الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال ابن تيمية رحمه الله في معرض حديثه عن مخالفة الكفار: "المخالفة لهم لا تكون إلا بعد ظهور الدين وعلوه، كالجهاد وإلزامهم بالجزية والصغار، فلما كان المسلمون في أول الأمر ضعفاء لم يشرع المخالفة لهم، فلما كمل الدين وظهر وعلا شُرع ذلك، ومثل ذلك اليوم لو أن المسلم بدار حرب أو دار كفر غير حرب لم يكن مأمورا بالمخالفة لهم في الهدي الظاهر؛ لما عليه في ذلك من الضرر، بل قد يستحب للرجل، أو يجب عليه أن يشاركهم أحيانا في هديهم الظاهر، إذا كان في ذلك مصلحة دينية من دعوتهم إلى الدين، والاطلاع على باطن أمرهم لإخبار المسلمين بذلك، أو دفع ضررهم عن المسلمين ونحو ذلك من المقاصد الصالحة، فأما في دار الإسلام والهجرة التي أعز اللَّه فيها دينه وجعل على الكافرين بها الصغار والجزية ففيها شُرعت المخالفة، وإذا ظهرت الموافقة والمخالفة لهم باختلاف الزمان ظهرت حقيقة الأحاديث في هذا"(1)، وقال أيضا:"وبالجملة لا خلاف بين المسلمين أن من كان في دار الكفر وقد آمن وهو عاجز عن الهجرة لا يجب عليه من الشرائع ما يعجز عنها بل الوجوب بحسب الإمكان، وكذلك ما لم يعلم حكمه"(2).
* * *
المطلب الخامس كتمان الجماعة للإسلام وإخفاء شعائره
سبق بيان أهمية إظهار الإسلام وأنه الأصل، وكذلك الشعائر لمكانتها ومنزلتها، وإن كان هذا الأمر في حق الأفراد، فإنه في حق الجماعة أولى، وفي حق الدولة الإسلامية أشد طلبًا، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم عندما كانوا بمكة لم يكن بمقدورهم في بداية تلك المرحلة إظهار الإيمان أو الشعائر، وقد وردت أحاديث كثيرة تظهر حال المسلمين في تلك المرحلة وطريقة تعاملهم معها، ومن تلك الأحاديث:
(1) اقتضاء الصراط، 1/ 176 - 177.
(2)
الفتاوى، 19/ 225.
قول سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصِ رضي الله عنه: (ما أَسْلَمَ أَحَدٌ إلا فِي اليوم الذي أَسْلَمْتُ فِيهِ وَلَقَدْ مَكَثْتُ سَبْعَةَ أَيَّامِ وَإِنِّي لَثُلُثُ الإسلام)(1).
وعن عمرو بن عبسة السلمي، رضي الله عنه (2) قال: قلت يا رسول اللَّه: من معك على هذا الأمر؟ قال: (حر، وعبد)، ومعه أَبو بكر، وبلال، ثم قال له:(ارجع إلى قومك حتى يمكن اللَّه عز وجل لرسوله)، قال: وكان عمرو بن عبسة يقول: (لقد رأيتني وأني لربع الإسلام)(3).
عن عفيّف بن عمرو رضي الله عنه (4) قال: (كنت امرءًا تاجرًا، وكنت صديقًا للعباس بن عبد المطلب في الجاهلية، فقدمت لتجارة فنزلت على العباس بن عبد المطلب بمنى، فجاء رجل فنظر إلى الشمس حين مالت فقام يصلي، ثم جاءت امرأة فقامت تصلي، ثم جاء غلام حين راهق الحلم فقام يصلي، فقلت للعباس: من هذا؟ فقال: هذا محمد بن عبد اللَّه ابن عبد المطلب ابن أخي يزعم أنه نبي، ولم يتابعه على أمره غير هذه المرأة، وهذا الغلام،
(1) أخرجه البخاري، كتاب المناقب، باب مناقب سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، رقم:3645.
(2)
عمرو بن عبسة بن خالد بن عامر بن غاضرة بن خفاف بن امرىء القيس، كان قد اعتزل عبادة الأوثان قبل أن يسلم، وسمع عن مبعث النبي صلى الله عليه وسلم من رجل من أهل الكتاب فبقي يتحين ويسأل عن خبر النبي صلى الله عليه وسلم فلما خرج جاءه فأسلم ثم أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع إلى بلاده فأقام بها إلى أن هاجر بعد خيبر وقبل الفتح فشهدها، ثم سكن الشام، ومات بحمص في أواخر خلافة عثمان، انظر: الإصابة في تمييز الصحابة، 4/ 658 - 660.
(3)
أخرجه الإمام أحمد، 4/ 114، رقم:17069.
(4)
صحاب جليل واسمه عُفَيّف بن قيس بن معد يكرب الكندي بن عم الأشعث بن قيس وأخوه لأمه، واسمه شرحبيل وعفيف لقب له، انظر: الإصابة في تمييز الصحابة، 4/ 515 - 516، والاستيعاب في معرفة الأصحاب، 3/ 1241 - 1243.
وهذه المرأة خديجة بنت خويلد امرأته، وهذا الغلام ابن عمه: علي بن أبي طالب، قال عفيف الكندي -وأسلم وحسن إسلامه-: لوددت أني كنت أسلمت يومئذ، فيكون لي ربع الإسلام) (1).
ومثل هذه الأقوال من الصحابة رضي الله عنهم إنما قالوها بحسب اطلاعهم؛ وذلك أن من كان أسلم في ابتداء الأمر كان يخفي إسلامه (2)، ولا شك أن في هذا دلالة واضحة على جواز كتمان الإيمان، وإخفاء الشعائر التي كانت في ذلك الحين كالصلاة مثلًا.
كما ورد في قصة موسى عليه السلام مع فرعون أن اللَّه عز وجل أوحى إليه باتخاذ البيوت قبلة وإخفاء الصلاة خوفًا عليهم من بطش فرعون وملئه، قال تعالى:{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (3)، عن مجاهد قال:"كانوا لا يصلون إلا في البِيعَ، فقيل لهم صلوا في بيوتكم من مخافة فرعون"(4)، قال ابن كثير رحمه الله:"وكأن هذا واللَّه أعلم لما اشتد بهم البلاء من قبل فرعون وقومه وضيقوا عليهم أمروا بكثرة الصلاة"(5).
(1) أخرجه الحاكم في المستدرك، 3/ 201، رقم: 4842، وقال:"هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه وله شاهد معتبر من أولاد عفيف بن عمرو"، وقال ابن عبد البر كما في الإصابة في تمييز الصحابة، 4/ 516:"هذا حديث حسن جدًا".
(2)
انظر: فتح الباري، 7/ 84.
(3)
سورة يونس، الآية [87].
(4)
سنن سعيد بن منصور، 5/ 329، رقم: 1072، وهذا القول مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 11/ 153، ومعالم التنزيل، 2/ 365، والجامع لأحكام القرآن، 8/ 371، والدر المنثور، 4/ 383.
(5)
تفسير القرآن العظيم، 2/ 429.
ويحسن التنبيه إلى أن إخفاء الشعائر لا يكون مقتصرًا على دار الحرب بل قد يكون في دار الإسلام إذا انتشرت البدعة وصار لها السلطان، قال ابن تيمية رحمه الله:"ليس مذهب السلف مما يتستر به إلا في بلاد أهل البدع، مثل: بلاد الرافضة والخوارج، فإن المؤمن المستضعف هناك قد يكتم إيمانه، واستنانه كما كتم مؤمن آل فرعون إيمانه، وكما كان كثير من المؤمنين يكتم إيمانه حين كانوا في دار الحرب"(1).
ونخلص من هذا إلى جواز إخفاء الشعائر للفرد وللجماعة، ويشترط لهذا أمور:
1 -
تحقق الاستضعاف.
2 -
تعلق الاستضعاف بالشعائر التي تخفى، بمعنى أن تكون تلك الشعائر سببًا في وقوع الاستضعاف حال إظهارها.
3 -
الاقتصار على قدر الضرورة والحاجة، بإظهار ما لا يضر إظهاره من الشعائر، فالمقدور لا يسقط بالمعذور.
4 -
إقامة الشعائر في السر طالما تعذر إقامتها في العلن ما أمكن ذلك.
5 -
إظهار الشعائر فور زوال المانع أو وجود القوة أو الأعوان، ويشهد لهذا عمل الصحابة في المرحلة المكية بعد إسلام عمر، قال عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه:(واللَّه ما استطعنا أن نصلي عند الكعبة ظاهرين حتى أسلم عمر)(2).
قال ابن تيمية رحمه الله: "والحجة على العباد إنما تقوم بشيئين، بشرط التمكن من العلم بما أنزل اللَّه، والقدرة على العمل به، فأما العاجز عن العلم كالمجنون، أو العاجز عن العمل فلا أمر عليه ولا نهي، وإذا انقطع العلم ببعض الدين أو حصل العجز عن بعضه
(1) الفتاوى، 4/ 149.
(2)
المستدرك على الصحيحين، باب من مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، رقم: 4487، 3/ 90، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وعلق الذهبي في التلخيص: صحيح.
كان ذلك في حق العاجز عن العلم أو العمل بقوله كمن انقطع عن العلم بجميع الدين أو عجز عن جميعه كالمجنون مثلًا، وهذه أوقات الفترات فإذا حصل من يقوم بالدين من العلماء أو الأمراء أو مجموعهما كان بيانه لما جاء به الرسول شيئًا فشيئًا بمنزلة بيان الرسول لما بعث به شيئًا فشيئًا، ومعلوم أن الرسول لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، ولم تأت الشريعة جملة كما يقال إذا أردت أن تُطاع فأمر بما يُستطاع، فكذلك المجدد لدينه والمحيي لسنته لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، كما أن الداخل في الإسلام لا يُمكن حين دخوله أن يُلقن جميع شرائعه ويؤمر بها كلها، وكذلك التائب من الذنوب، والمتعلم والمسترشد لا يُمكن في أول الأمر أن يُؤمر بجميع الدين، ويذكر له جميع العلم، فإنه لا يطيق ذلك، وإذا لم يطقه لم يكن واجبًا عليه في هذه الحال، وإذا لم يكن واجبًا لم يكن للعالم والأمير أن يوجبه جميعه ابتداءً، بل يعفو عن الأمر والنهي بما لا يمكن علمه وعمله إلى وقت الإمكان، كما عفى الرسول عما عفى عنه إلى وقت بيانه، ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرمات وترك الأمر بالواجبات؛ لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل، وقد فرضنا انتفاء هذا الشرط فتدبر هذا الأصل فإنه نافع، ومن هنا يتبين سقوط كثير من هذه الأشياء وان كانت واجبة أو محرمة في الأصل لعدم إمكان البلاغ الذي تقوم به حجة اللَّه في الوجوب أو التحريم، فإن العجز مسقط للأمر والنهي وأن كان واجبًا في الأصل واللَّه أعلم" (1).
* * *
(1) الفتاوى، 20/ 59 - 62.