الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب السادس عشر
في العزلة
فيه ثلاثة فصول
الفصل الأول من هذا الباب
في ذم الاستئناس بالناس
لتلون الطباع وتنافي الأجناس
قال الله تعالى حكاية عن موسى عليه الصلاة والسلام ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكماً وجعلني من المرسلين وقال عليه الصلاة والسلام أحب العباد إلى الله الأتقياء الأحفياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا وإذا شهدوا لم يقربوا أولئك أئمة الهدى ومصابيح الظلم وقيل لبعض العباد ما أصبرك على الوحدة قال أنا جليس الرب إذا شئت أن يناجيني قرأت كتابه وإذا شئت أن أناجيه صليت له وقال ذو النون المصري الأنس بالله نور ساطع والأنس بالخلق غم قاطع وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم صومعة المؤمن بيته يكف فيها نفسه وبصره ولسانه وفرجه وقال الجنيد للسري السقطي أوصني فقال لا تكن مصاحباً للأشرار ولا تشتغل باللاهي عن الأخيار وفي كتاب كليلة ودمنة ينبغي لذي المروءة أن يكون إما مع الملوك مبجلاً أو مع النساك متبتلا كالفيل إما أن يكون مركباً نبيلاً أو في البرية مهيباً جليلاً وقال علي رضي الله عنه من وجد في نفسه وحشة من الناس فليعلم أن الله أحب أن يؤنسه به وقالوا ما استغنى أحد بالله إلا وافتقر الناس إليه وقال بعض الحكماء الأنس بالله من حبه لك فإن الله إذا أحب عبداً أوحشه من خلقه وقد قيل من خلق التوحيد حب الوحدة وقال الجنيد أطيب ساعاتي خلواتي وألذ طاعاتي في
مناجاتي ولله در من قال
من حمد الناس ولم يبلهم
…
ثم بلاهم ذمّ من يحمد
وصار بالوحدة مستأنساً
…
يوحشه الأقرب والأبعد
فمما يكون عوناً للكريم على الانقطاع ذم ما الناس عليه من لؤم الطباع قال سفيان الثوري للحسن البصري دلني على من أجلس إليه قال تلك ضالة لا توجد وقيل لبعضهم ما الصديق قال اسم وضع على غير مسمى وحيوان غير موجود الناشي
سمعنا بالصديق ولا نراه
…
على التحقيق يوجد في الأنام
وأحسبه محالاً نمقوه
…
على وجه المجاز من الكلام
وقيل لبعضهم من أبعد الناس سفراً قال من كان في طلب صديق صدوق يكون عوناً له على مهماته وغوثاً على ملماته سمع المأمون أبا العتاهية ينشد
وإني لمحتاج إلى ظل صاحب
…
يروق ويصفو إن كدرت عليه
فقال خذ مني الخلافة وأعطني هذا الصاحب وقبل هذا البيت
عذيري من الاخوان لا من جفوته
…
صفا لي ولا من كنت طوع يديه
وقال بعضهم إن كان في مخالطة الناس خير فإن تركهم أسلم وقال بعض الرهبان لرجل إن استطعت أن يكون بينك وبين الناس سور من حديد فافعل وإن كان الأنس في الجماعة فإن السلامة في العزلة وقال الشاعر
ليس في الناس وفاء
…
لا ولا في الناس خير
قد بلوت الناس طرّاً
…
فكسير وعوير
آخر
كن لقعر البيت جلساً
…
وارض بالخلوة أنسا
واغرس الناس بأرض الز
…
هد مهما شئت غرسا
وليكن بأسك دون ال
…
طمع الكاذب ترسا
لست بالواجد حراً
…
أو ترد اليوم أمسا
كتب بعضهم إلى صديق له أما بعد فإني أحمد الله إلى الناس وأذم الناس إليه وقيل لبعضهم ما تجد في الخلوة قال الراحة من مدارة الناس والسلامة من شرهم وقال الشاعر وقالوا لقاء الناس أنس وراحة ولو كنت أرضى الناس ما عشت مفرداً وكتب محمد بن عبد الله بن طاهر إلى أخيه من مدينة السلام وكان أخوه بخراسان يشكو إليه قلة وفاء الرئيس وتأدبه بحضرة الجليس فكتب إليه جواباً
طب عن الأمة نفساً
…
وارض بالوحدة أنسا
ما رأينا أحداً سا
…
وى على الخبر فلسا
آخر
قد بلوت الناس طراً
…
لم أجد في الناس حرا
صار أحلى الناس في الع
…
ين إذا ما ذيق مرا
أبو حامد الغزالي
لا تجز عنّ لوحدة وتفرد
…
ومن التفرد في زمانك فازدد
ذهب الأخاء فليس ثمّ أخوة
…
إلا التملق باللسان وباليد
فإذا كشفت ضمير ما بصدورهم
…
أبصرت ثمّ نقيع سمّ الأسود
آخر
إذا ما طلبت أخاً مخلصاً
…
فهيهات منك الذي تطلب
فكن بانفرادك ذا غبطة
…
فما في زمانك من تصحب
آخر
بلوت الأناس وأهل الزمان
…
وكل بهجر ولؤم خليق
وأوحشني من عدوّي الزمان
…
وآنسني بالعدوّ الصديق
آخر
بلوت الناس من غرب وشرق
…
فلم تظفر يدي بصديق صدق
فقلت مجانباً للخلق طراً
…
يبيت منادمي قدحي وزقي
وفي الآداب لي ألف وأنس
…
وفضل الله يأتيني برزقي
آخر
ما أعجب الناس في تقلبهم
…
ذا شهد طعمه وذا صبر
ترضى على الشخص حين تبصره
…
ويسخط العقل حين يختبر
وقال بعض الحكماء الوحشة من الناس على قدر المعرفة بهم منه قول علي رضي الله عنه أخبر تقله وقال المأمون لولا أن كلام علي فرع من كلام النبوة لعكسته وقلت أقله تخبر وقال وهيب بن الورد صحبت الناس منذ خمسين سنة فما وجدت رجلاً غفر لي زلة ولا أزاح لي علة ولا أقالني عثرة ولا ستر لي عورة وقال علي رضي الله عنه إذا كان الغدر طباعاً فالثقة بكل أحد عجز شاعر
أما الوفاء فشيء قد سمعت به
…
وما وجدت له عيناً ولا أثرا
فمن توهم في الدنيا أخاً ثقة
…
فإنه بشر لا يعرف البشرا
آخر
ذهب الوفاء ذهاب أمس الذاهب
…
فالناس بين مخاتل وموارب
يفشون بينهم المودّة والصفا
…
وقلوبهم محشوّة بعقارب
آخر
لك الخير فاعلم ليس في الناس منصف
…
وكل وداد فهو منهم تكلف
وكل إذا عاهدته فهو ناقض
…
لعهدك أو واعدته فهو مخلف
وأبناء هذا الدهر كالدهر لم يثق
…
به وبهم إلا جهول مسوّف
آخر
ذهب الوفاء فلا وفا
…
ء ولا حياء ولا مروّة
إلا التواصل باللسا
…
ن من النفوس بلا أخوة
عبد المحسن الصوري
نزع الدهر خلتين من النا
…
س وفاء الأخاء وصدق الصديق
ويقال العزلة عن الناس توفر العرض وتبقى الجلالة وتستر الفاقة وتدفع مؤنة المكافأة في الحقوق لما وقع الاختلاف في المدينة خرج عروة بن الزبير إلى العقيق واعتزل الناس فعاتبه بعض اخوانه فقال رأيت ألسنتهم لاغية وقلوبهم لاهية وأديانهم واهية فخفت أن تلحقني معهم الداهية شاعر
ألام على التفرد كل وقت
…
ولي فيما ألام عليه عذر
وكل أذى فمصبور عليه
…
وليس على قرين السوء صبر
آخر
وأفردني عن الاخوان علمي
…
بهم فبقيت مهجور النواحي
فكم ذم لهم في جنب مدح
…
وجد بين أثناء المزاح
الامام الشافعي رضي الله تعالى عنه
إذا لم أجد خلاً تقياً فوحدتي
…
ألذ وأشهى من غويّ أعاشره
وأجلس وحدي للسفاهة آمناً
…
أقر لعيني من جليس أحاذره
وقال جعفر الصادق العزلة أسكن للفؤاد وأبعد من الفساد وأعود للمعاد الثعالبي إذا كان الصديق المجانس متعذراً وصحيح الأخاء لا يكاد يرى فالثقة بغير الله منفصمة العرى وقالوا إذا أنس اللبيب بالوحدة دون المصاحب ونزه نفسه باكرامها عند تغير الأخ والصاحب وتزين بالدين وتحلى بحلية المؤمنين وألزم نفسه الرياضة بالآداب وأعتق رقها من أليم العذاب فقد استراح وأراح ووجد في كل قطر المطار والمراح وأنشد لعلي بن عبد العزيز الجرجاني
ما تطعمت لذة العيش حتى
…
صرت في وحدتي لكتبي جليسا
ليس شيء ألذ عندي من نف
…
سي فلم أبتغي سواها أنيسا
إنما الذل في مداخلة النا
…
س فدعها وعش كريماً رئيسا
وما أحسن قول بعضهم في المعنى
إذا ما خلوت من المؤنسين
…
جعلت المؤانس لي دفتري
فلم أخل من شاعر محسن
…
ومن مضحك طيب مندر
ومن حكم بين أثنائها
…
فوائد للناظر المفكر
فإن ضاق صدري بأسراره
…
وأودعته السر لم يظهر
فلست أرى مؤثراً ما حييت
…
عليه نديماً إلى المحشر
ولآخر
وما ظفرت يدي بصديق صدق
…
أخاف عليه إلا خفت منه
ولم تدع التجارب لي صديقاً
…
أميل إليه إلا ملت عنه
أنست بوحدتي حتى لو أني
…
رأيت الأنس لأستوحشت منه
أبو فراس
بمن يثق الانسان فيما ينوبه
…
ومن أين للحرّ الكريم صحاب
ومما اخترت من كلام الحكماء الأجلاء في التحذير من اتخاذ الأصدقاء والأخلاء قال بعض الزهاد لو أن الدنيا ملئت سباعاً ما خفتها ولو بقى واحد من الناس لخفته وقالوا استعذ من شرار الناس وكن من خيارهم على حذر وقال آخر ما بقي في الناس إلا حمار رامح أو كلب نابح أو أخ فاضح وقال أبو الدرداء كان الناس ورقاً لا شوك فيه فصاروا شوكاً لا ورق فيه وقال سلمان الناس أربعة أصناف آساد وذئاب وثعالب وضأن فالآساد الملوك والذئاب التجار والثعالب القراء المخادعون والضأن المؤمن ينهشه كل من يراه شاعر
الناس أخلاقهم شتى وإن جبلوا
…
على تشابه أفراد وأزواج
وقال بعض الحكماء احذروا الناس فما ركبوا سنام بعير إلا أدبروه ولا ظهر جواد إلا عقروه ولا قلب مؤمن إلا أخربوه وقال خالد بن صفوان الناس أجياف فمنهم كالكلب لا تراه الدهر إلا هراراً على الناس ومنهم كالقرد يضحك من نفسه وقال عبد الحميد الكاتب الناس أجياف مختلفون وأطوار متباينون فمنهم من علق مظنة لا تباع ومنهم من غل مظنة لا تبتاع وقال جعفر الصادق لبعض اخوانه اقلل من معرفة الناس وأنكر من عرفت منهم وإن كان لك مائة
صديق فاطرح منهم تسعة وتسعين وكن من الواحد على حذر وقال بعض البلغاء بلوت الناس طراً فلم أجد إلا من يرى الحق باطلاً والباطل حقاً واللئيم مرفوعاً والكريم ملقى والنصح غشاً والغش نصحاً والمدح هجاء والهجاء مدحاً العتابي في مثل ذلك
تساوي أهل دهرك في المساوي
…
فما يستحسنون سوى القبيح
وصار الناس كلهم غثاء
…
فما يرجون للأمر النجيح
وأضحى الجود عندهم جنوناً
…
فما يستعقلون سوى الشحيح
وكانوا يغضبون من الأهاجي
…
فصاروا يغضبون من المديح
وقال حكيم مصاحبة الناس خطر فمن صبر على صحبتهم فقد بالغ في العذر إنما هو كراكب بحر إن سلم بدنه من الغرق لم يسلم قلبه من الفرق شاعر
تجنب قرين السوء واصرم حباله
…
وإن لم تجد عنه محيصاً فداره
ومن يطلب المعروف في غير أهله
…
تجده وراء الحبر أو في قراره
وصف بعض البلغاء أهل زمانه فقال أحظى الناس لديهم من أحسن إليهم فإن قصر عنهم رفضوه وأبغضوه ووتروه ولم يعذروه إن حضروا داهنوا وإن غابو شاحنوا ينطوون على الأحن ولا يرتون للممتحن غنيهم شحيح وفقيرهم مجيح إن رأوا خيراً دفنوه وإن ظنوا شراً أعلنوه الواثق منهم على غرر والمتمسك بهم على خطر هم بين طاعن ثالب ومتقول كاذب وحسود موارب إن اختبرتهم تكشفوا وإن اعتبرتهم تزيفوا وأنشد
ان يسمعوا الخير يخفوه وإن سمعوا
…
شراً أذيع وإن لم يسمعوا كذبوا
ولقد أحسن في التحذير من قال
إياك أن تصطفي ممن ترى أحداً
…
ولا تثق بامرئ في حالة أبدا
من عاش منفرداً لم يأته ندم
…
على اتخاذ صديق في الأنام غدا
ومما يكون مماثلاً لهذا القول ومعادلاً التحذير من صحبة السلطان وإن كان عادلاً قال الأعمش صحبة السلطان خطر إن أطعته خاطرت بدينك وإن أغضبته خاطرت بنفسك والسلامة منه أن لا تعرفه وقال ابن مسعود إن الرجل ليدخل إلى ذي سلطان ومعه دينه ويخرج وليس معه منه شيء وقال عبد الله بن عمر ما ازداد رجل من ذي سلطان قرباً إلا ازداد من الله بعداً وقال الفضيل بن عياض كنا نتعلم اجتناب السلطان كما نتعلم السورة من القرآن وقال أيضاً لأن يدنو الرجل إلى حتفه ومنيته خير له من أن يدنو إلى ذي سلطان وقال أيضاً ما أقبح بالعالم أن يقال أين هو فيقال هو في بيت الأمير وكتب أبو بكر بن عياش إلى عبد الله بن المبارك إن كان الفضيل بن موسى لا يجالس السلطان فأقرئه مني السلام أبو الفتح البستي
يا من يرى خدمة السلطان عدّته
…
ما أرش ذلك إلا الذلّ والندم
فجسمه تعب والنفس خائفة
…
وعرضه غرض والدين منثلم
هذا إذا شرفت أيام دولته
…
نعوذ بالله إن زلت به القدم
وقال زياد بن أبي سفيان يوماً لجلسائه من أنعم الناس عيشاً قالوا أمير المؤمنين يعني معاوية قال فكيف بثغوره وأموره إن لأعواد المنبر لهيبة ولقرع لجام البريد لروعة قال فمن قالوا فأنت قال فكيف بجنودي وخراجي ومداراة الناس قالوا فمن إذا قال رجل له دار يسكنها وزوجة صالحة يأوي إليها وخادم وكفاف من العيش لا يعرفها ولا نعرفه فإنه إن عرفنا وعرفناه