الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث من الباب التاسع
في ذم السرف والتبذير
إذ فلهما من سوء التدبير
قال الله تعالى ولا تبذر تبذيراً إن المبذرين كانوا أخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفوراً وقال صلى الله عليه وسلم من السرف أن تأكل كل ما شئت وقال صلى الله عليه وسلم آفة الجود السرف والسرف اسم لما جاوز الجود وقالوا السرف هو أن يكون الرجل لا يبالي فيما يشتري أو يبيع أو يغبن أو يغبن فيبيع بوكس ويشتري بفضل وهذا كما قبل الحر يتغابن في ابتياع الحمد ولا يتغابن في الشراء والبيع وقيل لعبد الله بن جعفراً بإنك تعطى الكثير إذا سئلت وتضيق في القليل إذا عوملت فقال أجود بمالي وأضن بعقلي وقالوا السخاء خلق مستحسن ما لم ينته إلى سرف وتبذير فإنه من بذل جميع ما يملكه لمن لا يستحقه لم يسم سخياً وإنما يسمى مبذراً مضيعاً وقال معاوية ما رأيت سرفاً قط إلا وإلى جانبه حق مضيع وقالوا يوشك من أنفق سرفاً أن يموت أسفاً وقالوا ما وقع تبذير في كثير إلا هدمه ودمره ولا دخل تدبير في قليل إلا كثره وأثمره وقال معاوية لولده يزيد إنك إن أعطيت مالك في حق الحق يوشك أن يجئ الحق وليس معك ما تعطي فيه وقالوا تطول ولا تطاول وقال أبو بكر رضي الله عنه إني لأبغض أهل بيت ينفقون رزق الأيام في اليوم الواحد وقالوا السرف في الانفاق يفسد من النفس بمقدار ما يصلح من العيش وقال عبد الله بن الزبير في محاورة جرت بينه وبين ابن عباس إن السرف من طينة السخاء ولكنه جاوز الحق وما بعد الحق إلا الضلال وكان أبو الأسود الدؤلي يقول يا بني إذا بسط الله عليك فابسط وإذا أمسك عنك فأمسك ولا تجاوده فإنه أكرم منك وأجود واسم أبي الأسود ظالم ابن عمرو يعد في التابعين والمحدثين والشعراء والنحويين والبخلاء والعرج والمفاليج والبخر وقالوا التدبير ينمي اليسير والتبذير يدمر الكثير وليم هشام بن عبد الملك على الامساك في العطاء فقال إنا لا نعطي تبذيراً ولا نمسك تقتيراً إنما نحن خزائن
الله في بلاده وأمناؤه على عباده فإذا شاء أعطينا وإذا كره أبينا ولو كان كل قائل يصدق وكل سائل يستحق ما جبهنا قائلاً ولا رددنا سائلا وربما عوقب المبذر بالافلاس وصير بالفقر مثلة بين الناس قال الأصمعي قصد رجل من أهل الشام منزل إبراهيم بن هرمة فإذا بنت له صغيرة تلعب بالطين فقال لها ما فعل أبوك قالت وفد إلى بعض الأجواد فمالنا علم من عهد فقال لها قولي لأمك تنحر لنا ناقة فإني وأصحابي أضيافها فقالت والله ما نملكها قال فشاة قالت والله ما نجدها قال فدجاجة قالت والله ما هي لنا في منزل قال فأعطينا بيضة قالت من أين البيضة إذا لم تكن الدجاجة قال فباطل ما قال أبوك حيث يقول
كم ناقة قد وجأت منحرها
…
بمستهلّ الشؤبوب أو جمل
لا استع العوّذ النصال ولا
…
أبتاع إلا قريبة الأجل
لا غنمي في الحياة مدّلها
…
إلى دراك العلا ولا ابلي
قالت فذاك الفعل من أبى أصارنا أن ليس عندنا شيء فتركها ومضى وكان عبد الله بن جعفر من الأجواد الذين يعمون بجودهم طوائف العباد وانتهى به الافلاس وضيق اليد إلى أن سأله رجل فقال له إن حالي متغيرة بجفوة السلطان وحوادث الزمان ولكني أعطيك ما أمكنني فأعطاه رداء كان عليه ثم دخل منزله وقال اللهم استرني بالموت فما أتى بعد دعوته إلا أيام حتى مرض ومات رضي الله تعالى عنه وفد أبو الشمقمق على محمد بن مروان بنيسابور يريد محمد بن عبد السلام فلما دخلها صار إلى منزله فأخبر أنه في دار الخراج مطالب فقصده ودخل عليه وهو قائم في الشمس وعلى عنقه صخرة عظيمة فتغير له فلما رآه محمد قال
ولقد قدمت على رجال طال ما
…
قدم الرجال عليهم فتموّلوا
أخنى الزمان عليهم فكأنهم
…
كانوا بأرض أقفرت فتحوّلوا
فقال أبو الشمقمق
الجود فلسهم وغير حالهم
…
فاليوم إن سئلوا النوال تبخلوا
دخل مالك بن دينار على أبي عون في الحبس وكان قد ضربه بلال بن أبي بردة بالسياط وإذا في الحبس جماعة من عمال السلطان في الحديد فلم يلبث أن حضر غداؤهم فجعل الخدم ينقلون ألوان الأطعمة فقيل له يا أبا يحيى هلم فقال لا أريد أن آكل مثل هذا ولا أن يوضع في رجلي مثل هذا وأشار إلى القيد وكان للأعمش صديق متصرف في عمل السلطان فبقى عليه مال فحبس فيه فزاره الأعمش منغمساً له فلما دخل عليه رأى بين يديه سلة فيها فالوذج وهو يتغذى منها فقال والله ما لازمت الوثاق إلا باسرافك في الانفاق فلو قنعت نفسك وعفت يدك لم يكن مضيق السجن مقعدك ولهذا الافلاس أكثر الناس كلامهم في التحذير من عواقب التبذير وما أحسن قول الفقيه منصور رحمه الله
توب وكسرة وخبز
…
وبيت كنّ وأمن
ألذ من كل ملك
…
عقباه ضرب وسجن
ومما يعد من الاسراف في البذل اصطناع المعروف إلى اللئيم والنذل قالوا حد الجود أن يبذل الرجل ماله حيث يجب البذل ويحفظه حيث يمكن الحفظ ومن بذل مكان الامساك فهو مبذر ومن أمسك مكان البذل فهو بخيل وقالوا من الحزم أن تعلم أن مالك لا يسع الناس كلهم فتوخ به أهل الحق عليك وإن كرامتك لا تسع المقلين فاخصص بها أهل الفضل والمروأة ومن تمسه الحاجة إليك والاعطاء بعد المنع أجمل من المنع بعد الانعام وقال لقمان المعروف كنز فانظر من تودعه وقال عبد الملك بن المقفع إن مالك لا يسع الناس فاخصص به ذوي الكرم من أهلك وخاصتك ودع الأجانب جانباً وقال
صالح بن عبد القدوس سامحه الله
لا نجد بالعطاء في غير حق
…
ليس في منع غير ذي الحق بخل
إنما الجود أن تجود على من
…
هو للبذل منك والجود أهل
آخر
لا تصنع المعروف في ساقط
…
ذاك صنيع ساقط ضائع
وضعه في حرّ كريم يكن
…
عرفك مسكا عرفه ضائع
وقالت الحكماء أصل كل عداوة اصطناع المعروف إلى اللئام وقالوا الاحسان إلى اللئيم أضيع من الرسم على بساط الماء والخط على بسيط الهواء وقالوا زوال الدول باصطناع السفل وقالوا كن جواداً في موضع الجود فإن أحمد جود الحر الانفاق في وجه البر وقال بعضهم لا حسرة أعظم من نعمة أسديت إلى غير ذي حسب ولا مروأة وقال آخر لا تصنعوا إلى ثلاثة معروفاً اللئيم فإنه بمنزلة الأرض السبخة لا يظهر فيها البذور وذلك لا يظهر فيه المعروف والفاحش فإنه يرى أن الذي صنعت معه إنما هو مخافه فحشه والأحمق فإنه لا يدري قدر ما أسديت إليه ولا يشكرك عليه قال الشاعر
لعمرك ما المعروف في غير أهله
…
وفي أهله إلا كبعض الودائع
فمستودع ضاع الذي كان عنده
…
ومستودع ما عنده غير ضائع
وما الناس في كفر الأيادي وشكرها
…
إلى أهلها إلا كبعض المزارع
فمزرعة أجدت فأضعف زرعها
…
ومزرعة أكدت على كل زارع
وقالوا واضع المعروف في غير أهله كالمسرج في الشمس والزارع في السبخ قال الشاعر
ومن يصنع المعروف من غير أهله
…
يلاقي كما لاقى مجير أمّ عامر
أعدّ لها لما استجارت ببيته
…
أحاليب ألبان اللقاح الدوائر
وأمسكها حتى إذا ما تمكنت
…
فرته بأنياب لها وأظافر
فقل لذوي المعروف هذا جزاء من
…
يجود بمعروف على غير شاكر
آخر
عليك بذي الأقدار فاكسب ثناءهم
…
فمالك في غير الأكارم ضائع
وما مال من أعطى الكرام بناقص
…
ولكنه عند الكرام ودائع
آخر
إذا ما بدأت أمرأ جاهلا
…
ببر فقصر عن حمله
ولم تلقه قابلاً للجميل
…
ولا عرف العز من ذله
قسمه الهوان فإنّ الهوان
…
دواء لذي الجهل من جهله
وقالوا العاقل يتخير لمعروفه كما يتخير الباذر ما زكا من الأرض لبذهر وقالوا رأس الرذائل اصطناع الأراذل وقال الشاعر
متى تسد معروفاً إلى غير أهله
…
رويت ولم تظفر بحمد ولا أجر
ما احتج به سراة الأشراف
…
في تحسين التبذير والاسراف
قد كنا قدمنا في أول فصل من هذا الباب جملة مما ورد عن الكرماء في الحص على انتهاز الفرصة بالانفاق ثقة بالخلف من الكريم الرزاق ما فيه كفاية فلم يقنعنا ذلك فذكرنا في هذا الموضع ما استدركناه ليتم لنا الغرض المقصود فيما نحوناه من كل مستحسن بديع لسر البراعة بلسان البراعة يذيع من ذلك قول الله تعالى وهو أصدق القائلين وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين وقول النبي صلى الله عليه وسلم ينادي مناد كل ليلة اللهم اجعل لكل منفق خلفاً ولكل ممسك تلفاً وقوله صلى الله عليه وسلم أنفق بلال ولا تخش من ذي
العرش اقلالا ولقد أجاد على ابن ذكوان في قوله
انفق ولا تخش اقلالا فقد قسمت
…
بين العباد مع الآجال أرزاق
لا ينفع البخل مع دنيا مولية
…
ولا يضر مع الاقبال انفاق
وحكى إن علي بن موسى الرضا رضي الله عنه وعن آبائه الكرام فرق في يوم عرفة وكان بخراسان ماله كله فقال له الفضل بن سهل ما هذا المغرم قال بل هو المغنم لا تعدن ما ابتغيت به أجراً أو كرماً مغرما وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يدخر شيأً لغد وقال بعض الحكماء أنفق في الحقوق ولا تكن خازناً لغيرك فإن اغتممت على ما نقص من مالك فابك على ما نقص من عمرك فإنه من لم يعمل في ماله وهو موجود عمل في ماله وهو مفقود وقال بزرجمهر إذا أقبلت عليك الدنيا فأنفق منها فإنها لا تفنى وإذا أدبرت عنك فأنفق منها فإنها لا تبقى طاهر بن الحسين ناظماً لهذا المعنى
لا تبخلنّ بدنيا وهي مقبلة
…
فليس يذهبها التبذير والسرف
فإن تولت فأحرى أن تجود بها
…
فالحمد منها إذا ما أدبرت خلف
ويقال أنفق وأسرف فإن الشرف في السرف وقيل للحسن بن سهل وكان معطاء لا خير في السرف فقال لا سرف في الخير وهذا من بديع الكلام وذلك إنه عكس على المنكر كلامه فكان جواباً له وردا عليه من غير أن يزيد فيه ولا ينقص منه وقال الراضي بالله يخاطب لائماً لأمه على السرف
لا تكثرن عذلي على الاسراف
…
ربح المحامد متجر الأشراف
أجرى كآبائي الخلائف سابقاً
…
وأشيد ما قد أسست أسلافي
إني من القوم الذين أكفهم
…
معتادة الاتلاف والاخلاف
آخر
قامت تلوم على بذل النوال ولي
…
به ولوع فقلت اللوم في الباقي
لا تجزعي أن ترى بي فاقة أبدا
…
فمن خزائن رب العرش انفاقي
آخر
ألا لا تلمني على بذل مالي
…
فصوني لعرضي بمالي جمالي
وصوني لمالي بعرضي فساد
…
لعرضي وديني وجاهي ومالي
الصولي
لا تلومنني فهمك إن
…
أثرى وهمي مكارم الأخلاق
ليس يستطيع حفظ ما ملكت
…
كفاه من ذاق لذة الانفاق
وقال المأمون لمحمد بن عباد بلغني أن فيك سرفاً فقال يا أمير المؤمنين منع الجود سوء الظن بالمعبود فقال المأمون لا يحسن السرف إلا بأهل الشرف
وقال البحتري يمدح معطاء
…
أسبل الكرم عليه غطاء
كرم دعتك به القبائل مسرفا
…
ما مسرف في المكرمات بمسرف
وقال آخر يحض على الاسراف في الصنائع
ذهاب المال في حمد وأجر
…
ذهاب لا يقال له ذهاب