الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثالث
في العقل
وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول من هذا الباب
في مدح العقل وفضله
في مدح العقل وفضله
…
وشرف مكتسبه ونبله
قال الله تعالى إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد سئل الحسن بن سهل ما حد العقل فقال الوقوف عند الأشياء قولاً وفعلاً وسئل آخر فقال الاصابة بالظنون والتلمح فيما كان وما يكون ومراده في القسم الثاني التجربة وقالوا هو درك الأشياء على ما هي عليه من حقيقة معانيها وصحة مبانيها وقيل لحكيم ما مقدار العقل فقال ما لم ير كاملاً في أحد فلا يعرف له مقدار وقالوا لكل شيء غاية وحد والعقل لا غاية له ولا حد ولكن الناس يتفاوتون فيه كتفاوت الأزهار في الرائحة والطيب واختلف الحكماء أيضاً في ماهيته كما اختلفوا في حده فقال بعضهم هو نور وضعه الله طبعاً وغرزه في القلب كالنور في العين وهو البصر فالعقل نور في القلب والبصر نور في العين وهو ينقص ويزيد ويذهب ويعود وكما يدرك بالبصر شواهد الأمور كذلك يدرك بنور العقل كثير من المحجوب والمستور وعمي القلب كعمي البصر قال الله تعالى فإنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور وقال النبي صلى الله عليه وسلم ليس الأعمى من عمي بصره ولكن الأعمى من عميت بصيرته
وقال بعض الحكماء العقل غريزة لا يقدر أحد أن يصفها في نفسه ولا في غيره ولا يعرف إلا بالأقوال والأفعال الدالة عليه وعلى كل حال فلا سبيل أن يوصف بجسم ولا لون ولا عرض ولا طول وقال العتبي واسمه عبد الله بن عمرو بن معاوية بن عمرو بن عتبة بن أبي سفيان العقل عقلان عقل تفرد الله بصنعه وهو الأصل وعقل يستفيده المرء بأدبه وهو الفزع فإذا اجتمعا قوى كل واحد منهما صاحبه تقوية النار في الظلمة البصر أخذه من هذه الأبيات وتنسب إلى أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه ورضي عنه
رأيت العقل عقلين
…
فمطبوع ومسموع
ولا ينفع مسموع
…
إذا لم يك مطبوع
كما لا تنفع الشمس
…
وضوء العين ممنوع
ويفهم من فحوى ما ذكرناه أن العقل في القلب وهذا القول هو الموجود بصحة النظر والمعلوم من جهة الأثر قال الله تعالى أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال العقل في القلب به يفرق بين الحق والباطل وقال بعضهم هو في الدماغ وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه وقال عمرو بن العاصي يثغر الغلام لسبع ويحتلم لأربع عشرة وينتهي طوله لإحدى وعشرين وينتهي عقله لثمان وعشرين ويبلغ أشده لخمس وثلاثين وما بعد ذلك تجارب وقال بعضهم كل شيء مفتقر إلى العقل والعقل مفتقر إلى التجارب وقال بعضهم من طال عمره نقصت قوة بدنه وزادت قوة عقله وقال بعض الحكماء أربعة تحتاج إلى أربع الحسب إلى الأدب والسرور إلى الأمن والقرابة إلى المودة والعقل إلى التجرية ويقال هرم السن شباب العقل وقال البستي
ما استقامت قناة رأيي إلا
…
بعد ما عوّج المشيب قناتي
ما اخترناه من محاسن الكلم وأسناها
…
في أنّ العقل أشرف المواهب وأسماها
قال ابن عباس رضي الله عنه دخلت على عائشة رضي الله عنها فقلت لها يا أم المؤمنين أرأيت الرجل يقل قيامه ويكثر رقاده والآخر يكثر قيامه ويقل رقاده أيهما أحب إليك قالت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتني فقال لي أحسنهما عقلاً قلت يا رسول الله إنما سألتك عن عبادتهما فقال يا عائشة إنهما لا يسألان عن عبادتهما إنما يسألان عن عقولهما فمن كان أعقل كان أفضل في الدنيا والآخرة وروى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال الجنة مائه درجة تسعة وتسعون منها لأهل العقل واحدة لسائر الناس وروى البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكل شيء وثيقة ومحجة واضحة وأوثق الناس مطية وأحسنهم دلالة ومعرفة بالحجة الواضحة أفضلهم عقلاً وقال بزرجمهر الانسان صورة فيها عقل فإن أخطأه العقل ولزمته الصورة فليس بإنسان قال المتنبي
لولا العقول لكان أدنى ضيغم
…
أدنى إلى شرف من الإنسان
وقال الحسن بن علي رضي الله عنهما إني لأعجب ممن رزق العقل كيف يسأل الله معه شيأً آخر وقالت عائشة رضي الله عنها أفلح من جعل الله له عقلاً وقال مطرف ما أوتي العبد بعد الايمان بالله تعالى أفضل من العقل ويقال ما تم دين امرئ حتى يتم عقله وما استودع الله رجلاً عقلاً إلا استنقذه به يوماً ما وقال الأصمعي لو صور العقل لأضاء معه الليل ولو صور الجهل لأظلم معه النهار وقال بزرجمهر العقل كالمسك إن خبأته عبق وإن بعته نفق وقالوا كل شيء إذا كثر رخص إلا العقل فإنه إذا كثر غلا ولو بيع لما اشتراه إلا العقلاء لمعرفتهم بفضله وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل داء دواء ودواء القلب
العقل ولكل حرث بذر وبذر الآخرة العقل ولكل شيء فسطاط وفسطاط الأبرار العقل ويقال العقل وزير رشيد وظهير سعيد من أطاعه فجاه ومن عصاه أرداه وقال بعضهم يصف العقل
لله درّ العقل من رائد
…
وصاحب في العسر واليسر
وحاكم يقضي على غائب
…
قضية الشاهد للأمر
وإن شاء في بعض أحواله
…
أن يفصل الخير من الشر
فذو قوى قد خصه ربه
…
بخالص التقديس والطهر
آخر
العقل حلة فخر من تسربلها
…
كانت له نسباً تغنى عن النسب
والعقل أفضل أما في الناس كلهم
…
بالعقل ينجو الفتى من حومة الطلب
ومن قولهم في أن
من وهب الله له عقلاً كسى
…
من المناقب حلة لا تبلى
قال أبو هريرة رضي الله عنه لو ازددت كل يوم مثقال ذرة من عقل ما باليت ما فاتني من أنواع التطوع وقال وهب مثل العقلاء في الدنيا مثل الليل والنهار لا تقوم الدنيا إلا بهما فكذلك المرء في الدنيا لا حظ له إلا إذا كان عاقلاً وقيل لأنوشروان أي الناس أولى بالسعادة قال أنفسهم ذنوباً قيل فمن أنقصهم ذنوباً قال أتمهم عقلاً وقالوا إذا كان العقل في النفس اللئيمة كان بمنزلة الشجرة الكريمة في الأرض الذميمة ينتفع بثمرها على خبث المغرس فاجتن ثمر العقل وإن أتاك من لئام الأنفس وإلى هذا أشار أمير المؤمنين علي رضي الله عنه في قوله لولده الحسن رضي الله عنه خذ الحكمة أنى أتتك فإن الحكمة تكون في صد والمنافق فلا تزال تختلج في صدره حتى تخرج فتسكن إلى صاحبها وقال سعيد بن جبير لم تر عيناي أفضل من فضل عقل يتردى به
الرجل إن انكسر جبره وإن صرع انعشه وإن ذل أعزه وإن اعوج أقامه وإن عثر أقاله وإن افتقر أغناه وإن عرى كساه وإن غوى أرشده وإن خاف أمنه وإن حزن أفرحه وإن تكلم صدقه وإن أقام بين ظهراني قوم اغتبطوا به وإن غاب عنهم أسفوا عليه وإن بسط يده قالوا جواد وإن قبضها قالوا مقتصد وإن أشار قالوا عالم وإن صام قالوا مجتهد وإن أفطر قالوا معذور قال الشاعر
وأفضل قسم الله للمرء عقله
…
فليس من الخيرات شيء يقاربه
يزين الفتى في الناس صحة عقله
…
وإن كان محظوراً عليه مكاسبه
وشين الفتى في الناس قلة عقله
…
وإن كرمت أعراقه ومناسبه
إذا أكمل الرحمن للمرء عقله
…
فقد كملت أخلاقه ومآربه
آخر
ما وهب الله لامرئ هبة
…
أشرف من عقله ومن أدبه
هما حياة الفتى فإن عدما
…
فإنّ فقد الحياة أجمل به
آخر
يعدّ رفيع القوم من كان عاقلاً
…
وإن لم يكن في قومه بحسيب
وإن حل أرضاً عاش فيها بعقله
…
وما عاقل في بلدة بغريب
وقال طاوس ما قلادة نظمت من در وياقوت بأزين لصاحبها من العقل ولو ناصح المرء عقله لأراه ما يزينه مما يشينه فالمغبون من أخطأ حظه من العقل
ما أثبتناه من الكلام الرائع الرائق
…
فيما يمتاز به العاقل من المائق
قال بعض أهل العلم إن آدم عليه السلام لما أهبط إلى الأرض أتاه جبريل عليه السلام بثلاثة أشياء بالدين والعقل وحسن الخلق وقال إن الله يخيرك واحداً من هذه الثلاثة فقال يا جبريل ما رأيت أحسن من هؤلاء في الجنة ثم مديده إلى العقل وقال لذينك اصعدا قالا لا نصعد قال أتعصياني قالا لا نعصيك ولكنا أمرنا أن نكون مع العقل حيث كان وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعاقل عشر خصال يعرف بها يحلم عمن ظلمه ويتواضع لمن دونه ويسابق إلى بر من هو فوقه وينتهز الفرصة إذا أمكنته لا يفارقه الخوف ولا يصحبه العنف يتدبر ثم يتكلم فإذا تكلم غنم وإذا سكت سلم وإذا اعترضت له فتنة اعتصم بالله وقال أبو عبادة مادحاً
غريب السجايا ما تزال عقولنا
…
مدلهمة في خلة من خلاله
عداه الحجى في عنفوان شبابه
…
وأقبل كهلاً قبل حين اكتهاله
وقالوا من علامة العاقل ثلاثة تقوى الله وصدق الحديث وترك ما لا يعني وفي حكمة داود على العاقل أن يكون عالماً بأهل زمانه مالكاً للسانه مقبلاً على شأنه وقال بعض الحكماء أربعة تدل على صحة العقل حب العلم وحسن الحلم وصحة الجواب وكثرة الصواب وقالوا إن أردت أن تعرف عقل الرجل في مجلس واحد فحدثه في خلال حديثك بما لا يكون فإن أنكر فهو عاقل وإن صدق فهو أحمق وقالوا لا تجد العاقل يحدث من يخاف تكذيبه ولا يسأل من يخاف منعه ولا يعد بما لا يستطاع انجازه وقال لقمان لابنه لا يتم عقل امرئ حتى يكون فيه عشر خصال يكون الكبر منه مأموناً والرشد فيه مأمولاً وفضل ما لديه مبذولاً لا يصيب من الدنيا إلا القوت التواضع أحب إليه من الشرف والذل أحب إليه من العز لا يسأم من طلب المعالي ولا يتبرم بطلب الحوائج إليه يستكثر قليل المعروف من غيره ويستقل كثيره من نفسه وأن يرى جميع أهل الدنيا خيراً منه وإنه شراً منهم وهذه الخصلة تشيد مجده