الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مفسدة محرمة، لكنه جائز بالإكراه؛ فإن حفظ النفوس أولى مما يترك بالإكراه، مع أن تداركه ممكن، فيكون جمعًا بين هذه الحقوق وبين حفظ الأرواح" (1).
* * *
المطلب الثالث المفاضلة بين إظهار الشعائر وإخفائها حال الاستضعاف
إن كتمان الإيمان وإخفاء شعائره رخصة للمستضعف، ومتى ما أظهر المستضعف الشعائر بنية إعزاز دين اللَّه وإن كان يعلم بأنه سيعود عليه بالضرر أو التلف كان مأجورًا على ذلك ومثابًا عليه، وهو الأولى مع جواز إخفائها في تلك الحال (2).
يشهد لهذا أن علي رضي الله عنه عندما قام يخطب وتحدث عن فضائل الصديق رضي الله عنه قال: (أيها الناس أخبروني بأشجع الناس؟ قالوا: أنت يا أمير المؤمنين، قال: أما أن ما بارزت أحدًا إلا انتصفت منه، ولكن أخبروني بأشجع الناس، قالوا: لا نعلم، فمن؟ قال: أبو بكر رضي الله عنه، إنه لما كان يوم بدر جعلنا لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عريشًا، فقلنا: من يكون مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليلًا؛ يهوي إليه أحد من المشركين، فواللَّه ما دنا منه إلا أَبو بكر شاهرًا بالسيف على رأس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا يهوي إليه أحد إلا أهوى إليه، فهذا أشجع الناس، فقال علي:
(1) قواعد الأحكام في مصالح الأنام، 1/ 88.
(2)
"ومن أتلف نفسه، لا لإعزاز دين اللَّه كان آثما، وما حرمه النص حالة الاختيار ورخص فيه حالة الاضطرار وهو ليس مما يجوز أن يرد الشرع بإباحته كالكفر باللَّه ومظالم العباد، إذا امتنع فقتل كان مأجورًا؛ لأنه بذل مهجته لإعزاز دين اللَّه، حيث تورع عن ارتكاب المحرم، وكذا ما ثبت حرمته بالنص، ولم يرد نص بإباحته حالة الضرورة، كالإكراه على ترك الصلاة في الوقت، وعلى الفطر في رمضان للمقيم الصحيح، إذا امتنع عن ذلك فقتل كان مأجورًا؛ لأنه بذل مهجته لإعزاز دين اللَّه"، التقرير والتحبير، 2/ 197.
ولقد رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأخذته قريش فهذا يجأ وهذا يتلتله (1)، وهم يقولون: أنت الذي جعلت الآلهة إلاهًا واحدا، قال: فواللَّه ما دنا منه أحد إلا أَبو بكر يضرب هذا ويجاء هذا ويتلتل هذا، وهو يقول: ويلكم أتقتلون رجلَا أن يقول ربي اللَّه، ثم رفع علي بردة كانت عليه فبكى حتى أخضلت لحيته، ثم قال: أنشدكم باللَّه أمؤمن آل فرعون خير أم أبو بكر؟ فسكت القوم، فقال: ألا تجيبوني، فواللَّه لساعة من أبي بكر خير من ملء الأرض من مؤمن آل فرعون، ذاك رجل كتم إيمانه، وهذا رجل أعلن إيمانه) (2).
(1) وجأ الوجء اللكز، ووجأه باليد والسكين، وجأ مقصور ضربه ووجأ في عنقه كذلك، انظر: لسان العرب، مادة: وجأ. والتلتلة: الحركة، يقال: فلان يتلتل فلانًا إذا عنف بسوقه، انظر: جمهرة اللغة، محمد بن الحسن بن دريد، تحقيق: رمزي بعلبكي، دار العلم للملايين: بيروت، ط 1، 1987 م، 1/ 179، مادة: تلتل.
(2)
مسند البزار، 3/ 15، وقال:"وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن علي إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد"، قال في مجمع الزوائد، 9/ 47:"وفيه من لم أعرفه"، والبداية والنهاية، 3/ 272، وقصة أبي بكر وردت بطولها في تاريخ مدينة دمشق، 30/ 47، والسيرة الحلبية، 1/ 475، وفيها: "أن الصديق رضي الله عنه ألح على النبي صلى الله عليه وسلم بالظهور، فقال له: إنا قليل، فلم يزل يلح حتى خرج الرسول والصحابة للمسجد وعددهم تسعة وثلاثون وقام أَبو بكر خطيبًا فكان أول خطيب دعا إلى اللَّه عز وجل وإلى رسوله، وثار المشركون عليه وعلى المسلمين وضرب من عتبة بن ربيعة ضربًا شديدًا حتى صار لا يعرف أنفه من وجهه، فجاءت بنو تيم فخلصوه وحملوه وهم لا يشكون في موته، ثم رجعوا فدخلوا المسجد وقالوا: واللَّه لئن مات أَبو بكر لنقتلن عتبة، ورجعوا إلى أبي بكر فجعل أَبو قحافة وبنو تيم يكلمون أبا بكر حتى أجابهم فتكلم آخر النهار، وكانت هذه الحادثة سبب إسلام أمه أم الخير رضي الله عنها، وكان حمزة بن عبد المطلب أسلم يوم ضرب أَبو بكر فدعا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب وأبي جهل بن هشام فأصبح عمر، وكانت الدعوة يوم الأربعاء، فأسلم عمر يوم الخميس، فكبر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم والمسلمون في بيت الأرقم تكبيرة سمعت بأعلى مكة).
وعلي رضي الله عنه يشير إلى قصة مؤمن آل فرعون التى وردت في قوله تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} (1)، ومؤمن آل فرعون كان يكتم إيمانه، وإنما أمكنه أن يقول هذه الكلمات لفرعون؛ لكونه لم يصرح بأنه على دين موسى عليه السلام، وزعم أن المصلحة تقتضى ترك قتل موسى، أو أنه أظهر إيمانه وواجه فرعون بذلك معتمدًا على قرابته له ولو كان إسرائيليًا لقتله، وهو ما رجحه الطبري (2)، ولا شك أن إظهاره لإيمانه كان متأخرًا خلافًا لحال الصديق رضي الله عنه.
ويشهد لجواز إظهار الإيمان وشعائره حال الاستضعاف قصة إسلام أبي ذر رضي الله عنه بعدما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (اعْرِضْ عَلَيَّ الْإِسْلَامَ فَعرَضَه، فَأَسْلَمْتُ مَكَانِي، فقال لي: يا أبا ذر، اكْتُمْ هذا الأمر، وَارْجعْ إلى بلدك، فإذا بلغك ظهورنا فأَقْبِل، فقلت: والذي بعثك بالحق لَأَصْرُخَنَّ بها بين أَظْهُرِهِمْ، فجاء إلى المسجد وقريش فيه، فقال: يا معشر قريش، إني أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، فقالوا: قوموا إلى هذا الصَّابِىءِ، فقاموا فَضُرِبْتُ لِأَمُوتَ، فَأَدْرَكَنِى العباس فَأَكَبَّ عَلَيَّ، ثم أَقبَلَ عليهم فقال: وَيْلَكُمْ تَقْتُلُونَ رجلًا من غِفَار! وَمَتْجَرُكُمْ وَمَمَرُّكُمْ عَلَى غِفَار فَأَقلَعُوا عَنِّي، فلما أن أَصْبَحْتُ الْغَدَ رَجَعْتُ، فقلت: مثل ما قلت بالأمس، فقالوا: قوموا إلى هذا الصَّابِىءِ، فَصُنِعَ بِي مِثْلَ مَا صُنِعَ بِالْأَمْسِ، وَأَدْرَكَنِى العباس، فَأَكَبَّ عَلَيَّ، وقال مِثلَ مَقَالَتِهِ بِالْأَمْسِ، قال: فكان هذا أول إسلام أبي ذر رضي الله عنه)(3).
(1) سورة غافر، الآية [28].
(2)
انظر: مفاتيح الغيب، 27/ 53، وجامع البيان عن تأويل آي القرآن، 24/ 58.
(3)
أخرجه البخاري، كتاب المناقب، باب قصة زمزم، رقم:3328.
قال ابن حجر رحمه الله معلقًا على هذه القصة: "وكأنه فهم أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم له بالكتمان ليس على الإيجاب، بل على سبيل الشفقة عليه، فأعلمه أن به قوة على ذلك، ولهذا أقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، ويؤخذ منه جواز قول الحق عند من يخشى منه الأذية لمن قاله، وإن كان السكوت جائزًا، والتحقيق أن ذلك مختلف باختلاف الأحوال والمقاصد، وبحسب ذلك يترتب وجود الأجر وعدمه"(1).
يتبين مما مضى أن إظهار الشعائر حال الاستضعاف يرتبط بأمور منها:
1 -
قوة إيمان الشخص وقدرته على الصبر، وتحمل تبعات إظهاره للشعائر.
2 -
وجود الأعوان أو الحماية سواءً أكانت من مسلم أو كافر.
3 -
أن يكون في الإظهار إعزاز لدين اللَّه.
قال ابن تيمية رحمه الله: "وقد تكون الغربة في بعض شرائعه، وقد يكون ذلك في بعض الأمكنة، ففي كثير من الأمكنة يخفى عليهم من شرائعه ما يصير به غريبًا بينهم، لا يعرفه منهم إلا الواحد بعد الواحد، ومع هذا فطوبى لمن تمسك بتلك الشريعة كما أمر اللَّه ورسوله، فإن إظهاره والأمر به والإنكار على من خالفه هو بحسب القوة والأعوان"(2)، قال صلى الله عليه وسلم:(مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ)(3).
* * *
(1) فتح الباري، 7/ 175.
(2)
الفتاوى، 18/ 298.
(3)
أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، رقم:49.