
(6)
الذخيرة، 13/ 253.
إلا أن ابن حجر رحمه الله ذهب إلى حرمة المداهنة مطلقًا، فقال:"وظن بعضهم أن المداراة هي المداهنة فغلط؛ لأن المداراة مندوب إليها، والمداهنة محرمة، والفرق أن المداهنة من الدهان، وهو الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه، وفسرها العلماء بأنها: معاشرة الفاسق، وإظهار الرضا بما هو فيه من غير إنكار عليه"(1).
ولعل الراجح القول بحرمة المداهنة مطلقًا، لارتباطها بالنية وهي لا سلطة للمستضِعف أو المُكرِه عليها.
قال ابن العربي رحمه الله: "وحقيقة الإدهان إظهار المقاربة مع الاعتقاد للعداوة، فإن كانت المقاربة بالدين فهي مداهنة، وإن كانت مع سلامة الدين فهي: مداراة، أي: مدافعة"(2)، ويظهر لي أن صور المداهنة التي قال بعض الفقهاء بجوازها إنما هي من باب المداراة، كما أطلق الكذب على المعاريض بناء على ما يظهر للسامع.
* * *
(1) فتح الباري، 10/ 528 - 529.
(2)
أَحْكَام الْقُرْآن لابن الْعَرَبِيّ، 4/ 305.