الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثاني عشر
في الجبن
وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول من هذا الباب
في أنّ خلتي الجبن والفرار مما يشين بني الأحرار
الجبن غريزة كالشجاعة يضعها لله فيمن شاء من خلقه قال المتنبي
يرى الجبناء أنّ الجبن حزم
…
وتلك خديعة الطبع اللئيم
وحده بعض المتكلمين في حدود الأشياء فقال هو الضن بالحياة والحرص على النجاة وقالت الحكماء في الفراسة من كانت فزعته في رأسه فذاك الذي يفر من أبويه وقالوا الجبان يعين على نفسه يفر من أمه وأبيه وصاحبته وأخيه وفصيلته التي تؤويه وقال الشاعر
يفر الجبان من أبيه وأمه
…
ويحمي شجاع القوم من لا يناسبه
فما اخترت من كلام ذوي الاقدام
…
فيما عيب به الفرار والاحجام
قالت عائشة رضي الله عنها إن لله خلقاً قلوبهم كقلوب الطير كلما خفقت الريح خفقت معها فأف للجبناء وقال خالد بن الوليد عند موته لقيت كذا وكذا زحفاً وما في جسدي موضع إلا وفيه ضربة بسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم
وها أنا ذا أموت حتف أنفي كما يموت البعير فلا نامت أعين الجبناء شاعر
إن موت الفراش عار وذل
…
وهو تحت السيوف فضل شريف
السموأل
وما مات منا سيد حتف أنفه
…
ولا طل منا حيث كان قتيل
تسيل على حد الظباء نفوسنا
…
وليست على غير الظباء تسيل
آخر يفتخر
محرمة أكفال خيلي على القنا
…
ومكاومة أعناقها ونحورها
حرام على أرماحنا طعن مدبر
…
وتندق منا في الصدور صدورها
ويقال أسرع الناس إلى الفتنة أقلهم حياء من الفرار وقال دارا بن دارا يحرض جيشه على القتال قتيل صابر خير من ناج فار يا بني الأحرار صرتم إلى الذل والصغار ما هذا الجبن والفرار فلا صبر ولا اعتذار تطردكم الأشرار كطرد الليل النهار أثبتوا فإن الأجل بمقدار وقال هانئ الشيباني لقومه يوم ذي قار يا بني بكر هالك مغدور خير من ناج فرور المنية ولا الدنية يا بني بكر استقبال الموت خير من استدباره الطعن في ثغور النحور أكرم منه في الاعجاز والظهور يا بني بكر قاتلوا فمالنا من المنايا بد الجبان مبغض حتى لامه والشجاع محبب حتى لعدوه ويقال الجبن خير أخلاق النساء وشر أخلاق الرجال وقال يعلى بن منية لقومه حين فروا من على يوم صفين إلى أين قالوا قد ذهب الناس فقال أف لكم فرار واعتذار ولما قوتل أبو الطيب المتنبي ورأى الغلبة عليه فر فقال له غلامه أترضى أن يحدث بهذا الفرار عنك وأنت القائل
والخيل والليل والبيداء تعرفني
…
والطعن والضرب والقرطاس والقلم
فكر راجعاً فقاتل حتى قتل واستقبح أن يعير بالفرار وذلك في شهر رمضان سنة أربع وخمسين وثلثمائة وكان مولده بالكوفة سنة ثلاث وثلثمائة وقال المنصور لبعض الخوارج عليه وقد ظفر به وأحضر إليه أسيراً أخبرني عن أصحابي أيهم كان أشد اقداماً في مبارزتك فقال لا أعرف وجوههم مقبلين وإنما أعرف أقفيتهم مدبرين فقل لهم يدبرون لأعرفك أيهم كان أشد فراراً نظم هذا القول علي بن العباس بن جريج المعروف بابن الرومي في قوله يهجو سليمان بن عبد الله بن ظاهر وقد هزم
قرن سليمان قد أضر به
…
شوق إلى وجهه سيتلفه
أعرض عن قرنه وصدّ فما
…
أصبح شيء عليه يعطفه
كم يعد القرن باللقاء وكم
…
يكذب في وعده ويخلفه
لا يعرف القرن وجهه ويرى
…
قفاه من فرسخ فيعرفه
وله من أبيات
كان بغداد لدن أبصرت
…
طلعته نائحة تلتدم
مستقبل منه ومستدبر
…
وجه بخيل وقفا منهزم
وقال عبد الله بن الزبير لعدي بن حاتم يعرض به متى فقئت عينك قال يوم طعنت في استك وأنت مول يعني يوم الجمل وقيل بل قال له يوم قتل أبوك وهربت خالتك يعني عائشة وأنا للحق ناصر وأنت له خاذل وقال شاعر يذكر فارا
شرده الخوف فأزرى به
…
كذاك من يكره حرّ الجلاد
منخرق الخفين يشكو الوحي
…
تبكه أطراف مر وحدد
قد كان في الموت له راحة
…
والموت حقاً في رقاب العباد
نتف من احتجاج الفرسان
…
عند ملاقاة الأقران
في إنّ دروع الحذر
…
تخرقها سهام القدر
قال الله تعالى قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم وقال علي رضي الله عنه إذا حلت المقادير حلت التقادير وقال هانئ بن مسعود الشيباني إن الحذر لا ينجي من القدر وإن الصبر من أسباب الظفر والمثل المضروب إن الجبان حتفه من فوقه وقالوا السلامة في الاقدام والحمام في الاحجام وأنشد في الحماسة لقطري بن الفجاة
لا تركنن أبداً إلى الاحجام
…
يوم الوغى متخوّفا لحمام
فلقد أراني للرماح دريئة
…
من عن يميني تارة وأمامي
حتى خضبت بما تحدر من دمي
…
أكتاف سرجي أو عنان لجامي
ثم انصرفت وقد أصبت ولم أصب
…
خدع القريحة مارح الأقدام
وقال أبو بكر الصديق لخالد بن الوليد رضي الله عنهما حين أخرجه لقتال أهل الردة احرص على الموت توهب لك الحياة وقالوا إذا انقضت المدة لم تنفع العدة وقال علي رضي الله عنه إن الموت طالب حثيث لا يعجزه المقيم ولا يفوته الهارب إن لم تقتلوا تموتوا ألا وإن أشرف الموت القتل وقال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه يا نفس إن لم تقتلي تموتي إن تسلمي اليوم فلن تفوتي أو تبتلي فطالما عوفيتي وقيل لبعضهم لو احترست فقال كفى بالأجل حارساً وقالوا الشجاع موقى والجبان ملقى وذلك إن المقتول مدبراً أكثر من المقتول مقبلا وأنشد لبعض الشجعان
تأخرت استبقى الحياة فلم أجد
…
لنفسي حياة مثل أن أتقدّما
آخر
أقول لها وقد ذهبت شجاعاً
…
لدى الأبطال إنك لن تراعي
فإنك لو سألت بقاء يوم
…
على الأجل الذي لك لن تطاعي
فصبراً في مجال الحرب صبراً
…
فما نيل الخلود بمستطاع
وهرب رجل من الطاعون إلى النجف وكان بالكوفة فكتب إليه شريح القاضي أما بعد فإن الفرار لن يبعد أجلاً ولن يكثر رزقاً وإن المقام لن يقرب أجلاً ولن يقلل رزقاً وإنك والمكان الذي أنت فيه لا يعييان من لا يعجزه هرب ولا يفوته طلب وإن المكان الذي خلفته لا يعجل أحداً إلى حمامه ولا يظلمه شيأً من أيامه وإن النجف من ذي قدرة لقريب وهذا الطاعون هو الجارف وكان في شوال سنة تسع وستين هلك فيه في مدة ثلاثة أيام مائتا ألف وعشرة آلاف ومات فيه لأنس بن مالك ثلاثة وثمانون ولداً ولعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق أربعون ولداً وأنشد بعض الشعراء يذكر فاراً أصيب
أبعدت في يومك الفرار فما
…
جاوزت حتى انتهى بك القدر
لو كان ينجي من الردى حذر
…
نجاك مما أصابك الحذر
آخر
فإذا خشيت من الأمور مقدراً
…
وفررت منه فنحوه تتوجه
ولما وقع الطاعون بالكوفة فر عبد الرحمن بن أبي ليلى على حمار له يطلب النجاة فسمع منشداً يقول
لن يسبق الله على حمار
…
ولا على ذي منعة طيار
أو يأتي الحتف على مقدار
…
قد يصبح الله امام الساري
فكر راجعاً إلى الكوفة ومن كلام الحكماء إذا كان القدر حقاً فالحرص باطل وإذا كان الموت بكل أحد نازل فالطمأنينة إلى الدنيا حمق وكان معاوية بن أبي سفيان كثيراً ما ينشد في حروبه
كان الجبان يرى إنه
…
يدافع عنه الفرار الأجل
فقد تدرك الحادثات الجبان
…
ويسلم منها الشجاع البطل
ويقال من حدث نفسه بالبقاء ولم يوطنها على المصائب فهو عاجز الرأي وأنشدت لأبي علي بن رشيق القيرواني
الأسر خير من الفرار
…
والقتل خير من الأسار
وشر ما خفته حياة
…
أدت إلى ذلة وعار
ذم من لزمه الضعف والجزع
…
واستولى عليه الخوف والفزع
قيل لبشار بن برد فلان يزعم إنه لا يبالي ألقى واحداً أو ألفاً قال صدق لأنه يفر من الواحد كما يفر من الألف وقالوا فلان إذا ذكرت السيوف لمس رأسه هل ذهب وإذا ذكرت الرماح جس صدره هل ثقب كأنه سلم كتاب الجبن صبياً ولقن كتاب الفشل أعجمياً وقالوا فلان تقلصت من الفزع شفتاه واصفرت من الهلع وجنتاه وقالوا فلان إذا نظرت إليه شزراً أغمى عليه شهراً ومن أمثالهم أجبن من صافر وهو طائر يتعلق برجليه في الشجر خشية أن ينام فيسقط وقيل غير ذلك وأشرد من ظليم وهو ذكر النعام وينشد لعبد القيس ابن خفاف يهجو جبانا
وهم تركوك أسلح من حبارى
…
رأت صقراً وأشرد من ظليم
ومما هو كناية عن الجبن قولهم فلان مشفق على الحياة راغب في طولها وذم بعضهم جباناً فقال لو سميت له الحرب لعاف لفظها قبل معناها واسمها
قبل مسماها وذم آخر جباناً فقال
إذا صوت العصفور طار فؤاده
…
وليث حديد الناب عند الثرائد
وذم آخر جباناً فقال فلان يزحف يوم الزحف إلى خلف ويروعه الواحد وهو فيألف وذم آخر جباناً فقال
لو كنت في ألف ألف كلهم بطل
…
مثل المجفف داود بن حمدان
وتحتك الريح تجري حيث تأمرها
…
وفي يمينك سيف غير خوان
لكنت أوّل فرار إلى عدن
…
إذا تجرد سيف في خراسان
ذكر من لاقى في الحروب الحرب
…
فطوى بساط الأرض مجداً في الهرب
أبو الطيب المتنبي يذكر مهزومين
وضاقت الأرض حتى أن هاربهم
…
إذا رأى غير شيء ظنه رجلا
وقالوا فلان يفر من صرير باب وطنين ذباب فلان ولي منهزماً قد سد الله في وجهه كل طريق فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوى به الريح في مكان سحيق وقال الحجاح يصف هزيمة كالابل الشوارد إلى أوطانها النوازع إلى أعطانها لا يلوى الشيخ على بنيه ولا يسأل المرء عن أخيه وقالوا فلان أزهد في الحرب من بني العنبر وأدهش من مستطعم الماء على المنبر فأما بنو العنبر فهم الذين يقول قائلهم من أبيات الحماسة
لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد
…
ليسوا من الشرفى شيء وإن هانا
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة
…
ومن إساءة أهل السوء احسانا
وكأنّ ربك لم يخلق بخشيته
…
سواهم من جميع الناس انسانا
وأما مستطعم الماء فهو عبد الله بن خالد القسري وسنذكر أمره في الفصل الآتي إن شاء الله وأظرف شيء هجى به جبان قول الطرماح بن بكر في بني تميم من أبيات
ولو أنّ برغوثاً على ظهر قملة
…
رأته تميم يوم حرب لولت
ولو جمعت يوماً تميم جموعها
…
على ذرّة معقولة لاستقلت
ولآخر يهجو قوماً جبناء
أسود إذا ما كان يوم وليمة
…
ولكنهم عند اللقاء ثعالب
والمليح المتناهي في الملاحة والابداع والأخذ بمجامع القلوب من غير دفاع ولا نزاع قول جرير في بني حنيفة
أبناء نخل وحيطان ومزرعة
…
سيوفهم خشب فيها مساحيها
قطع الثمار وسقى النخل عادتهم
…
قدما وما جاوزت هذي مساعيها
لو قيل أين هوادي القوم ما علموا
…
قالوا لاعجازها هذي هواديها
أو قبل إنّ حمام الموت آخذكم
…
أو تلجموا فرساً قامت بواكيها
أبو تمام
ولما رأى توفيل راياتك التي
…
إذا ما استقامت لا يقاومها القلب
تولى ولم يأل القنا في اتباعه
…
كأن الردى في قصده هائم صب
غدا خائفاً يستنجد الكتب مذعنا
…
عليك فلا رسل ثنتك ولا كتب
وما الأسد الضرغام يوماً بتارك
…
فريسته إن أنّ أو بصبص الكلب
يمرّو نار الكرب تلفح قلبه
…
وما الروع إلا أن يخامره الكرب
مضى مدبراً شطر الدبور ونفسه
…
على نفسه من سوء ظنّ بها ألب
جفا الشرق حتى ظنّ من كان جاهلاً
…
بدين النصارى إن قبلته الغرب