الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال الثعالبي أول من أخلف المواعيد وكذبها ولم يف بشيء منها إسمعيل بن صبيح كاتب الرشيد وما كانت الرؤسا قبل ذلك يعرفون المواعيد الكاذبة وما أحلى قول بعض الشعراء يخاطب من أخلف عدة وعده إياها من أبيات
ووعدتني عدة ظننتك صادقاً
…
فجعلت من طمعي أروح وأذهب
فإذا حضرت أنا وأنت بمجلس
…
قالوا مسيلمة وهذا أشعب
وقال بعض البلغاء يذم مخلف وعده فلان وعده في الخلاف كشجر الخلاف يريك نضارة المنظر ثم لا يجنيك شيأً من الثمر نظمه ابن الرومي فقال
ليس من حل بالمحل الذي أن
…
ت به من سماحة ووفاء
بذل الوعد للاخلاء طوعاً
…
وأتى بعد ذاك بذل العطاء
فغدا كالخلاف يحسن للعين
…
ويأبى الأثمار كل الاباء
آخر
على الدنيا وما فيها السلام
…
إذا ملكت خزائنها اللئام
راضيت من الأمور بكل شيء
…
قضاه الله وانقطع الكلام
الفصل الثاني من الباب العاشر
في ذكر نوادر المبخلين
من الأراذل والمبجلين
يجب علينا أن نذكر أولاً ما صدر عن الأمجاد العقلاء في التحذير من سؤال الأجواد والبخلاء ثقة بما ضمنه الله من رزقه الدار على سائر خلقه قالوا مكتوب في التوراة ابن آدم لا تسأل الناس فإن كنت فاعلاً فاسأل معادن الخير ترجع مغبوطاً محسوداً وفي كتاب كليلة ودمنه ينبغي للعاقل أن يرى إن ادخال
يده في فم التنين وابتلاعه سمه أهون عليه من سؤال الناس وقال إبراهيم بن حفصة لابنه يا بني صن شكرك عمن لا يستحقه واطلب المعروف ممن يحسن طلبك إليه واستر ماء وجهك بقناع قناعتك وتسل عن الدنيا بتجافيها عن الكرام وأنشده
هي القناعة فالزمه تكن ملكاً
…
لو لم يكن لك إلا راحة البدن
وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها
…
هل راح منها بغير القطن والكفن
وقال لقمان لابنه يا بني لا تخلق وجهك بطلب الحوائج إلى من هو دونك فإنه إن ردك ساق إليك محنة وإن قضى حاجتك أتخذها عليك منة واسأل الله فإن الله يحب من يسأله ويبغض من لا يسأله شاعر
الله يغضب إن تركت سؤاله
…
وبنيّ آدم حين يسئل يغضب
وقد روى عن سفيان الثوري دعاء ككلام لقمان كان يدعو به إذا احتاج يقول اللهم يا من يحب أن يسئل ويغضب على من لا يسأل وأحب عباده إليه من سأله فأكثر سؤاله وليس أحد كذلك غيرك يا كريم أعطني كذا ويسأل حاجته وقال محمد بن الحنفية رضي الله عنه ما كرمت على عبد نفسه إلا هانت عليه الدنيا شاعر
الحرّ حرّ عزيز النفس حيث ثوى
…
كالشمس في أيّ برج ذات أنوار
آخر
ما اعتاض باذل وجهه بسؤاله
…
عوضاً ولو نال الغنى بسؤال
وإذا السؤال مع النوال وزنته
…
رجح السؤال وخف كلّ نوال
آخر
لا أستعين باخواني على الزمن
…
ولا أرى حسناً ما ليس بالحسن
إني كليل إذا استعطفت ذائقة
…
بما حوت كفه قد كان أغفلني
ذل السؤال وذل الشكر ما اجتمعا
…
إلا أضرّا بماء الوجه والبدن
لا ابتدى بسؤال لي أخاً أبداً
…
لو شاء قبل سؤالي منه أكرمني
له الثراء ولي عرض أوفره
…
عنه ويقنعني قوت يبلغني
محمد بن حازم
أضرع إلى الله لا تضرع إلى الناس
…
واقنع بيأس فإنّ العز في الياس
فالرزق عن قدر يجري إلى أجل
…
في كف لا غافل عني ولا ناسي
فكيف ابتاع فقراً حاضراً بغنى
…
وكيف أطلب حاجاتي من الناس
ولقد أحسن ابن شهيد كل الاحسان في قوله يصف من صان وجهه عن السؤال بقناع قناعته وكف وصبر على مضض الاحتياج بقدر استطاعته فعف
إنّ الكريم إذا نالته مخمصة
…
أبدى إلى الناس رياً وهو ظمآن
يطوى الضلوع على مثل اللظى حرقاً
…
والوجه طلق بماء البشر ريان
آخر
وكم قد رأينا من فتى متجمل
…
يروح ويغدو ليس يملك درهما
يبيت يراعي النجم من سوء حاله
…
ويصبح يلقى ضاحكاً متبسما
ذكر من كان يدين بالبخل من الملوك واتصف بما لا يحسن بالفقير الصعلوك عبد الله بن الزبير ويكنى أبا حبيب وإنما لم يعد من البخلاء لجلالة رتبته وأصالة أبوته فمما يحكى عنه أنه نظر إلى رجل من جنده قد دق في صدور أصحاب الحجاج في قتاله على مكة ثلاثة أرماح فقال له يا هذا اعتزل عن نصرتنا فإن بيت المال لا يقوم بهذا وفي هذه الحرب يقول معاتباً جنده أكلتم تمري وعصيتم أمري سلاحكم رث وكلامكم غث عيال في الجدب أعداء في الخصب وقال لرجل كان يتعاطى التجارة ما صناعتك قال أتجر في الرقيق فقال ما أشد اقدامك على الغرر وإضاعة المال قال بماذا قال ببضاعتك الملعونة التي هي ضمان نفس ومؤنة ضرس وأتاه عبد الله بن فضالة مستجدياً فأخذ يشكو إليه شدة فاقته وحفا ناقته ووعورة طريقه وبعد مسافته فقال له اخصفها بهلب وارقعها بسبت وانجدها ببرد خفها فقال ابن فضاله إنما جئتك مستجدياً لا مستوصفاً فلا بقيت ناقة حملتني إليك قال إن وصاحبها قوله إن بمعنى نعم قال أبو عبيدة معمر بن المثنى لو تكلف الحرث بن كلدة طبيب العرب من وصف علاج ناقة هذا ما تكلفه هذا الخليفة لعسر عليه ويقال إنه كان يأكل في كل سبعة أيام أكلة واحدة ويقول إنما بطني شبر في شبر وما عسى يكفيني ومن بخلاء الخلفاء عبد الملك بن مروان وكان يسمى رشح الحجر ولبن الطير أيضاً لبخله وهشام ولده كان ينظر في القليل من المال ويمنع السائل وإن ألحف في السؤال ويبيع ما يهدي إليه ويجعل السب صلة من يقرظه ويثني عليه من حكاياته إنه وفد عليه محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال له مالك عندي شيء ثم قال إياك أن يغرك أحد فيقول لك لم يعرفك أمير المؤمنين أنت فلان بن فلان فلا تقيمن فتنفق ما معك فليس لك عندي صلة فبادر وألحق بأهلك وكان معاوية يبخل في طعامه مع كثرة جوده بالمال قال لرجل وأكله أرفق بيدك فقال له الرجل وأنت فاغضض من طرفك وبلغه أن الناس يبخلونه فقام على المنبر وقال إن الله تعالى يقول وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم
فلأي شيء نلام نحن فقام إليه الأحنف بن قيس وقال نحن ما نلومك على ما في خزائن الله ولكن نلومك على ما في خزائنك إذا اغتلقت بابك دونه والمنصور وكان يلقب أبا الدوانيق ولقب بذلك لأنه لما بنى بغداد كان ينظر في العمارة بنفسه فيحاسب الصناع والأجراء فيقول لهذا أنت نمت القائلة ولهذا أنت لم تبكر إلى عملك ولهذا أنت انصرفت لم تكمل اليوم فيعطي كل واحد منهم بحسب ما عمل في يومه فلا يكاد يعطي أجرة يوم كامل ويحكي عنه أنه قال لطباخيه لكم ثلاث وعليكم اثنان لكم الرؤس والأكارع والجلود وعليكم الحطب والتوابل ومن حكاياته الدالة على شدة بخله أن الربيع بن يونس حاجبه قال له يوماً يا أمير المؤمنين إن الشعراء ببابك وهم كثيرون وقد طالت أيام إقامتهم ونفدت نفقاتهم فقال اخرج إليهم واقرأ عليهم السلام وقل لهم من مدحنا منكم فلا يصفنا بالأسد فإنما هو كلب من الكلاب ولا بالحية فإنما هي دويبة ميتة تأكل التراب ولا بالحلي فإنما حجر أصم ولا بالبحر فإنه ذو غطامط فمن ليس في شعره شيء من هذا فليدخل ومن كان في شعره شيء من هذا فلينصرف فانصرفوا كلهم إلا إبراهيم ابن هرمة فإنه قال أدخلني فأدخله فلما مثل بين يديه قال يا ربيع قد علمت أنه لا يجيبك أحد غيره هات يا إبراهيم فأنشده القصيدة التي أولها
سرى نومه عني الصبا المتحامل
…
واذن بالبين الحبيب المزايل
حتى انتهى إلى قوله
له لحظات في حفا في سريره
…
إذا كرّها فيها عقاب ونائل
فأم الذي أمنت آمنة الردى
…
وأم الذي خوّفت بالثكل ثاكل
فرفع له الستر وأقبل عليه مصغياً إليه حتى فرغ من إنشادها ثم أمر له بعشرة آلاف درهم وقال له يا إبراهيم لا تتلفها طمعاً في نيل مثلها فما في كل وقت تصل إلينا وتنال مثلها منا فقال إبراهيم ألقاك بها يا أمير المؤمنين يوم العرض
وعليها خاتم الجهبذ ودخل المؤمل بن أميل على المهدي بالري وهو إذ ذاك ولي عهد أبيه المنصور فامتدحه بأبيات يقول فيها
هو المهدي إلا أنّ فيه
…
تشابه صورة القمر المثير
تشابه ذا وذا فهماً إذا ما
…
أنارا يشكلان على البصير
فهذا في الضياء سراج عدل
…
وهذا في الظلام سراج نور
ولكن فضل الرحمن هذا
…
على ذا بالمنابر والسرير
ونقص الشهر يخمد ذا وهذا
…
منير عند نقصان الشهور
ومنها
فإن سبق الكبير فأهل سبق
…
له فضل الكبير على الصغير
وإن بلغ الصغير مدى كبير
…
فقد خلق الصغير من الكبير
فأعطاه عشرين ألف درهم فكتب بذلك صاحب البريد إلى المنصور وهو بمدينة السلام بغداد فكتب إليه المهدي يلومه على هذا العطاء ويقول له إنما كان ينبغي لك أن تعطي الشاعر إذا أقام ببابك سنة أربعة آلاف درهم وأمر كاتبه أن يوجه إليه بالشاعر فطلب فلم يوجد وذكر أنه توجه إلى بغداد فكتب الكاتب إلى المنصور بذلك فأمر بعض القواد بارصاد المؤمل على باب بغداد فجعل القائد يتصفح وجوه الناس القادمين عليها ويسألهم عن أسمائهم وأسماء آبائهم حتى وقع على المؤمل فسأل عن اسمه فأخبره فقال أنت بغية أمير المؤمنين وطلبته قال المؤمل فكاد والله قلبي ينصدع خوفاً وفزعاً ثم أخذ بيدي فسارني إلى الربيع فأدخلني على المنصور فقال يا أمير المؤمنين هذا المؤمل بن أيمل قد ظفرت به فسلمت فرد السلام فسكن جأشي وزال استيحاشي عند ذلك واطمأن قلبي وزال روعي ثم قال لي أتيت غلاماً ما غرا فخدعته فانخدع فقلت يا أمير المؤمنين أتيت ملكاً جواداً كريماً فمدحته فحمله كرم أعراقه ومكارم شيمه على صلتي وبري فأعجبه كلامي ثم قال أنشدني ما قلت فيه فأنشدته القصيدة فقال والله لقد أحسنت ولكنها لا تساوي عشرين ألفاً يا ربيع خذ منه المال وأعطه منه أربعة آلاف درهم ففعل فلما ولي المهدي الخلافة قدم عليه المؤمل
فأخبره بما دار بينه وبين المنصور فضحك وأمر له برد ما أخذ منه فرد عليه وأشرف يوماً على الصياد فرأى صائداً اصطاد سمكة عظيمة فقال لبعض مواليه اخرج إلى المتسبب فمره أن يوكل بالصياد من يدور معه من حيث لا يشعر فإذا باع السمكة قبض على مشتريها وصار به إلينا ففعل المتسبب ما أمر به فلقى الصياد رجلاً نصرانياً فابتاع منه السمكة بثلثي درهم فلما صارت السمكة في يد النصراني وذهب بها قبض عليه الأعوان وأتى به المتسبب وأدخله على المنصور فقال له من أنت قال رجل نصراني قال بكم ابتعت هذه السمكة قال بثلثي درهم قال وكم عيالك قال ليس لي عيال قال وأنت يمكنك أن تشتري مثل هذه السمكة بمثل هذا الثمن كم عندك من المال قال ما عندي شيء فقال للمتسبب خذه إليك فإن أقر بجميع ما عنده وإلا فمثل به فأقر بعشرة آلاف درهم قال كلا إنها أكثر فأقر بثلاثين ألف درهم وأحل دمه إن وقف له على أكثر منها قال له من أين جمعتها قال وأنا آمن يا أمير المؤمنين قال له وأنت آمن على نفسك إن صدقت قال كنت جاراً لأبي أيوب فولاني جهبذة بعض نواحي الأهواز فأصبت هذا المال فقال المنصور الله أكبر هذا مالنا اختنته وأمر المتسبب بحمل المال واطلاق الرجل وقد حكى ابن حمدون في تذكرته أن المنصور حج في بعض السنين فحدا به سالم الحادي في طريقه يوماً بقول الشاعر
أبلج بين حاجبيه نوره
…
إذا تغذى رفعت ستوره
يزينه حياؤه وخيره
…
ومسكه يشوبه كافوره
فطرب المنصور حتى ضرب برجله المحمل ثم قال يا ربيع أعطه عشرة دراهم وفي رواية نصف درهم فقال سالم لا عيرنا أمير المؤمنين والله لقد حدوت لهشام ابن عبد الملك فأمر لي بثلاثين ألف درهم فقال المنصور ما كان له أن يعطيك من بيت مال المسلمين ما ذكرت يا ربيع وكل به من يستخرج منه هذا المال قال الربيع فما زلت أسفر بينهما حتى شرط عليه أن يحدو به في خروجه وقفوله بغير مؤنة وكان سالم هذا المذكور تورد له الابل بعد أن نظمأ السبعة أيام والثمان والتسع والعشر فيحدو لها فيلهيها بحدوه عن ورود الماء