المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الثاني: تقسيم الاستضعاف باعتبار من يقع عليه - الاستضعاف وأحكامه في الفقه الإسلامي

[زياد بن عابد المشوخي]

فهرس الكتاب

- ‌تقريظ

- ‌المقدمة

- ‌الباب الأول تعريف الاستضعاف وأنواعه ومظاهره

- ‌الفصل الأول: تعريف الاستضعاف

- ‌المبحث الأول: تعريف الاستضعاف

- ‌المطلب الأول: تعريف الاستضعاف لغة

- ‌المطلب الثاني: تعريف الاستضعاف اصطلاحًا

- ‌المبحث الثاني: مفهوم الاستضعاف في القرآن الكريم

- ‌المبحث الثالث: مفهوم الاستضعاف في الأحاديث النبوية

- ‌المبحث الرابع: بيان الألفاظ ذات الصلة

- ‌المطلب الأول: تعريف الإكراه

- ‌الفرع الأول: تعريف الإكراه لغة:

- ‌الفرع الثاني: تعريف الإكراه اصطلاحًا:

- ‌الفرع الثالث: استخدام الفقهاء لكلمة الإكراه:

- ‌المطلب الثاني: تعريف الاضطرار

- ‌الفرع الأول: تعريف الاضطرار لغة:

- ‌الفرع الثاني: تعريف الاضطرار اصطلاحًا:

- ‌المطلب الثالث: الفرق بين الضرورة والحاجة

- ‌المطلب الرابع: تعريف الاضطهاد

- ‌المبحث الخامس: المقارنة بين الاستضعاف والألفاظ ذات الصلة

- ‌الفصل الثاني: أنواع الاستضعاف ومظاهره

- ‌المبحث الأول: أنواع الاستضعاف

- ‌المطلب الأول: تقسيم الاستضعاف باعتبار درجته

- ‌المطلب الثاني: تقسيم الاستضعاف باعتبار من يقع عليه

- ‌المطلب الثالث: تقسيم الاستضعاف باعتبار الاعتذار به

- ‌المبحث الثاني: العلاقة بين مرحلة الاستضعاف والمرحلة المكية

- ‌المبحث الثالث: مظاهر الاستضعاف

- ‌المبحث الرابع: استحكام الاستضعاف فى الأرض

- ‌الباب الثاني أسباب الاستضعاف ووسائل دفعه وضوابطها

- ‌الفصل الأول أسباب الاستضعاف

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول أسباب الاستضعاف الداخلية

- ‌المطلب الأول انشقاق المسلمين وتفرقهم

- ‌المطلب الثانى العصبية والعنصرية بين المسلمين

- ‌المطلب الثالث عدم الأخذ بأسباب القوة

- ‌المبحث الثاني أسباب الاستضعاف الخارجية

- ‌المطلب الأول الاحتلال والاستعمار وما خلفه من آثار

- ‌المطلب الثانى الغزو الفكري والثقافي

- ‌المطلب الثالث الحصار بمختلف أشكاله وصوره

- ‌الفصل الثاني وسائل دفع الاستضعاف

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول الأخد بأسباب القوة

- ‌المطلب الأول قوة العقيدة

- ‌المطلب الثانى القوة العسكرية

- ‌المطلب الثالث القوة الاقتصادية

- ‌المطلب الرايع القوة السياسية

- ‌المطلب الخامس القوة الإعلامية

- ‌المطلب السادس القوة المعنوية

- ‌المبحث الثانى الوحدة الإسلامية

- ‌المبحث الثالث الدخول في الجوار

- ‌المطلب الأول تعريف الجوار لغة واصطلاحًا

- ‌المطلب الثاني الأدلة على مشروعية الجوار

- ‌المبحث الرابع المعاهدات والتحالفات

- ‌المطلب الأول تعريف المعاهدة والحلف

- ‌الفرع الأول: تعريف المعاهدات لغة:

- ‌الفرع الثاني: تعريف المعاهدات اصطلاحًا:

- ‌المطلب الثانى الأدلة على مشروعية المعاهدات والتحالفات

- ‌المطلب الثالث الحلف في الإسلام

- ‌المطلب الرابع التقاء مصالح المستضعفين مع الكفار

- ‌المبحث الخامس الجهاد

- ‌المبحث السادس الهجرة

- ‌المطلب الأول تعريف الهجرة لغة واصطلاحًا

- ‌الفرع الأول: تعريف الهجرة في اللغة:

- ‌الفرع الثاني: تعرف الهجرة اصطلاحًا:

- ‌المطلب الثانى الأدلة على مشروعية الهجرة

- ‌المطلب الثالث أهمية الهجرة ومكانتها وبقائها

- ‌الفصل الثالث الأمور والضوابط التي ينبغي على المستضعفين الأخذ بها ومراعاتها

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول تفاوت قدرات المستضعفين

- ‌المبحث الثانى التفريق بين استضعاف العَالِم واستضعاف غيره

- ‌المبحث الثالث تقدير الضرورة والحاجة يكون بالرجوع إلى أهل العلم

- ‌المبحث الرابع عدم الركون للاستضعاف

- ‌المبحث الخامس الأخذ بضوابط العمل بالضرورة والحاجة

- ‌المبحث السادس العمل بشروط الإكراه المعتبر

- ‌المبحث السابع مراعاة الفرق بين فقه الاستضعاف وفقه التمكين

- ‌المبحث الثامن العمل بآيات الصبر والصفح والعفو

- ‌الباب الثالث أحكام الاستضعاف

- ‌الفصل الأول المسائل المتعلقة بالاستضعاف

- ‌المبحث الأول الاستعانة بالكفار في القتال حال الاستضعاف

- ‌المطلب الأول تعريف الاستعانة

- ‌المطلب الثاني حكم الاستعانة بالكفار

- ‌الفرع الأول: حكم الاستعانة بالكفار على الكفار:

- ‌الفرع الثانى: حكم الاستعانة بالكفار على البغاة من المسلمين:

- ‌المطلب الثالث حكم الاستعانة بأهل البدع

- ‌الفرع الأول: تعريف البدعة لغة واصطلاحًا:

- ‌الفرع الثاني: أقوال الفقهاء في حكم الاستعانة بأهل البدع:

- ‌المطلب الرابع حكم الاستعانة بالكفار في الجوانب الأخرى

- ‌المبحث الثاني دفع المال للكفار حال الاستضعاف

- ‌المطلب الأول تعريف الحدود

- ‌الفرع الأول: تعريف الحدود لغة:

- ‌الفرع الثاني: تعريف الحدود اصطلاحًا:

- ‌المطلب الثاني الحكمة من الحدود وأهميتها

- ‌المطلب الثالث التمهيد إقامة الحدود

- ‌المطلب الرابع استبدال الحدود

- ‌المطلب الخامس الفرق بين تعطيل الحدود وتعطيل التعازير

- ‌المطلب السادس الحدود عام الرمادة

- ‌المطلب السابع حالات جواز تعطيل الحدود

- ‌المبحث الرابع الاعتراف بالاحتلال حال الاستضعاف

- ‌المطلب الأول تعريف الاعتراف وأشكاله

- ‌الفرع الأول: الاعتراف في اللغة:

- ‌الفرع الثانى: الاعتراف اصطلاحًا:

- ‌المطلب الثاني آثار الاعتراف ونتائجه

- ‌المطلب الثالث حكم الاعتراف بالاحتلال (الاحتلال الصهيونى نموذجًا)

- ‌المطلب الرابع بدائل الاعتراف بالكيان الصهيونى

- ‌المطلب الخامس الاعتراف الواقعي فى الفقه الإسلامي

- ‌المبحث الخامس بيع الأراضي للاحتلال حال الاستضعاف

- ‌المبحث السادس تسليم المطلوبين المسلمين ونحوهم (الذميين) فى حال الاستضعاف

- ‌المطلب الأول تعريف تسليم المطلوبين

- ‌المطلب الثانى أقوال الفقهاء في مسألة رد المسلم

- ‌المطلب الثالث بيان الفرق بين التسليم والرد

- ‌المطلب الرابع تسليم المطلوبين للدولة الكافرة حال الاستضعاف

- ‌الفرع الأول: الأدلة من القرآن الكريم:

- ‌الفرع الثانى: الأدلة من السنة النبوية:

- ‌الفرع الثالث: الأدلة من عمل الصحابة رضي الله عنهم

- ‌الفرع الرابع: الأدلة من المعقول:

- ‌المبحث السابع التجنس بجنسية دولة غير إسلامية حال الاستضعاف

- ‌المطلب الأول تعريف الجنسية

- ‌المطلب الثانى الإقامة في دار الكفر

- ‌المطلب الثالث حصول المستضعف على جنسية الدولة الكافرة

- ‌المطلب الرابع التجنس الجماعي للمستضعفين

- ‌المبحث الثامن المشاركة فى الحكم حال الاستضعاف

- ‌المبحث التاسع نزع الحجاب حال الاستضعاف

- ‌المطلب الأول تعريف الحجاب والنقاب

- ‌المطلب الثاني الأدلة على وجوب الحجاب

- ‌المطلب الثالث نزع الحجاب حال الاستضعاف

- ‌الفرع الأول: شروط نزع الحجاب حال الاستضعاف:

- ‌الفرع الثانى: شروط نزع النقاب حال الاستضعاف:

- ‌الفصل الثالث ما يُرخص به حال الاستضعاف

- ‌المبحث الأول كتمان الإسلام وشعائره حال الاستضعاف

- ‌المطلب الأول تعريف الشعائر ومكانتها

- ‌الفرع الأول: الشعائر لغة:

- ‌الفرع الثانى: الشعائر اصطلاحًا:

- ‌الفرع الثالث: مكانة شعائر الإسلام وأهمية إظهارها:

- ‌المطلب الثاني كتمان الإسلام وإخفاء شعائره

- ‌المطلب الثالث المفاضلة بين إظهار الشعائر وإخفائها حال الاستضعاف

- ‌المطلب الرابع متى يجب كتمان الإسلام وشعائره

- ‌المطلب الخامس كتمان الجماعة للإسلام وإخفاء شعائره

- ‌المبحث الثانى استخدام المستضعف للحيلة ونحوها

- ‌المطلب الأول تعريف الحيلة وأنواعها

- ‌الفرع الأول: تعريف الحيلة في اللغة:

- ‌الفرع الثانى تعريف الحيلة اصطلاحًا:

- ‌الفرع الثالث: أنواع الحيلة:

- ‌المطلب الثاني الأدلة على مشروعية الحيلة للمستضعف

- ‌المطلب الثالث ما يلحق بالحيلة المشروعة

- ‌الفرع الأول: المعاريض:

- ‌الفرع الثانى: الكيد:

- ‌الفرع الثالث: التورية:

- ‌الفرع الرابع: النطق بكلمة الكفر:

- ‌المسألة الأولى: شروط النطق بكلمة الكفر:

- ‌المسألة الثانية: هل الأفضل النطق بكلمة الكفر أم الصبر

- ‌المسألة الثالثة: هل الأفضل في كل الأحوال عدم النطق بكلمة الكفر

- ‌المسألة الرابعة: النطق بكلمة الكفر لمجرد التهديد أو الخوف على المال:

- ‌المسألة الخامسة: هل الرخصة في القول أم القول والفعل

- ‌المسألة السادسة: هل يقاس على جواز النطق بكلمة الكفر ما دونها من الأفعال

- ‌المبحث الثالث استخدام المستضعف للتَقِيَّة

- ‌المطلب الأول تعريف التَقِيَّةُ

- ‌الفرع الأول: تعريف التَقِيَّةُ فى اللغة:

- ‌الفرع الثانى: تعريف التقية اصطلاحًا:

- ‌المطلب الثانى أدلة مشروعية التقية

- ‌المطلب الثالث متى تكون التَّقِيَّةِ وشروط جوازها

- ‌المبحث الرابع استخدام المستضعف للمدارة والمداهنة

- ‌المطلب الأول تعريف المداراة وحكمها

- ‌الفرع الأول: تعريف المدارة لغة واصطلاحًا:

- ‌الفرع الثانى: حكم المداراة للمستضعف:

- ‌المطلب الثانى حكم المداهنة للمستضعف

- ‌الخاتمة

- ‌فهرس المراجع

الفصل: ‌المطلب الثاني: تقسيم الاستضعاف باعتبار من يقع عليه

‌المطلب الثاني: تقسيم الاستضعاف باعتبار من يقع عليه

وهو نوعان:

استضعاف الفرد:

وهو الذي يقع على فرد من الأفراد، فقد يقع عليهم الاستضعاف حتى في حال قوة الدولة الإسلامية عند بُعدهم عنها، أو عدم قدرتها على نصرتهم، كأن يقع الفرد في الأسر، أو لوجود عهد، أو لا يتمكن من الهجرة إلى الدولة الإسلامية، وتختلف النظرة إلى هذا الفرد بحسب مكانته ومنزلته، فليس العالم كباقي أفراد المسلمين، وليس الأسير كغيره.

ومن أمثلة استضعاف الأفراد استضعاف ما جرى مع نبي اللَّه هارون عليه السلام ، وذكر اللَّه عز وجل ما اعتذر به نبي اللَّه هارون عليه السلام لأخيه موسى عليه السلام، قال تعالى:{وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (1). أي: استذلوني وعدوني ضعيفا، وكادوا أي: قاربوا (2)، فأقام هارون فيمن معه من المسلمين ممن لم يفتتن، وأقام من يعبد العجل على عبادة العجل، وتخوف هارون إن سار بمن معه من المسلمين، أن يقول له موسى: فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي: {قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} (3)، وكان له هائبًا مطيعًا (4)، وبيَّن

(1) سورة الأعراف، من الآية [150].

(2)

الجامع لأحكام القرآن، 7/ 290.

(3)

سورة طه، الآية [94].

(4)

انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 2/ 67، وتفسير القرآن العظيم، 5/ 312.

ص: 73

اللَّه عز وجل براءته بقوله: {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَاقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} (1)، فرد عبدة العجل من قوم موسى على هارون عليه السلام: لا نترك عبادته حتى نسمع كلام موسى فيه. وخالفوا هارون في ذلك واستضعفوه وتمردوا عليه وحاربوه وكادوا أن يقتلوه (2).

ومن أمثلة استضعاف الأفراد مؤمن آل فرعون، والذي رجح المفسرون أنه ابن عم فرعون (3)، قال تعالى:{وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} (4)، وهذا المؤمن يكتم إيمانه وقال ما قال وهو لم يصرح بأنه على دين موسى، بل أوهم أنه مع فرعون وعلى دينه، إلا أنه زعم أن المصلحة تقتضي ترك قتل موسى، والأولى أن يؤخر قتله وأن يمنع من إظهار دينه، ثم أكد ذلك بقوله:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} ، فأوهم فرعون أنه أراد بقوله:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} أنه يريد موسى وهو إنما كان يقصد

(1) سورة طه، الآيتان:[90 - 91].

(2)

انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 18/ 358، وتفسير القرآن العظيم، 5/ 312، وأضواء البيان، 4/ 158.

(3)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 21/ 376، وقال:"وأولى القولين في ذلك بالصواب عندي القول الذي قاله السديّ من أن الرجل المؤمن كان من آل فرعون، قد أصغى لكلامه، واستمع منه ما قاله، وتوقف عن قتل موسى عند نهيه عن قتله"، وابن تفسير القرآن العظيم، 7/ 140.

(4)

سورة غافر، الآية [28].

ص: 74

به فرعون، ولعله كان يكتم إيمانه أولًا، فلما قال فرعون:{ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى} أزال الكتمان وأظهر كونه على دين موسى، وشافه فرعون بالحق (1).

ومن أمثلة استضعاف الأفراد ما وقع لأبي بصير وأبو جندل، فقد أخرج البخاري قصة توقيع صلح الحديبية وفيه:(فجاء أبو بصير فقال: يا نبي اللَّه قد واللَّه أوفى اللَّه ذمتك قد رددتني إليهم ثم أنجاني اللَّه منهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ لو كان له أحد)، فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر، قال: وَيَنْفَلِتُ منهم أبو جندل ابن سهيل فلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عصابة. فواللَّه ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم، فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تُنَاشِدُهُ بِاللَّه وَالرَّحِمِ لمَّا أَرْسَلَ فمن أتاه فهو آمن فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم رضي الله عنهم) (2)، "وقصة أبي بصير وأبي جندل وإخوانها لها دلالة مثيرة، فهي قصة المكافحة في لؤمٍ من الأعداء ووحشةٍ من الأصحاب! (3)، فأبو بصير خرج من المدينة وما معه سوى كف من التمر فأكلها ثلاثة أيام ثم أصبح يأتي الساحل فيصيب حيتانًا ألقاها البحر فيأكلها، وعمر رضي الله عنه كتب للمستضعفين في مكة قول الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي بصير:(وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ لو كان معه رجال)، وأخبرهم أنه بالساحل على طريق عير قريش، فلما جاءهم كتابه جعلوا يتسللون رجلًا رجلًا عند أبي بصير (4).

(1) انظر: مفاتيح الغيب، 13/ 329.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب الصلح، باب كيف يكتب هذا ما صالح فلان بن فلان، رقم: 2551، ومسلم، كتاب الجهاد والسِّيَرِ، بَاب صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ في الحُدَيْبِيَةِ، رقم:1783.

(3)

فقه السيرة، محمد الغزالي، تخريج: محمد ناصر الدين الألباني، دمشق: دار القلم، ط 6، 1416 هـ، ص 337.

(4)

انظر: المغازي للواقدي، محمد عمر الواقدي، تحقيق: مارسدن جونس، بيروت: دار عالم الكتب، ط 1، د. ت، ص 627.

ص: 75

وأبو جندل بعودته مع المشركين إلى مكة عاد إلى حالة استضعاف الجماعة، وانضم إلى المستضعفين الذين أخبر عنهم اللَّه عز وجل بقوله:{وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ. .} (1)، قال ابن تيمية رحمه الله:"فهؤلاء كانوا يكتمون إيمانهم في قومهم، ولا يتمكنون من إظهاره، ومن هؤلاء مؤمن آل فرعون، كان يكتم إيمانه، ومن هؤلاء النجاشي الذي صلى عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فإنه كان ملك النصارى بالحبشة، وكان في الباطن مؤمنًا"(2).

ومن أمثلة استضعاف الأفراد ما جرى مع أصحاب الكهف التي وردت قصتهم في القرآن الكريم، قال تعالى:{إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} (3)، "أي إن علموا بمكانكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم -يعنون أصحاب دقيانوس (4) - يخافون منهم أن يطلعوا على مكانهم فلا يزالون يعذبونهم بأنواع العذاب إلى أن يعيدوهم في ملتهم التي هم عليها أو يموتوا، وإن وافقتموهم على العود في الدين فلا فلاح لكم في الدنيا ولا في الآخرة"(5).

تنبيه: مما مضى يتبين أنه ليس من شرط تحقق الاستضعاف وقوع المستضعف في عذاب بل يكفي أن يغلب على ظنه وقوعه تحت العذاب ممن يقدر عليه، بل إن النجاشي كان ملكًا ومع هذا لم يقدر على الجهر بإسلامه في أول الأمر، ولا شك أن مجرد عدم إظهار الإسلام

(1) سورة الفتح، الآية [25].

(2)

اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية، عمد بن أبي بكر الدمشقي، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1404 هـ، 1/ 16.

(3)

سورة الكهف، الآية [20].

(4)

وهو الملك الجبار الذي كان يدعوا إلى عبادة الأوثان، وبطش بالمؤمنين في زمان أصحاب الكهف، انظر: المنتظم 2/ 152،والبداية والنهاية، 2/ 114.

(5)

تفسير القرآن العظيم، 3/ 78.

ص: 76

وشعائره فيه عذاب معنوي للمستضعف، وإن سلم من العذاب الحسي، والظاهر أن النجاشي قد كتم إسلامه عن الحبشة حتى لا يعزلوه، واستطاع بذلك أن يحمي المسلمين، وأن يشجع نشر الإسلام بين الحبشة تدريجيًا دون استخدام للعنف أو القهر، ولكن اللَّه تعالى لم يمهله حتى يتم ذلك الأمر (1)، ولذا فقد قال لمبعوث الرسول صلى الله عليه وسلم:(ولكن أعواني من الحبشة قليل فأنظرني حتى أكثر الأعوان والين القلوب)(2)، حتى أنه خفي على بعض المسلمين إسلام النجاشي، ولهذا لما مات رضي الله عنه نعاه الرسول صلى الله عليه وسلم ودعا الناس إلى المصلى للصلاة عليه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه:(أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نَعَى النَّجَاشِيَّ في اليوم الذي مات فيه، خرج إلى المُصلى فصف بهم وكبر أربعًا)(3)، وعن جابر رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم حين مات النَّجَاشِيُّ: (مات اليوم رجل صالحٌ فقوموا فصلوا على أخيكم أَصْحَمَةَ (4)) (5).

(1) انظر: إسلام نجاشي الحبشة ودوره في صدر الدعوة الإسلامية، د. سامية منيسى، القاهرة: دار الفكر العربي، ط 1، 1421 هـ، ص 96.

(2)

السيرة الحلبية، علي بن برهان الدين الحلبي، بيروت: دار المعرفة، ط 1، 1400 هـ، 3/ 294.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب الرجل ينعى إلى أهل الميت بنفسه، رقم: 1188، ومسلم، كتاب الجنائز، باب في التكبير على الجنازة، رقم:951.

(4)

قال النووي رحمه الله: "قوله: (صلى على أَصْحَمَة النَّجَاشِيّ) هو بفتح الهمزة وإسكان الصاد وفتح الحاء المُهْمَلَتَيْنِ. . قال ابن قُتَيْبَة وغيره: ومعناه بالعربية: عَطِيَّة. قال العلماء: والنجاشي لقب لكل من ملك الحبشة، وأما أَصْحَمَة فهو اسم عَلَم لهذا الملك الصالح الذي كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، قال المُطَرِّز وابن خالَوَيْهِ وآخرون من الأئمة كلامًا متداخلًا حاصله: أن كل مَن مَلَكَ المسلمين يُقال له: أمير المؤمنين، ومن ملك الحبشة: النجاشي، ومن ملك الروم: قيصر، ومن ملك الفرس: كسرى، ومن ملك الترك: خاقَان، ومن ملك الْقِبْط: فِرعَون، ومن ملك مصر: العزيز، ومن ملك اليمن: تُبَّع، ومن ملك حِمْيَر: الْقَيْل. بفتح القاف، وقيل: الْقَيْل أقل درجة من المَلِك"، شرح النووي على صحيح مسلم، 7/ 23.

(5)

أخرجه البخاري، كتاب بدء الوحي، باب موت النجاشي، رقم:3664.

ص: 77

قال ابن حجر رحمه الله: "الظاهر أنه إنما خرج بالمسلمين إلى المصلى؛ لقصد تكثير الجمع الذين يصلون عليه؛ ولإشاعة كونه مات على الإسلام، فقد كان بعض الناس لم يُدْرِكُونَهُ أسلم. . . عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى على النجاشي، قال بعض أصحابه: صَلَّى على عِلْج من الحبشة، فنزلت: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} (1) الآية، وله شاهد في معجم الطبراني الكبير من حديث وحشي بن حرب وآخر عنده في الأوسط من حديث أبي سعيد وزاد فيه أن الذي طعن بذلك فيه كان منافقا"(2).

النوع الثاني: استضعاف الجماعة (3) والدولة:

وهو الذي يقع على طائفة من المسلمين، أو جماعة منهم سواءً أكان لتلك الجماعة دولة أو كانوا أقلية، وقد يكون استضعافًا كليًا أو جزئيًا، ويقع الاستضعاف على تلك الجماعة المسلمة مع وجود قوة للمسلمين في مكان آخر بغض النظر عن الموانع أو الأمور التي تحول دونهم ودون نصرتهم.

ومن أمثلة استضعاف الجماعة ما جرى للمسلمين في مكة قبل الهجرة، فالمرحلة المكية تعد نموذجًا لاستضعاف الجماعة، وللاستضعاف الكلي، كما أن المرحلة المدنية في بعض مراحلها تعد نموذجًا لاستضعاف الجماعة ولكن ذلك الاستضعاف كان جزئيًا وليس كليًا.

(1) سورة آل عمران، الآية [199].

(2)

فتح الباري، 3/ 188.

(3)

الجماعة مأخوذة من جمع، يقال: جَمَعَ الشيءَ عن تَفْرِقة، يَجْمَعُه جَمْعًا وجَمَّعَه وأَجْمَعَه فاجتَمع، وكذلك تجمَّع واسْتجمع، والجَمْع اسم لجماعة الناس والجَمْعُ مصدر، والجماعة وهي العدد الكثير من الناس، أو طائفة من الناس يجمعها غرض واحد. انظر: لسان العرب، تاج العروس، والمعجم الوسيط، مادة: جمع.

ص: 78