المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌وقبل من المسئ الاعتذار - غرر الخصائص الواضحة

[الوطواط]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌الباب الأول في الكرم وفيه ثلاثة فصول

- ‌الباب الثاني في اللؤم وفيه ثلاثة فصول

- ‌الباب الثالث في العقل وفيه ثلاثة فصول

- ‌الباب الرابع في الحمق وفيه ثلاثة فصول

- ‌الباب الخامس في الفصاحة وفيه ثلاثة فصول

- ‌الباب السادس في العي وفيه ثلاثة فصول

- ‌الباب السابع في الذكاء وفيه ثلاثة فصول

- ‌الباب الثامن في التغفل وفيه ثلاثة فصول

- ‌الباب التاسع في السخاء وفيه ثلاثة فصول

- ‌الباب الأول

- ‌الباب العاشر في البخل وفيه ثلاثة فصول

- ‌الباب الحادي عشر في الشجاعة وفيه ثلاثة فصول

- ‌الباب الثاني عشر في الجبن وفيه ثلاثة فصول

- ‌الباب الثالث عشر في العفو وفيه ثلاثة فصول

- ‌الباب الرابع عشر في الانتقام وفيه ثلاثة فصول

- ‌الباب الخامس عشر في الاخوة وفيه ثلاثة فصول

- ‌الباب السادس عشر في العزلة وفيه ثلاثة فصول

- ‌في الكرم

- ‌في وصف الأخلاق الحسان

- ‌المتخلقة بها نفوس الأعيان

- ‌وعلى ذكر الحجاب وإن لم يكن من الباب

- ‌وصف أخلاق أهل الوفاق

- ‌عيون من مكارم الأخلاق الدالة على طيب الأعراق

- ‌من روائع عادات السادات ووشائع سادات العادات

- ‌جوامع ممادح الأخلاق والشيم

- ‌المتحلية بها ذوو الأصالة والكرم

- ‌الأسباب المانعة من السيادة سبعة

- ‌شرح ما ذكر من الأمثال الواقعة في هذا المثال

- ‌الفصل الثاني من الباب الأول

- ‌في ذكر الصنائع والمآثر المفصحة عن أحساب الأكابر

- ‌فمن مآثر ذوي الكرم في النجار

- ‌الذب عن النزيل وحفظ الجار

- ‌من صنيع من زكت في الكرم أرومه

- ‌صون المضيم بنفسه من عدو يرومه

- ‌من أمتن أسباب الحسب والديانة وفاء العهد وأداء الأمانة

- ‌من أحاسن فعلات الأشراف الاتصاف بالعدل والإنصاف

- ‌ومما اتفق على مدحه الأوائل والأواخر تواضع من حاز الفضائل والمفاخر

- ‌مما يدل على شرف الأبوة إلزام النفس بأنواع المروة

- ‌الفصل الثالث من الباب الأول

- ‌في ذم التخلق بالإحسان

- ‌إذا لم يوافق القلب اللسان

- ‌ومما يلحق بهذا أنّ عمل الرياء سالب عن صاحبه جلباب الحياء

- ‌الباب الثاني

- ‌في اللؤم

- ‌وفيه ثلاثة فصول

- ‌الفصل الأول من هذا الباب

- ‌في ذم من ليس له خلاق

- ‌وما اتصف به من الأخلاق

- ‌من مساوئ أخلاقهم الذميمة

- ‌نقل الأقدام بالسعاية والنميمة

- ‌الفصل الثاني من الباب الثاني

- ‌في ذكر الفعل والصنيع

- ‌الدالين على لؤم الوضيع

- ‌من الصنيع الدال على لؤم الأصول

- ‌من كان بسيف جوره على العباد يصول

- ‌الفصل الثالث من الباب الثاني

- ‌في أنّ من تخلق باللؤم انتفع

- ‌الباب الثالث

- ‌في العقل

- ‌الفصل الأول من هذا الباب

- ‌في مدح العقل وفضله

- ‌شوارد مجموعة في احتياج ذوي العقل والحلم

- ‌إلى اكتساب فضيلتي الأدب والعلم

- ‌الفصل الثاني من الباب الثالث

- ‌في ذكر الفعل الرشيد

- ‌العاقل من شغله عيبه عن عيب من سواه

- ‌ولم يطع في جواب السفيه أمير هواه

- ‌الفصل الثالث من الباب الثالث

- ‌في هفوات العقال

- ‌الباب الرابع

- ‌في الحمق

- ‌وفيه ثلاثة فصول

- ‌الفصل الأول من هذا الباب

- ‌الفصل الثاني من الباب الرابع

- ‌في ذكر النوادر

- ‌الفصل الثالث من الباب الرابع

- ‌في احتجاج الأريب المتحامق

- ‌ومن احتجاج من أطلق نفسه من عقال العقل

- ‌وألقى عصاه عامداً في بيداء الجهل

- ‌من أحاسن أقوالهم في أنّ العقل طريق إلى العنا

- ‌وسدّ يمنع صاحبه من الوصول للغنى

- ‌مما ذكر إنّ الحظ أجدى لصاحب الحجا

- ‌الباب الخامس

- ‌في الفصاحة

- ‌وفيه ثلاثة فصول

- ‌الفصل الأول من هذا الباب

- ‌وما أحسن قول بعض الأعاجم يفتخر ويعتذر

- ‌ولأبي إسحق الصابي في الوزير أبي محمد المهلبي رحمه الله تعالى

- ‌الفصل الثاني من الباب الخامس

- ‌في يتحلى به ألباب الأدباء

- ‌ولنذكر من كلام الخطباء ذوي البراعة واللسن ما كان ذا لفظ بديع

- ‌ولرسول الله صلى الله عليه وسلم الخطب التي حكمت فصاحتها بالعي لقس

- ‌الفصل الثالث من الباب الخامس

- ‌في إنّ معرفة حرفة الأدب مانعة من ترقى أعالي الرتب

- ‌وربما أعدت حرفة الأدب أهل الوراقة

- ‌الباب السادس

- ‌في العي

- ‌وفيه ثلاثة فصول

- ‌الفصل الأول من هذا الباب

- ‌فيما ورد عن ذوي النباهة في ذم العي والفهاهة

- ‌لبعضهم فيمن يلثغ بالراء

- ‌قد يكون البليغ عيياً عند سؤال مطلوبه

- ‌ولبعض الصوفية

- ‌الفصل الثاني من الباب السادس

- ‌في ذكر من قصر باع لسانه عن ترجمة ما في جنانه

- ‌الفصل الثالث من الباب السادس

- ‌في أنّ اللسن المكثار لا يأمن آفة الزلل والعثار

- ‌احتجاج من أمسك عن الكلام من غير خرس

- ‌الباب السابع

- ‌في الذكاء

- ‌وفيه ثلاثة فصول

- ‌الفصل الأول من هذا الباب

- ‌في مدح الفطن والاذهان

- ‌المعظمة من قدر المهان

- ‌وعلى أثر قبح الصورة يقول بعض الشعراء في جحظة

- ‌وأكثر ما يوجد الذكاء المفرط عند العميان

- ‌من اخترع من الأوائل حكمة بثاقب فكره

- ‌الفصل الثاني من الباب السابع

- ‌في ذكر بداهة الأذكياء البديعة

- ‌وأجوبتهم المفحمة السريعة

- ‌الفصل الثالث من الباب السابع

- ‌فيمن سبق بذكائه وفطنته إلى ورود حياض منيته

- ‌منهم من ارتقى بادعائه النبوة مرتقى صعبا

- ‌الباب الثامن

- ‌في التغفل

- ‌وفيه ثلاثة فصول

- ‌الفصل الأول من هذا الباب

- ‌في ذم البلادة والتغفل من ذوي التعالي والتنزل

- ‌وقد اخترت من مدام المتغفلين مما حسن وراق

- ‌الفصل الثاني من الباب الثامن

- ‌فيمن تأخرت منه المعرفة

- ‌ونوادر أخبارهم المستظرفة

- ‌الفصل الثالث من الباب الثامن

- ‌في أن أنواع التغفل والبله ستور على الأولياء مسبله

- ‌الباب التاسع

- ‌في السخاء

- ‌وفيه ثلاثة فصول

- ‌الفصل الأول من هذا الباب

- ‌في أن التبرع بالنائل من أشرف الخلال والشمائل

- ‌ذكر الأجواد المعروفين ببذل الأموال

- ‌النوع الثاني

- ‌الفصل الثاني من الباب التاسع

- ‌في منح الأماجد الأجواد

- ‌وملح الوافدين والقصاد

- ‌ذكر من تبجح بذكر المعروف الذي أسدى إليه

- ‌الفصل الثالث من الباب التاسع

- ‌في ذم السرف والتبذير

- ‌إذ فلهما من سوء التدبير

- ‌الباب العاشر

- ‌في البخل

- ‌وفيه ثلاثة فصول

- ‌الفصل الأول من هذا الباب

- ‌في ذم الإمساك والشح

- ‌وما فيهما من الشين والقبح

- ‌الفصل الثاني من الباب العاشر

- ‌في ذكر نوادر المبخلين

- ‌من الأراذل والمبجلين

- ‌من صان درهمه ولم يسمح به للعطاء

- ‌الفصل الثالث من الباب العاشر

- ‌في مدح القصد في الإنفاق

- ‌خوف التعيير بالإملاق

- ‌الباب الحادي عشر

- ‌في الشجاعة

- ‌وفيه ثلاثة فصول

- ‌الفصل الأول من هذا الباب

- ‌في مدح الشجاعة والبسالة

- ‌وما فيها من الرفعة والجلالة

- ‌الفصل الثاني من الباب الحادي عشر

- ‌في ذكر ما وقع في الحروب

- ‌من شدائد الأزمات والكروب

- ‌يوم كربلاء

- ‌يوم الحرة

- ‌وصف النزال والقتلى

- ‌الفصل الثالث من الباب الحادي عشر

- ‌في ذم التصدي للهلكة

- ‌ممن لا يستطيع بها ملكة

- ‌الباب الثاني عشر

- ‌في الجبن

- ‌وفيه ثلاثة فصول

- ‌الفصل الأول من هذا الباب

- ‌في أنّ خلتي الجبن والفرار مما يشين بني الأحرار

- ‌الفصل الثاني من البال الثاني عشر

- ‌في ذكر من جبن عند اللقاء

- ‌خوف الموت ورجاء البقاء

- ‌الفصل الثالث من الباب الثاني عشر

- ‌فيمن ليم على الفرار والإحجام

- ‌فاعتذر بما ينفي عنه الملام

- ‌الباب الثالث عشر

- ‌في العفو

- ‌الفصل الأول من هذا الباب

- ‌في مدح من اتصف بالعفو

- ‌عن الذنب المتعمد والسهو

- ‌الفصل الثاني من الباب الثالث عشر

- ‌فيمن حلم عند الاقتدار

- ‌وقبل من المسئ الاعتذار

- ‌ولنعقب هذا الفصل من لطيف الاعتذار

- ‌الفصل الثالث من الباب الثالث عشر

- ‌في ذم العفو عمن أساء

- ‌وانتهك حرمات الرؤساء

- ‌الباب الرابع عشر

- ‌في الانتقام

- ‌وفيه ثلاثة فصول

- ‌الفصل الأول من هذا الباب

- ‌في التشفي والانتقا

- ‌ممن أحضر قسراً في المقام

- ‌ما اخترناه من كلام الحكماء وأقوال الكرام الأماجد

- ‌الفصل الثاني من الباب الرابع عشر

- ‌في ذكر من ظفر فعاقب

- ‌بأشدّ العقوبة ومن راقب

- ‌الفصل الثالث من الباب الرابع عشر

- ‌في أن الانتقام بحدود الله خير فعلات من حكمه الله وولاه

- ‌ما الدية فيه كاملة من جوارح الانسان وحواسه

- ‌ما تختص به المرأة دون الرجل

- ‌الباب الخامس عشر

- ‌في الاخوة

- ‌الفصل الأول من هذا الباب

- ‌في مدح اتخاذ الاخوان

- ‌فإنهم العدد والأعوان

- ‌الفصل الثاني من الباب الخامس عشر

- ‌فيما يدين به أهل المحبة

- ‌من شرائع العوائد المستحبة

- ‌ومما يثني عطف الصديق إلى التألف

- ‌اعتذار من لم يهد شيأً

- ‌الفصل الثالث من الباب الخامس عشر

- ‌في ذم الثقيل والبغيض

- ‌بما استحسن من النثر والقريض

- ‌الباب السادس عشر

- ‌في العزلة

- ‌فيه ثلاثة فصول

- ‌الفصل الأول من هذا الباب

- ‌في ذم الاستئناس بالناس

- ‌لتلون الطباع وتنافي الأجناس

- ‌الفصل الثاني من الباب السادس عشر

- ‌فيما يحض على الاعتزال

- ‌من ذميم الخلائق والخلال

- ‌الفصل الثالث من الباب السادس عشر

- ‌خاتمة الكتاب

- ‌فيما نختم به الكتاب من دعاء نرجو أن يسمع ويجاب

الفصل: ‌وقبل من المسئ الاعتذار

وقال أبو الحسن مهيار بن مردويه الديلمي من أبيات

وإذا اباء المرء قال لك انتقم

قالت خلائقك الكرام بل احلم

شرع من المجد انفردت بدينه

وفضيلة لسواك لم تتقدّم

حتى لقد ودّ البرئ لو أنه

أدلى إليك بفضل جاه المجرم

ولغيره من أبيات

فدهره يصفح عن قدرة

ويغفر الذنب على علمه

كأنه يأنف من أن يرى

ذنب امرئ أعظم من حلمه

‌الفصل الثاني من الباب الثالث عشر

‌فيمن حلم عند الاقتدار

‌وقبل من المسئ الاعتذار

ولنبدأ الآن بما يجب على الأحرار من الصفح المتبجح بالأقدار قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يقبل عذراً من معتذر صادقاً كان أو كاذباً لم يرد على الحوض وقالوا الكريم أوسع ما يكون مغفرة إذا ضاقت بالمسئ المعذرة شاعر

إذا اعتذر المسئ إليك يوماً

من التقصير عذر فتي مقر

فصنه عن عتابك واعف عنه

فإنّ العفو شيمة كل حر

ويقال توبة المذنب اقراره وشفيع المجرم اعتذاره وقال الشاعر

اقبل معاذير من يأتيك معتذراً

إن برّ عندك فيما قال أو فجرا

فقد أطاعك من يرضيك ظاهره

وقد أجلك من يعصيك مستترا

ص: 474

وقالوا لا يظهر الحلم إلا مع الانتصار ولا يبين العفو إلا عند الاقتدار شاعر

إن للاعتذار حظاً من العف

ويراه المقر بالانصاف

ولعمري لقد أجلك من قد

جا مقراً بذلة الاقتراف

آخر

إذا ما امرؤ من ذنبه جاء تائباً

إليك ولم تغفر له فلك الذنب

وقالوا ما أذنب من اعتذر ولا أساء من استغفر وقال محمد بن شيرذاذ الأصاغر يهفون والأكابر يعفون كتب بعضهم إلى رئيس يعتذر إليه من ذنب اقترفه

اغتفر زلتي لتحرز فضلي

واعف عني ولا يفوتك أجري

لا تكلني إلى التوسل بالعذ

ر لعلي أن لا أقوم بعذري

ومن وصاياهم إياك وتكرير العذر فإنه تذكير بالذنب وقال الشاعر

إذا كان وجه العذر ليس ببين

فإن اطراح العذر خير من العذر

ومن وصاياهم إياك وما يعتذر منه وقولهم إياك وما يسبق إلى القلوب انكاره وإن كان عندك اعتذاره فما كل من أسمعته نكراً يطيق أن توسعه منك عذرا

ذكر منق در من الصدور فعفا

وأثلج الصدور بالمنة وشفى

رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك أن أهل مكة كانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة بالقول فقالوا كذاب وساحر ومجنون وغير ذلك من السب والشتم وبعدها

ص: 475

بالفعل فكانوا يقصدون نكايته في نفسه وأهله ولكثرة ايذائهم له قال ما أوذي أحد مثل ما أوذيت رموه بالحجارة فشجوا جبينه وكسروا رباعيته ووضعوا الشوك في طريقه وشقوا الكرش على رأسه وحاربوه وقتلوا أعمامه وعذبوا أصحابه وألبوا عليه وأخرجوه من أحب البقاع إليه وقتلوا عمه حمزة وبقروا بطنه ومثلوا به حتى إذا فتح الله مكة على يديه ودخلها بغير حمدهم وظهرت بها كلمته على رغمهم أخذ بعضادتي باب الكعبة وقام فيهم خطيباً فحمد الله وأثنى عليه وشكره على ما منحه من الظفر وقال لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ثم قال ما تقولون وما تظنون إني فاعل بكم فقال سهل بن عمرو ونقول خبراً ونظن خيراً أخ كريم وابن أخي كريم وقد قدرت فقال أقول لكم كما قال أخي يوسف لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين اذهبوا فأنتم الطلقاء ولما ظفر انوشروان ببزرجمهر وكان قد ترك دين المجوس قال الحمد لله الذي أظفرني بك قال كافئ من أعطاك ما تحب بما يحب فعفا عنه وحكى عن سلم بن نوفل وكان سيد قومه أن رجلاً ضرب ولده فشجه فأتى به إليه فقال له ما حملك على ما فعلت وما الذي أمنك من انتقامي منك فقال الرجل إنما سودناك لأنك تحلم وتكظم الغيظ وتحتمل جهل الجاهل فقال له إني آثرت حلمي وكظمت غيظي واحتملت جهلك خلواً عنه فولي الرجل وهو يقول

تسوّد أقوام وليسوا بسادة

بل السيد المعروف سلم بن نوفل

وحكى أن عبد الملك بن مروان نقم على رجل ذنباً فهرب منه فلما ظفر به هم بقتله فقال له الرجل إن الله قد فعل ما أحببت من الظفر فافعل ما يحبه من العفو فإن الانتقام عدل والتجاوز فضل والله يحب المحسنين فعفا عنه وأساء بعض جلسائه عليه الأدب فاطرحه وجفاه ثم دعاه بعد أيام لأمر عن له فرآه شاحب اللون نحيلاً فقال له متى اعتللت فقال ما مسني سقم ولكنني جفوت

ص: 476

نفسي مذ جفاني الأمير فاستحسن ذلك منه وعفا عنه وقال الأصمعي أتى المنصور برجل ليعاقبه على شيء بلغه عنه قال له أتحصيه فقال يا أمير المؤمنين الانتقام عدل والتجاوز فضل ونحن نعيذ أمير المؤمنين بالله أن يرضى لنفسه بأوكس النصيبين دون أن يبلغ ارفع الدرجتين فعفا عنه وقال المنصور لجان عجز عن الاعتذار ما هذا الوجوم وعهدي بك خطيباً لسنا فقال يا أمير المؤمنين ليس هذا موقف مباهاة ولكنه موقف توبة والتوبة تلفي بالاستكانة والخشوع والذلة والخضوع فرق له وعفا عنه وسعى إلى المنصور برجل من ولد الأشتر النخعي ذكر عنه الميل إلى بني علي بن أبي طالب والتعصب لهم فأمر باحضاره فلما مثل بين يديه قال يا أمير المؤمنين ذنبي أعظم من نقمتك وعفوك أوسع من ذنبي ثم قال

فهبني شيأً كالذي قلت ظالماً

فعفواً جميلاً كي يكون لك الفضل

فإن لم أكن للعفو منك لسوء ما

أتيت به أهلاً فأنت له أهل

فعفا عنه وأتى المنصور برجل أذنب فقال يا أمير المؤمنين إن الله أمر بالعدل والاحسان فإن أخذت في غيري بالعدل فخذ في بالاحسان فعفا عنه وأتى الهادي برجل فعل ما أنكره عليه فجعل يقرعه ويوبخه ويهدده ويتوعده فقال يا أمير المؤمنين اعتذاري عما تقر عيني عليه رد عليك وامساكي عن الاعتذار يوجب ذنباً لم أجنه ولكني أقول

فإن كنت ترجو في القيامة رحمة

فلا تزهدن في العفو عني وفي الأجر

ولما خرج إبراهيم بن المهدي على عبد الله المأمون عندما عقد لعلي بن موسى الرضا بولاية العهد بعده وأمر الناس بلباس الخضرة كره أهل بغداد ذلك وبايعوا إبراهيم ولقبوه بالمبارك وذلك في سنة اثنتين ومائتين فأقام سنة واحد عشر شهراً وأياماً يخطب له ثم دخل المأمون بغداد في صفر سنة أربع ومائتين وهي السنة التي مات فيها الشافعي وعليه الخضرة فاختفى إبراهيم ولم يظهر إلى سنة عشر فلما ظفر به المأمون أوقفه بين يديه وقد اجتمع في مجلسه وجوه دولته

ص: 477

ووزراؤها وقضاتها وكتابها وأمراؤها وقوادها فاستشار من حضر في أمره فكل أشار بقتله وكان فيمن حضر أحمد بن أبي خالد ساكتاً لا يتكلم ولا يفيض معهم في شيء من ذلك فقال له المشأمون مالك لا تنطق فقال يا أمير المؤمنين كم قتل مثلك مثله ولم يعف مثلك عن مثله ولان تكون أوحد في العفو أحب إلي من أن تكون شريكاً في العقوبة فأعجب المأمون كلامه وعفا عنه ويروى أنه لما مثل بين يديه قال له ما حملك على اجترام ما أداك إلى حتفك قال القدرة تذهب الحفيظة وولي الثار مخير في القصاص والعفو والعفو منك أقرب وقد جعلك الله فوق كل ذي حلم كما جعلني فوق كل ذي ذنب فإن تعف فبفضلك وإن تعاقب فبعدلك وإنه وإن كان ذنبي أعظم من أن يحيط به عذر فعفو أمير المؤمنين أعظم من أن يتعاظمه ذنب فقال المأمون قد رأيت وما توفيقي إلا بالله تحقيق ظنك في العفو عن خطيئتك والصفح عن جليل جرمك واقالتك العثرة وامانك على نفسك وأنشد

لما رأيت الذنوب جلت

عن المجازاة في العقاب

جعلت عنها العقاب عفواً

امضى من الضرب للرقاب

كان أبو نواس قد غلب على قلبه حب الأمين والتهالك فيه والغرام حتى قال فيه

عذب قلبي ولا أقول بمن

خافه لا أخاف من أحد

إذا تفكرت في هواي له

لمست رأسي هل طار عن جسدي

فاتصلت هذه الأبيات بالمأمون فقال من يقال فيه هذا يصلح أن يكون خليفة للمسلمين فبلغ ذلك الأمين فأمر بقتل أبي نواس حيث وجد فشفع فيه فأمر بحبسه ولا يمكن من ورقة ولا دواة فحلق رأس عبد له وكتب فيها بالفحم

بك أستجير من الردى

متعوذا من سطو باسك

ص: 478

وحياة رأسك لا أعو

د لمثلها وحياة راسك

من ذا يكون أبا نوا

سك إن قتلت أبا نواسك

وكتب تحت الأبيات إذا قرأ أمير المؤمنين الرقعة يخرقها ثم قال للغلام سر إلى دار الخلافة فإذا جئتها ناد نصيحة لأمير المؤمنين فإذا دخلت على الخليفة اكشف رأسك ليرى ما فيها مكتوباً ففعل الغلام ما أوصاه به فلما قرأ الأمين الأبيات ضحك وقال ما ألطفه وأظرفه وأمر باطلاقه وحكى عبد الرحمن اليزيدي قال حضرت مجلس المأمون وهو على شراب فدعاني وأكرهني حتى شربت فكلمني بكلمة في حال السكر فأجبته عنها جواباً قبيحاً وأنا لا أعلم لما أخذ الشراب مني وغلبة السكر علي فاعلمت بذلك بعد انصراف المجلس فكتبت إليه

أنا المذنب الخطاء والعفو واسع

ولو لم يكن ذنب لما عرف العفو

ثملت فأبدى مني الكاس بعض ما

كرهت وما أن يستوي السكر والصحو

تنصلت من ذنبي تنصل ضارع

إلى من إليه يحسن العفو والسهو

فإن تعف عني ألف خطوي واسعاً

وإن تكن الأخرى فقد قصر الخطو

فلما قرأ المأمون رقعته قال قد صفحنا عنك فإن مجلس الشراب يطوي بما فيه ويقال بل وقع على الرقعة

إنما مجلس الندامى بساط

للمودّات بينهم وضعوه

فإذا ما انتهى إلى ما أرادوا

من حديث ولذة رفعوه

حكاه المرزباني في كتاب طبقات الشعراء وعرف باليزيدي لأنه كان يؤدب ولد يزيد ابن منصور الحميري خال المهدي وقال الحسن بن سهل للمأمون في رجل مسئ هبه لي فقال وكيف أهبه لمن ليس به قدرة عليه وعفا عنه واحضر إليه رجل أذنب فقال له أنت الذي فعلت كذا وكذا قال نعم يا أمير المؤمنين أنا ذاك الذي أسرف على نفسه وأتكل على عفوك فعفا عنه

ص: 479

وقال الصولي ما كان في الخفاء أحلم من الواثق ولا أصبر منه على أذى وكان يتشبه بالمأمون فمما ذكر عنه أنه كان يعجبه غناء أبي حشيسة الطنبوري فوجد المسدود المغنى من ذلك حسداً فكتب في رقعة بيتين يهجو بهما الواثق وكانت الرقعة معه لا تبرح واتفق إن كتب رقعة يسأل فيها حاجة من الواثق فغلط وأعطاه الرقعة التي فيها البيتان ففتحها فإذا فيها

من المسدود في الأنف

إلى المسدود في العين

أنا طبل له شق

فيا طبل بشقين

وكان على إحدى عيني الواثق بياض وإلى ذلك نحا المسدود فلما قرأهما علم إنهما فيه فقال له قد غلطت في ورقة الحاجة فاحترس من مثلها وردها إليه وقضى حاجته ولم يتغير لها عما كان عليه ولما ظفر المتوكل بمحمد بن المغيث الربعي وكان قد خرج عليه في سنة أربع وثلاثين ومائتين فلما وقف بين يديه وهو مكبل قال له ما حملك على أن خرجت علي وأنت لا ذو مال ولا ذو مدد من رجال فقال الشقوة والجبن يا أمير المؤمنين وأنت الحبل الممدود بين الله وبين خلقه وإني بين ظنين أسبقهما إلى قلبي أولى بك من الآخر ثم أنشد

أبى القوم إلا إنك اليوم قاتلي

امام الهدى والعفو في الله أجمل

وهل أنا إلا جبلة من خطيئة

وعفوك من نور الخلافة يجبل

تضاءل ذنبي عند عفوك قلة

فمنّ بعفو منك والعفو أفضل

وإنك خير السابقين إلى التقى

ولا شك أن خير الفعالين تفعل

وأمر بفك قيده وغله وخلع عليه وأمر له بصلة وهجا الحيص بيص الشاعر المسترشد فأباح دمه فهرب إلى دبيس بن صدقة ثم عاد إلى بغداد مستخفياً وكتب إلى المسترشد يستعطفه لولا جرائم العبيد لم يظهر حلم الموالي وقد أتيتك مستجيراً بعفوك من سطوتك وبحلمك من نقمتك فوقع على رقعته ليوغر بمسارعة العفو مع عظيم الجرم احتقاراً بالمعفو عنه

ص: 480

مكرمة لا نظير لها

ولم يكتب المؤرخون مثلها

حكوا عن محمد بن حميد الطوسي أنه كان يوماً على غذائه وإذا بضجة عظيمة على الباب فرفع رأسه وقال لبعض غلمانه ما هذه الضجة من كان عند الباب فليدخل فخرج الغلام وعاد وقال يا مولاي إن فلاناً أخذ وجئ به موثوقاً بالحديد والغلمان والشرط ينتظرون أمرك فيه فرفع يده من الطعام سروراً بأخذه فقال رجل ممن كان حاضراً عنده الحمد لله الذي أمكنك من عدوك فسبيلك أن تسقي الأرض من دمه وقال آخر بل يصلب حياً ويعذب حتى يموت وتكلم كل أحد بما وفق له وهو ساكت مطرق ثم رفع رأسه وقال يا غلام فك عنه وثاقه وأدخله إلينا مكرماً فلم يكن بأسرع مما امتثل أمره وأدخل إليه رجل لا دم فيه فلما رآه هش له ورفع مجلسه وأمر بتجديد الطعام وجعل يبسطه ويلقمه حتى انتهى الطعام ثم أمر له بكسوة حسنة وصلة جميلة وأمر برده إلى أهله مكرماً ولم يعاتبه بحرف واحد على جنايته ثم التفت إلى جلسائه وقال لهم إن أفضل الأصحاب من حض الصاحب على المكارم ونهاه عن ارتكاب المآثم وحسن له أن يجازي الاحسان بضعفه والاساءة عمن أساء إليه بصفحه انا إذا جازينا من أساء إلينا بمثل ما أساء فأين موضع الشكر عما أتيح من الظفر إنه ينبغي لمن يحضر مجالس الملوك أن يمسك الاعن قول سديد وأمر رشيد فإن ذلك أدوم للنعمة وأجمع للألفة إن الله تعالى يقول يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم وأحسن منها ما كتب به المعتصم إلى عبد الله بن طاهر عافانا الله وإياك قد كانت عليك هناة غفرتها لك لاقتداري عليك وقد بقيت في قلبي عليك حزازات أخاف عليك منها عند نظري إليك فإن أتاك مني ألف كتاب استقدمك فيها فلا تقدم وحسبك معرفة ما أنا عليه لك اطلاعي إياك على ما في ضميري والسلام

وممن أحسن من الأماثل إلى من أساء إليه وأسبل عند القدرة ستر المن عليه يزيد بن المهلب وذلك أنه بلغه أن حمزة بن بيص الشاعر هجاه فأحضره وأمر بتجريده وضربه وكان عليه حلة ديباج كان المهلب وهبها له فعسر نزعها فأمر

ص: 481

بتخريقها فلما عزم على ذلك رآه يزيد يهمهم بشفتيه فقال له ويحك ما الذي تقول قال قلت

لعمرك ما الديباج خرّقت وحده

ولكنما خرقت جلد المهلب

فأطلقه واعتذر إليه ووصله ولما ظفر الحجاج بمحمد بن عبد الرحمن بن الأشعث وكان قد خرج عليه وخلع عبد الملك بن مروان فأمر بضرب أعناق الجند الذين ظفر بهم حتى أتى على رجل من بني تميم فقال والله أيها الأمير لئن أسأنا في الأدب لما أحسنت في العقوبة فقال الحجاج أف لهذه الجيف أما كان فيهم من يحسن بمثل هذا وأمر باطلاق من بقي وعفا عنهم ومن أخبار الحجاج في العفو عن عدوه بع الظفر به ما حكى أنه لما ظفر بعامر بن حطاب مع جماعة من الخوارج الصفرية وكان حنقاً عليه لبسالته وشجاعته ونكايته في أصحابه فقال يا غلام اضرب عنق ابن الفاعلة فقال عامر يا حجاج بئس ما أدبك أهلك أبعد الموت غاية استنعتك بها ما يؤمنك لو رددت عليك أضعاف ما قلت فاستحيا الحجاج منه وقال له أفيك موضع للصنيعة قال أجل فأمر له بفرس وسرج وسيف وخلى سبيله ويقال إنه لما صار إلى أصحابه قالوا له عد إلى قتال الفاسق فالله أطلقك فقال هيهات غل يداً مطلقها وارتهن رقبة معتقها وقال

أأقاتل الحجاج عن ملكوته

بيد تقرّ بأنها مولاته

إني إذا لاخو الدناءة والذي

عفت على عرفانه جهلاته

ماذا أقول إذا وقفت ازاءه

في الصف واحتجت له فعلاته

أأقول جرت على إني عند ذا

لاحق من جارت عليه ولاته

تالله لا كدت الأمير بآلة

وجوارحي وسلاحها آلاته

أأكيده وعليّ سخطة خالقي

وعليه رحمة مالكي وصلاته

لأشد من كفر الكفور وجحده

نار تسوء للفحها حالاته

ص: 482

وتحدّث الأكفاء أنّ صنائعاً

غرست له فتحنظلت نخلاته

أبت الحزامة إن أبيت مصعراً

خدي وخيل الحق منتعلاته

فإليكم عني فإني مفلت

هيهاته لا يجرني افلاته

نقم طلحة بن جعفر المتوكل المنعوت بالموفق على هرون بن عبد الملك فوقف بين يديه وأنشد

يا بني هاشم بن عبد مناف

لكم حادث العلا والقديم

ليس عندي وإن تغير إلا

طاعة محضة وقلب سليم

وانتظار الرضا فإن رضا السا

دات عز وعتبهم تقويم

فعفا عنه ووصله وكان المهلب بن شاهين الشاعر عاملاً بنهر فروة ونهر رجا لعزيز الدين فظهرت عليه خيانة فأشخصه وتوعده فلما مثل بين يديه قال

قل للعزيز أدام ربي عزه

وأناله من خيره مكنونه

إني جنيت ولم تزل نبل الورى

يهبون للخدام ما يجنونه

ولقد جمعت من الجنون فنونه

فاجمع من الصفح الجميل فنونه

من كان يرجو عفو من هو فوقه

فليعف عن جرم الذي هو دونه

فعفا عنه وأعاده إلى عمله وقال أبو الفتح محمد بن أردشير كنت بالسيرجان مع الوزير أبي غالب الحسن بن منصور الملقب بذي السعادتين فاتفق أن شربت عنده يوماً فسكرت سكراً سقط معه سفتجتي من كمي وفيها رقاع قد أعطانيها أربابها لا تنجز لهم توقيعاته عليها ومن جملتها رقعتان بخطي قد كتبت في إحداهما

يا قليل الخير موفور الصلف

والذي في البغي قد حاز السرف

كن لئيماً وتواضع تحتمل

وكريماً يحتمل منك الصلف

ص: 483

وفي الاخرى

يا طارق الباب على عبد الصمد

لا تطرق الباب فما ثم أحد

فأخذ السفتجة وفتحها فوقع على الرقاع بجميع ما فيها ووقع على الرقعة التي فيها البيتان يطلق له ألفا درهم وعلى الاخرى التي فيها البيت الواحد يوجب له في كل شهر ألف درهم من اتصال الشهر الذي نحن فيه ورد الجميع إلى السفتجة وجعلتها في كمي وأضبحت من الغداة ولا علم عندي بما جرى فاستدعاني إلى الطعام وقت الظهر فلم ير عندي أثراً للفعلة التي فعلتها إذا وأنا من الضالين ولا سمع مني شكراً على صنيعة فقال لي وقفت على الرقاع قلت لا أيها الوزير ثم ذكرت ما كان في الأوراق فتصببت عرقاً واشتغل قلبي لما وجد فيها بخطى فنهضت إلى الرقاع فتأملتها وعدت إليه فشكرته واعتذرت مما وجد فقال لا تعتذر فإنا نستحقه إذا لم نقض واجباً ولم نراع صاحباً وحدث محمد بن هلال بن المحسن الصابي في كتاب الهفوات عن الفرج الرماني الكاتب قال قدم علينا أبو القاسم المعمر بن الحسين المدلجي مع الوزير أبي القاسم العلاء بن الحسين الأهوازي وكنت إذ ذاك كاتب الانشاء وخليفة العلاء فبعث إلي المعمر يطلب مني بغلة مسرجة ولم تكن منزلته عندي منزلة من أراعيه فرددت الرقعة مع رسوله ولم أجبه عنها ثم إنه بعث إلي الرقعة وعلى ظهرها مكتوب

عسى سائل ذو حاجة إن منعته

من اليوم سؤلاً أن يكون له غد

فإنك لا تدري إذا جاء سائل

أأنت بما تعطيه أو هو أسعد

فأعدت إليه الرقعة من غير جواب كما فعلت أولاً وضرب الدهر ضرباته فصرف العلاء ووزر المدلجي وكنت إذ ذاك متولياً أعمالاً كثيرة فانفذ إلي من أشخصني إلى شيراز ووردت عليه وأنا لا أشك في قتلي أو القبض علي لما تقدم من سوء فعلي معه فقربني وأكرمني وأقمت متردداً إليه أياماً وهو يزيد في بري واكرامي وأنا من فعله متعجب وله مستظرف فلما كان بعد أيام قمت من مجلسه

ص: 484

منصرفاً فاتبعني الحاجب وقال الوزير يريد أن يخلو بك فلم يداخلني ريب في القبض هلي فأقمت خائفاً أترقب ما يأمر به في فلما خلا مجلسه استدعاني وأسر إلى بعض خدمه شيا فمضى وعاد معه الرقعة بعينها فسلمها إلي فلما رأيتها وددت أن الأرض ساخت بي وقرأت بحيث يسمع يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً فقال لي لا ترع أوقفتك على سوء فعلك حتى لا تستصغر بعدها أحداً وتطرح مراعاة العواقب وليكن هذا الفعل لأخلاقك مهذباً ثم خلع علي ووصلني وردني إلى عملي وإلى هذا أشار بعض البلغاء الحكماء في التحريض على اصطناع الكرام الخافضة من أقدارهم الأيام في قوله أحسن إلى كل من له سابقة في الأدب وسابقة في الفضل ولا يزهدنك فيه سوء الحاجة منه وادبار الدولة عنه فإنك لا تخلو في اصطناعك له واحسانك إليه من نفس حرة تملك رقها أو مكرمة حسنة توفي حقها فإن الدهر يجبر كما يكسر والدولة تقبل ثم تدبر ومن زرع خيراً حصد أجراً ومن اصطنع حراً استفاد شكراً وأنشد

وعدّ من الرحمن فضلاً ونعمة

عليك إذا ما جاء للخير طالب

ولا تمنعن ذا حاجة جاء راغباً

فإنك لا تدري متى أنت راغب

والجيد في هذا المعنى قول من قال

لا تحقرنّ امرأ قد كان ذا ضعة

فكم وضيع من الأقوام قد رأسا

فرب قوم جفوناهم فلم نرهم

أهلاً لخدمتنا صاروا لنا رؤسا

عدنا والعود أحمد دخل أبو الصقر إسمعيل بن بلبل قبل وزارته للمعتمد على صاعد بن مخلد في وزارته وفي المجلس أبو العباس بن توابة فسأل صاعد عن رجل فقال أبو الصقر أنفي يريد نفي فقال ابن ثوابة في الخرء فتضاحك الناس وخجل أبو الصقر فلما ولي أبو الصقر الوزارة دخل عليه ابن ثوابة وقال تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين فقال أبو الصقر لا تثريب عليك اليوم يا أبا العباس يغفر الله لك وهو أرحم الراحمين

ص: 485

وحدث أبو هريرة الشاعر المصري قال خرجت يوماً إلى بركة الحبش بمصر متنزهاً في أيام الربيع حين أخذت الأرض زخرفها وازينت ومعي آنية شراب وكتاب وكانت تلك عادتي في كل سنة فجعلت أشرب وأنادم كتابي طول يومي فلما كادت الشمس أن تغرب وتلمح في أجنحة الطير أخذت في الانصراف إلى منزلي وأنا ثمل فبينا أنا أمشي وإذا بفارس خرج من مصر ملتثماً لا يبين من وجهه غير عينيه فسلم وقال من أين أقبل الشيوخ فقلت في نفسي أجن الرحل ومن يرى معي فالتفت فإذا خلفي ذود تيوس وراع يسوقه فقلت حضرنا ملاك الوالدة أصلحك الله فضحك وانصرف ولما كان بعد أيام دخلت إلى الأمير تكين في حاجة فقضاها لي وأسرني بألف درهم وقال هذه حق حضورك ذاك الملاك فعلمت أنه الذي لقيني فأخذتها وانصرفت

ملح مكارم يغتبط بها القلب والسمع

لدلالتها على كرم النجار والطبع

قتل للأحنف بن قيس ولد وكان قاتله أخو الأحنف فأتى به مكتوفاً ليأخذه به فلما رآه بكى وأنشد

أقول للنفس تأنيباً وتسلية

إحدى يديّ أصابتني ولم ترد

كلاهما خلف من بعد صاحبه

هذا أخي حين أدعوه وذا ولدي

ولآخر في معناه وقد قتل قومه أخاه

ولم يقصده أحد بنكاية ولا توخاه

قومي هم قتلوا أميم أخي

فإذا رميت يصيبني سهمي

فلئن عفوت لاعفون جللاً

ولئن سطوت لاوهنن عظمي

وقيل للأحنف بن قيس ممن تعلمت الحلم قال من قيس بن عاصم المنقري بينا هو ذات يوم جالس في داره إذا أتته جارية بسفود عليه شواء فسقط من يدها على ولد له صغير فمات فدهشت الجارية واختلط عقلها فلما رأى ذلك منها قال لا روع عليك اذهبي فأنت حرة لله تعالى

ص: 486