الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثالث عشر
في العفو
وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول من هذا الباب
في مدح من اتصف بالعفو
عن الذنب المتعمد والسهو
قال الله تعالى وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم وقال تعالى فمن عفى وأصلح فأجره على الله وقال تعالى وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوبا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقال مسلماً عثرته أقاله الله عثراته يوم القيامة وقال عليه الصلاة والسلام إن العفو لا يزيد العبد إلا عزاً فاعفوا يعزكم الله ويروى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال ما من امام عفا بعد قدرة إلا قيل له يوم القيامة ادخل الجنة بغير حساب وقال معاذ بن جبل لما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي ما زال جبريل يوصيني بالعفو فلولا علمي بالله لظننت أنه يوصيني بترك الحدود وقيل لأبي الدرداء من أعز الناس قال الذي يعفو إذا قدر وينصر إذا استنصر وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من عفا عمن ظلمه صغيرة أو كبيرة فاجره على الله ومن كان أجره على الله فهو من المقربين يوم القيامة
وحده على ما قاله بعض العلماء وقد سئل عنه هو ترك المكافأة عند القدرة قولاً وفعلاً وقال آخر هو السكون عند الأحوال المحركة للانتقام وهو يجمع أشرف الخلال وأكرم الخصال وأفضل شمائل الجلال وأعلى مراتب الكمال وركن متين وحصن حصين من استند إليه واعتمد عيه استنارت له الظلم وأمن من عثرات القدم وعصم من مواقع الندم ويكفي في شرفه إن الانسان لا يسمى حليماً حتى يكون عاقلاً عالماً محسناً صبوراً وحتى يجمع عظم القدر إلى سعة الصدر وقالوا الحليم من لم يكن حلمه لفقد النصرة وعدم القدرة وهو غريزة في الانسان يمنحها واهب الاحسان تصدر عن صدر سالم من الغوائل والأدواء صاف من شوائب الكدر ولاقذاء لا تستطاع بتعلم وتفكر ولا تدرك بتفقه وتبصر كما قال أبو الطيب المتنبي
وإذا الحلم لم يكن في طباع
…
لم يحلم تقدّم الميلاد
فقد يكون طبيعة ويكون مكتسباً مستفاداً بتمرن النفس إليه وتنقاد حباً في المحمدة إليه ويعضد هذا ما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لاشح عبد القيس يا أبا المنذر إن فيك خصلتين يرضاهما الله ورسوله الحلم والأناة فقال يا رسول الله أشيء جبلني الله عليه أو شيء اخترعته من قبل نفسي قال بل شيء جبلك الله عليه فقال الحمد لله الذي جبلني على خلق يرضاه الله ورسوله وقال المخالفون لهذا المذهب الحلم بالتحلم كما أن العلم بالتعلم واستدلوا لهذا القول بما يروى أن جعفر بن محمد الصادق كان إذا أذنب له عبد أعتقه فقيل له في ذلك فقال إني أريد بفعلي هذا تعلم الحلم وقيل كان له عبد سيء الخلق فقيل له ما بقاء مثل هذا عندك وأنت قادر على أن تستبدل به غيره قال لأتعلم به الحلم ومن ذلك قول الأحنف من لم يصبر على كلمة سمع كلمات وأنشد
وليس يتم الحلم للمرء راضياً
…
إذا هو عند السخط لم يتحلم
كما لا يتم الحلم للمرء موسراً
…
إذا هو عند العسر لم يتحشم
ومن أحاسن الكلام الصادر عن الحكماء في شرف الحلم ومن تخلق به من الحلماء قالوا الحلم والأناة توأمان نتيجتهما علو الهمة وهذا كما ورد عن علي رضي الله عنه أنه سأل رجلاً من أهل فارس عمن كان أحمد ملوكهم سيرة قال أنوشروان فقال علي أي أخلاقه كان أغلب عليه قال الحلم والأناة فقال على هما قوام الملك نتيجتهما علو الهمة والأناة ترك العجلة بالانتقام عند القدرة قال إبراهيم بن العباس الصولي
لن يدرك المجد أقواماً وإن كرموا
…
حتى يذلوا وإن عزو الأقوام
ويشتموا فترى الألوان مسفرة
…
لا صفح ذل ولكن صفح اكرام
وقال قابوس بن وشمكير العفو عن الذنب من واجبات الكرم وقبول المعذرة من محاسن الشيم ومن كلام التبوة كاد الحليم أن يكون نبياً ورأى حكيم نزقة من ملك فقال أيها الملك ليس التاج الذي يفتخر به عظماء الملوك فضة ولا ذهباً ولكنه الوقار المكلل بجواهر الحلم وأحق الملوك بالبسطة من حلم عند ظهور السقطة وقال معاوية لابنه يزيد عليك بالحلم والاحتمال حتى تمكنك الفرصة فإذا أمكنتك فعليك بالصفح فإنه يدفع عنك مضلات الأمور ويوقيك مصارع المحذور وقال الشاعر
لا تحسبن الحلم منك مذلة
…
إنّ الحليم هو الأعز الأمنع
إن جرعوك الغيظ فأجرعه لهم
…
تؤجر وتحمد غب ما يتجرع
آخر
إنّ التحلم ذل أنت عارفه
…
والحلم عن قدرة أفضل من الكرم
وقال معاوية أفضل ما أعطى الرجل الحلم فإنه إذا ذكر ذكر وإذا قدر غفر وإذا أساء استغفر وقالوا العفو يزين حالات من قدر كما يزين الحلي قبيحات الصور وقالوا الحلم مطية وطية تبلغ راكبها قصبة المجد وتملكه ناصية
الجد وقال بعض البلغاء من غرس الحلم شجراً وسقاه الأناة درراً جنى العز منه ثمراً وأثبت المكارم أثراً شاعر
إذا شئت يوماً أن تسود عشيرة
…
فبالحلم سدلاً بالتسرع والشتم
فللعلم خير فاعلمن مظنة
…
من الجهل إلا أن تشينه بالظلم
آخر
اخفض جناحك للقرابة والقهم
…
بتودد واغضض لهم ان أذنبوا
وصل الكرام فإن ظفرت بزلة
…
فالصفح عنهم والتجاوز قرب
آخر
إلا إنّ حلم المرء أكرم نسبة
…
تسامى بها عند الفخار كريم
فيا رب هب لي منك حلماً فإنني
…
أرى الحلم لم يندم عليه حليم
وقالوا الحلم حجاب الآفات وقالوا من غرس شجر الحلم اجتنى ثمر السلم وقال عمر بن عبد العزيز ما قرن الله شيأً إلى شيء أفضل من علم إلى حلم ومن عفو إلى قدرة وقال حكيم خير الأمور بغية العفو وخير العفو ما كان عن قدرة وقال الشاعر
العفو يعقب راحة ومحبة
…
والصفح عن ذنب المسئ جميل
وقال عمر أيضاً استدعوا العفو من الله بالعفو عن الناس والرحمة بهم والشفقة عليهم وقالوا اعف عمن لم يسلك من سخطك طريقاً حتى يأخذ من رجائك طريقاً ويروى عن عيسى عليه السلام أنه قال ليس الاحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك إنما تلك مكافأة وإنما الاحسان أن تحسن إلى من أساء إليك وقال سعيد بن العاص ما شاتمت أحداً مذ صرت رجلاً لأني ما أشاتم إلا أحد رجلين إما كريماً فأنا أحق أن أحتمله أو لئيماً فأنا أولى من رفع نفسه عنه وقال عمر بن الخطاب ادرؤا الحدود بالشبهات ولان يخطئ الامام في
العفو أحب إلي من أن يخطئ في العقوبة فإذا وجدتم مخرجاً للسلم فادرؤا الحدود شاعر
وما بال من أسعى لاجبر عظمه
…
سفاهاً وينوي من سفاهته كسرى
أظن خطوب الدهر بيني وبينهم
…
ستحملهم مني على مركب وعر
أعوذ على ذي الجهل والحلم منهم
…
بحلمي ولو عاقبت غرقهم بحري
أناة وحلماً وانتظاراً بهم غدا
…
وما أنا بالواني ولا الضرع الغمر
ألم تعلموا أني تخاف عزيمتي
…
وإن قناتي لا تلين على الكسر
من عرف بالعفو عند خطا الجاني
…
وصار بالأناءة عليه كالأب الحاني
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حليماً رحيماً رؤفاً عطوفاً يهب ويسمح ويعفو ويصفح وكان كسرى يقول عفوي عمن أساء إلي بعد قدرتي عليه أسر لي مما ملكت وكان معاوية يقول ما وجدت لذة ألذ عندي من غيظ أتجرعه ومن سفه بالحلم أقمعه وكان يقول إني لاكره أن يكون في الأرض جهل لا يشمله حلمي وذنب لا يسعه عفوي وكان المأمون ممن أوتي الحلم طبعاً لا تطبعاً ومنح العفو خلقاً لا تخلقاً فكان يقول إني لاستحلي العفو حتى أخاف إني لا أوجر عليه ولو علم الناس محبتي في العفو لتقربوا إلي بالذنوب فكأنه القائل بلسان كرمه وأفضاله لا بلسان نطقه ومقاله
وجهل رددناه بفضل حلومنا
…
ولو أننا شئنا رددناه بالجهل
رجحنا وقد خفت حلوم كثيرة
…
وعدنا على أهل السفاهة بالفضل
عامر العدواني
إني غفرت لظالمي ظلمي
…
وتركت ذاك له على علمي
فرأيته أسدى إليّ يداً
…
لما أبان بجهله حلمي
وكان يقول ليس في الحلم مؤنة ووددت أن أهل الجرائم عرفوا رأيي في الحلم حتى يذهب عنهم الخوف فتصفو إلي قلوبهم وكان يقول المذنبون ثلاثة فمنهم من ذنبه مقرون بعذره قد أماطه عنه وأخرجه سليماً منه ومنهم من ذنبه فاضح وعذره غير واضح وهو فرد لا أخ له وفذ لا توأم معه فالأولى به أن يقال إذا اعترف بالحوبة وأخلص لي التوبة ومنهم المتردد في هفواته والمتكرر في عثراته الجارية عادته أن يكثر التوبة إذا تاب ويفسخ عقد الانابة متى أناب فذاك الذي يعاقب بالاطراح ولا يطمع في شخصه بالفلاح وكان أسماء بن خارجة يقول ما أتاني أحد بما أكره إلا أخذت عليه بثلاث خصال فإن كان فوقي عرفت له فضل التقدم فاتبعته وإن كان دوني صفت نفسي عنه وإن كان مثلي تفضلت عليه نظم محمود الوراق هذه الكلمات في هذه الثلاثة الأبيات فقال
سألزم نفسي الصفح عن كل مذنب
…
وإن عظمت منه عليّ الجرائم
فما الناس إلا واحد من ثلاثة
…
شريف ومشروف ومثلي مقاوم
فأما الذي فوقي فاعرف فضله
…
واتبع فيه الحق والحق لازم
وأما الذي دوني فإن قال منكراً
…
صفحت له عنه وإن لام لائم
وأمّا الذي مثلي فإن زلّ أو هفا
…
تفضلت إنّ الفضل بالحلم حاكم
الناشي في مثل هذا
إذا كان دوني من بليت بجهله
…
أبيت لنفسي أن أقابل بالجهل
فإن كنت أدنى منه في العلم والحجى
…
عرفت له حق التقدّم بالفضل
وإن كان مثلي في محلّ من النهى
…
أردت لنفسي أن أجلّ عن المثل
وقال المأمون وجدت المسئ إلي عبد الله ولو أساء إلي عبد لاخ لصفحت عنه اكراماً له فكيف لا أصفح عن عبد مسئ هو عبد الله تعالى
ولأبي فراس الحمداني
ما كنت مذ كنت الأطوع خلاني
…
ليست مؤاخذة الاخوان من شاني
يجنى الخليل فاستجلى جنايته
…
حتى أدلّ على عفوي واحساني
يجنى عليّ وأحنو دائماً أبداً
…
لا شيء أحسن من حان على جان
وقال رجل للأحنف في مشاجرة وقعت بينهما إن قلت كلمة لتسمعن عشر كلمات فقال الأحنف لو قلت عشراً لم تسمع واحدة ومن حكاياته الدالة على كرم نجره القاضية له بتضعيف أجره أن رجلاً جعل له ألف درهم على أن يغضبه فوقف الرجل وبالغ في سبه والأحنف يعرض عنه غير مكترث به فلما رآه لا ينظر إليه ولا يرد عليه أقبل يعض أنامله ويقول واسوأتاه والله ما يمنعه من جوابي إلا هواني عليه ولهذا قيل الحليم من صمت عن سماع الخنى وأغضت عيناه على مضض القذى
ما اخترناه وانتقيناه من غرر الممادح
…
المقولة فيمن أغضى عن المسئ القادح
مدح أعرابي رجلاً بالحلم فقال إن أذنبت إليه استغفر فكأنه المذنب وإن أحسن إليك اعتذر فكأنه المسئ الحسن بن رجاء في المأمون
صفوح عن الاجرام حتى كأنه
…
من العفو لم يعرف من الناس مجرما
وليس يبالي أن يكون به الأذى
…
إذا ما الأذى لم يغش بالكره مسلما
وقال آخر
يعفو عن الذنب العظي
…
م وليس يعجزه انتصاره
صفحاً على الباغي علي
…
هـ وقد أحاط به اعتذاره